شعار الموقع (Our Logo)

 

حصاد2004

  • بعض الأقباط يريدون أن تقدمهم الدراما في صورة طاهرة.. خالية من الشوائب علي طريقة «فلتاؤوس» أفندي الصراف
  • فتش عن السياسة في تلك الأزمة التي يدفع فيها الفن ثمن ارتباكها وهواجسها التي عششت في العقول

كان من المتوقع أن يثير فيلم "بحب السيما" جدلا واسعا في الأوساط المسيحية. ليس فقط لأن الفيلم يحوي ما تعتبره الكنيسة خروجا علي تقاليدها في بعض المشاهد، ولكن لأنه يمثل مناسبة لإعادة إنتاج هواجس موجودة لدي قطاع واسع من الأقباط الذين يتوقعون أن تكون إعادة الاهتمام بهم علي صعيد الأعمال الفنية من خلال تسليط الضوء علي واقعهم وتراثهم وتقاليدهم دون استدعاء قضايا شائكة تخص حضورهم المجتمعي. إذن المسألة دون مواربة تخص الفن في الظاهر وصراع البقاء والوجود في الباطن. وسيظل هذا الاشتباك قائما-كلما عرض عمل فني يتناول الأقباط علي خلاف الصورة التي يودون أن يكونوا عليها ـ مادامت القضية تمس تساؤلات كيانية وليس إشكاليات ذات طبيعة فنية.

هناك صراع حقيقي علي الصورة التي يرسمها الفن للأقباط. وهو صراع  ممتد  ولاسيما في ضوء تغييب الوجود المسيحي لعقود طويلة عن الأعمال الفنية. جاءت العودة في البداية احتفائية  من خلال ظهور الشخصية القبطية ـ المثالية ـ إن صح التعبير في أعمال أسامة أنور عكاشة وبهاء طاهر، ومن ثم شعر قطاع من المسلمين أن الأقباط ُيقدمون- فنيا- بشكل مثالي، في حين أنهم-أي المسلمين- يقدمون علي الوجهين-الايجابي والسلبي- حسب الأحوال. وعندما بدأت الأعمال الفنية تخوض في عمق الشخصية القبطية أسوة بالمسلمة، علي نحو ُيظهر أنها شخصية واقعية تحمل سمات المجتمع بما يموج به من تحديات ومظاهر عطب اجتماعي بدأ الضجر يزحف إلي الأوساط القبطية الذين رأوا في ذلك تعريضا بهم وبتقاليدهم وعقائدهم. القضية إذن صراع علي الصورة. وسيظل السؤال مطروحا... هل من الملائم أن يقدم الفن الشخصية القبطية علي أنها شخصية صمغية شمعية تحيا في مجتمع آخر أم أنه من الأفضل أن يقدمها علي أنها شخصية نابضة متفاعلة مع المجتمع؟

أتصور أن هناك من الهواجس والمبررات ما يحتاج إلي مناقشة صريحة جادة.

خطاب الهواجس

في تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس الشعب في أعقاب أحداث العنف الطائفي في منطقة الخانكة عام 1972 حديث عن وجود صور نمطية مشوهة عن الذات والآخر في أوساط المسيحيين والمسلمين علي السواء. وروي لي الدكتور رشدي سعيد-عالم الجيولوجيا المعروف- وكان عضوا بهذه اللجنة أنه فوجئ هو وزملاؤه بكم الهواجس الموجودة في الأوساط الإسلامية والمسيحية علي السواء. هناك من ادعي أن الأقباط يريدون إفقار المسلمين وحرمانهم من الدواء. هذه الهواجس كانت في أذهان العامة في وقت كانت فيه مصر خارجة لتوها من تراث الستينيات شبه العلماني. ومن الطبيعي أن تتكاثر وتتناسخ مثل هذه الهواجس بعد مرور ثلاثة عقود شهدت الساحة السياسية موجات من الصراع بين السلطة والدين والعنف والخطابات النصوصية التكفيرية في مواجهة المسيحيين والسجالات العقائدية في المفاضلة بين الأديان. وهي فترة عرفت أيضا عزوفا وانسحابا من جانب الأقباط، وتقليصا لمساحات التلاقي بين المسيحيين والمسلمين. في عام 1998 أصدرت كتابا بعنوان "هموم الأقباط"، وطلبت من زميلة باحثة مسلمة أن تجري استطلاعا للرأي في أوساط المسلمين العاديين حول معرفتهم بالأقباط. جاءت الإجابات علي الأسئلة المطروحة  طريفة ومخجلة في آن واحد، ومؤشرا كاشفا علي تراجع مساحات الفهم المتبادل بين المسيحيين والمسلمين. بعض الإجابات جاءت علي النحو التالي  "المسيحيون يعبدون ثلاثة آلهة"، " لماذا تحلق الراهبة شعرها"، " لماذا يقول القس للمتوفي إني بريء منك"، "لماذا رائحة بيوت المسيحيين غريبة"، "لماذا تسعي الفتيات المسيحيات إلي الإيقاع بالشباب المسلم الملتحي في المصايف".....الخ. وهناك خطاب مسكوت عنه في أوساط القطاعات الشعبية من المسلمين مفاده  أن المسيحيات أكثر تحررا من المسلمات نظرا لعدم ارتدائهن الحجاب. وقال لي كثير من المسلمين إنهم لا يعرفون علي وجه التحديد ما يفعله المسيحيون داخل الكنائس؟ وروي لي بعضهم أنه من الشائع في أوساط المسلمين أن الرجال يقبلون النساء في الكنائس عقب إطفاء النور في ليلة رأس السنة. هذه الأمثلة قليل من كثير عن الأنماط المشوهة  لدي قطاع من المسلمين عن شركائهم في المواطنة من الأقباط. ولا أنكر أن هناك صورا نمطية مشوهة عن المسلمين في أذهان قطاعات من الأقباط أيضا.

إذن الحالة المجتمعية في مصر تشهد شكلا من أشكال الشك المتبادل المستبطن. وكلما جاء عمل فني يعري هذا الشك وجد من يتصدي  له. والدليل علي ذلك أن هناك مشاهد بعينها في فيلم "بحب السيما" هي التي أثارت حفيظة الأقباط مثل الشاب الذي يقبل الفتاة في منارة الكنيسة، وخيانة الزوجة لزوجها المتزمت، وتكرار الشتائم علي لسان أبطال الفيلم المسيحيين. هذه المشاهد أثارت غضبا قبطيا- كما يتضح من البيان الذي أصدرته لجنة المصنفات الفنية التابعة للمجمع المقدس في الكنيسة القبطية- لأنها تصور الأقباط بصورة سلبية من ناحية، وتؤكد صورا نمطية مشوهة عن الأقباط  لدي قطاع عريض من المسلمين من ناحية أخري. وسبق أن تكرر نفس الأمر في مسلسل "أوان الورد" عندما دعا إلي زواج  يجمع مسلما بمسيحية تحت لافتة "دين الحب" ، وهو ما اعتبره الأقباط خروجا علي عقيدتهم التي تحرم مثل هذا النمط من الزيجات، وتشجيعا مستبطنا لها. وتساءلوا إذا كان العمل إبداعا، والإبداع -بحكم التعريف- خروج عن النص فلماذا لا يقدم الصورة العكسية أي شاب قبطي يتزوج مسلمة؟ أو يقدم مشهدا لشاب مسلم يقبل فتاة مسلمة في مئذنة مسجد مثلا؟. أم أن هناك فقط مراعاة للعقيدة الإسلامية دون المسيحية؟

صراع علي الصورة

يرافق عودة الاهتمام بالشخصية القبطية في مجال الفن صراع مستبطن علي الصورة. بعض الأقباط يريدون صورة طاهرة  لهم خالية من الشوائب. صورة صمغية.. احتفالية.. شمعية إن صح التعبير تستدعي كلما كان هناك داع للتدليل علي وجود الوحدة الوطنية. وهناك فريق من المبدعين يرون أن الشخصية القبطية تمثل كافة أطياف المجتمع. الجيد والرديء، الفاضل والطالح، الطيب والخبيث.. أي أنها شخصية لها سمات وخصائص نفسية لا تميزها في شيء عن باقي مكونات المجتمع المصري. هي بالتأكيد صورة مختلفة عن "فلتاؤوس أفندي" الصراف القبطي التقليدي في الأعمال الدرامية الذي كان يعكس نمطا للعلاقات المجتمعية السائدة وقتئذ.  لماذا لا تكون  وسط الأقباط شخصيات تحمل تناقضات الحياة؟  ما المانع أن تكون هناك شخصية  قبطية  في عمل درامي تلعب دور اللص أو الشاب المنفلت أو الزوجة الخائنة؟ أليس هؤلاء بشرا يمكن أن يتواجدوا في كل زمان أو مكان دون أن يكون لوجودهم أي تداعيات سلبية علي الصورة الجمعية للجماعة الدينية التي ينتمون إليها؟ ولماذا يقفز إلي ذهن المشاهد ـ أول ما يقفز ـ أن هذا قبطيا أو مسلما رغم أن العمل برمته فنيا؟.

القضية تتلخص في عبارة واحدة أن هناك مخاوف وجودية لدي الأقباط في المجتمع المصري. ومثل هذه الإشكاليات الفنية  ما كان من الممكن أن تحتل مثل هذه المساحة من الجدل والرفض والاحتجاج لو لم تكن مثل هذه المخاوف قائمة. ويدفع-اليوم- الفن ثمنا باهظا لالتباسات الواقع السياسي. يشعر الأقباط أنهم مستهدفون في المجتمع، ويصبح هذا منطلق تفسيرهم للواقع المحيط بهم. مستهدفون في بناء دور العبادة، والتعيين في الوظائف العليا، وتولي المواقع السياسية الحساسة، والتمثيل السياسي..... الخ. يدفعهم هذا -بوعي أو بدون وعي ـ إلي قراءة الأعمال الفنية من هذا المنطلق.  وإن لم تكن الحالة السياسية ملتبسة بالنسبة لهم لما انشغل الأقباط ـ علي نطاق واسع ـ بمثل هذه القضايا ذات الطبيعة الفنية.

إذن صراع الوجود المستبطن يعبر عن نفسه في صراع علي الصورة في العلن. وشعور الأقباط بأنهم في حالة دفاع عن النفس يجعلهم يتجهون إلي الدفاع عن كيانهم وما يتصوره الناس عنهم. القضية -باختصار ـ تعبر عن أزمة سياسة أكثر مما تعبر عن أزمة فنية. أزمة في علاقة الأقباط بالآخر والدولة أكثر من أزمة في علاقة الأقباط بالفن عموما.

نقد ديني أم نقد فني

في حالة الصراع علي الوجود تغيب الجزئيات لصالح الكليات. ويجري تقليص مساحات التسامح والحوار والجدل في سبيل تعبئة كل الامكانات للدفاع عن النفس. ويصبح الدين هو وسيلة التعبئة والحشد والتجميع. هذا ما يحدث بالضبط حيث تجري قراءة الأعمال الفنية من منظور ديني، ويتصدي رجال الدين لنقد هذه الأعمال انطلاقا من أطر مرجعية دينية.  وهي حالة نجد لها مثيلا علي الجانب الإسلامي ظهرت في دعاوي مقاطعة فيلم "آلام المسيح" نظرا لأنه يخالف العقيدة الإسلامية، والبعض ذكر أنه يحض المشاهدين علي اعتناق المسيحية. هنا يجد المبدعون والمثقفون أنفسهم  في مأزق....هو التشهير بأعمالهم والركون إلي أدوات غير علمية لنقد العمل الفني. ويتحول المشهد إلي  ما يشبه محاكم التفتيش الدينية  علي الأعمال الفنية. وتصبح الرسالة الموجهة للمبدعين هي تقديم أعمال فنية تراعي صورا متخيلة عن المجتمع الفاضل وليس ما يشهده المجتمع الراهن من مظاهر انحلال وفوضي إنسانية وأخلاقية. ما يريده  البعض هو أن يتحول الفن من مجال لنقد الواقع من خلال الاشتباك معه إلي مجال للتعامي علي الواقع ومحاولة تصوير عالم فاضل مثالي غير موجود. بقول آخر يتحول الفن من  تجربة نقدية إلي عظة أخلاقية.

وليس مستغربا أن تتصدي الكنيسة  لمسألة الحضور القبطي في الفن نظرا لأنها أصبحت  تتصدي لكل ما يتعلق بالشأن العام للأقباط بعد أن تقلصت في السنوات الأخيرة مساحة الحياة العامة للمدنيين الأقباط، وتحولت المؤسسة الدينية إلي مدافع عن حقوق المواطنة للأقباط، بعد أن غاب عن المشهد السياسي السياسيون الأقباط الذين لعبوا دورا في إدارة الملف القبطي قبل ثورة 1952، وكذلك التكنوقراط الأقباط الذين حلوا محل السياسيين في الستينيات. غاب هؤلاء وأولئك ولم يعد يملأ المشهد سوي الاكليروس (رجال الدين المسيحيين). يدخل هؤلاء مجال النقد- أسوة بأقرانهم من المسلمين- متسلحين فقط بتفسيرات دينية للواقع والحياة، دون أن يمتلكوا ثقافة حديثة أو رؤية موسوعية تيسر لهم نقد الواقع الاجتماعي بكل مظاهره وتجلياته.

واللافت للنظر أن رجال الدين -علي الجانبين المسيحي والإسلامي- الذي يبحثون بدأب عن كل ما يسيء إلي العقيدة في الأعمال الفنية، يغضون الطرف أو علي الأقل لا ينتقدون بنفس الحدة الأعمال الفنية التي تقدم صورا نمطية مشوهة عن الإنسان- أيا كانت معتقداته. تقديم ـ علي سبيل المثال ـ صورة سلبية عن المرأة بوصفها مجرد "أنثي" أو إشاعة لقيم المجتمع الاستهلاكي أو تكرار مشاهد العنف والجريمة.... ألا يمثل هذا إهانة لجوهر الإنسان-صورة الله ومثاله في المسيحية وخليفة الله علي الأرض في الإسلام؟ هل رؤية مشاهد مبتذلة لن يكون له تأثير سلبي علي الإنسان إذا عرف ديانة من يقوم بذلك؟ ... المسألة إذن ليست فنية بل كيانية -كما ذكرت في البداية. مسألة وجود وليس فنا.

يبدو أنه لا خلاص للمجتمع المصري من الحالة الملتبسة التي يعيشها إلا بالمضي قدما علي طريق إنشاء دولة مدنية علمانية علي أساس من المواطنة الكاملة والتعددية. وتصبح لمؤسسات الدولة دورها  في الحفاظ علي النظام العام ويصبح للمؤسسة الدينية دورها الأصيل في رعاية الشأن الديني.

في دولة مدنية تعددية الفن هي مسئولية المبدعين ونقده مسئولية الجمهور المتلقي والنقاد. ويكون نقد العمل الفني من خلال التماس أدوات علمية منهجية يعرفها النقاد المنتمون إلي مدارس النقد المتنوعة. والتعددية تعني حق كل قطاع أو فريق-بما في ذلك المؤسسة الدينية-  في التعبير عن رأيه أيا كان، لا حجر علي أحد، ولكن في نفس الوقت لا حق لأحد في مصادرة أو الحض علي مصادرة عمل فني. وتكون ساحة القضاء هي الفيصل الحقيقي بين خطوط التماس الفاصلة بين الإبداع الإنساني من ناحية  والإساءة إلي المعتقدات من ناحية أخري بعيدا عن محاولات تحويل رجال الدين من دعاة ووعاظ إلي نقاد وضباط.

جريدة القاهرة في 6 يوليو 2004

مقالات مختارة

نأمل عرض.."باحب السينما".. أول فيلم مصري عن الأقباط

بحب السيما: فيلم ينتقد الأصولية الدينية

أسرار اللحظات الأخيرة قبل تحديد مصير "بحب السيما"

«بحب السيما»: حكايات أسرة قبطية في فيلم رائع

"بحب السيما".. أن تكره التسلط وتحب الحياة

المشاهد التي أثارت حفيظة الأقباط في فيلم «بحب السيما»

يحتجون على فيلم لا علاقة له بالكنيسة: ..تسقط "السيما"

بحب السيما

 

ليس تعقيبًا علي بيان لجنة المصنفات التابعة للكنيسة

المشاهد التي أثارت حفيظة الأقباط في فيلم «بحب السيما»

سامح فوزي