ملفات خاصة

 
 
 

وداع زياد الرحباني ضرورة وطنية

بقلم د. حسام عطا

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

إن وداع زياد الرحباني ضرورة وطنية، إذ إن زياد هو التعبير الجاد المتطرف الأكثر وضوحاً وتحدياً وجنوناً إبداعياً في المسرح العربي المعاصر، هو السخرية الإنسانية من عبث الوجود على أسس فلسفية ترصد غياب العدالة الإنسانية، ترصد فقر الفقراء وترف الأغنياء ترصد وهم الثروة والقوة وتتأمل فكرة المصلحة والقوة كهدف للعلوم السياسية، وذلك هو هدف كل السياسة في التاريخ والجغرافيا كفكرة مضادة لإنسانية الفن ورؤيته للحياة.

كتبت الفنانة المصرية النجمة حنان سليمان ابنة جيلي الطيب، وهي غير معروف عنها اهتمامها ناشطاً في الشأن العام لكن اهتمامها بزياد هو اهتمام إبداعي وفيه كتبت على حسابها في الفيسبوك:

"إن كل هذا الحشد الكبير في وداع زياد الرحباني دليل على سلامة الوعي العربي الكبير".

ولعل التعليق المتأمل البسيط لها يصبح مدخلاً لتفسير عميق لمشروع زياد الإبداعي ويحدد مدى عمق الوعي العام العربي، رغم كل المحاولات التراكمية والمليارات والجهود والانتظام في عملية التأثير على هذا الوعي.

وزياد حالة إبداعية نادرة تشبه تركيبة ديوستيوفسكي الشهيرة التي تنتمي لعائلة ثرية، لكنها عبر العطف على الفقراء والمضطهدين والضعفاء والمغلوبين على أمرهم، قد دفعته لترك مراكز القوة الاجتماعية نحو الدفاع عنهم والانتصار لهم.

هكذا زياد المولود طفلاً مترفاً لأسرة ثرية تحظى بالنفوذ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في لبنان وفي الوطن العربي الكبير، ولكنه حقا يسير خلف رقته ومشاعره الإنسانية المرهفة التي تحولت إلى أفكار واضحة لدعم الضعفاء الذين يقفون تحت المطر في ليالي الشتاء وفي شمس الظهيرة في أيام الصيف ينتظرون الماء والطعام والستر.

وقد ذهب زياد بعيداً إذ أعلن الانتماء للتيار الشيوعي في أوائل السبعينيات في لبنان، ورفع صورة لينين على جدران البيت البرجوازي العربي الكبير بيت فيروز الرمز العربي بيت الرحبانية.

وهو سلوك انتحاري لشاب نشأ في قلب بيت من أبرز بيوت النخبة العربية ذات الصلة بدوائر النفوذ، التي تعمل في إطار من الرضا العام عنهم في مشروع إبداعي عربي يفهم سيد درويش ويغني لفلسطين كما يغني للحب، وهو مشروع أصبح علامة على لبنان، إذ إن لبنان هي شجرة الأرز والجمال والتعددية والسيدة فيروز في مشروع الرحبانية الموسيقي النهضوي العروبي الكبير.

فليس صحيحاً أن مشروع الرحباني الأب والعم ومشروع فيروز الأم كان بعيداً مثالياً، بل كان في قلب الضمير العربي الحي ولكن بطريقة تقليدية متوازنة تتفق مع الأداء العام للنخبة التقليدية العربية.

وكذا ذهب زياد إلى المحطة الأخيرة تمرداً وجنوناً إبداعياً استلهم الهوامش الإبداعية والثقافية الإبداعية العربية.

ولكن زياد شاء أم أبى قد ولد في المتن العام الإبداعي في لبنان، فقد تحولت معه الهوامش إلى متن مدهش، وأينما ذهب للهامش تحول ذلك الهامش معه إلى متن قابل للاعتراف والتصديق في الثقافة العربية.

مع زياد الذي يقف خلفه التراث والحماية الرحبانية الفيروزية اضطرت الرقابة للتسامح معه واضطر السياسيون اللبنانيون للاشتراك بالضحك والصمت والمشاركة الودية مع سخريته منهم.

زياد أيضا كان محترفا فقد تعلم الفن منذ نعومة أظافره، وهذا الاحتراف وذلك الفهم لحيوية الفن وشعبيته كان أكبر كثيراً من انحيازه الأيديولوجي المعلن.

ذلك أن الفن الحقيقي في جوهره، كل الفن الحقيقي هو انتصار للإنسان ودفاعاً عنه، وهو تعبير عن الحق والخير والجمال.

وهكذا كان زياد الرحباني في القلب من جوهر الموسيقى والغناء والمسرح، ولذلك فمشروع زياد الإبداعي أكبر بكثير من الأيديولوجيا، ولو لم يعلن انحيازه الحزبي اللبناني لكان أفضل له ولنا ولفيروز، ولكن هذا هو زياد الواضح جداً كالشمس.

كان زياد هو الأفق المتمرد الذي ينظر إليه الهامش والمتن في الوطن العربي بكل إعجاب لا يخلو من غبطة وتمنى ظروف مشابهة لتحقيق كل هذا النجاح وهذا الوعي، ولكن من أين تأتي الأقدار لكل موهوب متمرد بأم كفيروز وبأب كعاصى الرحباني.

ولذلك يغني زياد في لبنان ليصنع مشروعه الخاص ويقدم أحلامه، وقد كان علامة المسرح والغناء العربي في فترة نشاطه الكبيرة في التسعينيات من القرن العشرين المنقضي.

وزياد العنيد قد تفاعل مع فيروز الرمز الأكثر عناداً وكما منحها زياد تمرداً واقتراباً من الواقع، منحته فيروز كثيراً من التوازن الاحترافي ومنحت إبداعه مسحتها المتفردة ذات الطابع رفيع المستوى، ولا أسميه الأسطوري أو المثالي كما أسماه العديد من الكتاب والنقاد أسميه الطابع رفيع المستوى القادر على التواصل مع الجمهور الكبير.

هكذا ومع دفاع زياد عن نفسه عندما شرح الانتماء الفكري له، وإن كنت ضد أن يتحزب الفنان في حزب أو ينتمي لأيديولوجيا بعينها، ذلك أن إنسانية الفن فوق أي انتماء أيديولوجي أو سياسي، بقي يغني "أنا مش كافر بس الجوع كافر.. أنا مش كافر بس الفقر كافر".

مؤكداً أن إنسانية الفن في جوهرها انتماء للوطن وللبشر.

والموقف الذي حاول الكثيرون ممن لا يمكنهم استيعاب كل إشراقات زياد الرحباني الإبداعية وسلوكه المتمرد، والذي عاش به ومعه على حافة التهديد بالموت والقتل سنوات طوال.

ومنها سنوات البقاء في لبنان أثناء الحرب الأهلية إذ إن فيروز أيضاً رفضت المغادرة.

مع دفاع زياد يتضح الموقف وقد كان دفاع زياد عن إيمانه بالله وعقيدته المسيحية بالإبداع إذ يمكن تأمل ترتيلة "كيراليسون" _ يا رب أرحم_ وهي دعاء لله عز وجل وهي تصدر من الكنيسة، وزياد يقود الأوركسترا من هناك، وعدد من الترانيم الأخرى الشهيرة له والتي غنتها السيدة فيروز.

إن زياد إذن مع الوطن مع الكفاح من أجل المستقبل ومع الحرية والعدل الاجتماعي.

وهذا هو جوهر الموقف الذي يجب ان يقف خلف كل مبدع حقيقي في كل زمان ومكان، وذلك لأن الإبداع عن الناس ومن الناس ولهم، ولهذا استقر إبداع زياد الرحباني في الوعي العام العربي، رغم كل الاتهامات والشائعات والتدخل في حياته الشخصية ومحاولة اختراق جدار خصوصية الإنسانية، كي يتم هزيمة زياد الإنسان عبر الزوجة والابن بل وعبر محاولات بضرب علاقته بالأم الرمز فيروز.

لم يلحق أحد الأذى بزياد فقد كان قويا بالصدق والمحبة، وهما جوهر الرجولة الحقيقية، أما ما استطاع حقا الدفع به نحو الصمت هو أساسيات العمل المهني عندما تراجعت، وتغير سوق العمل الإبداعي في لبنان وغيره، وعندما تم إغلاق الهوامش الاحترافية التي كانت متاحة، بينما أهدرت المليارات الكبرى على سوق التسلية واللهو وفنون التخدير والتغييب والغلطة، ومنحت الأضواء والفرص الكبرى للهزل والسذاجة والفنون التي تغادر العلاقة مع الواقع العربي المعاش، ولذلك فقد انقطع زياد تماما عن مساره المهني، لأن المراكز العربية الجديدة بالغة الثراء لا يمكن أن يقدم زياد وإبداعه، وقد تأثر سوق الإنتاج الفني في لبنان بتلك المراكز الجديدة وبالحرب والأزمات الاقتصادية، فبقي زياد سنوات لا يتنفس الإبداع، فكان الألم الجسدي وكان التصالح مع المغادرة الكبرى، فصعد إلى السماء، وقد قدم ذاته لخلاص الإنسان، وقدم دروسه في الصدق مع الذات والوضوح والاحترام، وقدم للوعي العربي وللإبداع العربي فنوناً نادرة ستبقى في ذاكرة الإبداع.

 

بوابة روز اليوسف في

02.08.2025

 
 
 
 
 

حين خفت صوت عال كان لنا..

عصام الياسري

زياد الرحباني، فنان رفض الزيف، فكان شاهدًا مبدعًا على وجع الإنسان العربي، رثاؤه اليوم ليس بكاءً على فنان، بل وداعٌ لقيمة نادرة: الجرأة الصادقة في زمن خافت.

في زمنٍ يضيق فيه الأمل وتكاد تنطفئ الأصوات الصادقة، رحل زياد الرحباني.

رحل من كان صوته نداءً مختلفًا في هذا الشرق المزدحم بالضجيج، رجلٌ حمل في قلبه وطنًا موجوعًا، وبلّغه إلى الناس عبر نوتاتٍ نازفة وكلماتٍ لم تتورّع عن فضح القبح، وتعريته.

زياد، الفنان الذي اختار أن يقف إلى جانب الإنسان حين اختار كثيرون أن يصعدوا على أكتافه. المبدع الذي فضّل أن يبقى مهمومًا بالحقيقة بدل أن يعيش مرتاحًا في كنف الزيف.

ليس من السهل الحديث عن زياد الرحباني بصيغة الغياب، لأن حضوره لم يكن فنًا فقط، بل كان موقفًا، وضميرًا حيًّا، ونبضًا يُقاس على إيقاع الانحياز الدائم للحق.

من "نزل السرور" إلى "بالنسبة لبكرا شو"، ومن قصائد السياسة إلى مقطوعات الحب الموجوع، كتب زياد سردية جيلٍ بأكمله: جيلٌ سئم الشعارات الجوفاء، واختنق من الطائفية، وارتبك أمام هزائم متكررة، فوجد في موسيقاه صدىً لصوته المقموع، وفي مسرحيته مرآةً لواقعه البائس، وفي سطوره ضوءًا يمرّ من خلال شقوق القلب.

لقد عاش زياد في الهامش الذي صنعه لنفسه بوعي، وبتعمد، لا لأنه أراد أن يبتعد، بل لأنه آمن أن البقاء في المركز يتطلب غالبًا بيع الروح. وهكذا، بقي يقاوم بمنطق الحكاية، وبذكاء السخرية، وبمرارة اللحن، فصار الفن عنده بيانًا سياسيًا، وصارت الضحكة سلاحًا نبيلاً في وجه اليأس.

اليوم، حين نرثيه، لا نبكي فنانًا عاديًا، بل نودّع آخر رموز الشجاعة الإبداعية في هذا الشرق المكسور.

نودّع الصوت الذي لم يتورّط في المجاملة، ولا خضع للرقابة الذاتية، ولا باع قناعاته تحت عباءة الربح أو التصفيق.

نودّع من ظلّ وفيًا لفكرة أن الفن لا قيمة له إن لم يكن في خدمة الإنسان... الإنسان البسيط، الجائع، المقهور، الباحث عن حياةٍ بكرامة.

لكن رحيل زياد في هذا التوقيت، ونحن في قلب العتمة، مؤلم بقدر ما هو رمزي.

كأن الصوت انسحب حين لم يعد يسمع،

كأن اللحن انطفأ حين لم يعد أحد يرقص فرحًا أو يحتج غاضبًا،

كأن الكلمة أُسكِتت، لأن الكلام صار مكرورًا، والجدران سميكة، والناس مرهقون حتى من الحلم.

إن فقدان زياد الرحباني لا يعوَّض، ليس لأنه كان عبقريًا في تركيبة موسيقاه، أو شاعرًا مجنونًا في صياغة جُمله، بل لأنه كان شاهدًا على زمنٍ يتراجع فيه كل شيء، إلا صدقه.

لقد رحل رجل كان صوته أملًا وموقفًا، وذاكرة، ومختبرًا للحقيقة.

ويبقى السؤال الذي لا يُطرح على الغياب، بل علينا:

من يجرؤ بعد زياد على أن يكون فنانًا لا يطلب التصفيق، بل يسعى لأن يُوقظ؟

من يملأ هذا الفراغ الصاخب، حين يخفت صوتٌ كان لنا مرآة، وجرس إنذار، ومأوى في العواصف؟

كان زياد معروفًا بمواقفه اليسارية، وانحيازه للطبقات المهمشة، ورفضه للتطبيع مع إسرائيل، ونقده العلني للنظام الطائفي اللبناني والعربي. لم يكن يومًا فنانًا "محايدًا"، بل دائمًا في قلب النقاش الوطني والاجتماعي. كما يُعدّ أحد رموز الحداثة الفنية العربية، وشكّل صوته ثقلًا إبداعيًا متمردًا لا يمكن تجاوزه، سواء من خلال الموسيقى أو المسرح أو الكتابة الصحفية.

رحل زياد رحباني، وفي الحنجرة غصة، وفي القلب مرارة الكلام الذي تأخر، واللحن الذي لم يكتمل.

مات من كان صوته مرآةً ناطقةً للوجع، ونايًا يُصرّح حين يصمت الجميع، وعقلاً ظلّ حرًا، يوم أُعدَّت العقول كي تُباع على الأرصفة.

يا ابن الرحابنة، يا سليل نهر الأصالة والعصيان، أيها الشقيّ بحب الوطن، الذي أحبّه رغم خيباته، وصرخ لأجله حتى بَحّت موسيقاه...

من يكتب الآن عن بيروت حين تُصاب بالحُمّى؟

من يترجم أوجاع الفقراء إلى مقطوعة تعاند السقوط؟

من يشتم الطغيان بشعرٍ ضاحك، كأنه نبيٌّ ساخر؟

لقد رحلت ونحن في أشد الحاجة إليك...

نحن الذين ما زلنا نحمل أوهام العدالة كطفلٍ يتشبّث بلعبة مكسورة،

نحن الذين لم نحترف الصمت، واعتدنا أن نُصغي إليك كأنك خلاصٌ مؤجل.

غاب زياد، لا لأنه أنهى ما عنده، بل لأن هذا العالم لم يعد يليق بروحه.

غاب لأنه قال ما يكفي، وصرخ ما يكفي، ونزف ما يكفي...

وكان يعلم أن لا أحد يسمع حين تُمطر السماء عدلاً فوق أرضٍ أُغلقت آذانها بالإذعان.

أيها العابر فينا كنشيدٍ قديمٍ لا يموت،

أيها المُرّ، الجميل، الحر، المحكوم بالصدق،

نم قرير العين، فكل وترٍ سيذكرك،

وكل حنجرةٍ متمردة ستكمل ما بدأت،

وكل إنسانٍ لا يزال يرفض الظلم سيضع يدَه في يدك، وإن كنتَ بعيدًا...

سلامٌ عليك في الموسيقى،

وفي القصيدة،

وفي الإنسان.

 

ميدل إيست أونلاين في

02.08.2025

 
 
 
 
 

زوايا

مثالية فيروز... واقعية زياد

بيار عقيقي

يوم أردنا لبنان مثالياً كانت لنا فيروز، ويوم أردنا لبنان واقعياً كان لنا زياد الرحباني. وعكس منطق عدم جواز تلاقي المثالية والواقعية، اجتمعت فيروز وابنها مراراً، في تناغم بين مرحلة المثالية المفرطة (بين عامي 1943 و1975) التي جسّدتها "سفيرتنا إلى النجوم"، والواقعية المدمّرة (بين 1975 و1990) التي صاغها الابن المتمرّد. مثل هذا اللقاء بين رحم ومولود منها يُترجم حقيقة التناقضات اللبنانية، التي تفشل في البعد مهما حاولت، وتعجز عن التماهي مهما سعت، كأنه قدر لبناني مكتوب باسم بلادٍ مكثّفة الجغرافيا والديمغرافيا.

ليس في صورة فيروز في كنيسة السيدة في المحيدثة ـ بكفيا، في قضاء المتن، شمالي بيروت، سوى رهبة مكرّسة لاسمها منذ كانت أغانيها تخترق مسامع اللبنانيين والعرب في خمسينيّات القرن الماضي، وإن كان هذه المرّة باسم الحزن العميق. وليس في صورة زياد في صالون الكنيسة نفسها سوى رجل حرّك أعماقاً موسيقية لم يكتشفها غيره سابقاً، حتى نال منه الجماد القاتل للحركة. في الصورتَين علاقة مزدانة بالضوضاء بين أم وابنها، نالا من الحياة ما لم ينلها أحد، ونالت منهما الحياة بمصائبها. يشبهان لبنان هما. إذا تركتهما فسيعبران الكواكب والأفلاك إلى أبعاد لا يجرؤ أحد على الحلم بها، وإذا حاصرتهما في غرفة مظلمة فسيحومان حول الضوء الصغير فيها، حتى يتمازجا معه نوراً خالداً في تاريخ الموسيقى.

هذا مكانهما، مهما رغب كثيرون منّا في تقديسهما أو شيطنتهما، إسقاط السياسات الضيّقة عليهما أو تحريرهما منها. التقديس منفّر والشيطنة جريمة ساديّة. قد يكون مزعجاً القول إن لا أحد بوسعه خطف الأمّ أو الابن أو احتكارهما، لكنّها الحقيقة. هما عالمنا المتشعّب من أقاصي يمينه إلى ما وراء أفق يساره. معهما في حفلة تضمّ مليون شخص في مدينة لا تغيب الأنوار عنها، أو منعزلاً في غرفة موحشة مظلمة ضيّقة، ستكسب النتيجة نفسها: حرية غير منقوصة، لا صوت ولا لحن ولا كلمات ولا خيال يتّسع ديمومة اتساع كوننا، بمجرّد سماعهما.

لذلك، لا يمكن للبنان التخلّي عن مثالية مصنوعة بصوت فيروز، وغير مسموح له ذلك أصلاً، لأن الخيال منح قبلة حياة لأجيال ظلّت في هذه الأرض وأخرى هاجرت. يحقّ لكل فرد منا الهروب من يومياته إلى عالم يطمح إليه، مشبع بحنينٍ لا يموت. كذلك، من غير المسموح للبنان تجاهل واقعية خطّها زياد، بإخراجه ما كان مدفوناً باسم المجاملات والأصول والتكاذب إلى العلن. صحيح أن الأمّ والابن شكّلا معسكرَين متضادَّين في سياقات لبنانية بحتة، إلا أن تلاقيهما فنّياً، بإنتاجات من الصعب تكرارها، أقلّه في حياتنا الحالية، عبّد طريقاً لتلاقٍ مماثل بين كلّ المعسكرات اللبنانية في زمننا الحالي.

يعني ذلك، أن المثالية والواقعية في لبنان قادرتان على التعايش، من دون إلغاء بعضهما بعضاً، وقادرتان أيضاً على استيلاد مفاهيم جديدة للمستقبل. أليست الموسيقى في الأساس بمثابة حاملة مفاتيح، وكلّ مفتاح مختلف عن الآخر، ويفتح باباً لا يشبه أبواباً أخرى؟ ألا تُصبح علاقة المنغمس في الألحان والكلمات مثل علاقة شخص يقود في طريق مجهول، ويتطلّع قدماً لاكتشاف ما لم يُكتشف؟ ألم تكن الاكتشافات في كلّ ما نفكّر فيها ناجمة عن تمرّد شخص واقعي ومثالية شخص حالم، وما يجمعهما هو جنون لا يفسّره عاقل؟

ربّما حان الوقت للنظر إلى فيروز وزياد أبعد من مجرّد أغنية صباحية مرفقة بفنجان قهوة أو سهرة ليلية هادئة، بل إلى فهم أن قدرتهما في التعايش الفنّي، نموذج مطلوب في زمن متكرّر من الانقسامات الداخلية، المحقّ منها والمبالغ فيها. مثل هذا التعايش الذي أعاد تعريف مفهوم الإبداع الموسيقي في لبنان، سهّل على اللبنانيين الانخراط فيه من دون تكاذب ولا نفاق ولا تحدٍّ ولا فوقية، كعلاقة أمّ بابنها، كعلاقة فيروز بزياد.

 

العربي الجديد اللندنية في

02.08.2025

 
 
 
 
 

فلاح المشعل:

لماذا لم تظهر في العراق شخصية مثل زياد الرحباني

المدن - ثقافة

لماذا لم يظهر في العراق شخصية مثل زياد رحباني؟

سؤال تردد في خضم الأخبار والكتابات والرثاء الذي تحدث به العراقيون إبان الحدث، ورثاء زياد رحباني!
لست مغاليا عندما أقول إن الموسيقار العراقي رائد جورج لا يقل قدرة وكفاءة وموهبة عن ملكات زياد رحباني، نشأ منذ نعومة أظفاره عازفًا ماهرا، وعندما أصبح شابا كانت ألحان أغانيه ومؤلفاته الموسيقية والدرامية من القوة والجمالية التي تنتزع ليس الإعجاب وحسب، بل جوائز عربية ودولية، ما جعل مجمع الكنائس في أميركا يقدمه لبابا الفاتيكان في احتفالية الألفية الثانية لميلاد السيد المسيح في روما، كونه أهم موسيقار قدم أعمالاً موسيقية للكنيسة لسنوات، ليحوز جائزة أفضل مؤلف موسيقي لعموم كنائس أميركا
.

وما زالت الذاكرة العراقية تحتفظ بجماليات فن رائد جورج وموسيقاه المؤثرة والمعبرة بدلالاتها الحسية والثقافية، كما في موسيقى الملكات الخمسة في افتتاحية مهرجان بابل، وكانت محط إعجاب ضيوف العالم من كبار قادة التأليف السيمفوني، كذلك في موسيقاه لمسلسل رجال الظل، وهناك عشرات الأعمال الموسيقية التي ألفها رائد، كنا نسمعها في الاستوديو الخاص به في بيته.

صنع رائد جورج أغنيات أنيقة في بنائها اللحني وتوزيعها الموسيقي وأسلوب أدائها بصوته، واختيار كلماتها بدقة عالية الأثر الرومانسي في أثرها التعبيري، وكذلك في تصويرها، أغنية "لا ترحلين" لا يمكن أن تنساها الذاكرة الموسيقية العراقية، كذلك أغنية "سمعني كلمة" و"حيرتيني" و"ذكريات" وأغاني أخرى عدّة، كذلك في جعبة رائد عشرات المؤلفات الموسيقية والغنائية التي لم تنفذ وتظهر للمتابعين.

*لماذا لم يستمر رائد جورج ويكتسب شهرة زياد رحباني؟

رائد جورج رفض أن يكون مغنيًا إلا في اختيارات محددة، وترفع عن السوق ومطالب السوق في أغنيات خفيفة راقصة، أو تستعير من ألحان تركية ويونانية وهندية، رفض رائد منهج السوق التجاري، واعتذر من العمل برفقة النجم كاظم الساهر وهو في ذروة شهرته العربية، حينما عرض له أن يكون قائداً لفرقته الموسيقية، ويشرف على توزيع أغانيه موسيقيًا، رائد كان يبتعد عن الأغنية التجارية، ويعتذر عن عشرات العروض التي ترده من مطربين ومنتجين وغيرهم. منهج يتطابق مع منهج زياد رحباني في الانتماء الوطني والموقف الثوري والتفاعل مع الموسيقى كمنتج ثقافي يشترك في بناء الوعي والذائقة الاجتماعية، ورفض أن يغني لصدام أو ولده عدي، وإذا كان زياد الرحباني يجد في الملكة فيروز وفرقتها والإرث الرحباني فضاءً تحلق به مؤلفاته الغنائية والموسيقية، افتقد رائد جورج مثل هذا الإثراء النوعي والامتياز الكبير

تلك أحد الفوارق والظروف وكذلك الحدود الفنية والمساحة التي تحرك فيها زياد، وأعطاه ميزات إضافية في وفرة إنتاجه الغنائي، وإذا أخذنا الفارق في الحرية بنحو عام، وحرية العمل الموسيقي ومنظومته الفكرية والتعبيرية ما بين بيروت وبغداد، فإن المقارنة تميل إلى صالح المبدع رائد جورج الذي كان يعاني مضايقات وتهديدات عديدة، لم يتحدث عنها للإعلام، لكن كنا نعرفها نحن المقربين له

الإبداع قرين الحرية، وكذلك الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تميز المناخات العراقية عن اللبنانية، تلك المناخات أعطت زياد الرحباني فضاءً واسعا من الشهرة المقرونة بشهرة والدته فيروز، لكن ظروف العراق دعت رائد جورج إلى الهجرة مرة ثانية إلى أميركا، بعد أن عاد من هجرته الأولى قبيل حرب 2003، وبقي حتى نهاية عام 2004 عندما بدأ الإرهاب يتحرك في الساحات، وخيمت المناخات الظلامية على الحياة، وتجمدت الأنشطة الموسيقية والغنائية في البلاد.

ما أنا متأكد منه، إن قدرات رائد جورج ليست أقل إبداعا وابتكارا عن زياد الرحباني، لكن ظروف البلد زائدا الظروف الشخصية، أعطت لكل منهم ميزاته وخصوصيته الإبداعية ومساحات شهرته.

(*) مدونة نُشرت في فايسبوك

 

المدن الإلكترونية في

02.08.2025

 
 
 
 
 

رسالة زياد الخالدة

عمرو بدر

الذين عاشوا وغنوا بصدق، لا يمكن للموت أن يطفئ ألحانهم.

لم يكن زياد الرحباني الذي غادر عالمنا منذ أيام مجرد فنان مرّ علينا.

كان مشروعا كاملا.

هذا المشروع امتزج فيه الفن بالحياة، وتعلقت الأفكار بالمبادئ، وتعالت فيه الأحلام لتحتضن العالم.

زياد هو آخر ممثل للحالمين بعالم خال من الكراهية، ورسول المؤمنين بأن العزف يمكن أن يدعو إلى الإنسانية، وأن اللحن يمكن أن يحل محل القنبلة، وأن السخرية يمكن أن ترسم الابتسامة على شفاه المظلومين.

هو فنان يحمل إنسانيته ويمضي ليبشر بعالم أجمل.

رحل زياد ولم يرحل.

هكذا تمنينا.

وهكذا صدقنا!

فنان يدعو للثورة

في البيت الممتلئ بالموسيقى والعامر بالفن كان الشاب زياد يتشكل.

منذ سنواته الأولى نشأ مميزا ومختلفا، ليس لأنه ابن فيروز وعاصي فقط، بل لأنه منذ أن تفتح وعيه اختار الثورة، امتزج بالكلمة واللحن والمسرحية والسخرية اللاذعة، وعدّها قواعد دائمة لفنان ثائر.

جلس في زاويته الخاصة، ينظر إلى قبح العالم، ينتقده ويسخر منه ويفكر في كيفية تغييره.

سياسيا هو ابن اليسار، لكن ليس بالأفكار فقط، بل بالإيمان بالإنسانية والثورة والحرية والقدرة على الحب والأمل، وبالحلم الذي لا يتوقف عن تغيير العالم.

آمن زياد بإمكانية أن يفعل هذا كله وهو يجلس على “البيانو”، أو يقف على خشبة المسرح.

قبل أن يكمل 17 عاما أطلق رصاصته الأولى.

سهرية” كان أول عمل مسرحي يشكل صورته ويبلور أفكاره، ويلفت إليه الأنظار.

بدا الشاب الثائر مولعا بقدرته على أن يطلق موهبته إلى الفضاء العام دون خوف.

ذهبت الموهبة إلى أبعد مدى بتوقيع ثائر جديد.

صوت مختلف ينضم إلى عشاق الفن والمولعين بقدرتهم على تغيير القبح وصناعة الحب.

بعد “سهرية” لم يعد الجمهور يراه “ابن فيروز”، بل صار زياد الرحباني.

في مسرحيته البديعة كان يحذرنا من هؤلاء الذين يحاصرون الموهبة حفاظا على مراكزهم، واستمرارهم على حساب الآخرين.

بدت القصة غريبة على شاب لا يزال يتلمس خطواته الأولى نحو الفن والمسرح.

في نهاية عمله الفني الأول “سهرية” انتصرت الموهبة على من أراد حصارها دفاعا عن مصالحه.

نهاية أشبه بزياد نفسه.

فالحالمون لا يقتنعون بأن العدل يمكن أن ينهزم.

عند الرحباني الصغير والثائر النقي كان الفن وسيلة للمقاومة، وتأكيدا مستمرا على قدرة الخير والنبل والحب والأمل على الانتصار.

في رحلته مع الأم “فيروز” حكايات كثيرة.

مسيرة ودروب تراوحت بين حب الابن وتمرد الفنان الذي لا حد لطموحه.

لحّن وكتب لها أجمل الأغنيات، بل وأعاد تقديم صوتها وفنها إلى أجيال أصغر كان هو الأكثر قدرة على التواصل معها.

سألوني الناس” “أنا لحبيبي” “سلم لي عليه” “كيفك أنت” وغيرها الكثير كانت شعاعا جمع موهبتي الابن والأم في تعاون شجي سكن وجدان العرب جميعا.

ولأن التمرد لم يفارق الابن فقد اختلف أحيانا مع والدته، وانطلق بعيدا يكتب ويبدع ويلحن، تركت الأم لموهبته العنان ولمشروعه الحرية، فأنتج مزيدا من الفن والتمرد من “أنا مش كافر” إلى “هدوء نسبي”.

جنازة متنوعة

في جنازة زياد لم يكن المشهد مجرد وداع لفنان مهم.

كأنها صورة تجمع الباحثين عن الإنسانية.

كل هؤلاء الذين التقوا مع زياد أو الذين عرفوه عبر فنه كانوا يودعون جزءا من التاريخ، وجزءا من الحلم، وكثيرا من الحب.

خلف النعش كان التنوع معبرا بصدق عما عاش من أجله الفنان الثائر.

مثقفون وفنانون وسياسيون وشعراء وكتاب وصحفيون، حتى من اختلف معه في حياته لم يستطع ألا يودعه.

كأنه اللحن الذي اجتمع عليه الفرقاء، واتفق عليه كل الذين تتناقض أفكارهم ومواقفهم في الحياة.

كانت الجنازة تعبيرا يليق برحلة زياد في الفن وبمسيرته ومواقفه.

فهذه المتناقضات كلها اجتمعت فقط لتودع فنانا صادقا وحقيقيا.

حتى في موته كان زياد قادرا على إرباكنا دون قصد.

بحضور أمه السيدة فيروز وظهورها بعد غياب، وفي بكاء رجال وسيدات بسيطات، وفي الحزن الذي سيطر على بيروت وضاعف من أحزانها ما يشير إلى أن جنازته لم تكن حدثا عاديا، بل كان مشهدا دراميا مليئا بالشجن والحزن والحب والإيمان بالفن سلاح يخفف عن الأحياء أعباء العالم وشروره.

مات زياد ولم يمت.

كأنها إحدى مسرحياته.

كتب لنا الحياة وترك أمامنا فنه البديع، ثم اختفى إلى “الكواليس”.

حتى أننا نتخيل الآن بأنه قد يظهر لنا فجأة ساخرا ضاحكا.

هكذا كانت لبنان تشعر ومن خلفها كل العرب.

رسالة زياد الخالدة

في مقابلاته الصحفية والتليفزيونية كلها بدا زياد مؤمنا بأن الفن لا يمكن إلا أن يكون منحازا.

لا فن بلا انحياز، ولا ألحان بلا قضية.

ويبدو أن هذا هو سر هذا الحب الجارف الذي ناله فنان لم يقف يوما على الحياد.

ولم يخجل من أن يصرح بقناعاته مهما كانت صادمة.

انحاز للعدل والحرية والمقاومة والإنسانية، وكأنه جاء من عالم السياسة.

صاغ عالمه الفني بالكلمة واللحن والبسمة والسخرية، وأسس شهرته على قاعدة أن الفن لا بد أن ينتصر للإنسان.

لم يكن زياد ضمن الباحثين عن الإعلام والشهرة، لكنهم هم الذين لاحقوه.

فقط لأنه ترك أثرا.

مات الفنان الثائر، وبقيت فكرته حية وملهمة.

لا فن بلا موقف.

الجملة الموسيقية يمكن أن تكون مظاهرة واحتجاجا وصوتا يزعج الشر.

والضحكة يمكن أن تُوجع السلطة وتحاصر الاستبداد في معاقله.

واللحن الذي يفقد قضيته وتعبيره عن الناس يتحول إلى “ديكور” ينساه الزمن.

كاتب وصحفي مصري

المصدرالجزيرة مباشر

 

الجزيرة مباشر القطرية في

02.08.2025

 
 
 
 
 

رحابة الفكر والإبداع

أكرم مكناس

أنعى إليكم اليوم الفنان الموهوب المفكر زياد الرحباني، الذي أعرفه عن قرب وليس كفنانٍ فقط، أعرف عائلته وتربطني بهم علاقة شخصية قوية، وأعرف زياد منذ أن كان طفلاً ذا عبقرية خاصة، كما كان أبوه عاصي وأمه فيروز أصدقاء لأختي بارعة، وكنا نجتمع معًا في عدة مناسبات وفي حفلات العشاء، كانوا بمنزلة أصدقاء للعائلة.

وقد تألمت كثيرًا لرحيل زياد عنا، الصوت الذي جمع بذكاء بين العبقرية الفنية والجرأة الفكرية، والكاتب المسرحي والموسيقي الذي اتسم بعفويته يوم كتب، وبراعته حين لحَّن، وخفة ظله وهو يعانق المسرح، زياد الرحباني هو مسرحي وموسيقي وشاعر وموزع وعازف ومخرج في آنٍ واحد، فنان لن يكرره الزمن، وخسارته هي خسارة حقيقية لتاريخ الفن العربي الحديث الذي مزج بين الأصالة والحداثة، بين التراث والثورة، بين الضحكة والدموع.

ترك الرحباني وراءه إرثًا فنيًا لا يمحى، ليس فقط كفنان، بل كحلقة مهمة في سلسلة عائلة الرحباني التي شكّلت وجدانًا موسيقيًا ومسرحيًا لأجيال عربية متعاقبة، فقد ولد زياد في أحضان الفن، فوالده عاصي الرحباني ووالدته فيروز التي كانت مدرسة فنية بحد ذاتها، وقد نشأ في عائلة متأثرة بالموسيقى الكنسية، ولا سيما السريانية والبيزنطية، ولكن زياد لم يكتفِ بالعيش تحت ظل عائلته العملاقة في عالم الفن، بل سعى منذ البداية لخلق مساره الخاص.

كان والده يقدم الفلكلور اللبناني بصورة منمقة وجماهيرية، ويقدم مع أخيه منصور الرحباني تحت اسم الأخوين رحباني الكثير من المسرحيات الغنائية، وقد كانت فيروز هي البطلة المطلقة في جميع مسرحياتهم، كما أن عمَّه الآخر إلياس الرحباني حصل على ثقة عاصي ومنصور فضمّاه كمؤلف إلى مسرحهما، وكان ولدا إلياس قد دخلا عالم الفن بالفعل فمثّلا في بعض الأفلام الدعائية ووضعا صوتيهما عليها قبل أن يرثا الموسيقى بكل متفرّعاتها عن والدهما إلياس.

وقد أضاف زياد لهذا التراث الممتد لمسة عصرية حادة، ممزوجة بنقد اجتماعي وسياسي لاذع، فأعماله مثل «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، وموسيقاه الحديثة وتمثيلياته السياسية الناقدة التي تصف الواقع اللبناني الحزين بفكاهة عالية الدقة، كانت شهادات فنية على حقبة مضطربة من تاريخ لبنان والعالم العربي، وقد تميَّز أسلوب زياد الرحباني بالسخرية والعمق في معالجة الموضوع، فلا عجب في أنه يسمى بفيلسوف الموسيقى الشرقية المعاصرة، والمبدع الذي أنشأ مدرسة فنية فريدة.

أكثرية أبناء جيلي يعرفون جيدًا مسرحيات مثل «جسر القمر» و«موسم العز» للأخوين رحباني، والتي لم تكن عروضًا غنائية عادية، بل كانت ملاحم فنية تروي حكايات الناس البسطاء بأسلوب جمع بين الشعر والموسيقى والدراما، وكنا نعجب بمثل هذه الأعمال كثيرًا ونستمتع بها، فهذه العائلة التي خرجت من قرية صغيرة في لبنان استطاعت بكل قوة أن تخلق فنًا جمع بين عمق التراث وجمال الحداثة، وفي هذا المناخ الفني الثري نشأ زياد، فورث الموهبة لكنه أضاف لها روح التمرد والتجديد.

فإذا كان جيل عاصي ومنصور قد قدّم لبنان القرية ببراءة وجمال، فإن زياد قدّم لبنان بكل تعقيداته وتناقضاته، وهذا التحول رغم أن جزءًا منه كان بسبب اختلاف الأجيال وأساليب التعبير الفني، إلا أنه كان أيضًا انعكاسًا للتحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها لبنان والعالم العربي خلال فترة الستينيات وحتى التسعينيات، وزياد كان صوتًا من أصوات هذا الجيل التي رأت أحلامًا تتحطم وصراعات لا تنتهي، فجاء فنه مرآة لهذا الإحباط وهذا التحدي في آن معًا.

على المستوى الموسيقي، تميز زياد بمزج غير مسبوق بين المقامات العربية والإيقاعات الغربية، أغانيه التي أدتها فيروز تحولت إلى أناشيد لحنها الملايين دون أن يعرفوا في كثير من الأحيان عمق الكلمات التي يرددونها، من أغنية «أنا عندي حنين» إلى «حبيتك تنسيت النوم» و«البوسطة» وغيرها من الأغاني الجميلة التي لحنها زياد وغنتها فيروز، والتي أعاد زياد من خلالها تقديم التراث الرحباني بلغة جديدة، حافظت على الجمال لكنها أضافت عمقًا جديدًا.

وراء هذا الفنان العظيم كان هناك إنسان ذو حياة معقدة، فعلاقته بوالدته فيروز كانت موضوع تكهنات كثيرة، كما أن زيجاته غير الناجحة أضافت طبقات من الدراما لحياته الشخصية، لكنه كان فنانًا بكل ما تحمله الكلمة من تعقيد وتناقض، وربما هذه الإنسانية هي ما جعل فنه قريبًا من الناس، لأنه مثلهم عرف الألم وعاش الحياة بصعوباتها، وأعماله الفنية تحمل الهم الإنساني بمآسيه وأفراحه.

قال عاصي الرحباني يومًا إن «الفن ابن الوعي»، وزياد هو الابن الأوفى لهذه المقولة، جسّدها من خلال أغانيه التي تنضح بالهم الإنساني الوجودي وحالاته، مثل «إيه في أمل»، و«رفيقي صبحي الجيز»، و«كيفك إنت»، و«نزل السرور»، وغيرها، كما كان من الأشد جرأة في عصرنا، إذ خاض المحرّمات الاجتماعية والسياسية والدينية بوعي الفنان وصدق الإنسان وتواضعه، لمست أعماله الفنية قلوب الناس وضمائرهم بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم الدينية وتياراتهم السياسية، وحتى أبناء الكنيسة لم يكونوا في منأى عن مشروعه الفني، فخصّهم بترانيم تحفظها كل شفة وقلب، أبرزها «المجد لك أيها المسيح» و«العالم جائع» و«إلهي رفعت إليك يدي» و«سيدي».

ما أجمل أن يرحل الفنان من العالم وهو تارك وراءه سجلاً حافلاً بالألحان التي تلامس الروح، والكلمات التي تحفر في الذاكرة، وتاركًا قطعة من روحه في قلب كل من سمع لحنًا من ألحانه أو تأثر بكلمة من كلماته ممن عاصروه، هذا هو خلود الفن الحقيقي، أن يتحول الفنان إلى ذكرى عطرة تزداد إشراقًا مع الزمن، وإلى صوت لا يخفت كلما عاد إليه المحبون، فالفنانون العظماء لا يموتون، بل يصبحون جزءًا من وجدان الأمة بأكملها، يتردد صداهم كلما غنى شخص أغانيهم، فهم حالة من الجمال المستمر الذي لا يتوقف عن العطاء.

رحيل زياد هو فصل مؤلم في قصة الفن العربي، لكنه ليس النهاية، فأعمال الرحبانيين ستظل حيةً ما دام هناك أناس يتغنون بـ«زهرة المدائن». زياد وعائلته لم يقدموا فنًا للاستماع فقط، بل قدموا صوتًا للوجدان الجمعي العربي في أحلى وأصعب لحظاته، هذا النوع من الفن لا يموت، لأنه ببساطة أصبح جزءًا منا، زياد غادرنا جسديًا، لكنه سيبقى حاضرًا في كل مرة نسمع فيها لحنًا رحبانيًا يملأ الأجواء، يذكرنا بأن الفن الحقيقي هو ذلك الذي يخترق القلب ويبقى.

 

الأيام البحرينية في

02.08.2025

 
 
 
 
 

هذا آخر ما قاله زياد الرحباني قبل رحيله

أمين مصطفى

خسر الوسط الفني في لبنان، قامة فنية، ووطنية، وإبداعية مميزة، بعد أن قدمت عشرات الألحان والمسرحيات ، التي حملت هموم الوطن والأمة، ومطالب الناس، تحديداً الفقراء منهم .

كان الموسيقار والمسرحي زياد الرحباني مدرسة،  تركت بصمات مهمة ، وإرثاً خالداً من العطاءالفريد ، غير أن انحيازه للمقاومة، كبقية الأسرةالرحبانية،وبالأخص ، ما قدمته وأفصحت عنه ” سفيرة النجوم ” فيروز، وما أعلنته ابنتها ريما الرحباني، من مواقف ، أعطى بعداً وطنياً وقومياً، وإنسانياً ، حمل الكثير من الدلالات .

زياد الرحباني لخص نظرته، وتقديره واحترامه لسيد المقا.ومة، حسن نصر الله، بكلمات عاطفية حارّة، كانت آخر كلماته، وأشدها تعبيراً، قال زياد قبل الوداع :” العيش من دون السيد جحيم “، وأضاف :” راح موت فقع من الفقد، مش من المرض “.

هذا الإعلان الصريح ، والوجداني، إن دل على شيء، إنما يدل عن مدى الوثوق والاعتزاز بما كان “السيد” يطرح ويجاهد ويضحي من أجله .

كشف زياد الرحباني، أنه التقى أمين عام حز.ب الله مرتين :

الأولى كان خلالها “مربكاً، كان مزيجاً من الدهشة والخجل، والصدمة، جرى خلالها حديث مطول حول الأوضاع في لبنان، وفلسطين وسوريا”، وقد أكد له نصرالله، أن تحرير فلسطين حقيقي، ووعد إلهي، وهو آت لا محال.

أما المرة الثانية، يقول زياد :” قلت للسيد أني ” وباللهجة الجنوبية”، جايي اليوم لظل عندك، بديش فل، بدي عيش معك، وإذا بدك بصير صلي وصوم مثلكم، خليني عندك “.

يضيف زياد،ابتسم السيد وقال له :” العالم بتحبك لأنك مش شيعي، إحنا ناس مكتوب علينا الظلم، خليك مسيحي، وخليك محبوب، بيكفي إنو موقفك مع المقاومة، ومعروف شو أصلك .

هذه العلاقة بين الطرفين ، ترجمها زياد الرحباني بنشيد لحنه عن السيد ، أحدث صدى سياسياً، وفنياً، وشعبياً واسعاً ، لتمايزه على المستوى الإبداعي والمضمون الفكري والعاطفي  .

ولم يكتف الراحل الكبير، بهذا العمل، فكان صوتاً مؤثراً في دعم المقاومة ، ومهاجمة كل من يعمل أويحرض ضدها ، وكان تصريحه الذي أعلن فيه أن والدته فيروز تحب السيد، وتناصر المقاومة، بمثابة القنبلة التي هز تفجيرها الأوساط السياسية، بخاصة المعارضة للمقاومة .

واضطر السيد للرد على هذه الموجة الحاقدة، باستغرابه من محاولة الحاقدين منع الآخرين من التعبير عن عواطفهم، وحبهم .

وتصدت بدورها ريما الرحباني “لكل من يحاول التطاول على فيروز”، مؤكدة “أننا نكن للسيد ، وللمقاومة ، كل تقدير “.

زياد من جانبه أكد أنه لو كانت فيروز لا تحب المقاومة، لما لحن لها أي أغنية ، ومن يهاجمها، ويهاجم السيد ، يخدم ” اسرائيل”.

وحقيقة الأمر ، ومن خلال أعمالها الكثيرة التي قدمتها عبر مشوارها الفني ، أطلقت فيروز ” وهي الفلسطينية الجذور، والدها وديع حداد من الناصرة ” ، البومات ، عن فلسطين، وجنوب لبنان ، نذكر منها على الصعيد الفلسطيني : يافا ، زهرة المدائن، سلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة، أنا لن أنساك فلسطين، القدس العتيقة، جسر العودة، وصولاً إلى الدعوة للمقاومة برفع الصوت المدوي : الغضب الساطع آت.

أما ما قدمته لجنوب لبنان ، والمقاومة ، نشير إلى أبرز أعمالها :

أسوارة العروس، اسوارة العروس المشغولة بالذهب

وأنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب .

ودقوا المهابيج خلوا الهوا جنوبي، ويا زهرة الجنوب وغيرها .

العائلة الرحبانية أعطت بكل طاقتها من أجل قضايا الوطن والإنسان، لم تبخل يوماً في تقديم الأعمال  الخالدة، دون أن تضعف زخم نشاطها أية عوائق .

 مواقف فيروز، وزياد ، ختمتها عبارة مؤثرة لريما الرحباني موجهة ” للسيد”، باعتباره رمزاً وقدوة : ” عود لا ترحل يا أبانا ، يا سيدي، يا روحي”، وبعد تشييعه ، خاطبته : ” صلاتي، وقلبي وروحي إلك “،

أعتقد بعد ذلك، لا يمكن أن توجد عباراتُ محبةٍ وتقدير لقائد مقا.وم، بل لمسيرة جهادية ، يحسب لها الأعداء ألف حساب، أكثر بلاغة .

ترك زياد الرحباني بغيابه، فراغاً يصعب تعويضه ، لكن العزاء يبقى بهذه الثروة والثورة الفنية والإبداعية والوطنية التي خلفها لنا، وللأجيال القادمة .

زياد الرحباني بهذا المعنى والنتاج ما زال حياً روحاً بيننا، وإن غاب جسداً .

كاتب لبناني

 

رأي اليوم اللندنية في

02.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004