رسالة زياد الخالدة
عمرو بدر
الذين عاشوا وغنوا بصدق، لا يمكن للموت أن يطفئ ألحانهم.
لم يكن زياد الرحباني الذي غادر عالمنا منذ أيام مجرد فنان
مرّ علينا.
كان مشروعا كاملا.
هذا المشروع امتزج فيه الفن بالحياة، وتعلقت الأفكار
بالمبادئ، وتعالت فيه الأحلام لتحتضن العالم.
زياد هو آخر ممثل للحالمين بعالم خال من الكراهية، ورسول
المؤمنين بأن العزف يمكن أن يدعو إلى الإنسانية، وأن اللحن يمكن أن يحل محل
القنبلة، وأن السخرية يمكن أن ترسم الابتسامة على شفاه المظلومين.
هو فنان يحمل إنسانيته ويمضي ليبشر بعالم أجمل.
رحل زياد ولم يرحل.
هكذا تمنينا.
وهكذا صدقنا!
فنان يدعو للثورة
في البيت الممتلئ بالموسيقى والعامر بالفن كان الشاب زياد
يتشكل.
منذ سنواته الأولى نشأ مميزا ومختلفا، ليس لأنه ابن فيروز
وعاصي فقط، بل لأنه منذ أن تفتح وعيه اختار الثورة، امتزج بالكلمة واللحن
والمسرحية والسخرية اللاذعة، وعدّها قواعد دائمة لفنان ثائر.
جلس في زاويته الخاصة، ينظر إلى قبح العالم، ينتقده ويسخر
منه ويفكر في كيفية تغييره.
سياسيا هو ابن اليسار، لكن ليس بالأفكار فقط، بل بالإيمان
بالإنسانية والثورة والحرية والقدرة على الحب والأمل، وبالحلم الذي لا
يتوقف عن تغيير العالم.
آمن زياد بإمكانية أن يفعل هذا كله وهو
يجلس على “البيانو”، أو يقف على خشبة المسرح.
قبل أن يكمل 17 عاما أطلق رصاصته الأولى.
“سهرية”
كان أول عمل مسرحي يشكل صورته ويبلور أفكاره، ويلفت إليه الأنظار.
بدا الشاب الثائر مولعا بقدرته على أن يطلق موهبته إلى
الفضاء العام دون خوف.
ذهبت الموهبة إلى أبعد مدى بتوقيع ثائر جديد.
صوت مختلف ينضم إلى عشاق الفن والمولعين بقدرتهم على تغيير
القبح وصناعة الحب.
بعد “سهرية” لم يعد الجمهور يراه “ابن فيروز”، بل صار زياد
الرحباني.
في مسرحيته البديعة كان يحذرنا من هؤلاء الذين يحاصرون
الموهبة حفاظا على مراكزهم، واستمرارهم على حساب الآخرين.
بدت القصة غريبة على شاب لا يزال يتلمس خطواته الأولى نحو
الفن والمسرح.
في نهاية عمله الفني الأول “سهرية” انتصرت الموهبة على من
أراد حصارها دفاعا عن مصالحه.
نهاية أشبه بزياد نفسه.
فالحالمون لا يقتنعون بأن العدل يمكن أن ينهزم.
عند الرحباني الصغير والثائر النقي كان الفن وسيلة
للمقاومة، وتأكيدا مستمرا على قدرة الخير والنبل والحب والأمل على الانتصار.
في رحلته مع الأم “فيروز” حكايات كثيرة.
مسيرة ودروب تراوحت بين حب الابن وتمرد الفنان الذي لا حد
لطموحه.
لحّن وكتب لها أجمل الأغنيات، بل وأعاد تقديم صوتها وفنها
إلى أجيال أصغر كان هو الأكثر قدرة على التواصل معها.
“سألوني
الناس” “أنا لحبيبي” “سلم لي عليه” “كيفك أنت” وغيرها الكثير كانت شعاعا
جمع موهبتي الابن والأم في تعاون شجي سكن وجدان العرب جميعا.
ولأن التمرد لم يفارق الابن فقد اختلف أحيانا مع والدته،
وانطلق بعيدا يكتب ويبدع ويلحن، تركت الأم لموهبته العنان ولمشروعه الحرية،
فأنتج مزيدا من الفن والتمرد من “أنا مش كافر” إلى “هدوء نسبي”.
جنازة متنوعة
في جنازة زياد لم يكن المشهد مجرد وداع لفنان مهم.
كأنها صورة تجمع الباحثين عن الإنسانية.
كل هؤلاء الذين التقوا مع زياد أو الذين عرفوه عبر فنه
كانوا يودعون جزءا من التاريخ، وجزءا من الحلم، وكثيرا من الحب.
خلف النعش كان التنوع معبرا بصدق عما عاش من أجله الفنان
الثائر.
مثقفون وفنانون وسياسيون وشعراء وكتاب وصحفيون، حتى من
اختلف معه في حياته لم يستطع ألا يودعه.
كأنه اللحن الذي اجتمع عليه الفرقاء، واتفق عليه كل الذين
تتناقض أفكارهم ومواقفهم في الحياة.
كانت الجنازة تعبيرا يليق برحلة زياد في الفن وبمسيرته
ومواقفه.
فهذه المتناقضات كلها اجتمعت
فقط لتودع فنانا صادقا وحقيقيا.
حتى في موته كان زياد قادرا على إرباكنا دون قصد.
بحضور أمه السيدة فيروز وظهورها بعد غياب، وفي بكاء رجال
وسيدات بسيطات، وفي الحزن الذي سيطر على بيروت وضاعف من أحزانها ما يشير
إلى أن جنازته لم تكن حدثا عاديا، بل كان مشهدا دراميا مليئا بالشجن والحزن
والحب والإيمان بالفن سلاح يخفف عن الأحياء أعباء العالم وشروره.
مات زياد ولم يمت.
كأنها إحدى مسرحياته.
كتب لنا الحياة وترك أمامنا فنه البديع، ثم اختفى إلى
“الكواليس”.
حتى أننا نتخيل الآن بأنه قد يظهر لنا فجأة ساخرا ضاحكا.
هكذا كانت لبنان تشعر ومن خلفها كل العرب.
رسالة زياد الخالدة
في مقابلاته الصحفية والتليفزيونية كلها بدا
زياد مؤمنا بأن الفن لا يمكن إلا أن يكون منحازا.
لا فن بلا انحياز، ولا ألحان بلا قضية.
ويبدو أن هذا هو سر هذا الحب الجارف الذي ناله فنان لم يقف
يوما على الحياد.
ولم يخجل من أن يصرح بقناعاته مهما كانت صادمة.
انحاز للعدل والحرية والمقاومة والإنسانية، وكأنه جاء من
عالم السياسة.
صاغ عالمه الفني بالكلمة واللحن والبسمة والسخرية، وأسس
شهرته على قاعدة أن الفن لا بد أن ينتصر للإنسان.
لم يكن زياد ضمن الباحثين عن الإعلام والشهرة، لكنهم هم
الذين لاحقوه.
فقط لأنه ترك أثرا.
مات الفنان الثائر، وبقيت فكرته حية وملهمة.
لا فن بلا موقف.
الجملة الموسيقية يمكن أن تكون مظاهرة واحتجاجا وصوتا يزعج
الشر.
والضحكة يمكن أن تُوجع السلطة وتحاصر الاستبداد في معاقله.
واللحن الذي يفقد قضيته وتعبيره عن الناس يتحول إلى “ديكور”
ينساه الزمن.
كاتب وصحفي مصري
المصدر: الجزيرة
مباشر |