موسيقى
زياد الرحباني... ثلاث حُجرات موسيقية للحديث مع النفس
هيثم أبوزيد
لم يكن رحيل زياد
الرحباني (1956 - 2025) لحظة وداع عادية، وإنما مثّل مناسبة كشفت عن عمق
الأثر الذي تركه في وجدان جيل كامل، ظلّ يرى فيه صوتاً مختلفاً وسط الضجيج،
وفناناً شقّ طريقه بعيداً عن القوالب، واختار أن يكون شاهداً مأزوماً وليس
نجماً.
في هذا الضوء، يصير التأمل في مسيرته الموسيقية ضرورة لفهم
التحول الداخلي لفنه، من النبرة العالية إلى الجملة الهامسة، من الاشتباك
مع العالم إلى الاكتفاء بمراقبته عن بُعد. فالحديث عن تطور موسيقى زياد
الرحباني ليس مجرد استعراض زمني لألبومات متتالية، بل هو تتبع لمسار ذهني
وفلسفي داخل عقل موسيقي.
يمكن فهم هذا التطور من خلال ثلاث محطات لافتة من ألبوماته،
تكشف كل واحدة منها عن تحوّل في المزاج، وتبدّل في موقع الفنان من نفسه ومن
العالم. هذه الألبومات ترسم قوساً داخلياً بين طرفي المسيرة، من الإيمان
بالنبرة العالية إلى الانسحاب الهامس، من حماسة الفعل إلى خيبة الإدراك.
اختيار ثلاث محطات من ألبومات زياد الرحباني يتيح تتبّع
مسار داخلي متقلّب، لا يخلو من التوتر بين الانتماء والخذلان، بين الرغبة
في التغيير والرغبة في الفهم. الألبومات هي "هدوء نسبي" (1985)، و"بما إنو"
مع جوزيف صقر (1995)، و"مونودوز" مع سلمى (2001). لا تمثّل هذه الأعمال
مجرد تنويعات لونية، بل تعكس انتقالاً تدريجياً من الغنائية السياسية إلى
التأمل الشخصي، ومن التصعيد الجماعي إلى الخفوت الذاتي.
يظهر زياد الرحباني في "هدوء نسبي" باعتباره فناناً بعيداً
عن الأطر التقليدية، ممسكاً بجوهر صوته من دون محاولة لتهذيبه أو تصنيعه.
في هذا الألبوم، نلمس بداية انفصال واضح عن المسرح الذي اشتهر به، فيقدّم
نفسه "مغنياً" يحمل رسالة موسيقية خاصة.
تنساب الأغاني في هذا العمل عبر مزيج مميز من الجاز
والمقامات الشرقية، بعيدًا عن التوجهات الخطابية أو المبالغات الصوتية،
لتكتسب بذلك طابعاً تأملياً أكثر منه حماسياً. كان الصوت في هذا الألبوم
صريحاً، كما نسمعه في أغنية "بصراحة"، لا يهتم بإرضاء رغبات الطرب
التقليدي، بل ليعبّر عن الحالة الداخلية للفنان.
في "هدوء نسبي"، يمكننا ملاحظة البنية الموسيقية المركبة
التي يقف البيانو في قلبها، مدعوماً بالساكسفون الحزين. لا يسعى زياد
الرحباني في هذه الأغاني إلى بناء لحني تقليدي أو متسلسل، بل يفضل توزيع
الألحان في تباين حاد مع الإيقاعات غير المعتادة، ليخلق جوّاً من التوتر
الداخلي.
يمكن القول إن الأغاني في هذا الألبوم ليست مجرد لحظات
طربية، بل هي رسائل مبطنة بتأملات حقيقية في واقع اجتماعي وسياسي مضطرب.
ورغم الكلمات التي تميل إلى النقد الاجتماعي، فإن نبرة الصوت تبقى هادئة،
كما لو أن زياد لم يعد يراهن على الصراخ بقدر ما يراهن على الصدق الداخلي
في أدائه.
في هذا الألبوم، يتعامل زياد مع صوته أداةً لا تهتم إلا
بإبراز الصدق. يترك صوته هشاً في بعض الأوقات، ويظهر أحياناً غير متقن،
ولكنه يتجنب الصقل أو التفنن الذي قد يحرف المعنى. في هذه الأغاني، يقترح
زياد الرحباني أن نستمع إلى الصوت بقلوبنا أكثر من آذاننا، ليكشف عن مشاعر
عميقة قد لا تكون مرئية على السطح، ولكنه مع ذلك يصر على أن تكون مرآة
لمشاعرنا.
في ألبوم "بما إنو"، يتراجع البُعد المسرحي لصالح بناء لحني
مستقل، يتيح للموسيقى مساحة أوضح للتشكل خارج التوترات الدرامية المباشرة.
يؤدي جوزيف صقر، شريك زياد، معظم أغاني الألبوم بصوته، ما يعزز البُعد
الشخصي والتأملي للعمل.
يتضمّن هذا الإصدار أغاني قائمة على صياغة لحنيّة أقرب إلى
نمط المقال الصوتي، فيُنسج اللحن حول نصوص شبه مونولوجية، تتأمل الذات
والعالم من مسافة زمنية ونفسية. المقامات الشرقية ما زالت حاضرة، لكنها
تُعالج بطريقة هارمونية أبسط من تجريب زياد السابق، وتُرفد غالباً بتدخلات
هادئة من الجاز، عبر الجمل اللونية للبيانو أو تلوينات الباص الواضحة.
يتميّز الألبوم ببنية إيقاعية مستقرة نسبياً، تعتمد في معظم
المقاطع على توقيعات منتظمة، ما يوفّر أرضية هادئة تسمح للنصوص أن تُقال لا
أن تُصرخ. التوزيع هنا أكثر تقشّفاً من أعماله السابقة، لكنه محكم. تتبادل
الآلات وفق منطق سردي: الساكسفون أو العود يدخلان ليعلّقا، أو كأنهما ظلّ
خلف الجملة الصوتية. الجمل اللحنية تتكرّر أحياناً في شكل شبه تدويني، لكن
بتدرجات صوتية طفيفة تعكس تقلباً داخلياً لا يُقال مباشرة.
يتسم الأداء الصوتي في هذا الألبوم بالهدوء الظاهري، فتندمج
الجمل الغنائية مع نبرة إلقاء شبه حيادية. الغناء يُقدَّم بوصفه كلاماً
موزوناً، وليس استعراضاً صوتياً. وتظهر في "بما إنو" ملامح واضحة لميل زياد
نحو تقليص الفارق بين الحكي والغناء. وتبرز خاصية تلاشي بعض المقاطع من دون
خواتيم تقليدية، ما يعكس فلسفة موسيقية جديدة تعلي من شأن الأثر الشعوري
العابر على حساب الذروة أو الخاتمة.
في ألبوم "مونودوز" (2001)، يظهر زياد إلى جانب المطربة
سلمى، ويتقاسم معها الأداء الصوتي. يغني زياد في عدد من المقاطع، منها ما
يقدّمه بصوته المنفرد، ومنها ما يأتي في حوار صوتي داخلي معها. يبلور
الألبوم نوعاً من الانسحاب ويقدمه باعتباره اختياراً جمالياً وفلسفياً في
آن. الجمل قصيرة، أحياناً مبتورة، والإيقاعات تُستخدم بوصفها آثاراً وليست
أدوات تحفيز. لا يعود الصوت مركزاً للغناء، بل يتحوّل إلى ظلّ لذات متأملة.
في هذا الألبوم تتشكل البنية الموسيقية حول مبدأ التخفف،
وليس من الزخرفة وحدها، بل من التوقّع نفسه. الألحان قصيرة، مقطّعة، تكاد
تُقال بنَفَس واحد ثم تختفي، والإيقاعات شبه غائبة أو تنزلق في الخلفية
كصوت داخلي بالكاد يُسمع. لا يسعى الألبوم إلى بناء تطور لحني أو درامي،
ويكاد أن يكتفي بإقامة حالة صوتية معلّقة، مترددة، لا تبلغ الذروة ولا تتجه
نحو خاتمة.
يتوزّع الغناء بين صوت زياد وصوت سلمى، فيصعب أحياناً فصل
المتكلّم عن المتلقّي. ليست هناك ثنائيات تقليدية، بل تبادل همس بين صوتين
يتقاسمان المشهد لبناء توتر خفيّ بين الحضور والغياب. صوت زياد هنا طبقة
إضافية في النسيج الصوتي، يتقدّم حيناً، ويختفي حيناً، في انسجام تام مع
الحالة التعبيرية العامة.
بين هذه المحطات الثلاث، يتشكل قوس فني يعكس رحلة ذاتية
أكثر من كونه سيرة مهنية. يتراجع دور الأغنية من وسيلة للتأثير إلى وسيلة
للفهم، يتقلص خلالها الصوت ليزداد عمقاً. ومع كل خطوة، يظهر زياد الرحباني
أقل انجذاباً إلى الجماهير، وأكثر انصرافاً إلى ذاته. لكن هذا الانسحاب لم
يكن انعزالاً، بل تمرّد من نوع مختلف: ضد التوقّع، وضد الاستهلاك، وضد أن
تتحول الموسيقى إلى واجب شعبي.
ما يمنح تجربة زياد فرادتها هو هذا التوتر الدائم بين
الرغبة في الانخراط والخوف من التورط. ولهذا لم يكن صانع شعارات، ولا حامل
يقينيات. بل كان أقرب إلى كاتب يوميات موسيقية، يحاول أن يفهم العالم لا أن
يفسّره، ويبحث عن معنى لا عن انتصار. وإذا كانت ألبوماته قد بدت في
بداياتها أدوات اشتباك، فقد انتهت مرايا معتمة، نرى فيها ملامحنا وليس
ملامحه فقط.
بين "هدوء نسبي" و"مونودوز"، مروراً بـ"بما إنو"، يتضح أن
صوت زياد الرحباني لم يكن يتغير بمرور الزمن فحسب، وإنما كان يُعاد تشكيله
تحت ضغط الأسئلة الوجودية والفنية التي ظلت تلاحقه.
في البداية، كان الصوت امتداداً لفكرة المواجهة، أداة لقول
ما لا يُقال، ومجابهة الواقع بجمل موسيقية حادة ومواقف لا تخشى التصريح.
ثم، ومع "بما إنو"، بدأ الخطاب يتراجع خطوة إلى الوراء، ليأخذ شكل
المراجعة، لا التراجع، إذ تحضر الذات ليس باعتبارها بديلاً عن الجماعة، بل
بوصفها موقعاً هشاً للتأمل والتساؤل. وفي "مونودوز"، يكتمل هذا التحول: لم
تعد الأغنية تبحث عن جمهور، بل صارت صيغة نجاة داخلية، لا تعوّل على أحد،
ولا تعِد بشيء.
إن مسار زياد الرحباني كما ترسمه هذه الألبومات الثلاثة،
ليس مساراً تقنياً صرفاً، ولا انتقالاً شكلياً من البساطة إلى التعقيد أو
العكس، بل يمكن اعتباره انحداراً من الخارج إلى الداخل، من الجملة الجماعية
إلى البوح الفردي. فبعد أن كانت الأغنية موقفاً، غدت مرآة، ثم صارت أثراً.
أثرٌ لمن يشبهونه في الحيرة، في الرفض الهادئ، في الإصرار على أن الصدق
وحده يكفي، حتى وإن لم يُفهم على الفور.
هكذا، تبدو ألبومات زياد الثلاثة، رغم تباعدها الزمني،
وكأنها تؤلف ثلاثية صامتة عن معنى أن يكون الإنسان فناناً في زمن مثقل
بالضجيج. ثلاثية لا تسعى إلى وصف العالم، بل تضيء تلك البقعة المعتمة التي
تقع في داخل من يراقب هذا العالم بصمت، من دون يقين، ودون مرارة زائدة.
الأغاني في هذه الألبومات لا تطلب استجابة، ولا تسعى إلى إقناع، بل تنسج
حول المستمع فضاءً غامضاً، تتردد فيه الأصوات في صمت، ليس في صرخات.
في هذا الفضاء المترف بالهدوء، تصبح الموسيقى ليست وسيلة
للتعبير فقط، بل نوع من ممارسة البقاء، فتتحول الأغنية من خطاب موجه إلى
لحظة صدق هش. في هذا السياق، لم يعد الأمر مرتبطاً بسماع الأغنية بقدر ما
هو متعلق بوجودها، بالصدق الذي تطرحه من دون أن تحتاج إلى إجابة.
يبدو صوت زياد في هذه الألبومات وكأنه لا يريد أن يشرح
نفسه، بل إظهار ما يحمل من قلق، أو تشويش. لم يكن يسعى إلى إقناعنا بامتلاك
الحقيقة، ولا لفرض رؤيته على الجمهور، بل كان يراهن على ذلك الأثر الصامت
الذي يتركه الصدق عندما يُقال من دون ادعاء.
في النهاية، لم يكن يغني ما هو مألوف؛ لأن همه أن يقول ما
لا يُقال، كأنما هو تحسس لمشاعرنا المخفية التي لا نجد لها كلمات. لم يكن
يطلب الإيمان بما يقدمه، وإنما أراد أن يشاركنا الحيرة من دون ادعاء، وعلى
نغمة منخفضة، لا تعبر عن أحد، ولا تسعى إلى أن تحل محل أحد. |