ملفات خاصة

 
 
 

تركني عالأرض وراح

بسام كوسا

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

هذا زياد، هذا بعضٌ منه، يحق لأي إنسان أن يدّعي صداقته - لو لم يره حتى - لقد كان متاحاً للجميع، فهو حالة إنسانية إبداعية قلّ حدوثها.

هذا زياد،

هذا بعضٌ منه،

يحق لأي إنسان أن يدّعي صداقته - لو لم يره حتى

لقد كان متاحاً للجميع، فهو حالة إنسانية إبداعية قلّ حدوثها.

لم أكن حقاً أرغب في الكتابة عن زياد، ترددت كثيراً، أحسستُ بأنني قد أُصبت بما يشبه الشلل، ترددت كثيراً، فكما يُقال: بعد أن تُخرق السفين كل كلامٍ كثير. ولكن بما أنّهم علمونا بأن الحياة أبقى - هكذا قالوا لنا - وأيُ حياة؟!

لذلك لن أطنب، ولن أزخرف الكلام، ولن أمدح بما ليس فيه، فأنا على يقينٍ بأنه يكره ويستاء من هكذا أشياء.

فكل ما أستطيع قوله إنّ هذا الرجل كان بسيطاً كرغيف خبز، عميقاً كالمنام، صادقاً كالألم.

هكذا أرى زياد، أو بعضاً منه.

يغزل أيّامه وأعماله بالحرير والشوك، مُدمياً وحنوناً، واخزاً وطيباً، عنيفاً ورؤماً، وهل هناك أصعب من أن يكون غزلاً بهذا التضاد؟

هكذا زياد... أو بعض منه.

لم يتجمّل أمام الحياة، ولم يخادعها، بل كان ينظر بعينيها مباشرةً، من دون مواربة أو تلاعب.

دائماً ما كان يقول لحياتنا: أنت هكذا.

وكنّا نضحك!!

دقّ جرس الإنذار مئات المرات، آلاف المرات... وكنّا نضحك!!

كم مرّةً قال لنا بصوتٍ مرتفع صريح، حتى لتكاد تظن بأنّ قلبه سينفجر: ما كلكن إخوة يا إخوات الشر... وكنّا نضحك!!

هكذا زياد... أو شيء منه.

يا صديق أكثرنا، قلتَ ما لم نستطع قوله (موسيقى، مسرح، غناء، إذاعة، مقالات، آراء، مواقف، محبة...) قلتها بكل صدق وجرأة ونبل، وإبداع.

نعم يا سيد، أستطيع أن أقولها بثقةٍ عالية، في كل عمل كنت تصيبنا بالدهشة، والدهشة سرّ الإبداع.
نعم، كنت مدهشاً كالماء، كأوراق الشجر، كغيمةٍ ماطرة، كعشب الأرض، مدهشاً كالبساطة وكنّا نضحك
.

مررتَ في حياتنا كسربٍ من السنونو، وغادرتنا بسرعة الشهب، لم ننتبه بما يكفي، وبما يليق بك من الانتباه، غدرتنا.

وعلى غفلةٍ منّا، وفي لحظة فجيعتنا عندما رُحت، جمعنا، ذاهلين، كل ضحكاتنا في سلة قشٍ واحدة، وبلمحة بصر تحوّلت كل هذه القهقهات إلى ألم خارق، هذا الوجع المباغت ذكرني بما قلت أنت: شي جديد، على نفس النسق القديم، بس شي جديد.

هذا ما عليه حالنا الآن، شي جديد، ولكن على نفس النسق القديم.

قلت لك مرّة، أثناء حوارنا عام 2008: إن الأمم تنتظر أن تمنحها الحياة حالةً إبداعية متفرّدة كل خمسين عاماً، ففي الثلاثينيات ظهر سيد درويش، وفي الثمانينيات كنت أنت. انتابك حينها كمّ كبير من الخجل والارتباك، إلى درجة أنك لم تعرف بماذا تجيب، لقد تلعثمت بوضوح.

اليوم، ونحن على ما عليه من انهيارات على الصُعد كلها، وجدت نفسي مخطئاً أيّما خطأ.

يبدو أننا سننتظر زمناً أطول بكثير كثير، لكي يصبح عندنا حالة مشابهة أو موازية كزياد الرحباني.

لن أبالغ في التشاؤم ولا التفاؤل، لكنني مؤمن بأن الحياة قادرة على أن تترك الأبواب مشرعةً على احتمالات عدة، قد يحدث، ليس الآن، متى لا أعلم، لكن الحياة ستستمر.

زياد...

سنظلّ نسمعك ونتذكّرك، قد يكون لأجيال قادمة، وستبقى بالنسبة إلى الكثيرين جداً، سنداً معنوياً ووجدانياً، ومحرّضاً قوياً على العطاء والحب والتفاؤل، فما قدمته في مسيرتك الطويلة القصيرة، سيبقى ضوءاً يدلنا إلى هناك، إلى حياة أفضل وأشرف، فقد كنت خيرَ مَن يوصل الرسالة لمن يريد أن يقرأها.

فلن تقوم قائمة لأمة لا تأخذ الثقافة والفنون والإبداع في الحسبان، لأنها ستبلى بالعمى، كما قلتها أنت يوماً... وضحكنا!!

هذا بعضٌ من زياد.

ستبقى بيننا أزماناً طويلة أيّها الساحر الخلّاق المبدع.

إلى لقاء.

* ممثل وكاتب سوري

 

####

 

زياد الرحباني «أيقونةً» رغماً عنه:

مَن أيقظ «أبو الجواهر» من سباته لينعيه؟

جاد حجار

لو كان حاضراً في تأبينه، لكان شرب كأساً مع رفاقه وهو يهزأ من مشهدية ضمّه إلى لبنان «اللحم بعجين»! حالما أشيع خبر وفاته حتّى تسابق الجميع للانضمام إلى جوقة المعزّين فيه، من رفاقه ومحبّيه وصولاً إلى أفيخاي أدرعي وسمير جعجع!

في عام 2013، توفي نيلسون مانديلا، فانقسم العالم بين مناصرين له جعلوه أيقونة نضالية وآخرين وسموا عليه صفة الإرهاب والتخريب. إلا أنّه مع مرور الوقت، كرّست سيرة حياته عالمياً بأنّه مناضل أممي ساعٍ للسلام وجامع للإنسانية.

نلاحظ عالمياً بأنّ وفاة أيّ شخص (أو مقتله)، خصوصاً إذا كان معروفاً للرأي العام، تشكّل صراعاً بين الناس كون الراحل ينتمي إلى آراء معيّنة، فينقسم الناس بين الحزن عليه والحياد أو حتّى الشماتة. شذّ زياد الرحباني عن تلك القاعدة برحيله تماماً كما شذّ عن كلّ القواعد في حياته، فما إن أشيع خبر وفاته حتّى تسابق الجميع للانضمام إلى المعزّين فيه، من رفاقه ومحبّيه وصولاً إلى أفيخاي أدرعي وسمير جعجع!

كأنّ كلّ من ينعى زياد يسجّل وجوده في نادي الوطن، وكأنّ زياد نبع يريد الجميع الشرب منه، رغم أنّه كان واضحاً جدّاً في اصطفافه مع المقاومة ضد إسرائيل، وكان مقاتلاً شرساً وطليعياً للطبقة السياسية والهيمنة الدينية والطائفية.

ظاهرة لبنانية فريدة

تشكّل أعمال زياد الرحباني المسرحية ظاهرة لبنانية فريدة، فاللغة المستخدمة هي لغة الناس، والمواضيع تهمّ الجميع وكذلك أغانيه. ولذلك، صارت اللغة التي يستخدمها عاملاً مشتركاً بين جميع اللبنانيين على اختلاف ثقافاتهم وطبقاتهم.

أخذ زياد لغة الناس ليعيد تدويرها على خشبة المسرح وعبر الأغاني ليرجعها إلى الناس، فاستخدموها في حياتهم اليومية، وصار هناك معجم زيادي متكامل.

من هنا، صار زياد «أيقونة» من دون أن يدري ومن دون أن يدري اللبنانيون. مع أنّه كان يغيب سنوات عن العزف والظهور الإعلامي، إلا أنّ هذا لم يجعله يغيب عن المخيال الاجتماعي المشترك للبنانيين.

الغائب الحاضر

كان زياد غائباً عن الناس لمدة طويلة إلى حين وفاته، فما الفارق بين الغيبتين؟ رغم حصول تغيّرات اجتماعية وسياسية في البلد، تعوّد جمهوره ومحبّوه على غيابه، بما أنّه كان يعلم أنّه سيظهر وسيتكلّم باسمهم. وقد يكون هو يحضّر لعمل ما يعبّر عن خوالجهم أو قد يجمعهم في تحرّك سياسي ما.

ارتعد اليمين من خطابه، فأحال عليه صفة المهرّج بغية عزله 

إلا أنّه في آخر مرّة، لم يكن زياد مجرد منعزل، لقد كانت روحه تتألّم من أثر جسده وصار جسده سجناً لروحه. ولم تكن الجموع تعرف ذلك، إلى أن جاء خبر وفاته على إثر المرض. هنا كان النبأ عظيماً، لم يعد هناك زياد يغيب ويعود إلينا. إلا أنّ الجميع أحسّ على صعيد فردي بشعور مشترك ألا وهو الفراغ. كيف نتعامل مع كلّ الواقع المعاش من دون زياد؟

كانت الدموع والحزن العميق يعبران عن حزننا على أنفسنا، لقد خضعنا لخيبات فردية وجماعية ووطنية. وبطريقة لا واعية، كان مجرد وجود زياد فسحة أمل. تلك الدموع هي اعتراف بالكسر والهزيمة بعد كلّ ما حلّ بنا في الوطن، إلا أنّها لم تنفجر صدقاً إلا عندما أدركنا أنّ زياد غاب عنّا إلى الأبد. كان البكاء على آخر فسحة أمل، وكأنّك وضعت شخصاً مشوّهاً للمرة الأولى أمام المرآة.

هل قلت ثورة على النظام؟

لقد صنع زياد فكراً فلسفياً واجتماعياً متكاملاً كأنّه نسق فلسفي متكامل، عبّر عنه في برامج إذاعية مثل برنامج «العقل زينة» وغيره حيث انتقد الخبث المجتمعي، وعرّى المجتمع عبر تسليط الضوء على تناقضاتنا التي لا يجرؤ أحد بالتعبير عنها علناً. كان يعتمد أسلوباً تفكيكياً بحيث أنّه يضع إصبعه على المشكل الحقيقي في البلد، ليتمكّن المستمع من طرح حلّ للمشكلة. فزياد لا يهدم من أجل التخريب، بل من أجل طرد الأفكار المبهمة والكاذبة التي تبثّها السلطة بغية طرح حلول رؤيوية تقدمية تخدم الفرد في المجتمع لكي يعيش عيشة كريمة. على سبيل المثال، يقول زياد: «إذا بدّك تعمل ثورة عالنظام بدّك تعمل ثورة للنظام». هو يعني بأنّ لبنان ليس نظاماً تقليدياً تستطيع فئة من الشعب تنفيذ انقلاب عليه وتسلّم السلطة، بل هو نسيج معقّد تشترك فيه «الشعوب اللبنانية» مع «السلطات اللبنانية» بتحمّل مسؤولية تقاسم الثروات وإعطاء الفتات لمن يخضع.

والدليل على أحقية هذا الطرح هو ما حصل في الربيع العربي حيث سقطت الأنظمة الكلاسيكية تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» ولم تنجح أي محاولة تغيير في لبنان تحت شعار «كلن يعني كلن». لذلك، يدرك زياد بأنّ التغيير في لبنان تواجهه صعوبات كثيرة منها ما يتعلّق بالطائفية والقبلية، ومنها ما يخصّ مركزية بيروت والفروقات الطبقية. وبالطبع يجد زياد علاقة عضوية بين المطامع الإسرائيلية وبين الحالة السياسية والاجتماعية البائسة في لبنان. لذلك، يرى بأنّ عملية التغيير والعبور نحو دولة علمانية تحقّق العدالة الاجتماعية تستلزم مراحل طويلة ومعقّدة. لقد كان مهتماً بالعمل الفكري في كلّ المناطق اللبنانية ليكون ذلك الخطاب ذا طابع وطني لا مناطقي وطائفي.

ماركسي لينيني بالفكر والممارسة

في حواره ضمن برنامج «حوار العمر» مع الإعلامية الراحلة جيزيل خوري، اتّصل أحد المواطنين وسأل زياد كيف نستطيع أن نغيّر، مضيفاً أنّه مستعد للسير مع زياد في عملية التغيير. هنا سأله زياد: «هل أنت مستعدّ للتظاهر في حال كان هناك احتمال تعرّضك للخطر؟». أجاب المتّصل: «نعم في حال كانت النتيجة مضمونة». ضحك زياد ساخراً مشيراً إلى أنّ هذه مشكلة اللبنانيين: هم يريدون النتيجة من دون عناء المحاولة.

كان زياد ماركسياً ولينينياً بالفكر والممارسة. جسّد الاشتراكية بقساوتها وجمالها في حياته. مَن قال إنّ الفنان، وخصوصاً ابن عاصي وفيروز، سيرتدي ثياباً فخمة ويقود سيارة فخمة؟ عاند زياد الرأسمالية، لحّن وكتب على كيفه ولم يسترض أحداً في الدولة أو حتى في القطاع الإنتاجي الخاص، فأحبّه الجميع لأنّه يشبه الجميع، وخاف منه المتسلّطون وارتعد اليمين من خطابه، فأحال عليه صفة المهرّج بغية عزله. إلا أنّ زياد شكّل أيقونة في اللاوعي المشترك. نطق بلسان كلّ مظلوم بشكل يفهمه الجميع. تلك البساطة هزّت عرش الجمهورية التي قال عنها «خرا ع هالجمهورية».

قال زياد كلّ ما في جعبته ورحل، وارتاح من سجن جسده ورحل بإرادته كالمحارب الشريف، الذي أصرّ على أن يكون صادقاً علنياً وفي حياته الخاصة. علّمنا الكثير وأثّر في فكرنا ولغتنا. كان بالنسبة إليه شرف أنّه لم يتكرّم، ولم يتجرّأوا أن يكرّموه في حياته، فما إن تأكّد رحيله حتّى نبتت كلّ أوساخ السلطة والفن لتكرّمه وتعزّي فيه. إلا أنّ إرث زياد وتحيّزه للحقيقة و«الشعب المسكين» فضح زيفهم.

لو كان زياد حاضراً في تأبينه، لكان شرب كأساً مع رفاقه وهو يهزأ من مشهدية ضمّه إلى لبنان «اللحم بعجين»، فمن أيقظ «أبو الجواهر» من سباته لينعيه؟

 

####

 

حيث يكون زياد... تكون الثورة

فاطما خضر

كنّا نحمل الهوية الرحبانيّة في نقاشاتنا وجلساتنا مع بطاقاتنا الجامعيّة وهويّاتنا الشخصيّة، وانقسمت الشلّة بين فيروزيين حتّى النخاع، وزياديين حتّى العظم

هيدي معلومات مش أكيدة

عشرات المنشورات ما بين فايسبوك وانستغرام، أتنقّل بينها بصمت، بعينين مشدوهتين، وعقلي الباطني يردّد عبارة واحدة «هيدي معلومات مش أكيدة»، إلى أن وقعت عيناي على نَعي جريدة «الأخبار»: «رحيل العبقري/ زياد الرحباني 1956-2025».

«الأخبار» تنعى رفيقها اليساري، الذي كتب فيها عبر عمود ثابت، بلغة ساخرة وجريئة وذكيّة، قائمة على سلسلة مفارقات لا تنتهي، لا تختلف عن تلك التي عرفها عشّاقه واعتادوها في مسرحياته وأغنياته وبرامجه الإذاعيّة.
إذن هي معلومات أكيدة... رحل العبقري: «ودايماً بالآخر، فيه آخر، فيه وقت فراق
»!

طرطوس والرحابنة

- «مدارس طرطوس مختلطة»، عبارة لم أفهم معناها حتّى التقيت في الجامعة بطلاب من محافظات أُخرى، علمت منهم أنّه في محافظاتهم ثمّة مدارس للذكور، وأخرى للإناث.

في مدارس طرطوس المُنفتحة على الجمال، كُنّا نصل إلى المدرسة ما بين السابعة والنصف والثامنة إلّا خمس دقائق، نقف في باحة المدرسة في الوقت الفاصل بين الوصول وسماع جرس الاجتماع الصباحي، ونستمع إلى فيروز. كان ينبعث صوتها من الإذاعة المدرسيّة المتواضعة (مسجّل موسيقي موصول إلى مكبّر صوت)، حيث كان مسموحاً فقط أن تُوضع أغانٍ للرحابنة أو إحدى مسرحياتهم... وهكذا نشأت أجيال كاملة على الفن الرحباني المُلتزم، وأصبح جزءاً من برمجة عقلهم اللاواعي، وبديهيات حياتهم.

في مرحلة دراستي الثانوية، ولاحقاً الجامعية في كلية الاقتصاد، كنت غالباً أستمع إلى البرنامج الإذاعي الصباحي «يا ريما». تحدّثت ريما نجيم في أحد صباحاتها عن خبر مفاده أنّ محافظة طرطوس السوريّة تُحارب تلوث الضجيج بموسيقى الرحابنة.

اقترح حينها ضابط في فرع مرور طرطوس استبدال أغاني فيروز بالطرْق على عبوات الغاز، وقوبل الاقتراح بالموافقة والتعميم. وهكذا أصبحنا نعلم أنّ السيّارات المُحمّلة بعبوات الغاز المنزليّة التي تجوب شوارع المدينة والقرى، تقترب من منازلنا عبر أغاني فيروز المُنبعثة من مكبّر صوت زُوّدت به السيارة. هذا الأمر البديهي بالنسبة إلينا في طرطوس، أدركت عظمته حين سمعت الخبر من ريما، وما تلاه من تعليقات إيجابيّة منها ومن المُستمعين.

نتبادل المُزاح قائلين «زياد من عنّا» على اعتبار معظم الذكور في طرطوس يحملون اسم علي

في مدينة طرطوس البحرية، تحمل غالبية أسماء المقاهي اسمَ أغنية من أغاني فيروز.

في طرطوس، عشّاق زياد المتطرفون في محبته يتمسكّون بندائه باسم مقطوعته «أبو علي»، وعلى اعتبار معظم الذكور في طرطوس يحملون اسم علي، نتبادل المُزاح قائلين «زياد من عنّا».

كلّ مسرحية ألّفها الأخوان رحباني أو زياد، كلّ أغنية غنّتها فيروز، أو زياد، أو نصري، أو وديع، أو جوزيف صقر... نقطفها مع حبة التين وعنقود العنب وحبة الكرملتين، ونشربها صباحاً مع كأس المتة أو فنجان القهوة، لا فرق. نقطفها عن عرائش الياسمين التي تزنّر مداخل بيوتنا، ومن مساكب الحبق - «لِمنْرَشْرشها بالصيف صباح ومسا».
في طرطوس... الرحابنة لا يموتون
.

فلاش باك/ هوَس المراهقة

يتطلّب الحديث عن معرفتي الأولى بزياد، العودة إلى معرفتي بفيروز والأخوين الرحباني.

أعود بذاكرتي إلى عمر السادسة، عندما وقفت أمام المكتبة الموسيقيّة التي بناها أبي بيديه من خشب السنديان. كانت مُقسّمة لعشرات الرفوف، تتموضع أعلاها وبشكل منظّم مئات الكاسيتات، بدأت أسحب كاسيتاً تلو الآخر، أتهجّأ الأسماء والعناوين وأسال أبي عنهم.

عندما سألته مَن هي فيروز، حدّثني عن أغنية «خبطة قدمكم»، وانطلاقها من الإذاعة الذي مثّل كلمة السرّ لبدء انطلاق الدفعة الأولى من الصواريخ السوريّة باتّجاه الكيان المحتل في حرب تشرين التحريرية، وغدَت تُبث بعد أيّ نبأ لتدمير أسلحة أو طائرات للعدو حينها.

ثمّ حدّثني عن عائلة الرحباني. لكن في ذلك العمر الشيء الوحيد الذي بقي عالقاً في ذاكرتي هو الارتباط الوثيق بين كلمتَي وطن وفيروز.

في الصباحات الباكرة وقبل الذهاب إلى المدرسة، كانت أمّي تُدير المذياع، فيصدح صوت فيروز. هكذا كانت جزءاً من الصباح المنزلي وما تزال.

لاحقاً في المدرسة الثانوية تحديداً، انتبهت أنّ كثيراً من أغاني فيروز التي أحببتها، كتبها ولحّنها زياد، وهُنا بدأتُ رحلةً معه عنوانها «هَوَس زياد»، فإن كان اسم فيروز بالنسبة إليّ مقترناً بالوطن. اسم زياد اقترن بالثورة بمفهومها الجمالي والفنّي والفكري.

لم أنتمِ يوماً إلى أيّ حزب، لكنّني مدينةٌ لزياد بوعيي السياسي الأوّل، وفهمي لقضايا الهمّ العام والوطني. كان المرشد لاطّلاعي على اليسار والمنهج الماركسي تحديداً، أنا وأصدقائي على اختلاف اختصاصاتنا الجامعيّة. حينها، كنّا نحمل الهوية الرحبانيّة في نقاشاتنا وجلساتنا مع بطاقاتنا الجامعيّة وهويّاتنا الشخصيّة، وانقسمت الشلّة بين فيروزيين حتّى النخاع، وزياديين حتّى العظم.

كان يكفي أن يرن هاتف أحدنا ليأتي الصوت من الطرف الآخر «نزل السرور... رور»، لتكون الإجابة: «رور، اي رور... لوين بدنا نرور؟»، أي إلى أين سنذهب. نقرّر وجهة رحلتنا، يرافقها عزف زكريا -كما كان يُصرّ أن نُناديه- على العود، ويُصرّ أن يُناديني عليا قائلاً: «بالإذن من حبيبك، بس يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين».

أغانٍ ومسرحيات ردّدناها في رحلاتنا بين سد الصوراني في الشيخ بدر، ومنحوتات قرية الملاجة في الدريكيش، وأكبر منحوتة في سوريا في برمانة المشايخ، وبالقرب من برج صافيتا، في مقاهي المدينة، وعلى الكورنيش البحري. شكّلنا فرقة موسيقيّة فاشلة، بقي منها تلك الذكريات: مجتمعنا الصغير المُطلّ على البحر، محاولاتنا لكتابة أغانٍ وتلحينها، تنافسنا من يحفظ أغنيات فيروزيّة وزياديّة أكثر، من يحفظ مسرحياتهم عن ظهر قلب أكثر، ومن قرأ كتباً يساريّة أكثر.

محاولات احترقت مع المحرقة السوريّة التي أخذت تتسع وتتسع، وتلتهم كلّ شيء!

ثُمّ... اختلفنا، وتفرّقنا، وتشظّينا كهذه البلاد.

«وقمح»

أحببت لاحقاً رجلاً، اختبرنا معاً قصّة حبّ ثلاثيّة، ثالثها «أبو علي» كما كنّا نُحب أن نناديه. غنّينا معاً بصوتينا الرديئين أغانيه، وردّدنا مسرحياته، ورسمنا في خيالنا عشرات اللقاءات معه، حتّى إنّنا مرّة خُضنا معه ثورة تُشبهنا.
وكأيّ عاشقين، كان الخلاف يدور بيننا بين الحين والآخر. ولإنهاء الخلاف اتفقنا على قول كلمة واحدة، يُمنع بعدها قول أيّ كلمة تؤجّج الخلاف، وتُلغي فكرة العودة إلى الحديث المسبّب لذاك الخلاف: «وقمح».
كان اسم مقطوعته الموسيقيّة الأشهر من أن تعرّف، مُفتاحاً يُغلق باب الخلاف. وما زلت ليومي هذا، أحبُّ أن أستمع إليها وأرقص بطريقتي التي أنفصل معها عن الواقع
.

زياد من جديد

في أحد الأيام، قرّرت أن أُعيد مجريات حياتي، لأشفى من اكتئاب رافقني لسنتين، فقرّرت الالتحاق بكلية الآداب في اللاذقية (ترجمة/ لغة إنكليزية).

حينها توجّب عليّ الاستيقاظ عند الخامسة، ومغادرة منزلي في طرطوس عند السادسة، فالتنقّل بين وسائل النقل حتى وصولي إلى باب الجامعة، ما يتطلّب منّي ساعتين. أعدتُ في هاتين الساعتين تشكيل علاقة جديدة مع فيروز وزياد. أعدت الاستماع إلى جميع مسرحيات الأخوين رحباني ومسرحيات زياد من دون استثناء؛ وأخذت أبحث في الكتب والمراجع للقراءة حول الحرب الأهليّة في لبنان. كان عليّ أن أفهم ما حدث في سوريا بقراءة لبنان!

إنّها الحربُ الأهليّة خاصّتنا، فلمُنا الأميركي الطويل، بطريقة أكثر عنفاً وتشوّهاً، وبخسارة أشدّ من حيث البلاد واقتصادها والمحبّة بين ناسها.

إنّها طبقاتنا المثقّفة المزيفة والمُدعية، التي تحمل الهَشاشة والتعتير، وتحلم بالثورة والتغيير. هأنا مجدّداً أمام العرّاف والمقاوم الحقيقي زياد، في كلّ ما كان سبّاقاً في طرحه حول لبنان، أعيشه في سوريا: «ما فيه أقوى من التعتير، هيدي حكيان عنّا أنا بالفصل التالت: التعتير، ميزات التعتير، أيديولوجية التعتير. إنتو حاملين أخطر ســلاح بإيديكم. الثورة هي الدوا. إنتو راضيين عن وضعكم شي؟ / - عم يحتكروننا/ - عم يحتكروككن... عم يحتكروككن!» (نزل السرور).

من البديهي رجوعي الدائم إليه، إذ قلّة التي اتّسقت مسيرتها الفكريّة وأعمالها مع أفعالها. حدّثنا مطوّلاً عن الثورة الجاهلة، قبل فورات الربيع العربي جميعها. فورات لم تُنتج مسرحاً ولا فنّاً ولا جمالاً ولا قيماً ولا أخلاقاً. لم تُنتج سوى الدم والجوع والتطرّف، وبلغ قُبح أتباعها، الذين خرجوا لأجل حرية الرأي، بأن انتقدوا في نعيه حرية رأيه حيال فوراتهم.

زياد لم يخن قناعاته، وبقي مُنحازاً إلى الحقيقة العارية، رافضاً أن يكون جزءاً من الزيف العام الذي التهم الثقافة والسياسة والفن، في زمن التصهين، والتطرّف، وتعفّن الثورات. حيثُ يكون بفنّه وسخريته ومسرحه وبرامجه وأغانيه... تكون الثورة.

 

####

 

عن شعب عظيم «بيفرد»

لور شدراوي

تكاد ست سنوات تمر على الانهيار المالي والبونزي الذي لم يعد أحد يتحدث عنه. المصارف عادت إلى واجهة الإعلانات ورعاية نشرات الأخبار والبرامج السياسية. هنا حيث الاعتماد بات شبه كلي على الطاقة الشمسية، نلوم الغيوم على انقطاع الكهرباء.

تكاد ست سنوات تمر على الانهيار المالي والبونزي الذي لم يعد أحد يتحدث عنه. المصارف عادت إلى واجهة الإعلانات ورعاية نشرات الأخبار والبرامج السياسية. هنا حيث الاعتماد بات شبه كلي على الطاقة الشمسية، نلوم الغيوم على انقطاع الكهرباء. من يعلم، غداً قد نعود إلى عبادة آلهة الشمس، ونقدم الذبيحة لإله المطر ليُبعد غيومه عن ألواح الطاقة ويملأ بطاريات الليثيوم.

هل الحق على الزعماء والشعب «معتّر» أم العكس؟ يناقش المرضى مع الممرضين هذه المسألة في مسرحية «فيلم أميركي طويل» لزياد الرحباني، ولا نزال نعلك السؤال ذاته في هذه العصفورية.

رئيس حزب «مواطنون ومواطنات في دولة» شربل نحاس شديد الدقة في توصيفه عندما يردّد بأن «شعبنا ارتضى الرشوة على مدى 30 عاماً». جملة يفترض أنها تختصر إجابة، كانت لتكون طويلة ومعقدة، على سؤال: أين ذهبت الأموال. المشكلة ليست في التوصيف. فمن أراد أن يفهم الانهيار المالي وكيف وصلنا إليه لن يجد أفضل من الشرح الذي يقدمه نحاس إن كان في مؤلفاته أم في جميع محاضراته ومقابلاته. المشكلة هي أن الإنكار الذي يعيشه شعبنا ويتحدث عنه نحاس كثيراً، لا ينتهي بمجرد أن يعترف الطبيب للمريض بأنه يعاني منه.

الإنكار في علم النفس آلية دفاعية لحماية النفس من الشعور بألم يفوق قدرة المرء على الاحتمال. بكلام آخر، ورغم أنها تعمي عن الحقيقة، لكنها في اللاوعي مفيدة للاستمرارية. الخروج من الإنكار يتطلب أن يلمس المريض بنفسه ويثق بأنه لن يتأذى من جراء تخليه عن هذه الآلية الدفاعية. وهنا يكمن العمل الشاق. التوصيف وإن أصاب بدقة، وحده لن يحقق نتيجة. الصدق والشفافية يلمسان عقل الإنسان الذي يفتش عن المعرفة. لكن في الحقيقة، معظم الناس تبحث عن الراحة وليس المعرفة. لذلك، التشخيص الصائب وإن ترافق مع وصفة علاج ناجعة، لا ينفع ما لم تفلح بإقناع المريض بالسير به.

السيد الشهيد حسن نصرالله كان يخاطب جمهوره ويقول «يا أشرف الناس». حتى الرئيس ميشال عون في أوج شعبيته توجه لمحبيه بـ«يا شعب لبنان العظيم».

صحيح هذا الشعب ليس تماماً لا هذه ولا تلك… لكنه ربما أيضاً هذه وتلك أحياناً. الخطاب الجماهيري له سياقه وأهدافه. وزياد الرحباني الواضح بسخريته من الشعب «العنيد» لم يفقد الأمل، بل قال «إن التاريخ يفاجئك أحياناً».

خرج جورج عبدالله من سجنه وتوجّه بالنقد واللوم إلى الشعب قائلاً إنه لن يخاطب الأنظمة التي نعلم أنها عميلة. نقد زياد الرحباني عبر السنوات تركّز أيضاً على النفاق الاجتماعي والعلل النفسية في تركيبة الشخصية اللبنانية، والخلل البنيوي في المجتمع الذي «بيفرد» وليس النظام.

ناصر زياد الرحباني الفقراء، ولكنه انتقدهم أيضاً: «الفقراء عنا منزوعين، شو بس الأغنياء الهم حق يكونوا منزوعين؟ شعب هيدا، لبناني، كلو هيك منزوع، منزوعين الفقراء عنا، بس فقراء». وناصر اليسار وانتقدهم: «في وحدة يسارية صديقتنا بتصرف صرف ع حالها فيها تكسر السوق الأوروبية المشتركة بمصروفها، وبنفس الوقت مناضلة، حدّة وعنيدة وعندها نفس طويل وشرسة ويسارية. شو هاليسار هيدا مش سامع فيه قبل».

يعرّي زياد الرحباني شخصية اللبناني كما لم يفعل أحد، مسرحياته مرآة لعيوبنا، نضحك ولا نتغير، يسخر منا ونسخر من أنفسنا، لكننا نعود و«منفرد»، ثم نلعن الطقس على غياب الكهرباء وعلى حظنا البائس.

 

####

 

شارع الحمرا هو أنت

فرح الهاشم

من غرفة نوم زرقاء في الكويت، تبعد ألفاً ومئتين وثمانية وثمانين كيلومتراً عن بيروت، جلستُ أكتب.

من غرفة نوم زرقاء في الكويت، تبعد ألفاً ومئتين وثمانية وثمانين كيلومتراً عن بيروت، جلستُ أكتب.
الجدران حولي تحمل وجوهاً أليفة: السيّد حسن نصر الله، فريد الأطرش، وبيلي هوليداي، وابتداءً من اليوم... زياد الرحباني. لأنك، ببساطة، من أهل البيت، يا زياد
.

لا أذكر متى أحببتك تماماً، لكن المؤكّد أن حبك سبق إقامتي في بيروت. منذ عام 2023، قلبي المعتاد على الفقد لم يخلع الأسود، لا في شتاء ولا في صيف، منذ رحيل عصام... صديقي، ضحكة شارع الحمرا وروحه.

بعده، دخلتُ في خصومة مع الحياة كمبدأ، وصرتُ أتساءل: ما المعنى الآن؟ ما الذي يدفعني إلى الاستمرار؟ ربّما فلسطين، لكنّ رائحة الدم لم تغادر هواءنا يا زياد.

قد لا نكون التقينا وجهاً لوجه، وإن كنتُ قد انتظرتك ذات مساء... أنا وأمي، ساعة ونصف ساعة على مسرح حديديّ في ساحة البرج سابقاً. كنتَ تغنّي، وكنتُ أُصارع نزلة برد عنيدة، لكنني أكملتُ السهرة رغم المرض، أتشبّث بموسيقاك التي صدحت من موقف سياراتٍ في مدينةٍ بلا مسارح... يا للعار، يا زياد، أن تكون بيروت بلا مسارح! لكن موسيقاك، تحت ضوء القمر، ومع انقطاع الكهرباء أكثر من مرّة، منحتنا لحظة نادرة من الخشوع... لحظةً سمعنا فيها صوتك مختلطاً بضجيج هذه المدينة، كأنّه صلاة خافتة من زمن آخر.

كنت حاضراً في يومياتي البيروتية منذ عام 2003، وسمعتُ صوتك على الكاسيت، والسي دي، والديجيتال، والفينيل. لا شيء يُضاهي صوتك المحكوك الخارج من أسطوانة 33، في غرفةٍ أثاثها أحمر، وشرفتها تطلّ على حديقة الصنائع وسينما «الكونكورد»، وأنا بيدي كأس نبيذ، لا أحتاج معه لا إلى حبيبٍ ولا إلى صديق. «عايشة وحدي بلاهم».

كنتُ راضية بوحدتي، وصوتك يملأ المكان.

صوتك صديقنا جميعاً. هل تعلم ذلك يا زياد؟ لقد ربطنا أغانيك بمناسباتنا الشخصيّة. «عايشة وحدا بلاك» ارتبطت بعيد ميلادي الثامن عشر وطعم فطيرة السبانخ من سناك «الفيصل». «اسمع يا رضا» تعيدني إلى كزدورة في تاكسي بيروتي قديم مع أمي، نمرّ من المنارة إلى الروشة فالحمرا. أما «بلا ولا شي»، فترتبط بأوّل حبّ، وأوّل موعد غرامي في «كافيه دو باريس» مع زميل ثائر من الجامعة. «قوم فوت نام» تذكّرني بحرب تموز 2006، حين لم أنم ثلاث ليالٍ متتالية، أراقب بيروت من رأس النبع، تغرق تحت غيمة سوداء من القصف الإسرائيلي، ونحن في طريقنا إلى برمانا، أتساءل: هل ما تزال هذه البلاد بلداً؟

كنتُ أدرس في الجامعة اللبنانية الأميركية، وأهرب مع صديقة بين المحاضرات لنشتري ثياباً من «فيرو مودا»، ثم نحتسي قهوة باردة من «كوفي بينز» عند أول الحمرا. وكان لي طقسٌ يوميّ: أمشي الشارع من أوله إلى آخره، كأمٍّ تمرّ على غرف أولادها لتتفقّدهم. كأنّ في رقبتي مسؤولية أن أطمئن أن شارع الحمرا وناسَه بخير.

بدأت حكايتي مع الحمرا حين أخذتني والدتي إلى مقهى «الهورس شو» قبل إغلاقه بسنتين. تناولت برغر من «الويمبي»، على طبق أبيض مزين بالخس والمخلل... وما يزال طعم ذلك المخلل في فمي حتى اليوم.

رصيف الحمرا حفظ خطايَ، وخدوش أحذيتي. دخولي إليه كان طقساً روحيّاً: وضوءٌ من نسمة هواء، وعيونٌ تراقبك من كل الجهات؛ على يمينك كاتب، على يسارك شاعر، أمامك فتاة تصنع فيلماً، وخلفك زياد الرحباني يتحدث مع نعيم بياع الجرائد، أو يحتسي كأساً في «بارومترو».

كنت تظهر في «بلو نوت». البارتندر يعرفك، الزبائن يعرفونك

كنت تظهر في «بلو نوت». البارتندر يعرفك، الزبائن يعرفونك. وإن لم يكونوا من المقرّبين، فهم من الدائرة الأوسع. وأنا... كنت صديقتك من بعيد.

كما تشرق الشمس وتغيب، كما يُفتح مطعم «بربر» ويُغلق، كما يُغلق «تاء مربوطة» منتصف الليل، ونعيم يلمّ الجرائد، كنت جزءاً من نَفَس هذا المكان. مهما تغيّرت ملامح الشارع، بقي قلب الحمرا نابضاً: الشجرة الكبرى قرب «فندق كفاليير»، وبائع الأحذية والنظارات أمام «ستاربكس»، وبائع الجرائد الذي يجلس كل أحد في فصل الصيف مع صحن بطيخ وجبنة، يلتفّ حوله العاملون في هذا الركن من الشارع أنت كنت هنا معنا.
حتى بعد إغلاق «البيكاديللي»، وتحول «الكوليزيه»، ونقل «مترو المدينة»، وإقفال «بابل»، وتغيير أسماء المقاهي مراراً… كان زياد لا يزال هناك
.

سكنتُ قرب حديقة الصنائع، ثم انتقلتُ إلى شارع الطائفة الدرزية ثم إلى «جان دارك». كنتُ أمشي إلى جامعتي مروراً بوزارة الثقافة، فـ «البريستول»، فبيت الحريري.

الحريري استُشهد، عصام استُشهد، جورج حاوي استُشهد، خليل الحاوي قتل نفسه... وعلوان ما تزال صورته تذكّرنا بمن حاولوا الشراء بالشيكل في بلدٍ لا تُشرى فيه الأرواح.

مررتُ بـ«بربر»، بمحطة البنزين، بالدكانة التي رفضت صاحبتها المهضومة دائماً إعطائي فراطة ومحمد، سائق الديليفري، كان يُحضِر لي ما أطلبه ولو لم يكن على طريقه. ما بين طلبية ماء وسندويش فلافل، كان يحضر لي بطاقة شحن للهاتف. عبثية؟ لا. هذه عبثية مرتبة... اسمها بيروت.

لكن خلف كلّ ذلك، كان هناك الجنون. في حرب تموز، كنت في الجامعة حين قُصف المطار. كنت وحدي مع استاذتي في السادسة صباحاً، نسمع صراخاً لا يُنسى. قلتَ يومها يا زياد إن الفيلم الأميركي الطويل مستمر... والمأساة أنّه لم ينتهِ. والمأساة الأكبر... أنّك الآن غادرت وتركتنا في منتصفه.

كنتُ أرجوك أن تنتظر النهاية السعيدة، رغم أنّك دائماً ما قلت إن الحياة ليست فيلماً. لكنني، كسينمائية، أقول لك: الحياة فيلمٌ من صنع خيال الله، وعندما ننام فقط... نستفيق منه.

أتذكر ليلة عيد ميلادي الثامن عشر. كنت أعيش وحدي، بعيداً من أهلي. نزلتُ مع صديقة نبحث عن مكان نحتفل فيه، فلم نجد إلا «سناك الفيصل»، في آخر «شارع السادات». طلبنا فطيرتي سبانخ، والمكان يشغّل «عايشة وحدا بلاك». رددتُها. لم أكن بحاجة إلى رجل، ولا إلى أهل، فقط إلى صوتٍ يخبرني أنّ الوحدة ليست عيباً.

كنت أفتّش عن ليرات بين جيوب الجينز الملقاة على أرض غرفتي، لأشتري كأس بيرة «المازة». ومع موسيقاك، شعرتُ أنني حرّة، بلا قوانين، وأنك، بنوتاتك، تعيد صياغة حياتي كما لو أنّها فيلمٌ يُكتب من جديد.

صوتك يشبه مذيعي السبعينيات، أولئك الذين نقع في حبهم قبل أن نراهم. وسخريتك من كلّ شيء... كانت بوصلتي.

ذهبت إلى «بلو نوت» مرّة واحدة مع عصام. أما باقي الوقت، فقضيته في «مترو المدينة». موسيقاك دائماً في الخلفية: في الشارع، في المقهى، في صفحات الجريدة، في الأماكن التي تتبدّل أسماؤها ولكن الحمرا «تبقى زي ما هي».

شارع الحمرا هو أنت: لو صار زياد شارعاً، لكان الحمرا. ولو كانت الحمرا إنساناً، لكانت زياد.

زياد الذي أحبّ الحياة، النساء، النبيذ، العزف، النكتة، والمسرح. زياد الذي لم يتغيّر، لم يتكبّر، لأنه كان حقيقياً. والحقيقيّون... قِلّة.

نحن اليوم في زمنٍ لا يُشبهك. زمنٌ تافه. أعيشه وأنا محشورةٌ في زاوية، وبيدٍ على عنقي تخنقني كلّ يوم. هذا ما أشعر به حين تموت أنت، ويموت السيّد، ويموت أهل غزّة كلّ يوم، محاصرين بالكذب من كلّ الجهات.

زمنٌ لا أعرف كيف أعيشه.

لكنّني أتذكّرك. أتذكّر رائحة دبس الرمان في مطعم «ريغستو»، ورغوة البيرة على أنفي في «بارومتر»، وضحكات الليل في «أبو إيلي». أتذكرك في ليالي وصباحات شارع الحمرا، حيث لا نعرف أسماء الجميع، لكن نحفظ وجوههم، ونشعر أننا ننتمي.

أمّي هي من عرّفتني إليك. علّمتني الموسيقى، وعبرك أحببت الجاز… لا من مايلز ديفيس، بل منك.

لبنان، من رطوبة المنارة، إلى قهوة «الأنكل ديك»، إلى ليالي فاريا الباردة، كان وطناً بلا طائفة، بلا كره، بلا قرف. حتى تحت القصف والاغتيالات، تعلّمت أن أحب، أن أعشق، أن أعيش على تفاصيل صغيرة.

وبالنسبة لبكرا شو؟

على طريق القدس، يا زياد... نلتقي.

 

####

 

يوم هجّ زياد من البلاغة الرحبانية... وسقط أبو الزلف على الخشبة

يوسف شرقاوي

زياد الرحباني بدا غريباً، ومع ذلك فإنه طافح بالألفة. نصه غريب، ومع ذلك طافح بالألفة. موسيقاه غريبة، ومع ذلك طافحة بالألفة

«وكلٌّ يخاف على حِبره، ولا يُعطي منه الآخر». (زياد الرحباني ــ من ديوانه «صديقي الله»)

الغريب الأليف

تتم الغرابة، كما يقول ابن رشد في تعليقه على فن الشعر لأرسطو، «بإخراج القول غير مخرج العادة».

«والصفة الجوهرية في لغة القول تكون واضحة من دون أن تكون مبتذلة، وتكون واضحة كل الوضوح إذا تألفت من ألفاظ دارجة، لكنها حينئذ تكون ساقطة... وتكون نبيلة بعيدة من الابتذال إذا استخدمت ألفاظاً غريبة عن الاستعمال الدارج، وأقصد بذلك: الكلمات الغريبة الأعجمية، والمجاز، والأسماء المحدودة، وبالجملة كل ما هو مخالف للاستعمال الدارج».

يبرز أرسطو العلاقة بين الغرابة والألفة، فمن ناحية هناك الوضوح والابتذال والسقوط والاستعمال الدارج، ومن ناحية أخرى هناك النبل والبُعد والغرابة. «فإنّ العجيبات إنما تكن من البعيدات - وما يحدث العجب يحدث اللذة».

زياد الرحباني بدا غريباً، ومع ذلك فإنه طافح بالألفة. نصه غريب، ومع ذلك طافح بالألفة. موسيقاه غريبة، ومع ذلك طافحة بالألفة.

لا تظهر الغرابة إلا في إطار ما هو مألوف. الغريب هو ما (مَن) يأتي من منطقة خارج منطقة الألفة ويسترعي النظر بوجوده خارج مقرّه.

زياد، ابن السابعة عشرة، يبني مكاناً أليفاً في «سهرية» (1973)، مكاناً رحبانياً مألوفاً، أقل مما يفعله الرحابنة عادة، ولكنه محاكاة تامة للأعمال الرحبانية. يبني زياد هذا المكان، على نحوٍ مألوف تماماً، ثم يظهر غريباً عنه، بشخصية «أنطوان»، ولا يحكي كلمة واحدة إلا بعد أن تقترب المسرحية من نهايتها.

جالساً إلى طاولة في صدر المسرح، سكراناً مترنحاً، ضحكته غريبة، مجلجلة، ضحكة تعلن عن بدء القطيعة مع اشتغال الرحابنة، داخل اشتغالٍ رحباني مُحاكى، يعلن زياد عن نفسه. نحو ربع ساعة من زمن «سهرية» يوظفها زياد في ثرثرة لا علاقة لها بعالم «سهرية» ولا مزاجها ولا حكايتها، بل يبدو العالم - عالم زياد هذا - هارباً من أعماله اللاحقة: من زكريا ورشيد، بوجهٍ خاص.

يسترعي زياد النظر في وجوده داخل المنظومة الرحبانية، ولكنه خارجها تماماً، يهرب من منظومة البلاغة الرحبانية إلى بلاغته الخاصة. وحين يصبح في وسعه أن يجترح لنفسه بلاغةً بعيدة عن البلاغة التراثية اللبنانية كلها، يفعل ذلك في «شي فاشل» (1983)، بسقوط أبو الزلف المفاجئ على خشبة المسرح: «أنا جايي من التراث خصوصي لشوفك، باسم زملائي أبو الميج، دلعونا، روزانا، ميجانا، أبو الهيبة، and every body».

هل بدأت بلاغته وتثويره بعد اجتياح 1982؟

هذا السقوط، تماماً، هو أبدع ما يفعله زياد، لأنه يختصر النظرية، ونقاشات التراث والمعاصرة، ومحاججات الوسط الثقافي، وهو ما يصفه بول مخلوف بـ «نحو بلاغة معاصرة احتجاجية رافضة، أي إنها مانيفستو حداثي للغة آناً، وتثوير للذات آناً آخر، وهما لا ينفصلان أصلاً».

لكن، هل بدأت بلاغة زياد وتثويره بعد اجتياح 1982، أم في تلك المسافة الفاصلة بين «سهرية» و«نزل السرور» (1974)؟

الرفيق الذي يوجِّه نجمَ مولدنا

يعود أصل كلمة «عبقري» genius، إلى العصور الرومانية القديمة. في اللغة اللاتينية، تُستخدم الكلمة لوصف الروح الحارسة (الحامية) لشخص أو مكان أو منشأة، الأمر الذي ربط هؤلاء الأشخاص (العباقرة) بقوى القدر وإيقاعات الزمن.

ومثلما هي الحال بالنسبة إلى كلمة «دايمون» diamon اليونانية التي تصبّ في المعنى نفسه أيضاً، كان يُعتقد أنّ «جينياس» أو الروح الحارسة هذه تُلازم المرء من المهد إلى اللحد.

مع ذلك، فإنّ الكلمة، في تعاريفها السابقة، لم تكن قد اكتسبت بعد معناها الرئيسي المعاصر، حتى عصر التنوير. فهوميروس، على كل التقدير والإجلال الذي حظي به طوال ألفيّتين، لم يُمنح لقب «عبقري» بمعناه الذي نعرفه، إلا مع القرن الثامن عشر، ليس من «جينياس» هذه المرة، بل من «إينجينيوم» ingenium، التي تعني قدرة طبيعية أو مقدرة فطرية، أو موهبة.

ينطبق على زياد الوصفان معاً، تراجيدي إغريقي مغمور، وقد يكون من أواخر التراجيديين المعاصرين. لكن، أكثر ما ينطبق عليه، في أدبيّات محبّيه، حتى اليمينيين منهم، أنه «رفيق».

ورد أنّ هوراس، الشاعر، كتب في أبيات له تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد: «الرفيق الذي يوجِّه نجمَ مولدنا».

منذ متى اكتسب زياد هذا اللقب؟ ربما، منذ دوى صوته في «نزل السرور» (1974): «اعطيني رشّاش لولادي، ثورة وحدة».

منذ ذلك الوقت، سوف يصبح زياد امتداداً ثورياً رومانسياً للحالمين، وللعالقين هناك، في «الثورة العالمية» و«النضال الأممي».

«نزل السرور» التي يروي الشريط السينمائي الترويجي لها الآتي: «شهد مسرح «أورلي» ولادة نابغة في لبنان الذي هو زياد الرحباني، ابن فيروز وعاصي، الذي برهن عن طاقة مذهلة في التأليف والتلحين، فجاء عمله هذا من أجمل وأكمل ما شهده المسرح اللبناني حتى اليوم. سوف يتحدث العارفون كثيراً عن «نزل السرور» وأبعاد هذا العمل الكبير»، ليست إلا تحية للرفاق الذين صار زياد في ما بعد، بأسلوبه الخاص، منهم: فوساكو شيغينوبو، كوزو أوكوموتو، أندرياس بادر، أولريكا ماينهوف، علي شعيب وجهاد أسعد ومرشد شبّو. «نزل السرور» هي احتفاء باليسار الذي تعرّف إليه زياد وتلقّفه، ثم صار منه.

هي كذلك بداية مانيفستو الحداثة اللغوية والبلاغية، وبداية التثوير: لا تثوير الذات فقط، بل تثوير الآخر، من دون أيديولوجيا. من أجل هذا يتردد صداها، لا لأنها نبوءة بحرب السنتين فقط، بل لأنها نداءٌ مستمر. «نزل السرور» هي أكثر أعمال زياد التي تغيّر، ولا تتغيّر.

سندباد المسرحيات السبع

تتكون حكاية السندباد، كما تجيء في «ألف ليلة وليلة» من سبع حكايات يرويها السندباد البحري بنفسه ويصف فيها ما جرى له في أسفاره السبعة، وهناك حكاية أخرى مؤطرة، تقوم شهرزاد بروايتها لشهريار، وهي حكاية لقاء السندباد البري بالسندباد البحري. لزياد البحري أسفاره السبعة: «سهرية»، و«نزل السرور»، و«بالنسبة لبكرا شو»، و«فيلم أميركي طويل»، و«شي فاشل»، و«بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، و«لولا فسحة الأمل».

ولنا، نحن شهرزاد، لكلٍّ منا حكايته التي يريد منها أن تؤطر أسفار زياد، فيرويها على هواه، ولكلٍّ منا، أيضاً، حكاية لقائه بزياد البحري، إلى حد أن نقتسم معه «اسمَه».

«وصار كل مَن سمع بقدومه يجيء إليه ويسأله عن حال السفر وأحوال البلاد فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه».
«
لكن حدث بعد السفرة السابعة أنّ الشمس لم تعد تنشط إلى الدوران». يجيء في الحكاية، حكاية زياد، وحكايتنا
.

 

####

 

«الحكي عليه جمرك»... إنه ضريبة العيش

بول مخلوف

بالهجاء وبالسخرية وبالتمرد، كان «يجود» في وصف الهزائم والخيبات والنهايات منذ أن كان صوته ناعماً حتى صار أجهش ثخيناً

«واليُتم يُتم الفقدان الأبدي. الفرادة، لا الصلة ولا النسب. فرادة تقف مثل علامة على عتبة أشياء، وعند منعطف عوالم ذات أبواب مغلقة»

(بسام حجار عن أنسي الحاج)

تحتلّ اللغة مكانة جوهرية في مشروع زياد الرحباني إلى حدٍّ يصير مستعصياً الفصل بين زياد الرحباني الشخص وزياد الرحباني الفنان. حين نستمع إلى مقابلات زياد الرحباني الإعلامية، نجد أنّ الشخصيات التي أدّاها في المسرح أو في الإذاعة («العقل زينة»، «تابع لشي تابع شي»...) تتماهى حدّ الامحاء مع شخصه، وقد يخيّل لنا أنه لو قصصت هذه الشخصيات على طريقة الكولاج ولصقت لتولّد شخصية واحدة، لأتت على صورته وحملت اسمه. ابتكر زياد الرحباني نظاماً لغوياً أسَره قبل أن يأسر شخصياته المسرحية.

اللغة عند زياد الرحباني ليست مجرد إشارات ورموز وكلمات، بل هي تتألف، في الدرجة الأولى، من الصوت. مع الرحباني لا تقف اللغة عند حدود القول، إنما تتعداه أبعد؛ اللغة ليست في القول فقط، أي أن تقول، إنما في كيفية القول نفسه، أي كيف تقول ما تقوله.

هذا الذي نتجرأ على وصفه أسلوباً «زيادياً» هو أكثر من أسلوب، في حال كان تعريفنا للأسلوب بأنه مجرد وسيط ناقل. ذلك أنّ نظام الرحباني اللغوي قائم على تعالق الكلمة مع الصوت، فلا فائدة من قول أي كلمة إنْ لم تخرج الكلمة «بنبرة» محددة.

يأتي الصوت، أو النبرة، باعتباره طبيعة «الحالة»، أي الانفعال، في حين أنّ الكلمة تحضر كتوصيف/ تعبير عن «الحالة»، الانفعال. فالمعنى عنده لا يختمر من دون لفظ الكلمة بالشكل الصائب. على أنّ اللفظ «الصائب» هنا لا علاقة له إطلاقاً بمخارج الحروف التي يشذّ عنها الرحباني نفسه في الكثير من المرات، إنما يعني «الإلقاء» المناسب للكلمة عقب النطق بها. هكذا، يغدو الأسلوب هو المضمون كما يقول الشكلانيون الروس، مهما اختلف الرحباني (وفنّه) مع (وعن) نظرياتهم.

مع زياد الرحباني يصبو الحكي إلى تجربة أدائية، بل يصير الحكي أداءً حقيقياً لا يتوخّى المشهدية. كأنه أعطى للشفهية مقاماتٍ موسيقية خاصة حتى لا يبقى للصمت أي أثر.

أخرج لسانه في وجه الفصاحة وكلاسيكيات البلاغة وفي وجه العالم أيضاً

لغة زياد الرحباني فإذن هي لغة كلام، لغة حكي؛ حديث. إنها لغة تقوم على الانفعال لا على النحو والصرف والصرامة العقلانية. لذلك، يقف زياد على الجهة النقيضة من الفصاحة وما يُصنّف «فصيحاً». ربما لأن الفصاحة تشترط قوالب وأنساقاً ما يعني لجم العفوية، بالتالي، تهذيب «الحالة»، أي كتم الصوت. لقد «عكف» زياد عن المعجم «باحشاً» عن بلاغةٍ «مادية» مجرّدة من الأساطير والإنشاء والسكون وتؤمن بالصدى. لغته محسوسة، «واقعية فجّة»، مسموعة فيها هزّة. إنّ معجمه ببساطة بشري: من الإنسان تأتي الكلمة وإلى الإنسان تعود.

«المحتار، المنهار، الثرثار»

واللغة عند زياد الرحباني مسموعة فيها هزّة لأن قائلها، أي الرحباني بذاته، مهزوز، وهو ينوي هزّ من يستمع إليه ليحثّه على الإبصار عن طريق السمع.

بلى، إنّ الحكي عند زياد الرحباني «عليه جمرك»: إنه ضريبة العيش المتوجّب دفعها. يبدو العالم عند الرحباني «موضوعاً» طافحاً بالإشارات والرموز، فيما الإنسان، بوصفه «ذاتاً»، فهو كائن صوتي. تنبت اللغة عند الرحباني من هذه العلاقة بين «الموضوع» و«الذات» التي تعلّمت أبجدية تلك الإشارات والرموز وقد أضفت عليها بُعداً صوتياً. لكن زياد الرحباني رأى أنّ اختلالاً يصيب العالم؛ العالم فيه عطب، إنه «معطوب»، وإذا لم يكن بالإمكان إصلاحه ولا تغييره، فيجوز (أو يجب) انتقاده، وتفكيكه، بل «التطريب» على حال عطبه.

وفي الطرب يُفسَح المجال للصوت للانفلات. والحال، فقد كانت لغة زياد الرحباني «جوّادة» ونفَسها طويل. بالهجاء وبالسخرية وبالتمرد، كان الرحباني «يجود» في وصف الهزائم والخيبات والنهايات منذ أن كان صوته ناعماً حتى صار صوته أجهش ثخيناً.

أخرج الرحباني لسانه في وجه الفصاحة وكلاسيكيات البلاغة وفي وجه العالم أيضاً؛ لسانه حَمَل ما يُعدّ ويُعتبر حشواً وإطناباً، هكذا كان كلامه عن الاعتلال الذي ينخر وجودنا فائضاً.

في إحدى حلقات «العقل زينة»، عرّف عن نفسه ممازحاً بأنه «العظيم، المختار، المحتار، المنهار، الثرثار».

لكن الثرثرة عند الرحباني ليست النميمة ولا الفتك ولا الهذيان. إنها الإفراط في اللغة، في الكلام. تحضر الثرثرة عنده كمونولوغ دراميّ طويل، كفسحة ارتجال يعرفها عازفو الجاز عندما يطلقون العنان للوجوم، الذي وصفه الرحباني بأنّه «حزن من خمس نجوم». إنه الارتجال، فإذن، إنها الحرية. تبدأ ثرثرة الرحباني في لحظات الانهيار كرفض تامّ لحريةٍ مسلوبة.

عندما يصير «الموضوع» (العالم) معقداً وإشاراته ملتبسة، يرفض الكائن الصوتي الإذعان للصمت المطبق، ويتمسّك باللغة لأنه متمسّكٌ بها، ولو جاءت لغته مبعثرة ومفككة و... حائرة.

فن الاستطراد

وعلى هذا النحو، كان زياد الرحباني فنان الاستطراد. لم يكن استطراده طعنة موجّهة لنديمه بقدر ما كان استرسالاً عنيداً عن فكرةٍ لم يقبض عليها بعد، أو عن «حقيقة» لم يعترف بها «الشعب العنيد» ولم تشكّل «حساً عاماً»، فشعر جرّاء ذلك بذهول فظيع. اللغة عند الرحباني، مهما بدا صاحبها في حالة «هسترة متواصلة ومستميتة» كما وصّف بسام حجار لغة أنسي الحاج في ديوان «لن». إلا أنها تكاد تكون أداة تفتيش صوفية.

اعتاد الرحباني أن يستطرد كمن «يفز» من «الشباك» لينزل إلى «المطعم»، ومن ثم القفز داخل «الشباك» من جديد. هكذا في شكل دائري وكأننا إزاء حفر وتنقيب لبلوغ النقاء. والاستطراد (الشفهي) الذي مارسه الرحباني ومارسته شخصيات مسرحه، لهو تقنية لغوية، بحيث أنّ التركيب اللغوي والصياغة «الزيادية» نابعة بجزء كبير منها من الاستطراد.

فاللعب على الكلام (صابونة/ صابوني)، وتلصيق كلمة بأخرى (ياسر عرفات حجازي)، وتغيير أحرف المفردة (بيروت/ بيرود)، إنما هو انتهاك للقواعد والبنية: تجاوزٌ ومجاوزة، انتقال دلالة المصطلح إلى دلالةٍ أخرى: استطراد متقن.

يتحوّل الاستطراد إذاً، إلى تجسيد بهيّ للتخريب والتجريب، لبلاغةٍ خلقها الرحباني اتكأت على «الخطأ» للهزء من المنطق، ولإبراز العطب الكامن في العالم: «80 بالمئة و80 بالمئة يعني 160 بالمئة». لا معنى لـ160 في المئة كما جاء في فيلم أميركي طويل، ولا معنى أيضاً لعبارة «أستبيحك عذراً» التي استعملها زياد الرحباني – مستطرداً – في مقابلةٍ أجراها مع سعيد غريّب، وحضر معه فيها رضوان حمزة وطلال حيدر ومطربون آخرون.

وعندما صحّح طلال حيدر خطأ زياد الرحباني، أصرّ الأخير على أنه قصد من عبارة «أستبيحك عذراً» استباحته للهواء، أي البث المتلفز. على هذا النحو، ينجح الرحباني لا في تسويغ «الخطأ» أو التصالح معه فقط، إنما في حجز مكانٍ لهذا الخطأ، وتوظيفه لتشكيل سياق أو توليد معنى، وكأن في الخطأ والاستطراد جغرافيا صالحة لتخصيب اللغة، لغته.

لسان غير قويم

ورد في مقالة بسام حجار حول ديوان «لن» لأنسي الحاج الآتي: «... ودفق لغوي يكاد، لتزاحمه، أن يصاب بالعيّ، والتأتأة. وهذه كلها نقائض الفصاحة واللسان القويم».

في حالة زياد الرحباني، نكتشف في لغته ـــ إلى جانب الثرثرة والخطأ والاستطراد ـــ التلعثم والتأتأة كظاهرتين صوتيتين وجدتا لنفسيهما مكاناً. يحل التلعثم والتأتأة كتعبير ثوري يجيء ضد الكلام المشدود، والمنطق غير النقدي، واللغة «المستقيمة».

إذا حضرت الثرثرة مع زياد الرحباني كتمسّك قويّ بالحرية وكرفض لعبثية العالم، وإذا كان الخطأ والاستطراد أشبه بـ«محرك للتاريخ اللغوي»، فإن التلعثم والتأتأة لا يعودان إلى ازدحامٍ في ميدان الأفكار، بقدر ما هما فراغات صوتية متعمّدة، أراد الرحباني عبرها تبطيء إيقاع الكلام، إما لاستكمال الثرثرة أو ليستعد للاستطراد.

لا أبطال في لغته، فهي انقلاب على البطل، والنظام، والمؤسسة

يبقى أنّ الأهم ما في التلعثم والتأتأة أنهما اختصار لطبيعة لغة زياد الرحباني السائلة، والذائبة، واللعوبة، التي تمُطّ وتشطّ، وتهبط نبرتها أو تصعد. هناك لعب موسيقيّ يحدث أثناء الحكي.

وفي كل الأحوال، فإن التلعثم والتأتأة قرينتان على لغة الرحباني «الأنتي-بطولية» (ضد البطل). لا بطل في مسرح زياد الرحباني، ولا بطل أيضاً في حياة زياد الرحباني.

من كانوا من المفترض أن يكونوا أبطاله، ثار عليهم في مسرحية «شي فاشل»، مثلما ثار على نخب حزبه، ووضع لغة حزبه على مشرحة النقد في «نزل السرور».

لا أبطال في لغة زياد الرحباني، إنما لغته لهي انقلاب على البطل، والنظام، والمؤسسة. كل ما يعدّ «مُنقذاً» يصير مع زياد الرحباني ظاهرة فتّاكة، بدءاً من الحب، مروراً بالأهل وصولاً إلى مفهوم الأمل. في التأتأة والتلعثم كنقيضين للفصاحة واللسان القويم، هناك انقلاب لغوي على اللغة؛ التأتأة والتلعثم كثورة خلقت لغة توشك أن تكون أغنية ملحمية.

الحوزقة و«الهمهمة»

من الصعب فصل زياد الرحباني الفنان عن زياد الرحباني الإنسان، ومردّ ذلك أنّ اللغة عنده كانت «ممارسة» قبل أن تكون قالباً نظرياً. ولأنّ اللغة عند زياد الرحباني – كما ذكرنا آنفاً – هي لغة كلام، لغة حكي، وليست فقط إشارات وكلمات ورموز، بل تقوم في الدرجة الأولى على الصوتيات، فإننا نعثر، إلى جانب «اللفظ الصائب»، والتأتأة والتلعثم، على «الحَوزقة» وعلى «الهمهمة».

في مسرحية «سهرية»، تعتري الشخصية التي لعب دورها الرحباني «الحَوزقة» من شدّة الثمالة؛ الشخصية الثملة في هذا المشهد كلامها قليل، تُفضّل «الحَوزقة» على الشرح والكلام والحوار: إنها معتكفة. تتكرّر «الحَوزقة» في أعمالٍ أخرى لزياد الرحباني، نسمعه «يُحوزِق» في أغنية «بصراحة» (ما تفتكري من بعدك بطّل يطلع زهور... «حَوزقة»)، وفي أغنية «بهنّيك» وأعمال أخرى.

تجيء «الحَوزقة» في سياقات الرحباني كما لو أنها فاصلة تخرّب المسار السردي، تُظهر حالة انقطاع عند الرحباني، وتكون أشبه بتعليقٍ ساخر على الموضوع المسرود، كأنّ «للحَوزقة» وظيفة: إنها أداة نفي. لكن خارج الأغنية والمسرح، يبرز عند زياد بشكلٍ جليّ ما يشبه هذه «الحَوزقة»، شيء ما يشبهها، لكنه يمكث في الناحية النقيضة منها؛ «الهمهمة».

وفي التعريف اللغوي، إنّ الهمهمة «هي الكلام المنخفض غير الواضح، وقد يكون مصحوباً ببحّة صوت». غير أنّ «الهمهمة» المقصودة هنا هي الإفراط في استعمال عبارة «همم» بدلاً من «نعم»، التي تخرج من الرحباني أحياناً مصحوبة ببحّة.

في مقابلاته مثلاً، نعثر على «الهمهمة» عندما يكون مُصغياً إلى محاوره، أو عندما يُدوّن ملاحظاته ويهزّ رأسه موافقاً وما إلى ذلك. و«الهمهمة» عند زياد هي الموافقة في «الدرجة صفر» على كلام المضيف قبل التوكيد عليه؛ فالـ«همم» المنطوقة أقلّ من «نعم» بقليل، لأنّ القبول «الأخير» للخطاب يحتاج إلى مشاركة الرحباني المُصغي وتقديمه إضافات، أي يحتاج إلى دوره في الكلام.

تُفصح «الهمهمة» إذاً بأنّ الخطاب، لكي يصير خطاباً «أخيراً»، يحتاج إلى «إيجابين»، أي إلى أن يجتمع الاثنان على الحديث بعد اشتراكهما فيه. وهذا درسٌ آخر حول دور الاشتراكية في بناء الحقيقة، عندما يتّحد اللسان في العمل «الإيجابي».

 

الأخبار اللبنانية في

02.08.2025

 
 
 
 
 

غسان الرحباني إلى ريما الرحباني: يا ساندة الأم الحزينة (صورة)

وسبق أن نشر صورة لزياد الرحباني بالأبيض والأسود وعلّق عليها بالقول: "وجعي".

المصدر: "النهار"

في حين اختارت عائلة الرحباني الصمت وعدم الإدلاء بتصاريح على أثر رحيل العبقري زياد الرحباني، عبّر غسان الرحباني، إبن عمّ زياد، عن تضامنه مع ريما الرحباني من خلال نشر صورة لها وهي برفقة السيدة فيروز، أرفقها بتعليق مؤثّر للغاية جاء فيه: " قلبي معَكِ يا سَانِدة الأم الحزينة".

وكانت الصورة قد التُقطت في مراسم دفن زياد، إلى جانبها ريما، ابنتها، التي لم تفارقها طوال الوقت.

وكان غسان الرحباني قد سبق ونشر صورة لزياد الرحباني بالأبيض والأسود وعلّق عليها بالقول: "وجعي"، في تعبير يعكس مدى حزنه على فراق ابن عمّه.

وفي مراسم وداع نجلها زياد الرحباني، حافظت السيدة فيروز على خصوصيتها المعهودة في مواجهة الألم، ملتحفة بصمتٍ بات أحد أوجه حضورها العميق في الوجدان اللبناني والعربي.

وقد بدا هذا في صورها التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كشفت النقاب عن عظمة الأم الصامدة، فكانت درساً إنسانياً يرمز إلى لبنان.

 

النهار اللبنانية في

02.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004