«الحكي
عليه جمرك»... إنه ضريبة العيش
بول مخلوف
بالهجاء وبالسخرية وبالتمرد، كان «يجود» في وصف الهزائم
والخيبات والنهايات منذ أن كان صوته ناعماً حتى صار أجهش ثخيناً
«واليُتم
يُتم الفقدان الأبدي. الفرادة، لا الصلة ولا النسب. فرادة تقف مثل علامة
على عتبة أشياء، وعند منعطف عوالم ذات أبواب مغلقة»
(بسام
حجار عن أنسي الحاج)
تحتلّ اللغة مكانة جوهرية في مشروع زياد الرحباني إلى حدٍّ
يصير مستعصياً الفصل بين زياد الرحباني الشخص وزياد الرحباني الفنان. حين
نستمع إلى مقابلات زياد الرحباني الإعلامية، نجد أنّ الشخصيات التي أدّاها
في المسرح أو في الإذاعة («العقل زينة»، «تابع لشي تابع شي»...) تتماهى حدّ
الامحاء مع شخصه، وقد يخيّل لنا أنه لو قصصت هذه الشخصيات على طريقة
الكولاج ولصقت لتولّد شخصية واحدة، لأتت على صورته وحملت اسمه. ابتكر زياد
الرحباني نظاماً لغوياً أسَره قبل أن يأسر شخصياته المسرحية.
اللغة عند زياد الرحباني ليست مجرد إشارات ورموز وكلمات، بل
هي تتألف، في الدرجة الأولى، من الصوت. مع الرحباني لا تقف اللغة عند حدود
القول، إنما تتعداه أبعد؛ اللغة ليست في القول فقط، أي أن تقول، إنما في
كيفية القول نفسه، أي كيف تقول ما تقوله.
هذا الذي نتجرأ على وصفه أسلوباً «زيادياً» هو أكثر من
أسلوب، في حال كان تعريفنا للأسلوب بأنه مجرد وسيط ناقل. ذلك أنّ نظام
الرحباني اللغوي قائم على تعالق الكلمة مع الصوت، فلا فائدة من قول أي كلمة
إنْ لم تخرج الكلمة «بنبرة» محددة.
يأتي الصوت، أو النبرة، باعتباره طبيعة «الحالة»، أي
الانفعال، في حين أنّ الكلمة تحضر كتوصيف/ تعبير عن «الحالة»، الانفعال.
فالمعنى عنده لا يختمر من دون لفظ الكلمة بالشكل الصائب. على أنّ اللفظ
«الصائب» هنا لا علاقة له إطلاقاً بمخارج الحروف التي يشذّ عنها الرحباني
نفسه في الكثير من المرات، إنما يعني «الإلقاء» المناسب للكلمة عقب النطق
بها. هكذا، يغدو الأسلوب هو المضمون كما يقول الشكلانيون الروس، مهما اختلف
الرحباني (وفنّه) مع (وعن) نظرياتهم.
مع زياد الرحباني يصبو الحكي إلى تجربة أدائية، بل يصير
الحكي أداءً حقيقياً لا يتوخّى المشهدية. كأنه أعطى للشفهية مقاماتٍ
موسيقية خاصة حتى لا يبقى للصمت أي أثر.
أخرج لسانه في وجه الفصاحة وكلاسيكيات البلاغة وفي وجه
العالم أيضاً
لغة زياد الرحباني فإذن هي لغة كلام، لغة حكي؛ حديث. إنها
لغة تقوم على الانفعال لا على النحو والصرف والصرامة العقلانية. لذلك، يقف
زياد على الجهة النقيضة من الفصاحة وما يُصنّف «فصيحاً». ربما لأن الفصاحة
تشترط قوالب وأنساقاً ما يعني لجم العفوية، بالتالي، تهذيب «الحالة»، أي
كتم الصوت. لقد «عكف» زياد عن المعجم «باحشاً» عن بلاغةٍ «مادية» مجرّدة من
الأساطير والإنشاء والسكون وتؤمن بالصدى. لغته محسوسة، «واقعية فجّة»،
مسموعة فيها هزّة. إنّ معجمه ببساطة بشري: من الإنسان تأتي الكلمة وإلى
الإنسان تعود.
«المحتار،
المنهار، الثرثار»
واللغة عند زياد الرحباني مسموعة فيها هزّة لأن قائلها، أي
الرحباني بذاته، مهزوز، وهو ينوي هزّ من يستمع إليه ليحثّه على الإبصار عن
طريق السمع.
بلى، إنّ الحكي عند زياد الرحباني «عليه جمرك»: إنه ضريبة
العيش المتوجّب دفعها. يبدو العالم عند الرحباني «موضوعاً» طافحاً
بالإشارات والرموز، فيما الإنسان، بوصفه «ذاتاً»، فهو كائن صوتي. تنبت
اللغة عند الرحباني من هذه العلاقة بين «الموضوع» و«الذات» التي تعلّمت
أبجدية تلك الإشارات والرموز وقد أضفت عليها بُعداً صوتياً. لكن زياد
الرحباني رأى أنّ اختلالاً يصيب العالم؛ العالم فيه عطب، إنه «معطوب»، وإذا
لم يكن بالإمكان إصلاحه ولا تغييره، فيجوز (أو يجب) انتقاده، وتفكيكه، بل
«التطريب» على حال عطبه.
وفي الطرب يُفسَح المجال للصوت للانفلات. والحال، فقد كانت
لغة زياد الرحباني «جوّادة» ونفَسها طويل. بالهجاء وبالسخرية وبالتمرد، كان
الرحباني «يجود» في وصف الهزائم والخيبات والنهايات منذ أن كان صوته ناعماً
حتى صار صوته أجهش ثخيناً.
أخرج الرحباني لسانه في وجه الفصاحة وكلاسيكيات البلاغة وفي
وجه العالم أيضاً؛ لسانه حَمَل ما يُعدّ ويُعتبر حشواً وإطناباً، هكذا كان
كلامه عن الاعتلال الذي ينخر وجودنا فائضاً.
في إحدى حلقات «العقل زينة»، عرّف عن نفسه ممازحاً بأنه
«العظيم، المختار، المحتار، المنهار، الثرثار».
لكن الثرثرة عند الرحباني ليست النميمة ولا الفتك ولا
الهذيان. إنها الإفراط في اللغة، في الكلام. تحضر الثرثرة عنده كمونولوغ
دراميّ طويل، كفسحة ارتجال يعرفها عازفو الجاز عندما يطلقون العنان للوجوم،
الذي وصفه الرحباني بأنّه «حزن من خمس نجوم». إنه الارتجال، فإذن، إنها
الحرية. تبدأ ثرثرة الرحباني في لحظات الانهيار كرفض تامّ لحريةٍ مسلوبة.
عندما يصير «الموضوع» (العالم) معقداً وإشاراته ملتبسة،
يرفض الكائن الصوتي الإذعان للصمت المطبق، ويتمسّك باللغة لأنه متمسّكٌ
بها، ولو جاءت لغته مبعثرة ومفككة و... حائرة.
فن الاستطراد
وعلى هذا النحو، كان زياد الرحباني فنان الاستطراد. لم يكن
استطراده طعنة موجّهة لنديمه بقدر ما كان استرسالاً عنيداً عن فكرةٍ لم
يقبض عليها بعد، أو عن «حقيقة» لم يعترف بها «الشعب العنيد» ولم تشكّل
«حساً عاماً»، فشعر جرّاء ذلك بذهول فظيع. اللغة عند الرحباني، مهما بدا
صاحبها في حالة «هسترة متواصلة ومستميتة» كما وصّف بسام حجار لغة أنسي
الحاج في ديوان «لن». إلا أنها تكاد تكون أداة تفتيش صوفية.
اعتاد الرحباني أن يستطرد كمن «يفز» من «الشباك» لينزل إلى
«المطعم»، ومن ثم القفز داخل «الشباك» من جديد. هكذا في شكل دائري وكأننا
إزاء حفر وتنقيب لبلوغ النقاء. والاستطراد (الشفهي) الذي مارسه الرحباني
ومارسته شخصيات مسرحه، لهو تقنية لغوية، بحيث أنّ التركيب اللغوي والصياغة
«الزيادية» نابعة بجزء كبير منها من الاستطراد.
فاللعب على الكلام (صابونة/ صابوني)، وتلصيق كلمة بأخرى
(ياسر عرفات حجازي)، وتغيير أحرف المفردة (بيروت/ بيرود)، إنما هو انتهاك
للقواعد والبنية: تجاوزٌ ومجاوزة، انتقال دلالة المصطلح إلى دلالةٍ أخرى:
استطراد متقن.
يتحوّل الاستطراد إذاً، إلى تجسيد بهيّ للتخريب والتجريب،
لبلاغةٍ خلقها الرحباني اتكأت على «الخطأ» للهزء من المنطق، ولإبراز العطب
الكامن في العالم: «80 بالمئة و80 بالمئة يعني 160 بالمئة». لا معنى لـ160
في المئة كما جاء في فيلم أميركي طويل، ولا معنى أيضاً لعبارة «أستبيحك
عذراً» التي استعملها زياد الرحباني – مستطرداً – في مقابلةٍ أجراها مع
سعيد غريّب، وحضر معه فيها رضوان حمزة وطلال حيدر ومطربون آخرون.
وعندما صحّح طلال حيدر خطأ زياد الرحباني، أصرّ الأخير على
أنه قصد من عبارة «أستبيحك عذراً» استباحته للهواء، أي البث المتلفز. على
هذا النحو، ينجح الرحباني لا في تسويغ «الخطأ» أو التصالح معه فقط، إنما في
حجز مكانٍ لهذا الخطأ، وتوظيفه لتشكيل سياق أو توليد معنى، وكأن في الخطأ
والاستطراد جغرافيا صالحة لتخصيب اللغة، لغته.
لسان غير قويم
ورد في مقالة بسام حجار حول ديوان «لن» لأنسي الحاج الآتي:
«... ودفق لغوي يكاد، لتزاحمه، أن يصاب بالعيّ، والتأتأة. وهذه كلها نقائض
الفصاحة واللسان القويم».
في حالة زياد الرحباني، نكتشف في لغته ـــ إلى جانب الثرثرة
والخطأ والاستطراد ـــ التلعثم والتأتأة كظاهرتين صوتيتين وجدتا لنفسيهما
مكاناً. يحل التلعثم والتأتأة كتعبير ثوري يجيء ضد الكلام المشدود، والمنطق
غير النقدي، واللغة «المستقيمة».
إذا حضرت الثرثرة مع زياد الرحباني كتمسّك قويّ بالحرية
وكرفض لعبثية العالم، وإذا كان الخطأ والاستطراد أشبه بـ«محرك للتاريخ
اللغوي»، فإن التلعثم والتأتأة لا يعودان إلى ازدحامٍ في ميدان الأفكار،
بقدر ما هما فراغات صوتية متعمّدة، أراد الرحباني عبرها تبطيء إيقاع
الكلام، إما لاستكمال الثرثرة أو ليستعد للاستطراد.
لا أبطال في لغته، فهي انقلاب على البطل، والنظام، والمؤسسة
يبقى أنّ الأهم ما في التلعثم والتأتأة أنهما اختصار لطبيعة
لغة زياد الرحباني السائلة، والذائبة، واللعوبة، التي تمُطّ وتشطّ، وتهبط
نبرتها أو تصعد. هناك لعب موسيقيّ يحدث أثناء الحكي.
وفي كل الأحوال، فإن التلعثم والتأتأة قرينتان على لغة
الرحباني «الأنتي-بطولية» (ضد البطل). لا بطل في مسرح زياد الرحباني، ولا
بطل أيضاً في حياة زياد الرحباني.
من كانوا من المفترض أن يكونوا أبطاله، ثار عليهم في مسرحية
«شي فاشل»، مثلما ثار على نخب حزبه، ووضع لغة حزبه على مشرحة النقد في «نزل
السرور».
لا أبطال في لغة زياد الرحباني، إنما لغته لهي انقلاب على
البطل، والنظام، والمؤسسة. كل ما يعدّ «مُنقذاً» يصير مع زياد الرحباني
ظاهرة فتّاكة، بدءاً من الحب، مروراً بالأهل وصولاً إلى مفهوم الأمل. في
التأتأة والتلعثم كنقيضين للفصاحة واللسان القويم، هناك انقلاب لغوي على
اللغة؛ التأتأة والتلعثم كثورة خلقت لغة توشك أن تكون أغنية ملحمية.
الحوزقة و«الهمهمة»
من الصعب فصل زياد الرحباني الفنان عن زياد الرحباني
الإنسان، ومردّ ذلك أنّ اللغة عنده كانت «ممارسة» قبل أن تكون قالباً
نظرياً. ولأنّ اللغة عند زياد الرحباني – كما ذكرنا آنفاً – هي لغة كلام،
لغة حكي، وليست فقط إشارات وكلمات ورموز، بل تقوم في الدرجة الأولى على
الصوتيات، فإننا نعثر، إلى جانب «اللفظ الصائب»، والتأتأة والتلعثم، على
«الحَوزقة» وعلى «الهمهمة».
في مسرحية «سهرية»، تعتري الشخصية التي لعب دورها الرحباني
«الحَوزقة» من شدّة الثمالة؛ الشخصية الثملة في هذا المشهد كلامها قليل،
تُفضّل «الحَوزقة» على الشرح والكلام والحوار: إنها معتكفة. تتكرّر
«الحَوزقة» في أعمالٍ أخرى لزياد الرحباني، نسمعه «يُحوزِق» في أغنية
«بصراحة» (ما تفتكري من بعدك بطّل يطلع زهور... «حَوزقة»)، وفي أغنية
«بهنّيك» وأعمال أخرى.
تجيء «الحَوزقة» في سياقات الرحباني كما لو أنها فاصلة
تخرّب المسار السردي، تُظهر حالة انقطاع عند الرحباني، وتكون أشبه بتعليقٍ
ساخر على الموضوع المسرود، كأنّ «للحَوزقة» وظيفة: إنها أداة نفي. لكن خارج
الأغنية والمسرح، يبرز عند زياد بشكلٍ جليّ ما يشبه هذه «الحَوزقة»، شيء ما
يشبهها، لكنه يمكث في الناحية النقيضة منها؛ «الهمهمة».
وفي التعريف اللغوي، إنّ الهمهمة «هي الكلام المنخفض غير
الواضح، وقد يكون مصحوباً ببحّة صوت». غير أنّ «الهمهمة» المقصودة هنا هي
الإفراط في استعمال عبارة «همم» بدلاً من «نعم»، التي تخرج من الرحباني
أحياناً مصحوبة ببحّة.
في مقابلاته مثلاً، نعثر على «الهمهمة» عندما يكون مُصغياً
إلى محاوره، أو عندما يُدوّن ملاحظاته ويهزّ رأسه موافقاً وما إلى ذلك.
و«الهمهمة» عند زياد هي الموافقة في «الدرجة صفر» على كلام المضيف قبل
التوكيد عليه؛ فالـ«همم» المنطوقة أقلّ من «نعم» بقليل، لأنّ القبول
«الأخير» للخطاب يحتاج إلى مشاركة الرحباني المُصغي وتقديمه إضافات، أي
يحتاج إلى دوره في الكلام.
تُفصح «الهمهمة» إذاً بأنّ الخطاب، لكي يصير خطاباً
«أخيراً»، يحتاج إلى «إيجابين»، أي إلى أن يجتمع الاثنان على الحديث بعد
اشتراكهما فيه. وهذا درسٌ آخر حول دور الاشتراكية في بناء الحقيقة، عندما
يتّحد اللسان في العمل «الإيجابي». |