شعار الموقع (Our Logo)

 

حصاد2004

مللنا من حكاية أن بطرس ومحمد أصحاب أو أن تريزا صديقة فاطمة أو حتي من هتافات وشعارات مثل يحيا الهلال مع الصليب لأنها أصبحت من كثرة تكرارها أقرب للابتذال، خاصة أنها تؤكد علي أشياء من المفترض أن تكون ليست في حاجة إلي أي تأكيد. نحن نتعامل في فيلم «بحب السيما» مع أسرة قبطية كأبطال أو شخصيات رئيسية لهم جيرانهم وأقاربهم وأصدقاؤهم من الأسر القبطية كشخصيات ثانية أوثانوية.. كما يتضمن الفيلم العديد من الشخصيات التي لم نتعرف علي ديانتها سواء كانت مسلمة أو مسيحية.. وهي مسألة تحسب لصناع الفيلم بالتأكيد وليس عليهم. أولا لأن هذا الأمر لا يشغل اهتمام مؤلف الفيلم ولا مخرجه، وثانيا وثالثا ورابعا لأن هذه المسألة ليس لها علاقة بموضوع الفيلم ولأن ذكرها أو اثارتها لا تضيف قيمة أو أهمية بل علي العكس سوف تخرج بنا عن الموضوع. إن الفيلم يتصدي لحكاية أسرة قبطية لا تشكل علاقتها بإخوانها المسلمين قضية أو تثير أزمة.. تماما مثل آلاف الأفلام المصرية التي تحكي عن أسر مسلمة دون أدني اهتمام بعلاقتهم بإخوانهم المسيحيين لأن هذا ليس موضوعها..ولكن ربما يكون التوفيق قد جانب صناع الفيلم حين حرصوا علي إبراز أن حتي طبيب الأسرة مسيحي بوضع تمثال العذراء علي مكتبه وهي تفصيلة كان يمكن الاستغناء عنها..

يعود بنا إلي الوراء أربعين سنة نعيم الراوي ـ غير المرئي إلا في طفولته ومن خلال الأحداث.. يرصد لنا تفاصيل ذكرياته في شبرا.. تتشبع عيوننا معه بتكوينات الحي العريق بواجهات بيوته وبواباته وسلالمه ودرابزيناته وبلكوناته وشبابيكه المتجاوره إلي حد التلاصق.. نطل من شبابيكه علي أبراج الكنائس وأسراب الحمام تارة وعلي شبابيك الجيران أو الحيطان الصماء في جوانب أخري.. نتجول في الشوارع ونلمح أفيشات أفلام الستينيات ومانشيتات الجرائد النارية في عهد عبدالناصر.. يتفنن المصور طارق التلمساني ومهندس الديكور والمشرف الفني صلاح مرعي ليقدموا لنا هذه الصورة بقدر كبير من الصدق والجمال الفني والمتعة البصرية.. ولا تخدم هذه الصور إلا بناء دراميا رائعا شيده هاني فوزي مؤلفا وعبر عنه ببلاغة مبدع متمكن هو أسامة فوزي مخرجا..

فداخل هذه الجدران وخلف النوافذ حكايات وحكايات استطاع المؤلف أن يمزجها بمهارة وأن يتخير منها ما يتفق مع رؤيته وأن يجعلها جميعا تساهم في ثراء هذا البناء الراسخ متعدد الأبعاد الذي لم نعهده منذ فيلم «أرض الخوف» لداود عبدالسيد مع اختلاف الموضوع طبعا.. نتابع في الفيلم حكاية أو تفاصيل من حكاية أسرة نعيم في بيت يسيطر عليه خوف الأبناء من الأب وكبت الزوجة جنسيا ومعنويا في مواجهة قهر رب الأسرة الذي يعاني بدوره من خوف مرضي وغير طبيعي من الرب. وكل ذلك دون أن تغلف الفيلم مسحة تراجيدية أو مبالغات ميلودرامية إلا في أضيق الحدود.. وتشغل الخلفية السياسية للأحداث أو المواكبة للفترة الزمنية المساحة التي تجعلها محسوسة ومؤثرة دون مباشرة أو مبالغة سواء من خلال مانشيتات الجرائد أو نشرات الأخبار أو من خلال الأحداث حيث يتعرض الأب لبطش رجال المباحث تأديبا له علي تهمة ملفقة من رئيسه فيعبر ببلاغة وبأداء رائع لمحمود حميدة: «كل واحد بيحاول يشكل اللي تحت منه وما حدش بيتغير إلا لو هو عايز.. عبدالناصر نفسه يقدر يخللي حد اشتراكي غصب عنه؟» وبعد أن يتوصل إلي اختياره الحقيقي بعد اكتشاف مرضه يقول: «عايشين سلسلة طويلة من الخوف والكبت والجبن والكذب.. العمر قصير حرام نضيعه في المتاهة دي.. أنا كمان بأكدب عامل قديس.. دا حلال ودا حرام.. الحقيقة أني بأحب الخطية..».

وهكذا يشكل الفيلم بمهارة بنائه من خلال الأحداث والمواقف والحوار مستوياته الثلاثة: حكاية الأسرة = الحدوتة.. الخلفية السياسية والصدام مع السلطة = البعد السياسي.. الحلال والحرام والطقوس والحوار مع الرب = البعد الديني والميتافيزيقي.. وتتحدد بذلك المستويات الثلاثة للسلطات: سلطة الأب وسلطة الحاكم وسلطة الرب عز وجل.. ولا تتوقف التساؤلات حول هذه المحاور أو الأبعاد طوال العمل وتلعب كل الشخصيات دورا في هذا الجانب أو ذلك.. وتساهم أسئلة الطفل الذكية في فرض الكثير من التساؤلات بل إن الفنان التشكيلي الذي يقع في غرام الأم يلعب علي هذه المحاور ذاتها.. فقد سبق له أن كان معتقلا سياسيا، كما أنه مر بتجربة الالحاد ولم يعرف الصلاة أو الإيمان إلا في السجن.. وازدواجية العلاقة بين كل ما هو ديني ودنيوي تتبدي بوضوح في مشاهد الكنيسة الهادئة التي سرعان ما تتحول إلي مشاهد ساخنة صاخبة كما تتحول جلسات الصلاة دائما إلي معاررك محمومة ربما فرض عليها التنفيذ طابعا من المبالغة استدرارا لضحك جمهور أدمن الكوميديا الغليظة، بينما ينجح الفيلم بالفعل في إضفاء حال من الكوميديا الخفيفة اعتمادا علي مواقف واقعية صادقة.. مثل خطبة الناظرة في طابور الصباح وحديثها عن الحمامات فور الانتهاء من قراءة المانشيتات السياسية المهمة.. أو عمليات ابتزاز الطفل للأهل والمعارف والزملاء من أجل التستر علي أسرارهم وإن كانت وصلت إلي حد كبير من المبالغة في المشهد الذي يطلب منه الجار فيه يد شقيقته.. كما شاب مشهد اخافة الأب للابن من عذاب النار نفس الطابع من المبالغة.. فالأب يأخذ الطفل إلي الحجرة المظلمة: «عارف جهنم دي إيه.. ضلمة.. ونار لا تنطفئ.. ودود لا يموت».. ويصل الأمر إلي ذروة غير مقبولة حين يضعه علي شباك الحجرة.. علي الجانب الآخر يمتلئ الفيلم بالحوارات الصادقة اللماحة مثل حكاية صلاة الأب وهو يحسد لص اليمين «اللي عاش حياته هايص في المسخرة وفي الآخر فاز بالجنة ابن الإيه».. أو شرح الجدة العجوز للحفيد عن فكرة العذاب أو المرض الذي يجنبنا عذابات أو شرورا أكبر.

ولا يتوقف الفيلم في أي لحظة من لحظاته عن مناقشة التابوهات الثلاثة: الدين والجنس والسياسة.. وكما تمتزج العناصر الثلاثة تمتزج المشاهد في تداع جميل تفرضه وحدة الموضوع كما يحققه المونتاج لخالد مرعي ببلاغة رغم اختلاف الأجواء بل والأساليب الفنية في التنفيذ.. فبينما تأخذ معظم المشاهد الشكل الواقعي البسيط.. يغلف مشهد سقوط اللوحات في الشقة والكشف عن خلفياتها من الصور العارية يغلف هذ المشهد شكلا تعبيريا وإيقاعا سينمائيا مختلفا باستخدام الحركة البطيئة في بعض أجزائه وكذلك الحال في مشهد دخول السينما حيث تتحول الصورة إلي تعبير مباشر عن تصور الطفل الخيالي للسينما فعمال السينما لهم أجنحة الملائكة بينما شخصيات الفيلم تدور حول رؤوسها هالات الأنبياء..وتظل من أجمل الأجزاء التي رأيناها ربما في تاريخ السينما المصرية هذا الجزء الذي يبدأ من ركوب الطفل للدراجة بصحبة الأب الذي أصبح في حالة تصالح مع الحياة بينما البحر والسماء في الخلفية وقت الغروب ومع صوت خطاب التنحي لعبد الناصر نتابع قرص الشمس وهو يسقط في الماء ثم ننتقل إيقاعيا برصانة وبإيقاع بليغ إلي صباح اليوم التالي واستعراض خارجي للبيوت كبداية لفصل جديد قصير يفتتح بموت الأب.. تتحقق لهذه المشاهد هذا التوافق الشديد والانسجام التام بين عناصر السيناريو والتصوير والمونتاج والإخراج لنلتقي مع حالة نادرة من حالات السينما الخالصة في الفيلم المصري.. فالانتقال البارع من مشهد إلي مشهد بل من لقطة إلي لقطة يمكنك أن تلحظه في العديد من المشاهد الأساسية ومنها المشهد الذي يبدأ بحوار الأم مع الأب حول مصروف البيت ويتطور إلي مشهد جنسي وينتهي بإحباط الزوجة وتأنيبها للزوج لأنه يتعامل مع الأمر كما لو كان جريمة يجب إخفاؤها.. تتصاعد الحالة الدرامية والنفسية للشخصيات مع تقطيع محسوب وحركة مدروسة للممثل ودرجات إضاءة تلعب مختلف الأدوار دراميا وواقعيا ونفسيا.. فهي الإضاءة المناسبة للزمن ونوع اللمبات المستخدمة.. وهي الإضاءة المناسبة للموقف لإظهار ما يلزم وإخفاء ما لا يلزم.. وهي الإضاءة التي تغلف الوجوه بدرجات من الظلال حسب اعتامها الروحي وهي التي تحيط شخصياتها بالسواد كما لو كانت محاصرة بين قضبان الظلمة.. بينما تأتي الموسيقي للتركيز علي الانفعالات حينا فتأتي أشبه بنبضات القلب أو اهتزاز الأعصاب أو للربط بين الأجزاء في أحيان أخري لتساهم في تحقيق وحدة عضوية صوتية للعمل بين فصوله في تنويعات مؤثرة من الموسيقي الكنسية ألفها باقتدار خالد شكري.

يعبر الفيلم أيضا عن حالة نادرة من حالات صدق الديكور ودراميته والإخراج الفني المدروس ليس في الديكور الرئيسي ـ شقة نعيم ـ بل أيضا في المدرسة بتفاصيلها وشقة الجدة بمختلف حجراتها التي ترتبط ارتباطا شديدا بشخصيتها والزمن الذي تنتمي إليه ـ زمن تربية الدجاج في حجرة الكرار ـ ومساحات الحركة الضيقة التي تبرز عصبية الجدة في صراعها الدائم مع القطط التي تسرق اللحم والحمأة لصة التوابل والأبناء الذين لا تنتهي مشاكلهم والفرخة الشركسية التي تكسر البيض.. وكما تساهم الديكورات في خلق هذه الحالة من الصدق تشترك أيضا الأزياء والملابس وتسريحات الشعر.. فيمكن لأبناء الجيل أن يتذكروا مع الفيلم زمن سيطرة البيجامات الكاستور.. بل وروب ديشامبر الأب البائس الذي يخرج به في ظلمة ليل ومطر الشتاء بحثا عن تليفون أو تاكسي لاستدعاء الطبيب لإسعاف الابن المريض.. نفس المستوي من الإجادة في التعبير عن هذه الأجواء يتحقق في مشهد ثورة الطفل علي السماء وهو واقف في البلكونة فتتلبد السماء بالغيوم وتهطل الأمطار وتفرض الإضاءة الموحية سيطرتها لتحقق هذه الحالة.. وعلي الجانب الآخر نرقب مع كل صباح جديد هذا النصوع الشديد وهذا الأمل الجديد.. الفيلم بلا شك هو فرصة رائعة لمحمود حميدة اقتنصها بكل اجتهاد ليعبر عن شخصية في حالة صراع مع الذات وفي تحول دائم عبر من خلال نظراتها وخطواتها بنفس الإجادة التي عبر بها في حواراتها أو مونولوجاتها.. استطاعت أيضا ليلي علوي أن تضفي حالة من الأمومة الصادقة وأن تعبر عن الأنوثة المتعطشة والزوجة القلقة المتوترة التي تظل في حالة بحث دائم عن شيء ربما تنساه فتحدث كارثة.. إن خطواتها قلقة كمن تسير علي جمر من  النار وصوتها يرتعش من حين إلي الآخر وردود أفعالها تتطلب قدرا من الوقت فتعبر ببلاغة عن الإنسانة التي فقدت حريتها، منذ زمن وتتحول مع النهاية إلي الأم الطاغية التي تحرم الآخرين من حرياتهم.

جسدت عايدة عبدالعزيز ببراعتها المعهودة وحضورها الطاغي نموذجا ألفناه للجدة العفية المفعمة بالنشاط والطاقة والمنشغلة دائما بعملها الدائب في المنزل والمنهمكة في صراعاتها اليومية التي لا تتيح لها أي فرصة لتأملات أو تساؤلات وجودية.

وعلي الجانب الآخر كانت نادية رفيق هي النقيض في وهنها الدائم واستسلامها للمرض والفراش واقترابها الحميم من الفكر الديني المتسامح المتصالح مع الحياة والمرض بل وربما الموت أيضا بحكمة السنين والعمر الطويل.. يضفي الطفل يوسف عثمان بملامحه الوسيمة البشوشة وابتسامته الدائمة حالة من المرح علي الفيلم بوجه عام وإن كانت بعض المشاهد والمواقف تتطلب تعبيرات خاصة.. علي النقيض من ذلك افتقدت ملامح وتعبيرات زكي فطين أي إحساس بالمرح أو حتي الاحتفال بالحياة الذي يدعو البطل إليه.. بينما كان حضور الوجوه الجديدة قويا وأخاذا ومنهم جاسمين وإدوارد ورياض جوهر وبالطبع الوجه المتمكن للنجمة الصاعدة منة شلبي.. وهكذا تمتزح كل العناصر الفنية في توافق نادر لأحد أفلامنا الرائعة الذي لا يشوبه كثيرا اختلاط الأساليب في بعض الأحيان أو المبالغة في بعض المشاهد.. إنه أحد الأفلام المهمة الممتعة التي تجعلك تحب السينما حقا ورغما عن أي تحفظات أراها تتضاءل وسط هذا البنيان الشامخ.

جريدة القاهرة في 22 يونيو 2004

مقالات مختارة

نأمل عرض.."باحب السينما".. أول فيلم مصري عن الأقباط

بحب السيما: فيلم ينتقد الأصولية الدينية

أسرار اللحظات الأخيرة قبل تحديد مصير "بحب السيما"

«بحب السيما»: حكايات أسرة قبطية في فيلم رائع

"بحب السيما".. أن تكره التسلط وتحب الحياة

المشاهد التي أثارت حفيظة الأقباط في فيلم «بحب السيما»

يحتجون على فيلم لا علاقة له بالكنيسة: ..تسقط "السيما"

بحب السيما

 

«بحب السيما»

حكايات أسرة قبطية في فيلم رائع لا يعترف بشعار «يحيا الهلال مع الصليب»

د.وليد سيف