شعار الموقع (Our Logo)

بحب السيما

حصاد2004

تأملات عالم أزهري أحب الفيلم والسينما معا‏:

تاريخ علي بيـاض تكتبه أسرة مصرية علي الشاشة 

‏ د‏.‏ مبروك عطية (رئيس قسم اللغويات ـ جامعة الأزهر)

مشيت وفي رأسي مشهد الغروب الذي أذن بالنهاية‏,‏ غروب الشمس التي لا تعرف الخلل‏,‏ فهي آية‏,‏ سحبت علي وجه البحر الذي لا يعرف الملل‏,‏ فلحركته غاية‏,‏ وعلي امتداد الرمل الذي لون حلل‏,‏ تحركت الدراجة علي بطء‏,‏ وعلي ظهرها رجل دنا منه الأجل‏,‏ وأمامه طفله الذي فرد ذراعيه‏,‏ فقص القدر جناحيه‏,‏ بموت أبيه الذي كان الأمل‏,‏ ذلك الطفل الذي ابتسم في وجه المحن‏,‏وأحب السينما رغم التعصب والنكسة وانكسار البطل‏,‏ ومازال في الليل نبض وإن غابت الشمس واختفي القمر‏.‏خرجت من الأهرام العربي وأنا أفكر متي أشاهد فيلم‏(‏ بحب السيما‏)‏ لأري ما رآه غيري وكتب عنه‏,‏ وأثار في ضوء مشاهدته ما أثار‏,‏ من قضايا متصلة بالدين والإبداع‏,‏ والفن‏,‏ والرقابة‏,‏ والأزهر‏,‏ والكنيسة‏,‏ إذن فالكلام كثير والقضية خطيرة‏,‏ وكان القرار في لحظة واحدة أن أتجه الآن إلي إحدي دور العرض القريبة من مبني الأهرام العملاق‏,‏ وذلك لأنني نشأت نشأة لا تعرف التلكؤ ولا اللكاعة تلك النشأة الجادة جدا من أول كتاب سيدنا إلي لحظة هذا القرار‏,‏ وقبل المشاهدة دار في رأسي ما يمكن أن يقوله الناس وهم يشاهدون رجلا‏,‏ هو أستاذ في جامعة الأزهر‏,‏ ومن الذين يشتغلون في حقل الدعوة الإسلامية ويعرفونه‏,‏ فكل صباح يطالعهم بدرس جديد عبر شاشة القناة الأولي‏,‏ وتذكرت السينما التي دخلناها صغارا ونحن تلاميذ نكتب الشعر والقصة ونعد أنفسنا من أهل الأدب والثقافة‏,‏ وقد درسنا في الأزهر الأدب القديم والحديث بمدارسه وفنونه‏,‏ ولم يقل أحد من شيوخنا إن دراسة الرومانسية والواقعية والرمزية والبرناسية وجميع الـ إية حرام‏,‏ بل إن كتب التفسير تفيض بأبيات الشعر التي جيء بها لتفسير بعض ألفاظ القرآن الكريم ومعانيها فيها من المجون ما فيها‏,‏ لكن موضع الشاهد هو المراد‏,‏ وليس الغرض إشاعة ما فيها في حياة المسلمين‏,‏ وقررت أن أقول أنا فلان‏,‏ وقد جئت لأشاهد الموضوع‏,‏ حتي أكتب فيه‏,‏ أمنا للبس‏,‏ ودفعا لأية شبهة‏,‏ وقد كفاني القدر ذلك حيث تلقفني مدير دار العرض‏,‏ ورحب بي‏,‏ وأجلسني في مكان مخصوص‏,‏ ووضع أمامي مائدة صغيرة‏,‏ وحياني وقدم لي التحية‏,‏ شكرته‏,‏ وأخرجت أوراقي‏,‏ وبدأت أشاهد الموضوع من أوله إلي آخره‏,‏ ولم أجد شيئا واحدا مما كتب الناس وأثاروا من قضايا ووقفت علي أشياء أخري غير التي وقف عليها غيري‏,‏ فالمصدر واحد والعيون مختلفة‏,‏ ومازال المعني في بطن الشاعر‏,‏ وكل كاتب في الأدب يقول ما فهم‏,‏ ويثبت ما رأي‏,‏ لكن شيئا ما يجمع بين المختلفين‏,‏ وهو النص‏,‏ وكان مما وقفت عليه‏:‏

أن للموضوع خلاصة‏,‏ وفيه مواقف وموضوعات وعواطف‏,‏ وخلاصته كما رأيت عائلة مصرية شهيدة‏,‏ في فترة من فترات تاريخنا المعاصر‏,‏ تعاني مر العيش‏,‏ وتكتب التاريخ علي البيض‏,‏ ولا تسلم من مضايقات الناس‏,‏ ينشأ طفلها مع تلك المفارقات ما بين الواقع والخيال الذي هو واقع أيضا‏,‏ لا يتمني من عيشه إلا أن يأكل نوعا من البطاطس ويدخل دار السينما‏,‏ ولأنه لابد للإنسان من دين يعيش علي معتقداته كانت حياة الأب ما بين الشك واليقين في النهايات التي عليها مدار الإنسان في آخرته‏,‏ وذلك ما هو في صلب البخاري من قول نبينا ـ صلي الله عليه وسلم ـ إنما الأعمال بالخواتيم عاش متشددا متعصبا ملتزما قدر طاقته‏,‏ فأخطأت زوجته‏,‏ ورقصت ابنته‏,‏ وصلي ولده نعيم علي طريقته‏,‏ سكر فأخطأ وأساء‏,‏ وحين بدأ يتخلص من شدته أدركته المنية فمات‏,‏ وحملت امرأته من بعده رسالته لتربية ولديها ومازال الناس يضحكون علي ثلاثي أضواء المسرح الضيف وسمير وجورج‏.‏

أما المواقف فقد أعادني إلي تلك الفترة التي كنا فيها نقف في طابور المدرسة لتحية العلم‏,‏ ونقول‏:‏ تحيا الجمهورية العربية المتحدة ثلاث مرات وبعدها كنا نقول‏:‏ عاش الرئيس جمال عبدالناصر ثلاث مرات‏,‏ وهذه الأخيرة لم يهتف بها التلاميذ في الفيلم‏,‏ والمدرسة لم تكن مبيضة كما هي مدارسنا الآن‏,‏ فكنت تري الطوب الأحمر كما شاهدته وقدم الكاتب والمخرج مدرس اللغة العربية علي العادة المعروفة مقطع الثياب‏,‏ مثار السخرية‏,‏ ومديرة المدرسة فنانة‏,‏ أنسيت موهبتها بسبب شظف العيش‏,‏ فبين حلم الفتاة وصباها‏,‏ وبين الزوجة الفقيرة‏,‏ والأم بون شاسع كالبون الشاسع بين الريشة التي يمسك بها الفنان‏,‏ وماكينة الخياطة التي تجلس عليها لتخيط لأولادها وأسرتها أثوابهم‏,‏ وما بين الانطلاق في أحضان الطبيعة وإن لم تتحرك الأقدام إلي متنزه‏,‏ وبين القيد في حضن زوج لا يريد أن يري وجهها في النور وهي في فراشه‏.‏

ومن المواقف أيضا في تلك الفترة ارتباط العلاقة بين الفتي والفتاة بالزواج‏,‏ فالطفل الذي يضع عينه علي طفلة كالشاب الذي يتعلق بشابة‏,‏ حديث الصغار والكبار عن الزواج‏,‏ يقول الطفل‏:‏ أنا عايز أدخل البيت من بابه أي‏:‏ لا تشكي في خلقي‏,‏ وتزوجت أخت نعمات دون حديث عن مشكلة الشقة والسكن والخلو والمقدم‏,‏ فمازلت وأنا أشاهد أري في ذاكرتي لوحة شقة للإيجار وأتذكر الذين كانوا يبخرون بيوتهم‏,‏ ويرقونها بالفاتحة وآية الكرسي والمعوذتين حتي يسوق الله ـ تعالي ـ إليها من يسكنها‏,‏ وكان النور والماء علي حساب صاحب الملك‏,‏ وكان المستأجر يأكل ويشرب في المناسبات كالعاشورة ومولد النبوي من عند أصحاب البيت بما يعادل ما يدفعه‏,‏ إيجارا لسكنه‏,‏ وكنت أري أصحاب البيت يفرحون بالساكن ونسا لهم قبل التفكير في القروش المعدودة‏,‏ ويبدو أن هناك روحا كانت بين الناس صعدت الآن إلي بارئها إلا عند من رحم الله تعالي ـ وهم قليل ـ ومازالت تلك اللوحة تعلق الآن علي البيوت ولكن القاريء لا يخفي عليه الجواب إن سأل‏:‏ ماذا تريدون فيها؟ فشتان ما بين ناس وناس‏,‏ وعلي التحقيق‏:‏ شتان ما بين زمان وزمان‏.‏

ومن المواقف كذلك أن الموضوع ذكرني بذلك الرجل الذي عاش عمره بخيلا جماعا للمال‏,‏ فلما أراد أن يفرجها علي نفسه‏,‏ لم تمهله المنية فمات والجنيه في يده يريد أن يعطيه لبائع الفاكهة‏,‏ فحين رغب‏(‏ عدلي‏)‏ أن يشتري التلفاز‏,‏ وأن يتنزه علي شاطيء خال كالشوارع الخالية إلا من أصحاب الهتافات في المناسبات الرسمية مات‏.

وأما الموضوعات التي أثيرت في ذهني خلال المشاهدة فكثيرة جدا‏,‏ منها‏:‏ موضوع الأدب مع الله تعالي في الدعاء والمناجاة‏,‏ ويعرفه المؤمنون علي يقين بالغيب‏,‏ أما الإساءة فقد نقلها القرآن الكريم بأشد ماجاء في الفيلم وما يسمعه الناس في الشارع‏,‏ وقالت اليهود يد الله مغلولة لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء‏,‏ وخاطب المسلمين بقوله‏:‏ وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا فالمؤمن ظنه حسن‏,‏ بأن الله ناصره‏,‏ والمنافق ظنه سيء‏,‏ وحكي عن أهل مكة قولهم‏:‏ لولا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتين عظيم وقولهم‏:‏ لو شاء الله ما أشركنا وقد قال ربنا تعالي‏:‏ وما قدروا الله حق قدره وهذا واضح جلي لاخفاء فيه‏,‏ وهؤلاء لن يضروا الله شيئا‏,‏ فمن أساء فقد أساء إلي نفسه وظلم نفسه‏,‏ وقد قال ربنا ـ تعالي ـ‏:‏ يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم وغير ذلك كثير من الآيات القرآنية التي ترصد واقع البشر‏,‏ كما ترصد واقع المؤمنين فأردت أن أعيبها ونسب العيب إلي نفسه‏,‏ وقال‏:‏ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك فنسب الخير إلي الله‏.‏

ومن تلك الموضوعات أن‏(‏ عدلي‏)‏ أساء الأدب وهو سكران‏,‏ والذنب كما نعلم للسكر والعقاب عليه‏,‏ لكن ما يترتب علي السكران من إلقاء اللوم عليه وهو سكران فليس من الفهم‏,‏ لذلك كانت الخمر أم الخبائث‏,‏ وقد سكر حمزة عم النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قبل تحريم الخمر فاحمر وجهه وعقر دابة علي بن أبي طالب‏,‏ ولما اشتكي إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ذهب إليه فأساء‏,‏ وقال‏:‏ ما أنتم إلا عبيد لأبي فتركه النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وانصرف‏,‏ لعلمه ـ صلي الله عليه وسلم ـ بأن حواره لا يفيد وأن انتظاره معناه سماع كثير من الأذي والإساءة حتي حرم الله تعالي الخمر نهائيا‏,‏ فانسد باب الإساءة التي هي مصدر من مصادره‏,‏ وإلا يعدم الناس غيره‏,‏ ومن تلك الأسباب الغضب‏,‏ لأنه من الشيطان‏,‏ ولذا نصح صلي الله عليه وسلم ـ من استنصحه فقال له مرارا‏:‏ لا تغضب‏.‏

ومن تلك الموضوعات‏:‏ الزواج بصيغته التي وردت في الموضوع‏,‏ وهو من الموضوعات غير المطروحة في الدعوة الآن‏,‏ فالإسلام يقر بنكاح الكافرين فضلا عن أهل الكتاب‏,‏ والذين دخلوا في الإسلام أزواجا أبقاهم النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي زواجهم القديم‏,‏ ولم يلقنهم صنيعة أخري‏,‏ وفي ذلك يكتب الكثير مما لا يتسع له المجال هنا‏.‏

ومن تلك الموضوعات‏:‏ أثر التعصب في حياة الفرد والأمة‏,‏ حيث كان سببا في المرض‏,‏ وانحراف الزوجة‏,‏ وعدم النجاح في العمل‏,‏ ومعالجة المخالفين بالحكمة أجدي للناس جميعا من الضرب والشدة‏,‏ ودائما يكون التعصب بسبب اختلاط الأوراق‏,‏ والفضيلة منزلة وسطي بين الإفراط والتفريط‏,‏ ومما اختلطت فيه الأوراق اعتقاد أن حكمة الزواج هي الإنجاب فقط‏,‏ وحمل الناس جميعا علي الاستقامة‏,‏ وأن المرأة سبب الفساد‏,‏ وأشياء كثيرة‏.‏

ومن العواطف التي حملها الموضوع وأثارها عاطفة الحب الذي لم يجد أرضا ولا وطنا وهو يحمل الجنسية الوطنية الشرعية‏,‏ فضل الطريق‏,‏ ودفنته صاحبته في شبابها الذي ولي قبل أن تغيب الشمس‏,‏ وذلك الحب الملوث الذي حمله فنان اشتري لنفسه لوحتها وأغراها بكلمات كانت العسل في واقع المر‏,‏ غني عليها حتي أرداها‏,‏ وأخبرها بأنها مخلوقة لتطير‏,‏ فطارت إلي المعصية في بؤر الدم العامي‏,‏ واستغفرت وتابت‏,‏ بل قطعت خط الرجعة ورضيت بالعيش مربية في البيت وفي المدرسة‏,‏ وكذلك العاطفة العامة في الفرح والحزن‏,‏ وهذا واقع لا يعرف مكانا‏,‏ يحدث في الكنيسة كما يحدث في الجامع‏,‏ وقد كتب الجبرتي عن معارك حدثت في الجامع الأزهر ومنها ما حدث بين الشيخ أحمد النفراوي والشيخ عبدالباقي القليني للنزاع علي مشيخة الأزهر واستعملت البنادق وقتل عشرة وأغلقت أبواب الأزهر ومنعت الصلاة فيه‏,‏ وذلك بسبب الأنصار والمحبين والمريدين لكل شيخ‏,‏ فالهوي تيار جارف‏,‏ كذلك عاطفة الصبي في آخر مشهد للأب قبل رحيله وهو يفرد ذراعيه أمامه علي الدراجة يريد أن يطير وأبوه من خلفه يحميه‏,‏ وقد مات أبوه أو أماته تعصبه‏,‏ فلم يترك الزمن لولده جناحا ولا انشراحا‏,‏ ذلك بعض ما وقفت عليه ولعلك أيها القاريء تذكر كلمتي في مطلع هذا المقال بأنه موضوع عائلة مصرية ولم أقل مسيحية‏*

الأهرام العربي في 3 يوليو 2004

مقالات مختارة

نأمل عرض.."باحب السينما".. أول فيلم مصري عن الأقباط

بحب السيما: فيلم ينتقد الأصولية الدينية

أسرار اللحظات الأخيرة قبل تحديد مصير "بحب السيما"

«بحب السيما»: حكايات أسرة قبطية في فيلم رائع

"بحب السيما".. أن تكره التسلط وتحب الحياة

المشاهد التي أثارت حفيظة الأقباط في فيلم «بحب السيما»

يحتجون على فيلم لا علاقة له بالكنيسة: ..تسقط "السيما"

 

 

الأهرام العربي تواصل فتح الملف

رؤيتان جديدتان

لـ" بحب السيما"

 

 

 

 

 

 

 

لاتزال ردود الأفعال حول قرار الرقابة علي المصنفات الفنية بعرض فيلم بحب السيما علي جمهور السينما قائمة ولايزال الجدال حول موضوعه قائما ويبدو أن الميزة الأساسية في الفيلم تنبع من قدرته علي إثارة كمية هائلة من التساؤلات حول بعض القضايا الاجتماعية والسياسية رغم أن البعض تغافل عن كل هذه القضايا وحاول التعامل معه كموضوع ديني وقد بدا هذا واضحا من بعض الأفعال التي نشرتها الصحف أخيرا لبعض رجال الدين المسيحي‏,‏ تحفظوا علي الرؤية التي يتبناها الفيلم وهو يعالج أحوال أسرة مسيحية مصرية في منتصف الستينيات ورغبة منها في تطوير النقاش تنشر الأهرام العربي رؤيتين جديدتين حول الفيلم لعالم أزهري هو الدكتور مبروك عطية الذي كان قد قاطع السينما لسنوات إلي أن حفزه الجدال حول الفيلم لمشاهدته وتأمل معناه وتأويل دلالاته وهي رؤية مستنيرة تنحاز لقيم التسامح والتعدد ورفض الاستبداد الموجود في الفيلم‏,‏ أما الرؤية الثانية فهي لكاتب قبطي معروف هو أديب نجيب سلامة الذي يعمل في مجال العمل العام ويتناول فيها سلبيات وإيجابيات الفيلم من منظور فني وينتصر ـ رغم أي تحفظ ـ لقرار الرقابة بعرض الفيلم ويرفض في نفس الوقت أن تختزل صورة المسيحيين المصريين في الصورة التي قدمها الفيلم وينحاز الكاتب بوضوح إلي حق مبدعي الفيلم وصناعه في رفض التزمت الديني والإعلاء من شأن التسامح لأن في ذلك دعما لحرية الإبداع وانتصارا حقيقيا لأي دين‏.‏

الأهرام العربي

 

 

 

 

 

 

 

 

..‏ وكاتب قبطي يشيد بقرار عرض الفيلم‏:‏

نعم يوجد هنا مسيحيون فعلا 

نبيل نجيب سلامة (الهيئة القبطية الإنجيلية) 

لست أعلم سببا لخوف بعض أصحاب السلطة من اتخاذ قرار في موضوع ما‏,‏ قد يشعر أنه يمس من قريب أو بعيد شريحة بعينها من شرائح المجتمع‏!

أقول ذلك بمناسبة الجدل الذي أثير أخيرا حول الفيلم السينمائي بحب السيما بسبب أن قصته تدور أحداثها داخل أسرة مصرية مسيحية‏,‏ كذلك كل الشخصيات المحورية في الفيلم مسيحية‏,‏ وأيضا كاتب الفيلم‏,‏ ومخرجه كلاهما مسيحيان‏!!‏الفيلم شأنه‏,‏ شأن أي فيلم به العديد من الإيجابيات‏,‏ وكذلك السلبيات‏,‏ ظل حبيس المخازن أكثر من ثلاث سنوات‏,‏ بعد أن تعثر إنتاجه أيضا لعدة سنوات‏,‏ إلي أن بدأ يأخذ أولي خطواته للنور‏,‏ حيث اصطدم بالرقيب الذي رفض التصريح بعرض الفيلم بدعوي أنه يتعرض لحياة المسيحيين الشخصية‏,‏ ويجب أولا عرضه علي رجال الكنيسة لأخذ رأيها بشأن التصريح بعرضه أو لا‏,‏ فما كان من المنتج إسعاد يونس‏,‏ والمخرج أسامة فوزي‏,‏ إلا التظلم من القرار أمام لجنة التظلمات‏,‏ ليتم الاتفاق علي عرض الفيلم أمام مجموعة من المفكرين والإعلاميين والسينمائيين المسلمين والمسيحيين‏,‏ كان ردهم‏:‏ أهلا بحرية الإبداع‏,‏ لا لكل من يحاول أن يكبل رأيا أو فكرا بقيود يدعي أنها لصالح الدين أي دين‏.‏

وأخيرا خرج الفيلم إلي النور بعد وضع جملة هلامية تقول للكبار فقط ويقول المجتمع كلنا بنحب السيما‏,‏ ويبدأ عرض الفيلم داخل العشرات من دور العرض في مصر وخارجها‏,‏ وليحقق في أسبوع عرضه الأول في مصر أكثر من نصف مليون جنيه‏.‏

بحب السيما دراما اجتماعية‏,‏ حاول كاتبها الاقتراب من بعض الأفكار الحساسة كما يدعي البعض‏,‏ مثل الصراع الداخلي الذي يعيشه البعض بين الحرية والتزمت‏,‏ الحرام والحلال‏,‏ يريد أن يوجه من خلالها صرخة لكل إنسان يدعي أنه صاحب الحقيقة المطلقة في أمور عامة‏,‏ أو خاصة‏,‏ تقول‏:‏ نحن أدري بمصلحتنا‏.‏

تدور قصة الفيلم عام‏1966,‏ كما سبق أن أشرنا حول أسرة مصرية مسيحية تعيش في حي شبرا‏,‏ أحد أكبر أحياء القاهرة التي يسكنها مسيحيون‏,‏ وتستغرق أحداثه عاما كاملا‏,‏ تنتهي مع وقوع هزيمة‏5‏ يونيو‏1967,‏ وإعلان الرئيس عبدالناصر تنحيه عن الحكم‏.‏

رب الأسرة‏,‏ عدلي محمود حميدة يعمل أخصائيا اجتماعي بإحدي المدارس‏,‏ شديد الطيبة‏,‏ يخشي بحكم نشأته الدينيةمن عقاب الآخرة إلي حد الهوس‏,‏ نراه يقع ضحية لطلبة المدرسة الذين يستغلون طيبته للنصب عليه والحصول منه علي الأموال سواء الشخصية‏,‏ أم التي تخص بعض أنشطة المدرسة‏,‏ عدلي شخصية متزمتة في كل جوانب الحياة‏,‏ يشعر بالقهر من جانب المحيطين به‏,‏ خاصةمن رئيسه المباشر ناظر المدرسة الحرامي‏,‏ ورغم ذلك هو يمارس نفس أسلوب القهر الذي يتعرض له‏,‏ علي زوجته عنايات ليلي علوي‏,‏ وطفله نعيم الطفل يوسف عثمان وابنته نعيمة الطفلة ياسمين عاطف معتبرا أن العديد من مباهج الحياة حرام‏,‏ كالعلاقة الزوجية بعد أن تكون قد أدت رسالتها‏,‏ وأنجبت الأطفال‏,‏ كذلك مشاهدة التليفزيون‏,‏ والأفلام السينمائية وغيرها‏.‏

تستمر الأحداث‏,‏ ويستمر معها مسلسل القهر داخل الأسرة وخارجها فتري الطفل نعيم‏,‏ أيضا الذي يحب السيما‏,‏ يمارس القهر علي خالته نوسة منة شلبي التي رآها مع خطيبها لمعي‏,‏ وهما يتبادلان القبلات‏,‏ وعلي جدته المريضة‏,‏ وعلي الأطفال في المدرسة التي تعمل بها والدته ناظرة‏.‏

عنايات‏,‏ الزوجة أيضا مقهورة‏,‏ من جميع الأطراف رغم أنها فنانة تشكيلية‏,‏ من المفروض أنها ذات حس مرهف‏,‏ إلا أنها اضطرت إلي ممارسة القمع علي زوجها أيضا وكبتت رغباتها وأحلامها حتي أصبح من السهل عليها الوقوع في الخطيئة‏,‏ خاصة مع ظهور زميلها الفنان التشكيلي ممدوح زكي فطين عبدالوهاب الذي يروي لها أزمته مع الزواج‏,‏ وكيف تخلت عنه خطيبته فور القبض عليه ودخوله المعتقل‏,‏ وتبدأ بينهما قصة حب جديدة من خلال مشاكلهما الأسرية‏,‏ لكن ما لبثت أن انتهت حيث تشعر الزوجة بالخطأ الكبير الذي كان من الممكن أن تقع فيه مع زميلها‏,‏ وسرعان ما تعود إلي رشدها‏,‏ وتطلب من الله أن يصفح عنها هذا الخطأ‏.‏

مع مرور الوقت يكتشف عدلي أن أقرب الناس إليه سواء من داخل الأسرة الصغيرة‏,‏ أم من خارجها ـ لا يستمعون إلي النصائح والإرشادات التي يقدمها لهم‏,‏ ويفعلون المحرمات‏,‏ فيشعر في داخله بالهزيمة‏,‏ ويبدأ في استرجاع شريط حياته‏,‏ فيكتشف أن علاقته بالله طوال السنين الماضية كانت علاقة خوف‏,‏ وليس حبا فينجرف هو أيضا إلي المحرمات‏,‏ فيدخل السيما مع ابنه نعيم‏,‏ ويشاهد التليفزيون‏,‏ ويظل علي هذا الحال حتي تنتهي حياته مع غروب شمس نفس اليوم الذي أعلن فيه جمال عبدالناصر تنحيه عن الحكم باعتباره المسئول عن هزيمة يونيو‏.1967‏
الفيلم يدخل في أعماق شريحة قليلة من المسيحيين‏,‏ تمثلها هذه الأسرة‏,‏ بمعتقداتها وخلافاتها المستمرة التي تمتد حتي إلي داخل الكنيسة‏,‏ وهو نقلة جديدة في تاريخ السينما المصرية‏,‏ تميز كاتبه هاني فوزي‏,‏ بالجرأة‏,‏ وجاء بسيناريو سلس وواقعي‏,‏ علي الرغم من اعتراض البعض‏,‏ وبخاصة من المسيحيين علي قصة الفيلم‏,‏ فعلي الرغم من كونه في الأساس فنانا تشكيليا‏,‏ إلا أنه درس السينما‏,‏ والنقد السينمائي‏,‏ فجاءت أعماله الثلاثة التي قدمها للسينما حتي الآن أرض الأحلام ـ فيلم هندي ـ بحب السيما أعمالا متميزة تمثل سينما واقعية راقية‏,‏ لذلك كان من الطبيعي أن يتم ترشيح هذا الفيلم ليمثل مصر في العديد من المهرجانات الدولية‏.‏

كما تميز المخرج الشاب أسامة فوزي‏,‏ في ثالث عمل أيضا له بعد عفاريت الأسفلت ـ وجنة الشياطين بأنه استطاع أن يضع الفيلم داخل كوكتيل من البهجة والمتعة التي لا تخلو من العمق علي مستوي الفكر والصورة‏,‏ خاصة في مشهد النهاية الذي جمع فيه بين لحظة الغروب‏,‏ وخبر تنحي عبدالناصر‏,‏ ووفاة عدلي‏,‏ كأن لسان حاله يقول هكذا انتهت مرحلة من الزمن بحلوها ومرها‏,‏ وهيا بنا نبدأ معا مرحلة جديدة‏,‏ علي الرغم من أن الفترة التي واكبت أحداث الفيلم‏,‏ وهي فترة الستينيات قد شهدت العديد من الأحداث السياسية‏,‏ التي فرضت علي المجتمع العديد من القيود‏.‏

كما نجح أسامة فوزي في تقديم وجه جديد للسينما المصرية‏,‏ قد يعيد إليها أفلام أنور وجدي وفيروز‏,‏ عمره اليوم عشر سنوات‏,‏ كما هو محور أحداث الفيلم علي الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز السادسة وقت التصوير‏,‏ وهو الطفل يوسف عثمان‏.‏

أبطال الفيلم‏,‏ الفنانة ليلي علوي‏,‏ وعلي الرغم من حساسية العمل‏,‏ إلا أنها نجحت في تقديم الدور بتلقائية شديدة‏,‏ وكان لبساطتها في الأداء‏,‏ إلي جانب عدسة طارق التلمساني مدير التصوير‏,‏ دور كبير في أن يشعر المشاهد بأنه يعيش مع هذه الأسرة‏.‏

الفنان محمود حميدة‏,‏ يبحث دائما عن الجديد والصعب غير المألوف في الشخصيات التي يلعبها‏,‏ كما أنه استطاع أن يقرأ رؤية المخرج‏,‏ فنجح في تقديم الشخصية بصدق وأمانة‏,‏ أيضا في ثالث عمل له مع نفس المخرج‏,‏ منة شلبي اهتمت بجسدها أكثر من اهتمامها بالشخصية‏,‏ علي الرغم من أن تصوير هذا العمل كان في بداية حياتها الفنية‏,‏ كما أسهم المونتاج والملابس والديكور في تكثيف الحالة الشعورية للفيلم‏.‏

بحب السيما بالرغم من الحديث عن إيجابياته‏,‏ إلا أن هناك بعض السلبيات‏,‏ مثل الطفل نعيم الذي كان يتحدث بطلاقة‏,‏ علي الرغم من أنه لم يتجاوز السادسة من عمره‏,‏ وخاصة في حديثه عن الجنس‏,‏ كذلك إصرار الزوجة عنايات الفنانة التشكيلية علي أن معظم أعمالها الفنية صور لسيدات عاريات‏,‏ أيضا من الأخطاء التي تناولها الفيلم الألفاظ التي تفوهت بها الخالة عايدة عبدالعزيز‏,‏ في حفل زفاف ابنتها منة شلبي داخل الكنيسة‏,‏ والطفل الصغير وهو يتبول علي المعزين‏,‏ كذلك منة شلبي وهي تمارس الحب بالقبلات مع خطيبها أثناء الصلاة‏,‏ هناك أيضا بعض المبالغات في السياق الدرامي للعمل‏,‏ والتي توحي للمشاهد العادي‏,‏ أن حال هذه الأسرة هو نفسه حال شريحة كبيرة من المجتمع المصري المسيحي‏,‏ وهذا بالتأكيد خطأ‏.‏

في النهاية يجب أن نشيد بالدور الذي قام به الدكتور جابر عصفور‏,‏ الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة‏,‏ رئيس لجنة التظلمات‏,‏ كذلك الدكتور مدكور ثابت‏,‏ مدير عام الرقابة علي المصنفات الفنية‏,‏ في التأكيد علي أهمية إطلاق العنان أمام المبدعين في كل المجالات‏,‏ كي يعبروا عن رؤيتهم من خلال العديد من الأعمال الإبداعية سواء أكانت مقروءة أم مسموعة أم مرئية‏*

الأهرام العربي في 3 يوليو 2004