ملفات خاصة

 
 
 

زياد الرحباني…

شاعر سرقته الموسيقى

بروين حبيب

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

يحدث في لبنان أن يصف شخص شخصا آخر يفعل الشيء دون مقدمات، بجملة «سَعيدَة يابا، ودَعْوِسْ»، أو يتهكم شخص على بلادة آخر قائلا «ابنِكْ ذكي يا ثريّا»، وحين يتصل شخص كاذب الوعود والمواعيد فالوصف جاهز «تلفن عياش». هذه العبارات وكثير غيرها، مما أصبح من نسيج اللهجة اللبنانية ويجري على الألسنة كالأقوال المأثورة مستمد من مسرحيات زياد الرحباني، وكلمات أغانيه. فلا يوجد – بشهادة خصوم زياد قبل محبيه – من أثّر في جيل الحرب اللبنانية وما بعدها مثله، بل غالى في حبه المعجبون فوصفوا أعماله بالنبوءات، وهي التي صحت توقّعاتها مرارا مثلما حدث مع مسرحية «نزل السرور»، التي ألفها وأخرجها عام 1974 ورسمت مشاهد من الحرب الأهلية في لبنان قبل اندلاعها بسنة.

ولعل موهبة زياد الاستثنائية في كتابة الأغاني والموسيقى والمسرح رسّخت صفة العبقرية التي أُطلقت عليه، فحتى والدته السيدة فيروز وصفته بها حين سُئلت عنه، فأجابت بذوق الفنانة وإحساسها، إن «زياد عبقريّة فنيّة، أخذت ملامحها من رأيه بالحياة والإنسان والوطن والشعب».

استعمل زياد الرحباني هذه اللغة الفجة أحيانا، والواقعية جدا في مقابل اللغة الحالمة والوردية، التي كتب بها والده وعمه (الأخوان رحباني) فأنزل والدته من سفارتها بين النجوم لتأكل الطعام وتمشي في الأسواق، وتحولت المرأة الملائكية التي صاحبت القمر من صغرها، وكتبت اسم حبيبها على الحور العتيق، إلى سيدة عادية تمارس النميمة النسائية (ولُو شو بِشْعا مَرْتو) في أغنية «ع هدير البوسطة»، وبعد أن كانت فيروز مستعدة لتكون ظلا لحبيبها مع عاصي ومنصور، أصبحت لا تتوانى أن تصف هذا الحبيب بالكذب مع ابنها زياد (كذّاب مِش كذّاب/ رد الباب هلأ بس). وكم كان صعبا أن يتقبل الجمهور الفيروزي النخبوي هذا الانقلاب الأبيض، الذي قام به الابن المتمرد المشاكس على إرث والده وعمه، بل كم كان صعبا على فيروز نفسها أن تخرج عن الدروب المعبّدة فنيا، التي سارت فيها من قبل ولادة ابنها زياد لتتبعه في مسالك وعرة ومجهولة، لولا حس المغامرة وحب التجديد عندها، وحسنا فعلتْ فلو بقيتْ في منطقة الراحة والأمان لما سمعنا «كيفك أنت» ـ وقد ترددت فيروز سنوات قبل أن توافق على غنائها ـ ولا «كبيرة المزحة هاي» و»زعلي طوّل» و»ما شاورت حالي» وكثير غيرها طبع مسيرة الفنانة الكبيرة بعد انفصالها عن المؤسسة الرحبانية الرسمية.

سرعان ما خرج زياد من عباءة الأخوين رحباني وأخيهما الأصغر إلياس، فمسرحيته الأولى «سهرية» وقد عرضها سنة 1973 وهو في السابعة عشرة من عمره، كانت امتدادا وتقليدا موفقا لمسرحيات عاصي ومنصور، ولكن بعد سنة واحدة اجترح لغته الخاصةـ وبعد ذلك خطه الموسيقي وتوليفته اللحنية المطعّمة بالجاز في ما عرف في ما بعد بالجاز الشرقي. علما أن أغلب أغانيه هو من كتب كلماتها، سواء تلك التي غناها رفيق دربه وتوأمه الفني جوزيف صقر، أو تلك التي غنتها السيدة فيروز بعد ذلك.

ولغة زياد الرحباني المختلفة الصادمة أحيانا والذكية في جُمَلها، تخفي في زوايا تراكيبها شاعرا كبيرا، لولا أن الموسيقى والمسرح سرقاه، وأصبح متداولا على نطاق كبير، خاصة بعد وفاته في الأيام القليلة الماضية، وكثرةِ الكتابات عنه أنه بدأ شاعرا، أو الأصح أن والده أراد له أن يكون شاعرا، ويروي مروان نجار أن عاصي الرحباني طلب منه أن يعلم زياد أوزان الشعر، وقد علّق نجار على ذلك قائلا «ملَّا كارثة حدا يجرّب يعلّم زياد»، ولا أعتقد أن طبيعة زياد المتمردة تقبل بقيود العروض التي اشتكى منها حتى بدوي الجبل الشاعر الكلاسيكي الكبير فقال: أنا أبكي لكلّ قيد فأبكي… لقريضي تغلّه الأوزان، ولكن الوالد كان مقتنعا بموهبة ابنه الشعرية، مثلما كان مقتنعا بموهبته الموسيقية فجلب له من صغره من يعلمه عزف البيانو، وحين قرأ عاصي الرحباني بعض النصوص التي كتبها ابنه وهو لم يجاوز الثانية عشرة من عمره، جمعها وقصد أحد المطابع لنشرها على نفقته الخاصة، وقد صدرت هذه المجموعة بعنوان «صديقي الله» سنة 1971 وزياد في الخامسة عشرة من عمره، علما أنه كتب قصائدها ما بين سنتي 1967 و1968 كما جاء في مدخل المجموعة، وقد ورد فيها أن زياد الرحباني يتابع دروسه في مدرسة الجمهور، وفي هذا الديوان المكون من 49 نصا دون عناوين، تتجلى بذرة موهبة شعرية واعدة ليست إلى درجة ما كتب بعضهم بمبالغة «لو كتب زياد ديوانا آخر بعد «صديقي الله»، لأزاح أسماء كثيرة من واجهة المشهد الشعري، لأنه بدأ من حيث يجب أن يصل الشعراء، لا من حيث نجدهم يبدؤون، فلا بد من إنصافه بوصف (تجربته) واحدة من أكثر التجارب النثرية صدقا وتفوقا في بيروت الستينيات»، بل أجد في بعض النصوص سذاجة طفولية واضحة، وفي بعضها الآخر تأثرا بما قرأه في المدرسة أو سمعه في بيت كان الشعر والموسيقى خبزه اليومي، كتأثره بقصيدة ميخائيل نعيمة الشهيرة «اعصفي يا رياح.. وانتحب يا شجر/ واسبحي يا غيوم.. واهطلي بالمطر/ واقصفي يا رعود.. لست أخشى خطر/ سقف بيتي حديد.. ركن بيتي حجر»، فكتب زياد «متى عدت إلى بيتي/ فأمطري يا سماء/ لن يتبلّل ثوبي الأحمر/ متى عدت إلى بيتي/ فاغضبي يا رعود/ متى سكّرت الباب/ وقفلته مرّتين/ فصرّخي يا ريح أمام الأبواب/ أنا في الداخل/ والباب موصد/ والنار مشتعلة/ فيا شتاء أقبل».

وإن كان في المجموعة وعي يفوق إدراك ابن الأعوام الإثني عشر حين يكتب مثلا عن أثر الحرب على الأطفال فنقرأ هذا النص الجميل: «أتيتُ الأولادَ المشردين بالأوراق/ وسألتُهم أن يرسموا أشجارا/ فرسموا أغصانا طويلة فارغة نائمة على الأرض وعليها مدفعٌ وعسكر/ فقلتُ: لا، إلاّ هذا ارسموا زهرا وبيتا/ فرسموا زهورا ملقاة في مياه المطر والعسكرُ يدوسُها/ وقلتُ: لا، إلا هذا ارسموا عصفورا يغني كما كنتم ترسمون مِن قَبل/ فرسموا عصفورا يبكي والمطرُ يهطل/ فسكتُّ وأخذتُ الأوراق وذهبت»، كما نجد بعض المقاطع اللماحة أشبه بقصيدة الومضة تبشر بولادة شاعر كبير «تعبتُ فجلستُ/ ومرّتْ بي فتاة وقالت/ ما بك تجلس على الوقت»، أو كقوله «لا يوجد فستان بشع/ ما دام لكل فستان واحدة تحب أن ترتديه». ولكن بعد هذه المجموعة الشعرية أعرض زياد عن الشعر باللغة العربية الفصحى، واقتصر على المحكية اللبنانية، وإن كان أغلب ما كتبه تحوّل إلى أغان حفظتها الذاكرة وترنمت بها الألسنة.

وقبل أعوام واظب على نشر بعض ما يكتبه من شعر محكي في إحدى الجرائد اللبنانية التي كان يكتب بها أسبوعيا. ولعل الذي صرف زياد الرحباني عن مواصلة الكتابة بالفصحى أنه وجد الشعر الفصيح نخبويا، يحتاج قارئا متذوقا وخاصا، في حين أن المحكية ابنة الحواري الضيقة والأسواق المكتظة والناس الغلابى، الذين انتصر لهم زياد دائما، لذلك نجده في مسرحية «بالنسبة لبكرا…شو؟» التي عرضت سنة 1978 يصوّر الشاعر يعيش في برج عاجي يتحدث بما لا يفهمه الآخرون، كهذا المقطع الذي أجراه زياد على لسان الشاعر المثقف «متعاقب أنا في أصل الصورة/ عاهدت اللوز والأشياء الأخر/ بأنّني غدا على قرميدك المهزلة/ سأمتطي…أمتطي…أين أمتطي؟/ متعاقب أنا فيكِ يا أينك/ يا أينك من أصل الصورة/ تسكنني اللامركزية/ ساورتني شكوك الصوف/ وكان هيلاسيلاسي جاثما عند باب المستودع/ اخلع عنك هذه البلابل المشبوهة/ فإنّ اللون السابع بعد الألف أرجواني» وحين يسأله العامل في المطعم عن معنى ما يقول، يجيبه الشاعر بفوقية، أن هذا الشعر يفوق مستوى العامل ولا يمكن أن يفهمه الجميع. وهذه الصورة التي رسمها زياد للشعراء والمقصود بهم الشعراء الذين أوغلوا في الحداثة، اعترض عليها الشاعر زاهي وهبي في مقال له فكتب: «زياد الرحباني قدّم نموذجا لشاعر يردّد كلاما مبهما بوصفه شعرا حديثا على شاكلة: هوت سنونوّتي على الرماد/ تناثرت صورا وأوراقَ اعتماد». وللإنصاف إن مقدرة زياد الرحباني اللغوية وحساسيته الفنية الفائقة كانتا تؤهلانه ليكون شاعرا ذا بصمة خاصة، لو أخلص للشعر إخلاصه للمسرح والموسيقى. ولكن (الحلو ما يكملش)، وحسبه أنه طبق حرفيا نصيحة سعيد عقل، التي غنتها أم زياد يوما وكأنها توصي ابنها: «علّمتني حلوة الحلوين/ انْ فلّيت إترك عطر بهالكون».

شاعرة وإعلامية من البحرين

 

القدس العربي اللندنية في

03.08.2025

 
 
 
 
 

موسيقى

زياد الرحباني... عزف منفرد على كلّ الآلات

علي موره لي

"بدّها طولة بال"... هكذا حذّر الموسيقي الراحل زياد الرحباني جمهوره من خلف آلة البيانو قُبيل تقديم "ضحكة الـ75000" (1988) خلال حفل أقيم في أبوظبي عام 2005، فالمقطوعة موسيقى صرفة، وليست أغنية، والسماع إذا ما توجّه إلى العزف، يتطلّب من المستمع الانتباه، أكان العزف منفرداً على آلة، أو مشتركاً بين عدّة آلات.

يأتي تحذيره نابعاً من فهمٍ أن الثقافة السمعية العربية والمشرقية عموماً قائمةٌ على المركزية الغنائية. صوت الحنجرة فيها هو القطب، أما الآلات فتدور في مداره، إما مُصاحبةً أو مُساندةً، أو سادّةً لفراغات الصمت ريثما يلتقط المطرب أنفاسه

يُضاف إلى ذلك أن تجربة الاستماع إلى موسيقى من دون غناء، تفتقر إلى الكلمات، وتستدعي إصغاءً من نوع آخر، أشدّ تركيزاً، خصوصاً إذا تراكبت النغمات وتداخلت الألحان، كما في الموسيقى الكلاسيكية الغربية الحديثة والجاز.

شغفُ زياد الأوّل والأساس هو الموسيقى. استمع إليها منذ الطفولة ابناً لأسرة موسيقية وضعت لبنان على الخريطة الفنيّة للمشرق والعالم. تعلم العزف باكراً جداً، البيانو على يد بوغوص جالاليان، العضو العتيق بفرقة الأخوين الرحباني، والبزق على يد أبيه، فامتلك آلتين موسيقيتين، شرقية وغربية

المركزية الغنائية في الثقافة العربية، ونمط عمل المؤسسة الرحبانية القائم على كتابة المسرح الغنائي والتلحين للسيدة فيروز، حتّما عليه أن يُكثر من تلحين الأغاني. في الرابعة عشرة من عمره، لحّن أغنية "ضلّي حبّيني يا لوزية" لتغنّيها خالته هدى. حتى مطلع الثمانينيات، ظلت هويّته التلحينية رحبانيّة، تجمع الطرب المصري بالفولكلور اللبناني ولون الفرانكو آراب، أي الغناء العربي المتأثّر بالأغنية الشاعرية الفرنسي في لبنان على وجه الخصوص.  

استغل المقدمة الموسيقية بوصفها أحد أقسام المسرحية الغنائية، من أجل إشباع شغفه بالتأليف الموسيقي المستقل عن الغناء. بأسلوب اقتباسيّ يُذكّر بالملحن المصري محمد عبد الوهاب، استخدم لأجل مقدمة مسرحيّته "نزل السرور" (1974) فاتحة مقطوعة المؤلف الألماني الرومانسي فرانز ليست (Franz Liszt) لآلة البيانو "رابسودي هنغاري". من خلال التقاطه من التقارب المقامي بين سلم مينور ومقام الكرد، واللوني بين البيانو والقانون، أشرك النمطين في حوارية عزّزت شرقيّة اللحن.

يظهر بعد الدقيقة الأولى ولع زياد الرحباني بموسيقى الجاز. بعد انشقاقه الأسري والفني والفكري السياسي عن مؤسسة الرحابنة، صار يبحث عن هويّته الفنّية المستقلّة ولغته الموسيقية الخاصة. تعرّف إلى موسيقى جاز اللاتينو القادم من أميركا الجنوبية، حينما ارتاد دُكّاناً يحوّل الأسطوانات إلى أشرطة كاسيت. منذئذ، أصبح الجاز إطاره التأليفي المفضّل، لما يتميّز به من حيوية إيقاعية، وحريّة ارتجالية، قرّبته من الموسيقى الشرقية.

إلى جانب الإيقاع، شغلت النفخيات النحاسيّة حيّزاً وسعاً من اللغة الموسيقية جازيّة المفردات. عند الدقيقة (01:12) من مقدمة نزل السرور، يُسمع صوت آلات الترومبيت تعزف جماعةً تنويعاً على ثيمة رابسودي ليست، تحاور آلة البيانو. تدخل آلة الكلارينيت النفخية الخشبية (01:42) التي وإن سُمعت بعض أصدائها الوديعة لدى عاصي ومنصور، إلا أنها باتت عند زياد أكثر حدّة دراميّة.

يُضاف إلى المقدمة عند الدقيقة (01:56) طبقة لونيّة جديدة، من خلال الوتريات، تحديداً آلة الكمان، التي تتنقّل ما بين المنسوب الصوتي المنخفض والمرتفع. بحلول الدقيقة (02:13) يسود الموسيقى طابعٌ عربي مصري، تتصدّره آلة أكورديون التي سبق لزياد في صغره، أن عزفها ضمن فرقة أبيه وعمه (وهو من عزف عليها في هذه المقطوعة أيضاً).

لبرهة قصيرة وبهدف خلق المفاجأة وحبس الأنفاس، تكفّ الآلات الإيقاعية، كالرق والطبول الأفروأميركية واللاتينية، عن العزف (02:44) لتُسمع الكمانات معلّقة في الصمت، تقابلها التشيلو، الأكثر انخفاضاً، تُنقَر أوتارها من دون أقواس.

روى زياد الرحباني ذات مرة أنه عاد إلى أستاذه البيانو بوغوص جلاليان يطلب منه أن يُعلّمه نظريّات الانسجام الموسيقي (الهارموني) وقواعد التوزيع الآلي، فاستغرب الأخير قائلاً: "ما حاجتك إلى مزيدٍ من الدراسة، وموسيقاك على هذا القدر من الكفاءة؟!". 

لعل مقطوعة "تل الزعتر" من ألبوم "فيه أمل" (2010) تُثبت وجاهة استغراب أستاذه، إذ منذ البداية وحتى بلوغ الموسيقى دقيقتها (02:23) تلمس الأذن ذائقة سمعيّة رفيعة من خلال الأطياف الهارمونية الكثيفة، الممتدة والمتداخلة، خصّها المؤلّف بالوتريات من دون آلات إيقاعية، بهدف تركيز الأثر الحسّي والحمولة العاطفية المرتبطة بالدلالة السرديّة المرتبطة بمخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في لبنان، الذي تعرض لمجزرة سنة 1976 خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

كما في مقدمة نزل السرور، يبدو جليّاً للأسماع تأثّر المؤلّف بالإرث الموسيقي الكلاسيكي العالمي، ليس عبر اقتباس موتيف مباشر، وإنما باستلهام جملة انتقالات هارمونية، ميّزت أعمال عازف البيانو والمؤلف الروسي الرومانسي المتأخر سيرغي رخمانينوف، تحديداً الكونشرتو الثالث للبيانو والأوركسترا؛ فلئن تشترك الموسيقى الروسية والشرقية بطول الألحان وامتدادها في الزمن، بينما تغلب على الجرمانية والإنكلوسكسونية القصر والاقتضاب، فقد استفاد زياد الرحباني من رخمانينوف لكي يكسو جملاً لحنية طالت لأزيد من 30 ثانية (0:28 -1:00).

هكذا، يُحافظ المؤلف على طابع اللحن العربي الأصيل المتصف بالطول والامتداد، سواءٌ في الزمن أو في الأثر، وفي الوقت نفسه تحريره من زركشات الدف والرق، التي ومن خلال إيقاعات ممتدة مثل السماعي والمصمودي ضمن التراث الموسيقي الكلاسيكي العربي، تشكّل الجمل الطويلة وقولبتها.

أما زياد الرحباني  في بداية "تل الزعتر"، فيستعيض عنها بالمعالجة الهارمونية (Progression) متعددة الأصوات والمصوغة أفقياً. يبقى أن غياب الإيقاع، يتطلّب من المستمع زيادةً في التركيز، على إثر فقدان الموسيقى أحد أركانها الأساسية، مستوجباً منه "طولة البال".

 

####

 

موسيقى

زياد الرحباني... ثلاث حُجرات موسيقية للحديث مع النفس

هيثم أبوزيد

لم يكن رحيل زياد الرحباني (1956 - 2025) لحظة وداع عادية، وإنما مثّل مناسبة كشفت عن عمق الأثر الذي تركه في وجدان جيل كامل، ظلّ يرى فيه صوتاً مختلفاً وسط الضجيج، وفناناً شقّ طريقه بعيداً عن القوالب، واختار أن يكون شاهداً مأزوماً وليس نجماً.

في هذا الضوء، يصير التأمل في مسيرته الموسيقية ضرورة لفهم التحول الداخلي لفنه، من النبرة العالية إلى الجملة الهامسة، من الاشتباك مع العالم إلى الاكتفاء بمراقبته عن بُعد. فالحديث عن تطور موسيقى زياد الرحباني ليس مجرد استعراض زمني لألبومات متتالية، بل هو تتبع لمسار ذهني وفلسفي داخل عقل موسيقي.

يمكن فهم هذا التطور من خلال ثلاث محطات لافتة من ألبوماته، تكشف كل واحدة منها عن تحوّل في المزاج، وتبدّل في موقع الفنان من نفسه ومن العالم. هذه الألبومات ترسم قوساً داخلياً بين طرفي المسيرة، من الإيمان بالنبرة العالية إلى الانسحاب الهامس، من حماسة الفعل إلى خيبة الإدراك.

اختيار ثلاث محطات من ألبومات زياد الرحباني يتيح تتبّع مسار داخلي متقلّب، لا يخلو من التوتر بين الانتماء والخذلان، بين الرغبة في التغيير والرغبة في الفهم. الألبومات هي "هدوء نسبي" (1985)، و"بما إنو" مع جوزيف صقر (1995)، و"مونودوز" مع سلمى (2001). لا تمثّل هذه الأعمال مجرد تنويعات لونية، بل تعكس انتقالاً تدريجياً من الغنائية السياسية إلى التأمل الشخصي، ومن التصعيد الجماعي إلى الخفوت الذاتي.

يظهر زياد الرحباني في "هدوء نسبي" باعتباره فناناً بعيداً عن الأطر التقليدية، ممسكاً بجوهر صوته من دون محاولة لتهذيبه أو تصنيعه. في هذا الألبوم، نلمس بداية انفصال واضح عن المسرح الذي اشتهر به، فيقدّم نفسه "مغنياً" يحمل رسالة موسيقية خاصة.

تنساب الأغاني في هذا العمل عبر مزيج مميز من الجاز والمقامات الشرقية، بعيدًا عن التوجهات الخطابية أو المبالغات الصوتية، لتكتسب بذلك طابعاً تأملياً أكثر منه حماسياً. كان الصوت في هذا الألبوم صريحاً، كما نسمعه في أغنية "بصراحة"، لا يهتم بإرضاء رغبات الطرب التقليدي، بل ليعبّر عن الحالة الداخلية للفنان.

في "هدوء نسبي"، يمكننا ملاحظة البنية الموسيقية المركبة التي يقف البيانو في قلبها، مدعوماً بالساكسفون الحزين. لا يسعى زياد الرحباني في هذه الأغاني إلى بناء لحني تقليدي أو متسلسل، بل يفضل توزيع الألحان في تباين حاد مع الإيقاعات غير المعتادة، ليخلق جوّاً من التوتر الداخلي.

يمكن القول إن الأغاني في هذا الألبوم ليست مجرد لحظات طربية، بل هي رسائل مبطنة بتأملات حقيقية في واقع اجتماعي وسياسي مضطرب. ورغم الكلمات التي تميل إلى النقد الاجتماعي، فإن نبرة الصوت تبقى هادئة، كما لو أن زياد لم يعد يراهن على الصراخ بقدر ما يراهن على الصدق الداخلي في أدائه.

في هذا الألبوم، يتعامل زياد مع صوته أداةً لا تهتم إلا بإبراز الصدق. يترك صوته هشاً في بعض الأوقات، ويظهر أحياناً غير متقن، ولكنه يتجنب الصقل أو التفنن الذي قد يحرف المعنى. في هذه الأغاني، يقترح زياد الرحباني أن نستمع إلى الصوت بقلوبنا أكثر من آذاننا، ليكشف عن مشاعر عميقة قد لا تكون مرئية على السطح، ولكنه مع ذلك يصر على أن تكون مرآة لمشاعرنا.

في ألبوم "بما إنو"، يتراجع البُعد المسرحي لصالح بناء لحني مستقل، يتيح للموسيقى مساحة أوضح للتشكل خارج التوترات الدرامية المباشرة. يؤدي جوزيف صقر، شريك زياد، معظم أغاني الألبوم بصوته، ما يعزز البُعد الشخصي والتأملي للعمل

يتضمّن هذا الإصدار أغاني قائمة على صياغة لحنيّة أقرب إلى نمط المقال الصوتي، فيُنسج اللحن حول نصوص شبه مونولوجية، تتأمل الذات والعالم من مسافة زمنية ونفسية. المقامات الشرقية ما زالت حاضرة، لكنها تُعالج بطريقة هارمونية أبسط من تجريب زياد السابق، وتُرفد غالباً بتدخلات هادئة من الجاز، عبر الجمل اللونية للبيانو أو تلوينات الباص الواضحة.

يتميّز الألبوم ببنية إيقاعية مستقرة نسبياً، تعتمد في معظم المقاطع على توقيعات منتظمة، ما يوفّر أرضية هادئة تسمح للنصوص أن تُقال لا أن تُصرخ. التوزيع هنا أكثر تقشّفاً من أعماله السابقة، لكنه محكم. تتبادل الآلات وفق منطق سردي: الساكسفون أو العود يدخلان ليعلّقا، أو كأنهما ظلّ خلف الجملة الصوتية. الجمل اللحنية تتكرّر أحياناً في شكل شبه تدويني، لكن بتدرجات صوتية طفيفة تعكس تقلباً داخلياً لا يُقال مباشرة.

يتسم الأداء الصوتي في هذا الألبوم بالهدوء الظاهري، فتندمج الجمل الغنائية مع نبرة إلقاء شبه حيادية. الغناء يُقدَّم بوصفه كلاماً موزوناً، وليس استعراضاً صوتياً. وتظهر في "بما إنو" ملامح واضحة لميل زياد نحو تقليص الفارق بين الحكي والغناء. وتبرز خاصية تلاشي بعض المقاطع من دون خواتيم تقليدية، ما يعكس فلسفة موسيقية جديدة تعلي من شأن الأثر الشعوري العابر على حساب الذروة أو الخاتمة.

في ألبوم "مونودوز" (2001)، يظهر زياد إلى جانب المطربة سلمى، ويتقاسم معها الأداء الصوتي. يغني زياد في عدد من المقاطع، منها ما يقدّمه بصوته المنفرد، ومنها ما يأتي في حوار صوتي داخلي معها. يبلور الألبوم نوعاً من الانسحاب ويقدمه باعتباره اختياراً جمالياً وفلسفياً في آن. الجمل قصيرة، أحياناً مبتورة، والإيقاعات تُستخدم بوصفها آثاراً وليست أدوات تحفيز. لا يعود الصوت مركزاً للغناء، بل يتحوّل إلى ظلّ لذات متأملة.

في هذا الألبوم تتشكل البنية الموسيقية حول مبدأ التخفف، وليس من الزخرفة وحدها، بل من التوقّع نفسه. الألحان قصيرة، مقطّعة، تكاد تُقال بنَفَس واحد ثم تختفي، والإيقاعات شبه غائبة أو تنزلق في الخلفية كصوت داخلي بالكاد يُسمع. لا يسعى الألبوم إلى بناء تطور لحني أو درامي، ويكاد أن يكتفي بإقامة حالة صوتية معلّقة، مترددة، لا تبلغ الذروة ولا تتجه نحو خاتمة.

يتوزّع الغناء بين صوت زياد وصوت سلمى، فيصعب أحياناً فصل المتكلّم عن المتلقّي. ليست هناك ثنائيات تقليدية، بل تبادل همس بين صوتين يتقاسمان المشهد لبناء توتر خفيّ بين الحضور والغياب. صوت زياد هنا طبقة إضافية في النسيج الصوتي، يتقدّم حيناً، ويختفي حيناً، في انسجام تام مع الحالة التعبيرية العامة.

بين هذه المحطات الثلاث، يتشكل قوس فني يعكس رحلة ذاتية أكثر من كونه سيرة مهنية. يتراجع دور الأغنية من وسيلة للتأثير إلى وسيلة للفهم، يتقلص خلالها الصوت ليزداد عمقاً. ومع كل خطوة، يظهر زياد الرحباني أقل انجذاباً إلى الجماهير، وأكثر انصرافاً إلى ذاته. لكن هذا الانسحاب لم يكن انعزالاً، بل تمرّد من نوع مختلف: ضد التوقّع، وضد الاستهلاك، وضد أن تتحول الموسيقى إلى واجب شعبي.

ما يمنح تجربة زياد فرادتها هو هذا التوتر الدائم بين الرغبة في الانخراط والخوف من التورط. ولهذا لم يكن صانع شعارات، ولا حامل يقينيات. بل كان أقرب إلى كاتب يوميات موسيقية، يحاول أن يفهم العالم لا أن يفسّره، ويبحث عن معنى لا عن انتصار. وإذا كانت ألبوماته قد بدت في بداياتها أدوات اشتباك، فقد انتهت مرايا معتمة، نرى فيها ملامحنا وليس ملامحه فقط.

بين "هدوء نسبي" و"مونودوز"، مروراً بـ"بما إنو"، يتضح أن صوت زياد الرحباني لم يكن يتغير بمرور الزمن فحسب، وإنما كان يُعاد تشكيله تحت ضغط الأسئلة الوجودية والفنية التي ظلت تلاحقه.

في البداية، كان الصوت امتداداً لفكرة المواجهة، أداة لقول ما لا يُقال، ومجابهة الواقع بجمل موسيقية حادة ومواقف لا تخشى التصريح. ثم، ومع "بما إنو"، بدأ الخطاب يتراجع خطوة إلى الوراء، ليأخذ شكل المراجعة، لا التراجع، إذ تحضر الذات ليس باعتبارها بديلاً عن الجماعة، بل بوصفها موقعاً هشاً للتأمل والتساؤل. وفي "مونودوز"، يكتمل هذا التحول: لم تعد الأغنية تبحث عن جمهور، بل صارت صيغة نجاة داخلية، لا تعوّل على أحد، ولا تعِد بشيء.

إن مسار زياد الرحباني كما ترسمه هذه الألبومات الثلاثة، ليس مساراً تقنياً صرفاً، ولا انتقالاً شكلياً من البساطة إلى التعقيد أو العكس، بل يمكن اعتباره انحداراً من الخارج إلى الداخل، من الجملة الجماعية إلى البوح الفردي. فبعد أن كانت الأغنية موقفاً، غدت مرآة، ثم صارت أثراً. أثرٌ لمن يشبهونه في الحيرة، في الرفض الهادئ، في الإصرار على أن الصدق وحده يكفي، حتى وإن لم يُفهم على الفور.

هكذا، تبدو ألبومات زياد الثلاثة، رغم تباعدها الزمني، وكأنها تؤلف ثلاثية صامتة عن معنى أن يكون الإنسان فناناً في زمن مثقل بالضجيج. ثلاثية لا تسعى إلى وصف العالم، بل تضيء تلك البقعة المعتمة التي تقع في داخل من يراقب هذا العالم بصمت، من دون يقين، ودون مرارة زائدة. الأغاني في هذه الألبومات لا تطلب استجابة، ولا تسعى إلى إقناع، بل تنسج حول المستمع فضاءً غامضاً، تتردد فيه الأصوات في صمت، ليس في صرخات.

في هذا الفضاء المترف بالهدوء، تصبح الموسيقى ليست وسيلة للتعبير فقط، بل نوع من ممارسة البقاء، فتتحول الأغنية من خطاب موجه إلى لحظة صدق هش. في هذا السياق، لم يعد الأمر مرتبطاً بسماع الأغنية بقدر ما هو متعلق بوجودها، بالصدق الذي تطرحه من دون أن تحتاج إلى إجابة.

يبدو صوت زياد في هذه الألبومات وكأنه لا يريد أن يشرح نفسه، بل إظهار ما يحمل من قلق، أو تشويش. لم يكن يسعى إلى إقناعنا بامتلاك الحقيقة، ولا لفرض رؤيته على الجمهور، بل كان يراهن على ذلك الأثر الصامت الذي يتركه الصدق عندما يُقال من دون ادعاء.

في النهاية، لم يكن يغني ما هو مألوف؛ لأن همه أن يقول ما لا يُقال، كأنما هو تحسس لمشاعرنا المخفية التي لا نجد لها كلمات. لم يكن يطلب الإيمان بما يقدمه، وإنما أراد أن يشاركنا الحيرة من دون ادعاء، وعلى نغمة منخفضة، لا تعبر عن أحد، ولا تسعى إلى أن تحل محل أحد.

 

####

 

مدونات

زياد الرحباني... "لولا فسحة الأمل"

أحمد الصباهي

لا أدَّعي أنّني أعرف الكثير عن شخصيّة الفنان والموسيقي الراحل عن عالمنا أخيراً زياد الرحباني؛ إذ كنت قد تعرّفت إليه من خلال أعماله، عن طريق أصدقاء لي، في تسعينيات القرن. كانوا يتبادلون النكات، عن طريق مقاطع من مسرحياته "نزل السرور"، أو "شي فاشل"، أو "بالنسبة لبكرا شو"، فيما كان آخرون يفضّلون أغانيه، وكنت منهم بحكم الضرورة، خصوصاً عندما أكون في سيارة صديق. وعادةً أصدقائي لا يستشيرونني فيما يودّون سماعه، لأنّني غير متابع للحركة الغنائية العربية. كانوا يكتفون بالنظر إلى بعضهم في السيارة وأنا إلى جانبهم: شو زياد أو شي ثاني؟ لينتهي الأمر من دون نقاش طويل: نعم زياد.

 إذن، هكذا كانت المرّة الأولى التي أستمع فيها إلى زياد الرحباني من دون استشارة. آنذاك، أعجبتني أغنية "شو هالأيام إلّي وصلنالا قال إنو غني عم يعطي فقير"، بلحنها ومعانيها، وسخريتها، إضافة إلى غيرها من الأغاني التي كانت فريدة في مفرداتها وألحانها.

لاحقاً قادني الفضول إلى سماع مسرحياته، عبر أشرطة الكاسيت في الراديو. حينها لم يكن لديّ جهاز فيديو، ومسرحياته لا تعرض على التلفاز اللبناني، وهي غير مسجّلة بجودة جيّدة، فكان الحل الوحيد الاستماع إليها عبر شريط الكاسيت. بعد السؤال والبحث، وجدت مسرحياته معروضة لدى أحد الباعة في سوق البربير في بيروت على عربة. دفعت ثمن شريط مسرحية "شي فاشل" من غير محاججة في السعر، ولم أتوقّع أنّي سأضحك إلى حدّ البكاء لمدّة ساعتين وأكثر، وأنا أستمع إلى تلك المسرحية. تركت لمخيّلتي رسم حركة وأداء الممثلين. وحتى الآن، أعود إليها بين الفينة والأخرى، لتثير في نفسي تلك التساؤلات، لم يتغيّر الحال كثيراً عمّا حكاه زياد في مسرحيته عن لبنان.

"شي فاشل" مسرحية عُرضت عام 1983، تحاكي زمن اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وهي مسرحية داخل مسرحية، إذ يحاول الممثلون في "شي فاشل" تأدية مسرحية أخرى هي قصة أهالي قرية "جبال المجد".

 يُظهر لنا زياد الرحباني في هذا العمل، مآسي الحرب الأهلية، عبر الفشل المتكرّر، في التمرين على تأدية تلك المسرحية والافتتاح على بعد أيّام قليلة. يصطدم العمل دائماً بعقبات كثيرة، تعود كلّها إلى ما تخلّفه الحرب الأهلية من عقبات، ابتداءاً بانقطاع الكهرباء المفاجىء، عدم وصول الممثلين إلى التدريب بسبب الاشتباكات وانقطاع الطرق، التدريب أثناء الاشتباكات والقصف، الفشل في تحضير الديكور، الهواجس بين الطوائف اللبنانية المسلمة والمسيحية مما يثير الخلافات بين الممثلين، الميزانية الكبيرة التي صُرِفت ما أثار غضب المنتج... وكلّها بطريقة فكاهية، لكنها حاكت الوضع المرير لتلك الحرب.

 انحاز زياد الرحباني للمقاومة اللبنانية، ولم ينتقص هذا الخيار من شعبيته

يحاكي زياد في عمله هذا قصّة أهالي قرية "جبال المجد" الذين صوّرهم العمل أنهم يعيشون في هناء وصفاء قبل أن يعكّر صفو عيشهم مجيء "الغريب" الذي يسرق الجرة المقدّسة من قريتهم، لتبدأ التساؤلات والاتهامات: من سرق "الجرة"؟

 في هذه المسرحية، يعطي زياد للصحافي الدور في إيضاح تضارب الاتجاهات السياسية حسب المصالح في لبنان، بحيث يجري الصحافي مقابلة مع مخرج المسرحية وهو بطلها أيضاً، ويلعب دوره زياد الرحباني، ومع غيره من ممثلي العمل. وهنا يبرز الاختلاف في تفسير الفرقاء لهذا الغريب، بين "الفلسطيني" الذي يتهمه جزء من اللبنانيين بالتسبّب بالحرب الأهلية، وآخرون يفسرونه بـ"المحتل الإسرائيلي".

هي مسرحية لم تنتهِ فصولها إلى الآن، فما زال لبنان يعاني من تحديات لم تختلف كثيراً عن مسبّبات الحرب الأهلية، إلى الفساد والخلافات... وليس آخراً الخلاف الحالي حول سلاح المقاومة، بين من يرى أن خيار إسناد ودعم فلسطين ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان هو خيار كارثي، لكنه لا يرى مشكلة في التحالف مع الغرب والنظام الرسمي العربي، وبين من يرى أنّ مسؤولية تحرير الجنوب ودعم القضية الفلسطينية هي أولوية وواجب.

 انحاز الرحباني في سنواته الأخيرة، للمقاومة اللبنانية، ولم ينتقص هذا الخيار من شعبيته، فقد بقي جيل الشباب اللبناني وفياً له، ويسأل عن غيابه.

لقد كنت معجباً بصراحة زياد الرحباني في طرحه للقضايا الخلافية اللبنانية بطريقة صريحة، أو عبر الإيحاء. كنّا، كشباب فلسطيني، وإن كانت همومنا مختلفة نوعاً ما عن اهتمامات الشباب اللبناني، نشعر أنّه يعبِّر عنا، بعفويته وصراحته، وهو المعروف بدعمه للقضية الفلسطينية. فقد ترك منزل آل الرحباني، وما فيه من عزّ، بسبب موقفه الرافض لمحاصرة مخيّم تل الزعتر للاجئيين الفلسطينيين، وارتكاب أبشع المجازر فيه عام 1976. والمفارقة، أنّ زياد ذكر في مقابلة تلفزيونية، أنّه شهد في منزل عائلته التخطيط لمجزرة تل الزعتر.

كنّا ننظر إليه كشخصية عابرة للطوائف والمذاهب بمواقفه اليسارية والشيوعية، بحيث يصبح الاستثناء في التعامل مع "الغريب" أو "الفلسطيني"، في بلد يرتفع فيه منسوب العنصرية.

 لم يُمنح الرحباني بعد رحيله المفاجىء، مزية إعلان الحداد الرسمي وتنكيس الأعلام في البلاد، إلّا أن شوارع الحمرا في بيروت التي اختارها سكناً، خرجت عن بكرة أبيها، لوداعه.

 غاب الرحباني عن المسرح لسنوات طويلة، وكان آخر عمل  قدّمه في منتصف التسعينيات "لولا فسحة الأمل"، إلّا أنّ أعماله المسرحية بقيت تراثاً كلاسيكياً عابراً للأجيال، وربما كانت رسالته الأخيرة هي أن نتمسّك بالأمل مهما كان الوضع صعباً.

وداعاً زياد الرحباني.

 

####

 

زوايا

الانقلاب على الراحلين

آدم فتحي

غادرنا زياد الرحباني، في رحلته الأخيرة، تاركاً وجعاً لا يوصف في قلب أمّه العظيمة فيروز، وفي قلوب أفراد أسرته وأصدقائه ورفاقه وعشّاق فنّه الكثيرين المتناثرين في مشارق الأرض ومغاربها. إلّا أنّ هذا الوجع الصادق لم يمنع آخرين من الانقلاب على الرجل فور إغماضه عينيه، مبالغين في التوجّع والتفجّع، محاولين إلباسه غيرَ لبوسه. ولو أمكن لزياد أن يطلّ على المكان في تلك اللحظة، لهاله أن يرى عدداً ممّن كان في صراع معهم طوال حياته، يحضرون الجنازة، وينشرون بيانات النعي، متكرّمين عليه بوابلٍ من عبارات المديح والتمجيد: "العبقريّة الفذّة"، "أيقونة التجديد"، "رمز التمرّد الفنّي"، مع ما يتبع ذلك من كلمات جاهزة للتوظيف بعيداً من أيّ معنى.

يبدأ الانقلاب على الراحلين فور رحيلهم. وأحياناً قبل الرحيل. يتجاهل معظمُ الباقين أفكار الراحل ومواقفه. ولا يمنحونه حتى لحظة صمت تليق بالحياة التي بذلها سلفاً، ودفع ثمنها من روحه وجسده بكلّ أريحيّة. وعلى الرغم من جلال الموقف وخشوعه، وعلى الرغم من صدقِ ألم كثيرين، كنّا نتوقّع أن يكون رحيل زياد شبيهاً بإقامته في هذه الحياة، أي مصحوباً بغمزات زياديّة تطيح جوّ الرسميّات. تفضح سكاكين بعض المعزّين التي تلمع من تحت البدلات السوداء. تمازح رجال الدين بكياسةٍ ساخرة. تسبغ على رصانة الموقف شيئاً من الفوضويّة المُحرِّرة. ترتقي بالفضيحة إلى نبلها الأنطولوجي، نافخةً في بعض الوجوه الإعلامية التي حضرت لتبكي أمام الكاميرا، متسائلةً إن كان "التأثّر طالع منيح".

لقد بدت صورة زياد من المدخل مختلفة عن جوهره. صورة لا تشبهه. كان زياد يفضّل صورته وهو يضحك، أو يشتم، أو يعزف، أو ينسحب فجأة من حفلة لأن المزاج مش ظابط. وكان المتوقّع أن نسمع في جنازة مثل هذه موسيقى "بما إنّو"، أو "أنا مش كافر"، أو أيّ موسيقى تذكّر بزياد المُغامِر، المُخاطِر. إلّا أنّ الاختيارات كانت "آمنة". موسيقى حياديّة لا تثير الجدل ولا تتسبّب في انسحاب أحد. ولو أتيح للراحل أن ينهض من التابوت لهتف: "شو عم تعزفوا؟ أنا مش عامل موسيقى لجنائز الرسميين يا جماعة"، ثمّ يبدأ بالصراخ: "وين اللي كانوا يتهموني بالإلحاد وبس سمعوا إني مت صاروا يقولوا الله يرحمو؟!". كان سيعترض على الورد، فلم يكن يحبّ الورد المبالغ فيه. كان يقول: "هاتوا ها الفلوس لصندوق الضمان". لكن قلَّ من سمعه. الأغلب كان مشغولاً بترويج نسخة جديدة من زياد. نسخة "ما بعد الموت". نسخة مهذّبة، محايدة سياسياً، تضع موسيقاه في خلفية الإعلانات وتشكره لأنه "رفع اسم لبنان".

والحقّ أنّه لم يدّعِ رفع اسم أحد. كان ينسف المتكلّس ويقلّبه. كان ضدّ النظام، لا بمعنى الانحياز إلى الفوضى، بل بمعنى التمرّد على كلّ ما يتكلّس فينا. وإذا بدا شديد العفويّة في بعض الأحيان فإنّ عفويّته ناشئة من قناعاته. لذلك ظلّ "يحكي دغري"، ويغنّي كما يحكي. من ثمّ بدت لغته منفلتة "زيادة" في عين الرقيب «الأخلاقويّ»، الذي طالما واجه حواراته الجريئة بالشجب. لذلك، بدأ النظام في الانقلاب عليه من لحظة موته. وها أنّ كلَّ من خافه في حياته، يرتاح بعد رحيله ويهرع ليضعه في العلبة التي يفضّلها. علبة تؤرّخ ولا تزعج. تُكرَّم ولا تُناقش. تصنع تمثالاً وتقول: "كان عظيماً"، لكنّها لا تقول لماذا كان عظيماً، ولا كيف حارب ليبقى حيّاً في بلد يأكل ناسه ببطء.

زياد، ذلك الفتى الهشّ الحسّاس، الذي كتب عن المُهمَّشين والمُستضعَفين والغاضبين، وصرخ من فوق المسرح أن "البلد ماشي للهاوية"، يُدفَن اليوم تحت خطابات من الهاوية نفسها، وبالكلمات نفسها التي كان يهزأ منها: "الراحل الكبير، فخر لبنان، باني الجسر بين الفنّ والسياسة". ولو قام فعلاً في تلك اللحظة لوقف في منتصف الكنيسة وقال: "خلّصونا بقا، ادفنوني وسكّتوا. أنا ما بموت بها الطريقة. أنا إذا بموت، لازم يعلق السير، ويتوقّف الراتب، وتنقطع الكهربا أكتر". لكن السير كان منظّماً، والجنازة حضارية، ومكبّرات الصوت تعمل بشكل ممتاز. كلّ شيء يسير على ما يرام، فقط لأن زياد لم يعُد حيّاً ليوقفه. هكذا يبدأ الانقلاب على الراحلين، بجنازة تليق بالباقين، وتخدم مصالحهم على حساب حقيقة الراحل، وعلى حساب جوهر كيانه.

 

العربي الجديد اللندنية في

03.08.2025

 
 
 
 
 

مسرح زياد الرحباني نافذة السوريين على الحرية والتغيير

سامر محمد إسماعيل*  

المصدر: "النهار"

شكّلت مسرحيات زياد الرحباني وعياً مختلفاً عند العديد من السوريين الذين عانوا من تجهم عروض المسرح الرسمي، أو ما كان يدعى بالـ "المسرح الجاد" في بلادهم، فوجدوا في تلك العروض مذاقاً مختلفاً لحرية تعبير افتقدوها. حرية لم تكن تستورد نصوصاً من المسرح العالمي كي تسقطها على أوجاعهم واختناقهم المزمن من سلطات القمع والاستبداد. صحيح أن العديد من السوريين لم يحضروا زياد على المسرح، بل تعرفوا على عروض من مثل: "سهرية" و"نزل السرور" و"فيلم أمريكي طويل" عبر أشرطة كاسيت. في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت تركت هذه الأشرطة أثراً لن يمحى بسهولة من ذاكرة جيل شبَّ على نبرة لمسرح سياسي ساخر، ومهد الطريق أمام وعي مصادر من السلطة بقيم العدالة والكرامة والمساواة

وإذا كانت مسرحيات زياد هي النافذة التي أطل منها حطام الطبقة الوسطى في سوريا على حرية التعبير لأول مرة، إلا أن أغنياته جسدت كذلك أحلام ذلك الحطام البشري. لقد نقلت أغنيات من مثل "اسمع يا رضا" و"بما إنو" و"ضحية الحركة الثورية" مزاجاً مغايراً لأغنيات التغني بالأوطان وبالقائد وفداء حياة الرئيس بالأرواح والدماء. كانت سردية زياد الرحباني هي الأقوى والأكثر طزاجةً لاسيما في أوساط مثقفين وجدوا في "شي فاشل" و"بالنسبة للكرامة والشعب العنيد" ما يشبه "مانفيستو" ثوري. بيان غير معلن وعصيّ كشفه على أجهزة الاستخبارات وأقبية سجونها المظلمة، وبل كان عصياً على كل أدوات الترهيب الدموي الذي كرّست مجسات الرقابة البعثية وهيمنتها على كل وسائل التعبير

من هنا جاء مسرح زياد وأغنياته مختلفاً حتى عن الأغنيات والمسرح الرحباني بطابعه الكلاسيكي في عهد عاصي ومنصور، فلأول مرة شعر السوريون أن لهم ما يقابل أغنيات اليسار المصري التي تجسدت فيما قدمه الشيخ إمام وشاعره أحمد فؤاد نجم. لأول مرة يصبح لدى شرائح واسعة من مثقفين ومناضلين وشعراء رمزاً لأحلامهم بالحرية والسخرية من السلطة على الملأ. طبعاً مع فارق واحد أن السوريين الذين تعلقوا بأغنيات وموسيقى ومسرحيات زياد لم يكونوا بعد قد اختبروا أهوال حرب أهلية بعد، ولم يخوضوا في مشاهد الذبح على الهوية، ولم تنقسم بلادهم إلى دمشق غربية وأخرى شرقية. لقد كان من الصعب المقارنة بين دمشق الواقعة تحت القبضة الأمنية سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، وبين ما آلت إليه فظائع الحرب في لبنان في تلك الفترة. كان يكفي فقط أن تمهد مقطوعات زياد لوعي فني مختلف، وهو وعي لم يكن العديد من المثقفين والفنانين السوريين ليطلعوا عليه في زمن الفِرق السيمفونية المتجهمة أيضاً، والتي دأب مؤسسوها على اجترار مؤلفات بيتهوفن وباخ وموزارت دون أي رغبة في التجديد، أو الخروج عن القوالب الصارمة

في تلك الأثناء شكّلت مقطوعات من مثل "أبو علي" و"بالأفراح" صدمة عند قطاع كبير من السميعة، مما كان لهذه المقطوعات من تجديد على أكثر من مستوى، إذ أن زياد -وبعبقرية استثنائية- نجح دونما تكلف في دمج مقامات الموسيقى الشرقية مع قوالب غربية، ومزج بمهارة بين الدور والموشح والطقطوقة وبين الجاز والبلوز والفانك والروك، وتحرر نهائياً من السجع الموسيقي واللازمة التقليدية في الأغنية العربية.

هكذا ضرب زياد كل التصورات البكائية السائدة عن قوالب أغاني الأجداد، كما نسف بقوة الصبغة التراثية الرتيبة عن الموسيقى العربية، ووجد العديد من عشاق الطرب التقليدي أنفسهم وجهاً لوجه مع توليفات مقامية غاية في الجِدة والحياتية. موسيقى نهلت من إيقاع اليومي دون أن تنحدر إلى الابتذال والشعبوية. كان هذا أشبه بزلزال عند موسيقيين ومثقفين سوريين وجدوا في المقترح الرحباني الجديد مساحة مختلفة للتعبير، وأسس فيما بعد لاشتغال عشرات منهم مع الرحباني الابن، لاسيما في الموسيقى التصويرية التي وضعها زياد عام 1985 لفيلم "وقائع العام المقبل" لمخرجه سمير ذكرى. تلك الموسيقى التي حققها زياد تحت قذائف الحرب الأهلية في بلاده، فكانت فاتحة الهطول للتعاون مع جيل جديد من الموسيقيين السوريين، لاسيما الأكاديميين منهم، والذين وجدوا في مختبر زياد فرصة للخروج على المدرسية الصارمة في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، والتي كان قد عممها أساتذة المعهد الدمشقي على طلابهم فاصلين بقسوة بين موسيقى غربية كلاسيكية وأخرى شرقية مطرودة من منهاج الأكاديمية السورية.

هكذا وجد موسيقيون سوريون ضالتهم، وأبدلوا اجترارهم المزمن لسيمفونيات "القدر" و"بحيرة البجع" و"كارمينا بورانا" بموسيقى ذات رحابة في استيعابها لكل قوالب التأليف والارتجال والخروج على عصا المايسترو. لقد شق زياد عصا الطاعة هذه، وأبحر نحو أرشيف موسيقى الشعوب دونما تزلف أو مجاملة لأي مسطرة أو قياس قديمين. لم يكن تغيير عادات التلقي بالأمر السهل، فلقد بذل زياد سنوات طويلة وهو يحاول تمرير موسيقاه عبر الأغنية، فالأذن العربية ذات الطابع الشفاهي اعتادت على أغراض الشعر القديم من غزل وهجاء ومديح وحماسة، وكان من الصعب تغيير نواميسها وهدم جِرسها العتيق. كما كان من الصعب الانتصار للموسيقى الآلية دونما غناء، وهذه أيضاً تحايل زياد عليها بمقدمات موسيقية لافتة مررها قبل الغناء وأثنائه

تنويعات إيقاعية محكمة لدى مؤلفات الرحباني جعلت من الكلام أداة مختلفة للتعبير عن العصر الجديد. وربما هذا ما أخذ وقتاً من الموسيقار اللبناني لإقناع جمهور السميعة الجديد به، والخروج من عادات الاستماع القديمة نحو مزاج يسوده المرح والتهكم. حدث ذلك حتى مع السيدة فيروز التي يقال إنها تمنعت كثيراً قبل أن تذعن لمشيئة المؤلف، وتنشد له "كيفك أنت". الأغنية التي جعلت فيروز تخرج من طقوس الأغنية الرعوية إلى مناخ المدينة وصخبها وعلاقاتها المتناقضة المزمنة.

هذه الاشتغالات العديدة في تكسير قوالب المشاهدة والاستماع والتأليف الموسيقي ستراكم آثارها في وجدان الجمهور العربي والسوري خصوصاً، ليس فقط عند سواد هذا الجمهور، بل عند مثقفيه وفنانيه، وستجعل من زيارة زياد إلى دمشق عام 2008 حدثاً أسطورياً لدى هذا الجمهور. ربما كانت الملامسة الأبرز بين زياد وجمهوره الشامي، وذلك عندما قدم حفلته على المسرح المكشوف لقلعة دمشق بمناسبة إعلان المدينة عاصمة للثقافة العربية. لا يمكن حتى الآن نسيان ردة الفعل التي انتابت الجمهور، وكيف هرع الناس إلى حجز بطاقاتهم قبل أسبوعين من إعلان موعد الحفلات. آلاف تزاحموا على شباك تذاكر دار الأوبرا لحضور حفل صاحب "هدوء نسبي" بعد سنوات من القطيعة، فها هو الرجل الذي احتفظ جيل الآباء بأشرطة كاسيت مسرحياته يطل أمام أبنائهم بشحمه ولحمه جالساً إلى البيانو. مشهد لن يغيب من ذاكرة العديد من السوريين الذين لطالما شكّل زياد جزءاً خاصاً من ذاكرتهم، فدمشق القديمة وحدها ما زالت حتى الآن تطلق عناوين أغنياته ومسرحياته على مطاعم ومقاهي وصالات عرض تشكيلية، ومنها صالة "عالبال" و"صباح ومسا" و"نزل السرور" و"سيرينا". أماكن يعرفها جيداً من دلف إلى دهليز الحارة الشامية، كما يعرف ويرى تلك المشغولات اليدوية التي تنتشر في جنبات البلدة القديمة وتحمل صور زياد وكلمات من أغنياته ومسرحياته.

حفلة قلعة دمشق التي تم تمديدها لخمس أمسيات بحضور جماهيري حاشد كان يفوق الوصف، إذ تميزت بأن موسيقيين ومغنيين ومغنيات سوريين شاركوا فيها، فأطلت كل من ليندا بيطار ورشا رزق وشادي علي كي يشاركوا في أداء معظم الأغنيات التي كان قد سمعها الجمهور بصوت فيروز وجوزيف صقر وسامي حواط. الأمر الذي دفع زياد لمخاطبة الجمهور تعليقاً على مرافقته بالغناء قائلاً: "جينا نسمّعكم، طلعنا عم نسمّعلكم". 
لم يكن هذا الشغف الذي استقبل الجمهور السوري به فناناً مثل زياد غريب عنه، فلقد أسس طلبة سوريون منذ ستينيات القرن الفائت نوادي عشاق الرحابنة، وكان أبرز تلك النوادي مقره في مبنى جامعة دمشق، وكان أعضاؤه من نخبة رجال وسيدات دمشق اللاتي كن يطلقن على أنفسهن لقب "الفيروزيات"، وكان يشترط على منتسبيه أن يكونوا من حفظة الأغنيات والمسرحيات الرحبانية
.

عام 2016 كان حضور الجمهور السوري للنسخة السينمائية من مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟" لافتاً في صالة "سينما سيتي" في دمشق، فما إن طرحت تذاكر الفيلم الذي أنتجته شركة "أم ميديا" في الأسواق، حتى اندفع مئات من الشباب والشابات لحضوره، مما طرح أسئلة كثيرة وقتها عن أسباب عدم وجود عمل سوري واحد يستطيع تحقيق إجماع لدى كل السوريين، كما هو الحال لدى أعمال زياد الرحباني. هذه الأعمال التي كانت تهز وجدان العديد من مناضلي اليسار أصبحت اليوم إرثاً موسيقياً ومسرحياً للعديد من المشتغلين في الحقل الفني السوري، ولقد تركت أثرها على ملامح الحياة العامة وأوساط الطلبة، لاسيما في مدن مثل دمشق واللاذقية وطرطوس وحمص وحلب، فوجد العديد من هؤلاء عزاءً لهم إزاء قحط المخيلة الذي يواجههم في معظم عروض المسرح وحفلات السينما والموسيقى، ولتكون أغنيات من مثل "تلفن عياش" و"بلا ولاشي" و"أنا مش كافر" نوعاً من التعويض عن مرارة عميقة من فقدان الأمل بالغد، والتضييق المتفاقم على الحريات العامة في البلاد

وكما لعبت إذاعة دمشق دوراً في انطلاقة الأغنية الرحبانية منذ ستينيات القرن الفائت، ساهمت أيضاً "إذاعة شام إف إم" في تكريس فترات بث صباحية ومسائية حتى للبرامج التي حققها زياد مع إذاعة "صوت الشعب" اللبنانية، ومنها برامجه "العقل وزينة" و"تابع لشي" و"نص الألف"، وجميعها جرى إسقاطها على واقع الحرب السورية، إذ تتوج ذلك عام 2019 باستضافة الإعلامية هيام حموي لزياد الرحباني شخصياً في استوديوهات الإذاعة السورية. تلك الزيارة كان قد سبقها حدث كبير في علاقة زياد بجمهوره السوري، فراديو الموجة القصيرة الذي بنى شعبيته على تناص مع أغنيات ومسرحيات الحرب الأهلية اللبنانية، مسقطاً حواراتها الساخرة على حال البلاد، أعطى مؤشراً خطيراً على جدب المخيلة السورية وشللها المزمن عن التعبير بطلاقة عن الواقع المعقد للبلاد.

كاتب ومسرحي سوري*

 

####

 

تقلا شمعون لـ"النهار" من BIAF: شخصية مختلفة كلياً في "سلمى" (فيديو)

شمعون: "نريد حقيقة انفجار 4 آب".

المصدر: "النهار"

أبدت الممثلة اللبنانية تقلا شمعون سعادتها بتكريمها الأخير في مهرجان المونودراما في الأردن، والذي أهدته إلى الراحل زياد الرحباني؛ وذلك خلال لقائها على السجادة الحمراء في اليوم الثاني من مهرجان بيروت الدولي للتكريم (BIAF).

وفي حديث خاص إلى "النهار"، قالت شمعون: "عندما يصبح الفنان ذا شهرة عربية، يكون له أصدقاء ومحبّون أينما ذهب، وهذا أمر أقدّره كثيراً وأشعر به. لكن بالتأكيد، عندما أرى بلدي يحرص على تنظيم مهرجانات بهذا الجمال، شكلاً ومضموناً، يكبر قلبي وأفتخر لكوني لبنانية".

وفي سياق إحياء ذكرى انفجار 4 آب، شددت شمعون على ضرورة كشف الحقيقة، قائلة: "نريد الحقيقة".

أما عن جديدها الدرامي، فقالت عن مسلسل "سلمى"، إن "شخصية "هويدة"، التي تؤديها فيه، تختلف كلياً عن شخصية "ليلى ضاهر" التي أحبّها الجمهور سابقاً"، مضيفة: "آمل أن يحبّني الناس كما أحبّوني في تلك الشخصية".

 

####

 

نادين خوري تتحدّث لـ"النهار" عن زياد الرحباني ومسلسل "آسر" (فيديو)

"خسرنا شيئاً من وجداننا. الرحابنة صنعوا إرثًا فنياً عظيمًا

المصدرالنهار

خلال مشاركتها في مهرجان بيروت الدولي للتكريم (BIAF)، تحدّثت الممثلة السورية نادين خوري عن مشاركتها في مسلسل "آسر"، الذي يحكي قصة شاب يبدّل هويته بعد خيانة مروعة ليعود لاحقاً في رحلة انتقام طويلة.

في حديث خاص لـ"النهار"، وصفت خوري تجربتها في العمل بالاستثنائية، مشيرة إلى أنهم يخضون تجارب، اختبار، وقالت:"لا يوجد شيء اسمه "تعلّمت" أو "وصلت". كل عمل هو تجربة مختلفة، وكل شخصية تُدخلنا في عمق جديد". 

وتابعت: "رغم أن مشاركتي كانت من خلال مشهد واحد، فإن الشخصية كانت مرهقة على مستوى الأداء. أن ترى شيئاً وتُقنع نفسك بأنك لم تره، هذا يتطلّب طاقة داخلية هائلة. الإنسان بطبيعته يسرق بالنظر، والعين هي أكبر سارق. وفي هذه الحالة كان عليّ أن أجمّد ردود أفعالي لأُظهر أنني لا أرى، رغم كل شيء. الأم تتمنى ألا تفقد أولادها".

 

النهار اللبنانية في

03.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004