ملفات خاصة

 
 
 

مشهد

زياد الرحباني والمسرح:  

حين تصبح الخشبة مرآة للناس والسلطة

محمد الروبي

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

"مش مهم المسرحية، المهم إنو عم نحكي... والمهم أكتر إنو حدا عم يسمع."

بهذه الجملة، التي اختتم بها مسرحيته الأولى "نزل السرور"التي قدمها من تأليفه وإخراجه عام 1974، لخّص زياد الرحباني عالمه المسرحي بإيجاز بليغ، كاشفًا عن فلسفة فنية ترى في المسرح حوارًا مفتوحًا، لا عرضًا مغلقًا. وهو ما سيبقى نهجا لكل مسرحياته التاليات.

" المهم إنو عم نحكي .. والمهم أكتر إنو حدا عم يسمع "

شخصيًا، أرى – وقد يختلف معي كثيرون – أن زياد الرحباني، الذي غادرنا منذ أيام، ورغم تعدّد مواهبه وتشعّب إسهاماته، كان المسرح هو ذروة عطائه الإبداعي، ومنصته الأخصب، التي صبّ فيها رؤيته للعالم، وهموم الناس، وسخريته اللاذعة من السلطة والمجتمع والنفاق.

فمنذ بداياته المبكرة، بدا زياد وكأنه وُلد وفي قلبه خشبة مسرح.

وعلى الرغم من أنه حمل اسما ثقيلا (ابن فيروز وعاصي الرحباني) كما يُحمل الصليب في العلن، إلا أنه سرعان ما شقّ لنفسه طريقًا مختلفًا، لا يُشبه الرحابنة بل الناس. طريقًا يعتمد اليومي لا الأسطوري، ويمنح للضحك مرارة، وللحزن سخرية، وللفن موقفًا لا استعراضًا.

قد يُصنّف مسرح زياد ضمن ما يُعرف بـ"الكباريه السياسي"، ذلك الفن الذي يوظّف السخرية والارتجال والموسيقى في نقد الواقع السياسي والاجتماعي. لكن هذا التصنيف، رغم وجاهته، يبقى شكليًا، لأن زياد تجاوز القوالب الجاهزة لهذا الشكل المسرحي.

فهو لم يقدّم اسكتشات هجائية سطحية، بل نسج دراما مركّبة، فيها من البساطة ما يضمن التوصيل، ومن العمق ما يضمن البقاء. شخصياته ليست كاريكاتورية، بل بشر من لحم ودم، يحملون قهرهم، هشاشتهم، تناقضاتهم، وضياعهم.

إن شئنا الدقة، يمكن القول إن زياد عرّب الكباريه السياسي، ومنحه نبرة لبنانية وعربية أصيلة، تمزج السياسة بالوجدان، والسخرية بالمأساة، والضحك بالأسى المؤجل.

الشخصية الدرامية عند زياد ليست بطلًا بالمعنى التقليدي، بل هي وجه من الوجوه التي نراها كل يوم: موظف متوتر، بائعة هوى، عامل بسيط، مهرّج مكسور... هؤلاء هم من يصنعون النص، ويملؤون الخشبة بوجعهم، لا بشجاعتهم فقط.

وأظن أن أهم ما في مسرح زياد الرحباني أنه لا يسترضي جمهوره، بل يصفعه بالحقيقة، ويدفعه إلى أن يضحك ويحتجّ في آنٍ معًا. المسرح عنده ليس وسيلة للهروب من الواقع، بل غوص عنيف فيه، لكشف المستور، وهزّ الكراسي، وتقليب الطاولات.

برحيل زياد، وربما قبل رحيله بسنوات، خسر المسرح اللبناني والعربي صوتًا قلّ نظيره. لكنه ترك خشبةً حيّة لا تموت، وعبارات لا تزال تتردّد في المقاهي والجامعات والساحات، كأنها كُتبت بالأمس.

 

نشرة المهرجان القومي للمسرح في

01.08.2025

 
 
 
 
 

زياد؟؟ لم يكُن وداعاً

هنري زغيب

مأْتمه لم يكُن وداعاً بل وديعةً تَعِدُ الناس وتُعِدُّهُمُ اليومَ وكلَّ يوم، بأَنَّ من غابَ جسدًا لن يَغيبَ فنُّه

ودَّعُوهُ كأَنَّه ابنُهم. كأَنَّه أَخوهُم. كأَنَّه يخصُّ كلَّ واحدٍ منهم. صفَّقوا لخروج نعشه من المستشفى في بيروت. صفَّقوا لخروجه من الكنيسة في بكفيا. كثيرون كانوا صادقين فلم يتكلَّموا. عبَّروا بِصَمْتهم. بذُهولهم. بصَدْمتهم. بفجيعتهم. جمَعَ حول جثمانه كلَّ فريقٍ وفئةٍ ونَزعة. سقَطَت في جنازته الفوارقُ السياسية والاجتماعية والفنية. مَن كانوا يحبُّونه اجتمعوا على الحزن، ومَن لم يحبُّوه اجتمعوا على التقدير. لم يكن عاديًّا أَن يموتَ مبدعٌ استثنائيُّ المواهبِ في مستواه وحجمه وحضوره.

واكبُوه يُنتِج، ولو بتَقَطُّع. وبرغم التقطُّع كان غزيرًاً: مسرحاً وأُغنياتٍ وموسيقًى وكتاباتٍ ساخرةً ومتابعاتٍ صحافيةً وبرامجَ إِذاعية. كتب بلسان الناس فأَحبَّه الناس. جَرُؤَ على كلِّ "تابو" فكأَنَّه جَرُؤَ عنهم جميعًا. "قوم فُوت نامْ، وصير حْلامْ، إِنو بلَدنا صارت بلَد... قوم فوت نام، وهالإِيام حارَة بيسكِّرها ولَد".. كسرَ القوالب المأْلوفة، وفرَّ إِلى قلوب الناس، سبَّاقًا برؤْيته الثاقبة في نقْل همومهم، يُخْرج صرخاتهم من مستَنْقَع القبول والانكسار. وكلُّ هذا ببساطة وعفوية. لم يلبس قناع الفنان بل أَبقى وجهه سافرًا، لأَنه حقيقيّ. لذا احتشَد المئاتُ لوداعه، كأَنهم في مأْتمِ نسيبٍ لهم، قريبٍ، حبيب.

جنازتُه الحاشدةُ جدًّا أَخذَتْني 39 سنة إِلى الماضي، إِلى جنازة عاصي في أنطلياس (22 حزيران 1986). يومَها الْتَمَّ أَيضًا لبنان كلُّه حول نعشه، بشعورِ أَنَّ عظيمًا قَضى. وكان مأْتمه مهيبًا. الجامع الواحد بين المأْتَـمَـين: صمْتُ فيروز، الأُسطورة الحية التي تعاقبَتْ عليها المآسي الهائلة. صدَمَتْها. ضربَتْها كما العواصفُ والرعودُ والصواعق تَضربُ قمَمَ الجبال. وهي بقيَت قويَّةً خلْف صمْتها، صامدةً كما قممُ الجبال، في هَيْبَة عرَّافةٍ من الميثولوحيا الإِغريقية. طوالَ يومَين بقيَتْ صامتةً خلْف حزنها. تتلقَّى بنظراتها التسعينية تَوَافُدَ الناس أَمامها. منهم مَن صدَقُوا في مرورهم. منهم مَن جاؤُوا ليرَوْها أَولَ مرةٍ، ولو في هذا الوضْع المر، بَعد طول عُزلتها. ومنهم (وبين هؤُلاء معظمُ "بيت بو سياسة") مَن جاؤُوا لأَن كاميرات التلفزيون تنقُل وُفودَ المعزِّين وتصاريحَهُم، فرصةً لهم كي يُسجِّلوا حضورَهم في وداع زياد.

مأْتَمُ زياد سيَبقى محطةً فريدة في تاريخ أَحداثنا السياسية والاجتماعية. فَرادتُهُ أَنه جمَعَ ما لم يَرَهُ الناس إِلَّا في المآتم "الرسمية". واستحضارًا مواقفَ زياد حيال الرسميين، يكون أَنه هو العبقريُّ الباقي حاليّاً ومستقبَلاً، وهُم الذاهبون إِلى "السابق". كلٌّ من أَصحاب الأَلقاب السياسية، في كل حقْبة، سيُصبح "المسؤُول السابق" ويَذهب هو وحقْبتُهُ في الحُكْم إِلى النسيان. لكنَّ زياد، وكلَّ مبدعٍ من مستوى زياد، لن يُمسي، ولو بعد أَجيال، الفنانَ "السابق"... المواطنون العاديُّون ينتسبون إِلى الوطن، أَمَّا المبدعون فالوطنُ ينتسب إِليهم. هنا عظَمَة المبدعين في التاريخ: يتوقَّف فيهم نبْضُ هذا الجسد الـمُوَقَّت فيعودُ إِلى التراب ويَبْلى، لكنَّ إِبداعهم يبقى بعدَهم لا إِلى فناء، ويكون إِبداعُهم عنْوانًا آخَرَ لوطنهم.. طويلًا بعدَهم يَذْكُر الناسُ والدارسون والمؤَرخون نتاجَهم الإِبداعي الباقي للوطن في زمانهم، ولا يَذْكُرون مَن كان حاكمًا في زمانهم لأَن هؤُلاء العابرين يكونون غابوا في طبقات النسيان.

بعد انتهاء التعازي بزياد، وتلك الجُموع حَول نعشه كما حَول عائلته، يتَّضح أَنَّ مأْتمه الْكان متفرِّداً، يبقى معيارًاً، ظاهرةً، دلالةً، ومنارةً لنقْل تراثه إِلى الأَجيال الجديدة، مسرحاً وأُغنياتٍ، يتردَّد صداها بعدَه وبعدَنا طويلاً طويلاً للأَجيال المقبلة، لأَنه صوتُ الناس وسيبقى صوتَ الناس مع كلِّ جيل سيأْتي

لذا أَرى أَنَّ مأْتمه لم يكُن وداعاً بل وديعةً تَعِدُ الناس وتُعِدُّهُمُ اليومَ وكلَّ يوم، بأَنَّ من غابَ جسداً لن يَغيبَ فنُّه، بل يبقى كوكبَ إِبداعٍ رحبانيٍّ مُغايرٍ، فريداً في سماء لبنان.

 

####

 

ديمة قندلفت لـ"النهار" عن زياد الرحباني:

رحل من حمل وزر أفكارنا

أمين حمادة - المصدر: "النهار"

كلماتها الأولى: يا خسارة… كل شي عم يخلص، بطّل عنا أمل

رغم نجوميتها الساطعة، لا تحب ديمة قندلفت الضوضاء. تؤدي عملها، فنها، تُبدع وتنسحب إلى مساحتها الخاصة. تحتفظ بمواقفها كإنسانة، في هامش بين التلميح الحقيقي المسؤول والتصريح الفعّال بعيداً من الاستعراض.
سمحت النجمة السورية لـ"النهار" بدخول شيء من "مساحتها الخاصة"، وربما اقتحام حزنها الوجداني وخسارتها الشخصية برحيل زياد الرحباني، في اتصال يُشبه الراحل، فيه من النوستالجيا ما يُشبه كاسيتات مسرحياته، ومن الحقيقة ما يماثل أحاديثه، ومن الألم ما لا يكفي، وحسرة وشعور بالخسارة بين رفع السماعة وإغلاقها، فكيف لا تستعيد كلمة "آلو" اتصالاته "العبثية" في "نزل السرور" و"بالنسبة لبكرا شو" و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد"... وماذا عن "كيفك؟" التي تذكرّنا فعلاً أننا "لسنا بخير
"...

تتساءل قندلفت بحرقة عن أي زياد تتحدث الموسيقي، الكاتب، المؤلف، المسرحي، المناضل، المفكر، الناقد الساخر، العبقري، وكيف يمكن اختصار من شكّل ظاهرة متفردة بذاتها؟ أو عن الابن الآتي من سماء فيروز في هذه التراجيديا السوداء حد الظلم والظلام حيث ننحني لآلامها، أو عن الإنسان الوحيد الذي شاغب الجميع، وتمرّد بين السماء والأرض بكل ما يؤمن به، فكان الأكثر حرية فعلاً على مدى عقود.

وتضيف بمزيج من الغضب والآسى: "لعلنا فقدنا الأجرأ، خسرنا من ألقينا على عاتقه وزر أفكارنا وقضايانا، ليصرخ بما كتمناه. كم يُشبه خذلاننا برحيله، هذا التيه العام الذي نعيشه في غربة نفوسنا عما تريد في أوطانها وأبسط تفاصيلها، وكأن وفاته جمعت كل خيباتنا لتكون عنواناً لها في يأسه، فأطفأ الأمل، ورحل في زمن لا يشبهه ولا يشبهنا، نحن المعترين في هذه الأرض".

وتشير إلى ما تراه نوعاً من "الإعجاز في الإنجاز": "كمن يمسك عصا موسى بيديه، استطاع تحويل الكلمة العادية واليومية إلى أغنية وموسيقى، وأحاديث آنية إلى استشرافات مستقبلية لا ننتهي من فك رموزها رغم تلقائيتها، وحرب من المحظورات والمحرمات إلى مسرحية لا يُغلق ستارها مع انتهاء العرض، وهو الآن يحول الغياب إلى خلود، إذ اختار الذهاب إلى الموت بكل التعب الذي حمله، حتى هذا الحق كان خياراً حراً حتى النفس الأخير".

وتختم: "لا يوجد ما يكفي للعزاء، كما لا يوجد أثقل على قلوبنا من ذلك الوشاح الأسود على هامة السيدة فيروز، ولكني أعرف أن الموت قد يُنهي حياةً، لا علاقةً كتلك التي بناها زياد معنا، أو ربما نحن بنيناها معه، ما امتعنا وأفادنا به يوماً، لا يُمكننا خسارته أبداً. كل ما نُحبه بعمق يُصبح جزءاً منّا".

 

النهار اللبنانية في

01.08.2025

 
 
 
 
 

المثقف الذي هزمه الجميع

مروة جردي

هل مات زياد الرحباني وهو يقاتل؟ أم اختار الموت بعدما خذله كل من خاطبهم؟ لم يكن زياد مجرّد موسيقي أو كاتب مسرحي ساخر، بل مثقّف عضوي خاض معركة مفتوحة ضد النظام السياسي والاجتماعي في لبنان والعالم العربي

هل مات زياد الرحباني وهو يقاتل؟ أم اختار الموت بعدما خذله كل من خاطبهم؟ لم يكن زياد مجرّد موسيقي أو كاتب مسرحي ساخر، بل مثقّف عضوي خاض معركة مفتوحة ضد النظام السياسي والاجتماعي في لبنان والعالم العربي، مستخدماً المسرح والإذاعة والكلمة الساخرة واللحن النافر للاشتباك مع «الرأي العام».

لكنه كان يدرك هشاشة الحياة وعبثيتها. كما قال يوماً: «إذا بكرا آخر نهار لإلي، بجرب سرّع النهار اللي بعرف إنو آخر النهار. خبرية بالناقص. شو الحياة هيي 12 ساعة. شو بدك تعمل فيا؟». ربّما أدرك في لحظاته الأخيرة أنّ كل ما قدّمه لم يُفهم كما أراد، وأنه، رغم الضحك والتصفيق، ظلّ يخاطب مجتمعاً أصمّاً.

الضحية التي لم نرَها

في مراجعة لتجربته، نكتشف أننا لم ننظر إلى زياد بوصفه ضحية. رأينا فيه فقط الفنان الساخر، الابن «الثائر» لفيروز وعاصي الرحباني. لم نتعامل معه كصاحب مشروع سياسي وفكري متكامل، بل كحالة فنية خارجة عن المألوف. كان زياد يصرخ منذ سنوات، في مسرحياته وبرامجه الإذاعية، أنّ هذا النظام لا يُصلَح، وأن المجتمع الذي يصفّق له هو نفسه الذي يخذله. في إحدى المرات، سأل طفلةً أحبّت «رفيقي صبحي الجيز» عمّا فهمته من العمل، فأجابته بعفوية: «حلوة بحبا». لم يستغرب زياد، ولم يكن يختبرها، لكنه كان ينتظر إجابة تنقذه. إجابة تقول إن نداءه وصل إلى أحدهم.

كلما سُئل عن محطة في

حياته، جاء جوابه مرتبطاً بحدث عام: خيبة يسار، انهيار مشروع،

أو سقوط بلد

في برنامج «شباب توك» على DW عام 2018، تحدّث زياد بنبرة رجل استنفد كل ما لديه. قال إنه لا يستطيع صناعة الموسيقى وسط هذا الخراب، رغم أنّ الحرب الأهلية انتهت رسمياً. بالنسبة إليه، الحرب لم تتوقف يوماً، بل تبدّلت أشكالها: من صواريخ وقنص إلى فساد وطائفية وعبث عام. قالها صراحة: «حسّيت ما إلي عازة». ورغم كل محاولاته لإحداث خرق، شعر أنّ المجتمع اللبناني، رغم حبّه الظاهري له، عاجز عن التغيير، بل رافض له في العمق.

بين الضحك والبكاء: أزمة الثقافة

لا شيء أزعج زياد أكثر من تحويل مسرحه إلى مساحة للضحك فقط. كان يسأل نفسه: «لماذا أحبّوا المسرح السياسي الذي قدّمته؟ لأنه مضحك؟» بينما كان يرى في الكوميديا سلاحاً لا وسيلة ترفيه. وفي زمن تحوّل فيه المسرح إلى عروض «ستاند أب» ليلية، فقد شهيته للاستمرار. هذه لم تعد مسرحيته ولا جمهوره، فتراجع ثم صمت. اعترف في إحدى مقابلاته الأخيرة: «بس قعدت بلا شغل فكرت انتحر لما قررت أترك كل الموسيقى والكتابة. ولقيت الفكرة سهلة. لأنو صعب ضلّ تخترع أمل وتعمل مسرحية».

تحوّل مسرح زياد، بالنسبة إلى الجمهور، إلى مكان للتسلية، بينما كان يريده ساحة اشتباك سياسي وثقافي. ومع الزمن، شعر أنّه غير ضروري.

زياد لم يكن استثناءً. كثير من اليساريين والمثقفين عاشوا ما عاشه مع تراجع حركات التحرر الوطني والأحزاب اليسارية. لكن الفرق أنّ زياد رفض أن يتصالح مع الهزيمة. ظلّ مؤمناً بالأممية، رافضاً للأحزاب الدينية، ومع ذلك منبهراً بقدرتها على التأثير.

في المقابل، كانت الأحزاب التي ينتمي إليها فكرياً عاجزة. صوته بقي وحيداً في مواجهة مجتمع لا يسمع إلا ما يريد، تماماً كبطل جورج أورويل الذي تُمارس عليه كل أساليب الترويض حتى ينهزم من الداخل. لقد خذلته «الجماهير»، و«الرفاق»، والمؤسسات الثقافية، وربما خذل نفسه أيضاً.

عزلة صاخبة وهشاشة معلنة

لم يتصنّع زياد الصلابة. كان صادقاً حتى في هشاشته اليومية. قال مرةً بمرارة: «كل ما تسألني كيفك... بتذكر إني مش منيح... يعني بتعرف... لو بلاه هالسؤال... لأنه صراحة أنا مش منيح... بس معقول تقول لي كيفك... وقلك مش منيح؟».

هذه الصراحة العارية جعلته أقرب إلى شخصية تراجيدية تسير نحو نهايتها بوعي كامل، ووسط جدار من العزلة الاجتماعية والثقافية.

رحل زياد ليس من المرض وحده، بل من الغربة، من الشعور بأنه غير ضروري، ومن السؤال الذي ظلّ يؤرّقه: «هل سمعني أحد؟ وإذا سمع، هل فهم؟». لم يفصل زياد بين الخاص والعام. كلما سُئل عن محطة مهمّة في حياته، جاء جوابه مرتبطاً بحدث عام: خيبة يسار، انهيار مشروع، أو سقوط بلد. سحق الشخصي لمصلحة العام، حتى باتت مرايا الذات عبئاً. لم يحب النظر إلى نفسه، كان يراها «غير جميلة»، ويشعر أنه «مجنون» إذا أطال النظر في المرآة.

مع ذلك، لم يختبئ خلف أقنعة القوة. كما عنونت «الأخبار» يوماً: «الواضح دوماً»: أخبرنا عن مآسيه العاطفية، عن بحثه الدائم عن امرأة تحبّه كإنسان لا كفنان، عن هواجسه من شكله، وعن شعوره بأن الشهرة لا تمنحه دفء القبول. ظلّ ضحية الشائعات، لكنه أصرّ على أن يكون حقيقياً حتى النهاية.

 

####

 

الحداد عليه تحوّل مناسبة أنجي أوزيّة:

«ماراثون بيروت»... حلّوا عن زياد الرحباني

بول مخلوف

رغم رحيله، لا يزال زياد الرحباني يفعل ما اعتاد فعله طوال حياته؛ إبراز عيوب المجتمع اللبناني ووقاحة «الشعب العنيد». 

رغم رحيله، لا يزال زياد الرحباني يفعل ما اعتاد فعله طوال حياته؛ إبراز عيوب المجتمع اللبناني ووقاحة «الشعب العنيد».

«قرطة» منافقين

لقد فضح رحيل زياد الرحباني حقيقة لم تكن غائبة عنّا قطّ، ولكن غالباً ما جاء التعاطي معها بسخريةٍ ولا مبالاة. في جنازة الرحباني، ظهرت الحقيقة ساطعة أمامنا: إنّ نُخَب المجتمع اللبناني (الأربعطعش أذارية) والطبقة الثرية، وجمعيات المجتمع المدني ليسوا سوى «قرطة» منافقين، يعشقون «المناسبات» والتسلّق والاستعراض.
لا أحد يعرف كيف قرّروا ذلك، وما الذي خطر في بالهم حقاً، ولكن جمعية «بيروت ماراثون» وهي مكوّن من «الشعب العنيد» المنافق، ارتأت تحويل حدثٍ حزين كموت زياد الرحباني إلى مناسبة اجتماعية فيها - كما أعلنوا - «ركض» و«مشي»، أي فيها حركة و«حياة»، على عكس الموت الذي يترك رتقاً في القلب وشللاً يضرب الرجلين. هكذا، عوضاً عن الجلوس وتعزية النفس بالفقدان، وبدلاً من أن يخيّم الحداد باعتباره فسحة هدوء وتأمل واستحضاراً لإرث النابغة الراحل، بتنا أمام مناسبة اجتماعية فيها تفاعل وحركة ونشاط، تدعو إليها جمعية «بيروت ماراثون» التي عبّرت بوقاحة: «ما بدنا تكون لحظة وتنتهي... بدنا ياها تبقى وتترك أثر كتحية وفاء». تحت حجّة الوفاء، إذاً، غدا موت زياد الرحباني مناسبة «إنجي أوزية». جمعية «بيروت ماراثون» تجد في موت الرحباني فرصة استثمار
.

وقاحة على طول 7 كلم وأكثر

في الصباح الباكر من يوم الأربعاء، دعت جمعية «ماراثون بيروت» جمهورها على وسائل التواصل الاجتماعي إلى التجمع يوم السبت عند الساعة السادسة والنصف صباحاً في «الزيتونة باي» للركض والمشي احتفاءً (!!) بذكرى زياد الرحباني و«تكريماً» له. وقد دعت الجمعية إلى التزام المشاركين باللباس الأبيض، على أن تبلغ مسافة المشي والركض 7 كلم في «المدينة الأحب إلى قلب زياد». ما يثير السخرية والضحك في العادة يتحوّل، في لحظاتٍ ثقيلة كالموت، إلى ما يثير الاستفزاز والغضب. كأنّ هذه «القرطة» التي دائماً ما وجّه الرحباني نقده المقذع لأيديولوجيتها و«لزيتونتها» و«لبياضها» و«حبها للحياة» تنتقم من الرجل بعد موته.

وجدت «بيروت ماراثون» وهي مكوّن من «الشعب العنيد» في موت زياد فرصةً للاستثمار

هناك ما هو مهين في رمزية «اللباس الأبيض»: فلا زياد الرحباني عمرو دياب، وليس موته مناسبة زفاف.
«
ملك الساحة اللبنانية عَ بياض» الذي أحبّ «تسكير السير في شارع الحمرا وليس المشي»، كما علّق المسرحي يحيى جابر على الحدث، احتقر «زيتونة باي» وكل مشاريع حيتان المال الذين استولوا على الأملاك البحرية. زياد الرحباني، الذي كرّس حياته بأسرها لنسف (هذا) «لبنان الجديد»، هو الذي كانت خياراته السياسية «على الضدّ» من توجّهات «بيروت ماراثون» وسائر «قرط» الجمعيات التي تشبهها، يُراد إحياء ذكراه من قبل هؤلاء الرأسماليين. يا لها من وقاحة فعلاً. هل هؤلاء يعرفون زياد الرحباني حتى «يتذكّرونه»؟

بيان جديد أو «بروبوزال»

سرعان ما عدّلت جمعية «بيروت ماراثون» «مشروعها» الوقح، فأصدرت بياناً آخر زاد حجم «الخطيئة»، إذ كشف عن نوايا هذه الجمعية التي تجد في موت زياد الرحباني، ليس فقط فرصة استثمار، إنما أيضاً فرصةً للإعلان المجاني عن نفسها. لو رأى زياد الرحباني من عليائه ما يُحضَّر له، لتمتم شتائمه الطويلة. وقد ورد في البيان الجديد أنّ موعد التجمع قد تغيّر، والمكان أيضاً. لم يعد التجمع في «زيتونة باي»، بل في الحمرا. وبدلاً من أن يقام الماراثون يوم السبت، أي غداً، فقد تأجّل إلى السبت المقبل بسبب «تحضير مبادرة مدروسة، واضحة، ومفتوحة للجميع». وينتهي البيان الجديد: «الدعوة كانت مجانية... وبتضل مجانية». إذا كان لا بد من تعريف «المعيب»، فهنا تجد تعريفه. جمعية «بيروت ماراثون»، التي أجّلت «مشروعها» لأسبابٍ تحتاج إلى «دراسة»، وبدأت التفكير في منطق «الحسابات» وكأنّنا أمام مشروع فيه «أرباح»، وكل ذلك يجري على اسم زياد الرحباني، تقول للناس: «الدعوة كانت مجانية... وبتضل مجانية».

هل هناك من «أبو الجواهر» حتى يُسكّر السير في شارع الحمرا نهار السبت المقبل؟

 

####

 

الحمرا كما عاشها زياد...

مسرحٌ للحياة والموسيقى والناس

زكية الديراني

لا تحتاج أن تكون خبيراً في أزقة شارع الحمرا في بيروت كي تستدلّ على المنازل التي سكنها الراحل زياد الرحباني. يكفي أن تصل إلى أول الحمرا، فيتحول المارّة إلى دليل لخرائط المنازل الثلاثة التي عاش فيها خلال السنوات الثلاثين الأخيرة.

لا تحتاج أن تكون خبيراً في أزقة شارع الحمرا في بيروت كي تستدلّ على المنازل التي سكنها الراحل زياد الرحباني. يكفي أن تصل إلى أول الحمرا، فيتحول المارّة إلى دليل لخرائط المنازل الثلاثة التي عاش فيها خلال السنوات الثلاثين الأخيرة. فقد أمضى فترات حياته في منازل بين أول الحمرا ووسطها وآخرها.

هنا وطأت قدمه الحمرا، وهناك قام بجولة على الدراجة النارية التي كان يهواها، ثم تناول الفراكة الجنوبية والبرغل على بندورة، وتحلّى «بابا روم» مع أصدقائه. كانت حياة زياد بهذه البساطة، مثل أغانيه وأعماله، من الشعب وبين الشعب وإليه. كان المارّة في الشارع يشبّهون على زياد، «بيشبه زياد الرحباني». لكن زياد كان قليل الكلام ويترك السؤال من دون جواب.

شارع الحمرا حيث شعر زياد بالطمأنينة

كان شارع الحمرا بمثابة صورة زياد الإنسان قبل أن تكون حقيقته كموسيقي ومفكر ومناضل. فالعلاقة مع الأماكن يحددها الشعور بالطمأنينة، وهذا ما حرّك زياد تجاه الحمرا. بدأت علاقته بها في ثمانينيات القرن الماضي، حين كان يتنقل مع رفيقه الراحل جوزيف صقر (1942-1997) بين المطاعم والملاهي ليقدّم حفلات في حانة chez andré وغيرها.

يومها كانت الحمرا صلة وصل اللبنانيين في الحرب، قبل أن يتم لاحقاً إغلاق تلك المطاعم، وتدخل الحمرا عصراً جديداً لم يكن زياد من محبّيه. حاول مراراً الخروج منها والسكن في مناطق عدة من بينها ضهور الشوير (قضاء المتن) وغيرها، ولكنّه لم يلمس الإحساس بالراحة، فعاد أدراجه إلى مكانه الذي اصطفى فيه استديو التسجيل الخاص به.

كانت فيروز تزور ابنها

زياد مساء كل سبت

كلّ جلسة مع أصدقاء زياد لها طعم برائحته. لم يترك فنان أثراً جميلاً كما فعل زياد في شارع الحمرا. الصغير والكبير يعرفه، «بيحمل الشنطة وبيمشي بالشارع». بالنسبة إلى المارّة، معرفة زياد هي خير. يردّد سكان الحمرا مقولة معروفة: «من يعشق الحمرا يموت في الحمرا». وبالفعل، هذا ما حدث مع زياد، عشق الحمرا وأمضى ساعاته الأخيرة في منزله الكائن في «شارع أبو طارق».

لكن السؤال: لماذا اختار زياد الحمرا، مع العلم أنه لم يتملّك فيها منزلاً باسمه؟ ببساطة، لأنه وجد أنّ المكان يشبهه، بسيط لكنْ واسع بالانتماءات والنسيج الاجتماعي والثقافي والفكري والتنوّع والغنى الذي يحتضنه... إنّه لبنان المشتهى بطوائفه وملله ولهجاته ولغاته.

امتحان زياد للأصدقاء

يكرّر أصدقاؤه الصفات نفسها، فدائرة أصدقائه ضيقة جداً، ولكن معارفه لا يُحصَون. زياد كتوم، لطيف مع الجيران، ويكره التقاط الصور. لكنه يقدّر الشخص الذي يعرفه على حقيقته، وليس كفنان صاحب أعمال خالدة. عليك أن تمرّ باختبار الثقة قبل أن تصبح صديق زياد. بدأت رحلتنا في شارع الحمرا من البيت الأول الذي سكنه زياد بالقرب من «مستشفى خوري». للمصادفة، كان المنزل بالقرب من مكان تشييعه الشعبي من المستشفى. سكن المنزل فترة طويلة، قبل هدمه في بداية عام 2000 لإنشاء مبنى جديد عليه. أما المنزل الثاني الذي عاش فيه، فكان فوق عصير «العنتبلي». مع العلم أنّ في المبنى الملاصق لمنزله، كان منزل والدته السيدة فيروز. رفض زياد السكن فيه، فاستأجر منزلاً متواضعاً بالقرب منه في الطابق الرابع.

في حديثه معنا، يسترجع معمّر العنتبلي، صاحب عصير «العنتبلي» بداية علاقته بزياد: «في تسعينيات القرن الماضي، جمعتني المصادفة بزياد. ومن يومها أصبحنا صديقين. سكن في منزله الثاني عام 2003 وقضى فيه أكثر من عشر سنوات. كان زياد طفلاً بجسد رجل. جميع رفاقه تأمركوا إلا هو بقي على حقيقته. أنا بائع عصير عادي، ولكن علاقتي بزياد أدخلتني في عالم الإنسان. كان عاشقاً للحلويات. في الفترة الأخيرة، واظب على تناول حلاوة الجبن».

مخزن ذكريات

أما «سناك فيصل»، فقد نشأت علاقة بين صاحبه وزياد خلال الحرب وبعدها. كان السناك ملاذ الفنانين اللبنانيين الذين يجتمعون على تناول لقمة طيبة. في السنوات الأخيرة، تحول الفرن إلى سناك. وعند رحيل زياد، أرسل صاحب «سناك فيصل» إكليلاً من الورد باسمه خلال تشييعه، ليثبت أنّ الزمن لا ينسى المكان الذي وطأته قدم زياد. أما «جنينة الصنائع»، فكانت مخزن ذكريات زياد في طفولته ومراهقته، فقد كانت الجنينة المكان السرّي الذي كان يهرب إليه زياد من مدرسة «الجمهور» ليقضي وقته يؤلف ويكتب.

 

####

 

على بالي

أسعد أبو خليل

سنكتشفُ قريباً حجمَ غياب زياد الرحباني عن حياتنا. حتّى عندما كان يعتكفُ، كنّا نشعر بحضوره القوي. كُنّا نسمع كلامه قويّاً بصمْته. لم يشبه أحداً ولن يشبهه أحد. طبعَ بإنتاجه البديع وبشخصيّته الفريدة جوانب متعدّدة من حياتنا. هناك غيرُ جيل نشأ على حفْظ كلماته عن ظهر قلب في مسرحيّاته ومقابلاته. يُقال بأمثال أجنبيّة إنّ التقليد هو نوع من الإطراء المخلص، وكم من المُقلِّدين لزياد هناك. وكم منهم من السمجين.

أنا أعرف أشخاصاً في سنّي غيّروا طريقة كلامهم بعد اكتشافهم لزياد. كنّا ننتظر إطلالته بشَوق شديد (وكنا نتساءل عن خلفيّات اختياره لمحاوريه، لكن هذا شأنه)، كما كنّا نخشى غيابه بعد إطلالاته. انتظار مسرحيات جديدة له كانت جزءاً من شبابي، ثم توقّفَ بعدما ابتعد النقّاد وربّما الجمهور عن آخر مسرحيّة له.

مثل محمود درويش في شجاعته الأدبية، زياد اختطَّ فنّه بصرْف النظر عن توقّعات الجمهور. لم يعطِ الجمهور ما يريد، بل أعطاه ما يريده هو وأخذ الجمهور معه. أوّل تلحين له لفيروز أثار اعتراضات واحتجاجات، لكنّ الناس لم تلبث أن فهمت فيروز الجديدة وقدّرَتها. لولاه لبقيت فيروز حبيسة «بحبك يا لبنان». لم استسغِ النمطَ الجازيّ في أغانيه وأحببت ألحانه الأولى والأخيرة. هناك أغنيات رائعة له من جوزيف صقر ومروان محفوظ (لماذا أوقف التعاون معه؟) وجورجيت صايغ.

أغاني «سهريّة» ترافقني في سباحتي. عقل زياد الرحباني فريد من نوعه وتركيبه للجمل من أدب السهل الممتنع جدّاً. ستكون هناك محطّات في حياتنا ستذكّرنا بزياد وسنعلَم حينها أنّه لن يشاركنا اللّحظة. لن ننتظر مسرحيّة كما انتظرنا مسرحيّاته (أنا كدتُ أقع عن كرسيّي أثناء مشاهدة مسرحيّة «بالنسبة لبكرا شو») ولن ننتظر ألحاناً جديدة لفيروز منه. لن نترقّب مقابلات كما ترقّبنا مقابلاته، وسنقول: أين زياد ممّا يجري في العالَم العربي؟

هل أنّ الأحداث الجِسام في السنة الماضية هي التي قتلت زياد أو أسهمت في تسريع موته مثلاً؟ نعلم أنّ زياد ظاهرة فذّة في حياتنا وأنّ كلّ مقلّديه سيفشلون في مساعيهم، فليُقلعوا.

 

الأخبار اللبنانية في

01.08.2025

 
 
 
 
 

زوايا

ما لم يفعله زياد الرحباني

عائشة بلحاج

لو علم زياد بما كان ينتظره في وداعه، من حزنٍ لفّهُ به عدد لا حدّ له من الناس، ربّما كان ليسخر من الأمر، ويغيّر الموضوع مفضّلاً الحديث عن شيء آخر. لكنّه في العمق سيكون ممتنّاً، وسيجد أن احترافه في معظم حياته الموسيقية لم يذهب هدراً، وأن الفنّان يعيش بجمهوره، ولا عزاء لحياته سوى نجاح إنتاجه في تلمّس الناس.
خصوصية زياد أنه كان مثيراً للجدل، وناقداً مبدعاً للواقع، ولم يكن فنّاناً مهادناً للسياق، ولا مراعياً للصورة الرحبانية الرومانسية. وما ناله من نقد وهجوم، وهو لا بد توقّعه بالنظر إلى جرأته وحساسية بعض مواقفه، تهاوى الآن بعد وفاته. فصحيح أنه عاش على أكثر من مستوى، لكنّه مات فنّاناً فقط. لكن بماذا ينفع الميت هذا الحبّ؟ أن يحبّ الناس شخصياتٍ بعد موتها، أكثر من حياتها؟

في المقابل، تعرف فيروز قدر الحبّ الذي يسكن الناس تجاهها، وهي حيّة ترزق في الأرض، ولن يصعب عليها تصوّر ردّة الفعل على وفاتها. ما الفرق بين فيروز وزياد؟ المسار والشهرة والتقدير كلّها موازين تميل إلى صالح الأم، لكن هذا ليس وحده الفارق، بل أيضاً الصمت عن مواضيع الخلاف، ومراعاة الواقع. لو تكلّمت فيروز في كلّ الأزمات التي مرّت منها بلادها، والمنطقة، هل كانت لتحتفظ بهذا القدر كلّه من الحبّ؟

لعلّ محمود درويش أكثر من أحبّه الناس حيّاً وميتاً، رغم أنه كتب أنهم يحبّونه ميتاً. غير أن معظم من لم يحبّوه لم يكونوا من الجمهور أو القرّاء، بل بعض الزملاء الذين كانوا يرون فيه الشجرة التي أخفت الغابة. الموقف من زياد يتساءل عن الفارق بين أن تقول رأيك في الأزمات الشائكة، التي تفرّق الناس إلى طوائف وفئات، أو أن تحتفظ به، وتظلّ على الحياد حبيباً للجميع.

الفرق بين فيروز وزياد، في طبيعة إبداع كلّ منهما، فيروز صوت الآخرين، وهم الشاعر والملحّن والموسيقي والكاتب، وزياد هو كلّ هذا. عمله يفترض وجود قدر هائل من حرّية وطلاقة التعبير، ليُبدع ويخلق الجمال من لا شيء. وشخص له هذه المهمة، لا يمكن أن يحرس فمه وعقله، لأنه لولا ذلك لما بلغ مناطق غير مطروقة في الأدب والفنّ. فالحرية والجنون، والخروج من المألوف والسيطرة والسياق العام والتفكير الشائع... هي ما تجعله مبدعاً خلّاقاً.

هذا الطبع يضعه في موقف حرج حين ينطق بما ليس على الهوى العام. وما من شيء على الهوى العام حقيقةً، فهو هوىً مُتذبذب غير مستقرّ على يمين أو يسار. والحديث هنا ليس عن مواجهة سلطة أو حكومة، بل عن مواجهة سلطة الحشود، أن يكون للمرء رأي مخالف، يخسر بسببه جزءاً من الحشود. مع أن الحشود نفسها تطالب باتخاذ موقف، وهو الموقف الموافق لها لا الموقف المعارض. وفيروز رأت بلادها وهي تمرّ بسلسلة من الحروب والنزاعات داخلها وحولها، ولم تقل كلمة، واحتفظت بالحبّ كاملاً.

لهذا سيكون الرّاثون في عزاء فيروز (مثلاً) بحجم أمّة من العاشقين الذين لم تخدش لهم فيروز خاطراً، رغم أنّهم تمنّوا لو أنها طلّقت الصمت، لصالح قضية أو أخرى. فيروز صمتت عن جميع القضايا، حتى لا تتكلّم في القضية الخطأ، وربّما لأنّ الصمت يجنّبها كلّياً حرج الاختيارات. فالتعوُّد على التصريح عن المواقف، قد يدفع لسانها لأن يتمرّد، وينطق بما لا يجب، فاللسان المُنطلق تصعب السيطرة عليه.

أخذ زياد على عاتقه إعادة رسم صورة لبنان بشكل واقعي يتمعّن في الفوارق أكثر ممّا يحتفي بالمشتركات، وفيروز ظلّت محافظةً على صورة لبنان المسالم البسيط، في صورة ضيعة تضمّ جيراناً طيبين. أمّا زياد فرأى بوادر الحرب الأهلية في وقت كان فيه الرحابنة يروجون صورة لبنان المثالي. زياد اعتنق حداثة شاملة وحقيقية ومتعدّدة، بدلاً من الرحابنة الذين خرجوا بالكاد من عباءة الرؤية التقليدية، والمحافظة على التراث مع تطويره. بينما الحداثة تتطلّب من صاحبها أن يكون شائكاً ناقداً ناقماً، وإلا فهي مجرّد شعار، يغطّي تفكيراً محافظاً تقليدياً، مستكين إلى الواقع، وهذا ما لم يفعله زياد.

 

####

 

زوايا

غاب وترك لنا المرآة

رشا عمران

كان يمكن لأيّ أحد أن يراه في شارع الحمرا في بيروت ماشياً وحده، برأسه المائل إلى الأسفل قليلاً وبخطواته الهادئة، أو جالساً في أيٍّ من حانات الشارع يأكل شيئاً ما أو يشرب كأس خمر، وحيداً أو بصحبة صديق أو صديقَين، بينما الحانة ممتلئة بالناس من دون أن يخطر لأحد أن يطلب التقاط صورة معه. ليس لأن زياد الرحباني كان مجهولاً للآخرين، بل لأنه كان معروفاً أكثر ممّا ينبغي لفنّان مثله، كان قريباً من الجميع أو صديقهم، هذا الصديق الذي لا يخطر لك أن تلتقط صورة تذكارية معه، ذلك أنك تراه في كلّ لحظة وفي كلّ وقت. هو قريبٌ إلى هذا الحدّ، إلى حدّ أن جلوسه إلى طاولة بقربك لا يثير لديك الدهشة. ليس لأن زياد كان موجوداً دائماً في هذه الأماكن، بل لأنه موجوداً دائماً في الوعيين، الجمعي والفردي، لأكثر من جيل لبناني وعربي، إلى حدّ أننا (نحن أبناء هذه الأجيال) نردّد كلامه ونتقمّص طريقته في السخرية من كلّ شيء، ونغضب مثلما يغضب، ونحفظ ألحانه وأغنياته كما لو أننا نحن من صنعها لا هو.

لم يكن زياد نجماً على طريقة نجوم الفنّ المعتادين، لكنّه كان نجماً على طريقته الخاصّة: حضور متفرّد وقوي وواضح وصادق وعفوي وجارح، لا يسعى إلى أن يحبّه أحد، لكنّ الملايين أحبّوه من دون سطوة الإعلام وسطوة شركات الإنتاج وسطوة الفضائيات، كان لديه هذا الحضور الغامض الذي يملكه عباقرة قليلون، غموض متحرّر من الصورة النمطية للنجم، ويقف على الحافّة، يراقب سقوط الجميع في فخّ الصورة نفسها بينما هو الناجي الوحيد.

لم يأتِ زياد من الهامش نهائياً على طريقة أساطين الفنّ العربي التقليدي، بل جاء من متن هذا الفنّ، لم يكن مقطوعاً من شجرة كما يقال، هو فرعٌ أصيل لشجرة فنّية بالغة الثراء، هو ابن العائلة الرحبانية التي غيّرت في مفهوم الأغنية العربية والموسيقى العربية، وأخذتها نحو تجاربَ مختلفةٍ في الإيقاعات مدمجة بين التقليدي والحديث، وهو ابن العائلة التي جعلت من لبنان حالةً فريدةً ومتميّزةً في المشرق العربي، هو ابن فيروز، الأيقونة التي يتبارك صباحاً بصوتها ملايين من العرب. لكن زياد استطاع ببراعة فريدة تحويل هذا المتن العظيم إلى هامش لا يقلّ عظمة، لكن عظمته ترابية، من بؤرة الواقع الأسود، من كلّ فجاجة هذا الواقع: الطائفية والمذهبية والمناطقية والنخبوية والفقر والحرب الأهلية والانقسام والقتل على الهُويَّة. هذه الفجاجة التي بدت في أعمال الرحابنة وفيروز هامشية كشفتها أعمال زياد على حقيقتها، وأعادتها إلى مكانها الطبيعي: المتن.

هذا الاستبدال لم يكن عفوياً، كان نتيجة فهم زياد الفطري للواقع، وفهمه المعرفي لحقيقة هذا الواقع، نتيجة رؤيته الوجه الآخر للصورة التي أرادت عائلته الفنّية إظهارها: ما يحدث في لبنان هو بسبب الآخرين؛ لكن زياداً رأى الحقيقة الأخرى، وجه الصورة المظلم: ما يحدث في لبنان هو أولاً بسبب أن اللبنانيين ليسوا شعباً، بل مجموعة طوائف متصارعة. هكذا استطاع أن يكسر الرومانسية الرحبانية التي تتناسب مع خيبة أجيال النكبة والنكسة المأخوذة بالبعد القومي للقضايا الوطنية، ليظهر القصّة على حقيقتها الفجّة، لكنّها الحقيقة البسيطة: "نحن سبب هزائمنا، العطب فينا والخراب فينا.

قدّم زياد لأبناء جيله هُويَّةً جديدةً للبنان وللعرب، هُويَّة حقيقية مغمّسة بوسخ الواقع العربي، رافضاً الهُويَّة الرومانسية المتخيّلة التي اقترحتها عائلته الفنّية. لم يقتل زياد أبيه (عائلته) على طريقة فرويد، لكنه كسر الصورة التي أرادتها العائلة للبنان والعالم العربي، ثمّ أعاد تجميعها على طريقته التي وجد فيها الجيل العربي المعاصر لزياد الرحباني صورته الحقيقية، فتبنّاها، وجعل من صاحبها نجماً بمواصفات شديدة الخصوصية. النجم الذي يراه كلّ شخص في ذاته، وكأنّ زياداً استطاع أن يحوّلنا جميعاً (نحن أبناء جيله الذين عاصرناه وسمعناه وحفظناه وتشبّهنا به) زياداً آخر، فجّاً ووقحاً وساخراً وعبقرياً ومبدعاً وحسّاساً وعاشقاً ومخذولاً وخائباً وطيّباً وساذجاً وخبيثاً وشكّاكاً وصافياً وأيديولوجياً ومتناقضاً. نحن جميعاً هذا الزياد الذي غاب قبل أيام قليلة، مغيّباً معه أحلامنا المُجهَضة، وتاركا لنا (نحن نجوم ذواتنا) المرآة التي تعكس خرابنا الكبير.

 

العربي الجديد اللندنية في

01.08.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني: أحبَّه السوريون أكثر مما عرفوه

عمر قدور

أحَبَّ السوريون زياد أكثر مما عرفوه؛ أحبّوه في المسرح والغناء، وأحبّوه على نحو أوسع قبل اندلاع الثورة في آذار 2011. عند تلك النقطة خذل زياد الكثير من محبيه؛ أولئك الذين توقعوا منه موقفاً مغايراً، الذين فوجئوا حقاً بأنه خالف توقّعاتهم، الذين لم يعرفوا زياد بقدر ما أحبّوه. البعض منهم وجد العزاء فيما وجده آخرون كثر، ومنهم لبنانيون، بالقول إن السياسي لدى زياد هو أسوأ ما فيه، وليته صمت فلم يتحدث في السياسة نهائياً خارج فنّه، مسرحاً كان أو غناء وموسيقى.

أشقاء زياد السوريون

شهيرة هي الحفلة التي أحياها زياد في دمشق عام 2008، وربما احتفظ منها بدهشته إزاء جَمهور شديد الحماس إلى حدٍّ منعه من الغناء، لأنه راح يغنّي بدلاً منه. هو جيل من السوريين لا يعرف زياد عنه شيئاً؛ جيل ينتسب إليه لأسباب يجهلها هو، وقد لا تكون معرفتها ضمن اهتمامات أبناء الجيل نفسه.

قسم معتبر من هذا الجيل ينحدر من آباء رحبانيين، من أمهات وآباء يعشقون تجربة فيروز مع عاصي ومنصور. أبناؤهم يرون أنفسهم، على نحو ما، أشقاء لزياد، ويرون في تمرّده على أبويه الحقيقيين صورة تمرّدهم على أهاليهم، سواء أكان تمردهم ناجزًا أو مأمولًا. في العموم، يصحّ القول إن هؤلاء الآباء والأمهات ليسوا بعيدين عن جوّ السياسة، بقدر ما كانت تسمح به الظروف أثناء حكم الأسد، أو بقدر ما أمكن تجاوز الخطوط الحمراء. في كل الأحوال، لم يكن ذلك الانشغال السياسي مما يرضي جيل الأبناء الذين وعوا على نهاياته الخائبة، من جهة السلطة والمعارضة.

السواد الأعظم من الآباء، عشّاق الرحابنة، من منبت ريفي، وقد أتى قسم كبير منهم للاستقرار في المدينة في عقدي الستينيات والسبعينيات. أولادهم يرون أنفسهم أبناء للمدينة، أو مدينيين حتى بالمقارنة مع أهاليهم. هذا الاختلاف يجعلهم أقرب إلى زياد، فهو قد ابتدأ حياته الفنية المستقلة بمسرحية "سهرية"، والتي تدور أحداثها كما هو معلوم في مقهى؛ المقهى الذي هو علامة مدينية بامتياز. ثم لن يتأخر في إصدار مسرحيته "نزل السرور"، والنزل أيضاً علامة مدينية بامتياز.  

في "سهرية" كان الصراع الجيلي حاضرًا في ثنايا الحكاية، وكان تمرُّد زياد على أهله أقل بروزًا، إذ بدا أنه استلف من مسرح العائلة عدّة مسرحيته الأولى. إلا أنه كان قد أخذ من الصف الثاني لمسرح الأهل فنانين دفع بهم إلى الصف الأول، ولم يكن وارداً أن يستلف من الصف الأول المحجوز بأكمله لفيروز. غياب فيروز، بما تمثّله، أفسح في "سهرية" لتكون البطولة جماعية، وهذا وجه من الاختلاف بين مسرحه ومسرح الرحابنة الذي اعتمد على البطولة المطلقة، وفشل عندما انفرط عقد الشراكة مع فيروز لعدم وجود بديل قادر على ملءَ مكانها.

وجه الافتراق الآخر لزياد على تجربة عاصي أنه عاد إلى مشارب طربية كان الأب قد استغنى هنا، وهنا أمثولة في أن بوصلة التمرّد لا تشير إلى اتجاه وحيد. فالابن عاد إلى نموذج الشيخ زكريا أحمد، إذا صحّ التعبير، وربما أتت عودته عن طريق ألحان فيلمون وهبي، أو بعض ألحان الشيخ إمام التي راحت تنتشر في مستهل السبعينيات. في إحدى المقابلات المصوَّرة ستظهر صورة زكريا أحمد وراء زياد، وعلى الحائط (في الغرفة ذاتها) ستكون هناك صورة لستالين!

إذا شئنا إيجاد قرابة لعاصي بالطرب المصري فأغلب الظن أنها ستكون بعبدالوهاب، ونموذجها ألحان عبدالوهاب حوالى منتصف الأربعينيات. أما ما أخذه من سيد درويش فلم يتعدَّ الطقاطيق مثل زوروني كل سنة مرة، والحلوة دي، ولم يكن أداء موشَّح "يا شادي الألحان" لدرويش بعيد عن التبسيط الرحباني لما غنّته فيروز من موشّحات. في المجمل، قد يبدو غريباً أن الابن المتمرد ذهب وراءً أبعد من أبيه، إذا صنّفنا زكريا أحمد بأنه أقدم من عبدالوهاب. أما لقاء الأب والابن عند سيد درويش فهو أقلّ من أن يُحمَّل دلالة عميقة، لأن الانتساب إلى درويش صار بمثابة الموضة، تساعد في انتشارها سهولةُ الحصول في تجربته المتنوعة على وجه للانتساب.

ويجوز القول إن مدينية زياد جعلته أكثر تركيبًا في الموسيقى، بخلاف بساطة عاصي الذي يسهل القبض على مناهله الأساسية. يلتقي الابن مع الأب على أهمية التوزيع الموسيقي في توليف العناصر الشرقية والغربية، إلا أن الابن القادم من موسيقا الجاز استغنى عن بساطة الفلكلور الشعبي، وهو من المؤثرات الريفية الرحبانية، لينشغل باستكشاف ما هو طربي، والذي بطبيعة الحال أكثر تركيباً على الصعيد الموسيقي.

لعل تأثير الجاز على زياد من الملامح غير المكتَشفة سوريّاً، إلا على نطاق ضيق من المختصين موسيقياً والمهتمين به. ويمكن القول بوجود فجوة في المعرفة الموسيقية السورية، تعكس التراجع العام للمعارف، هي الفجوة بين معرفة قديمة بالموسيقا الكلاسيكية، والقفز منها إلى موسيقا البوب مباشرة، من دون المرور بتذوق الجاز والبلوز وسواهما. أغلب الظن أن موسيقا زياد هي الجاز الأبلغ تأثيراً لدى شرائح واسعة من السوريين، بصرف النظر عمّا يقوله المختصون في قيمته الفنية.

ستالين بديلاً عن بوسطة عين الرمانة

من خلال مقابلات عيدة لزياد، نميل إلى الاعتقاد بأن الحدث الأبلغ تأثيرًا عليه كان الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت كما هو معلوم بحادثة بوسطة عين الرمانة. الشاب الذي كان في العشرين، (الموهبة الصاعدة بقوة آنذاك)، اصطدم بالحرب الأهلية فصدمته بقوة لن ينجو منها وعيه السياسي إطلاقًا.

لا يُستبعد في هذا السياق أن يكون زياد في نشأته قد تأثّر بلبنان الرحباني، أي بتلك الصورة الريفية المبسَّطة جداً عن الوطن، والتي بيّنت الحرب الأهلية مدى افتراقها عن الواقع اللبناني؛ المعقَّد والقابل للاشتعال معًا. بهذا المعنى، كانت الحرب اللبنانية إجهازًا على المشروع الرحباني، إنما ليس على الشاكلة التي يريدها الابن المتمرّد؛ الابن الذي يريده تمردًا فنيًا، لا حربًا بمنتهى الفظاعة.

عند هذه النقطة يمكن القول إن الابن امتلك وعياً سياسياً لا يتقدّم على وعي الأهل، وإن ظهر على السطح متمرّداً على الخيارات السياسية لأبيه أو لأمه، أو على الخطاب الرحباني كما صيغ بمسرح الأخوين. وجه التشابه بين زياد (الشخص) والمسرح الرحباني أنه يقدّم حلاً تبسيطياً لمشكلة مركَّبة ومعقَّدة بطبيعتها، فإذ كانت المشكلة من وجهة نظره هي الطوائف فالحل هو الدولة، ولئن كانت الدولة الموجودة ضعيفة، ولم تستطع منع الحرب أو إيقافها، فالحل يكون بمزيد من الدولة. أو بالأحرى بالدولة التي تمتلك القدرة على قمع الطوائف، وهذه الدولة لا بد أن يتهيأ لها رأس قوي باطش؛ لا بد لها من ستالين.

فكرة النظام الستاليني الصارم هي فكرة جوهرية لدى زياد، بمعنى أنه ليس على النقيض سياسياً من أي نظام قمعي. هذا يصحّ بالمطلق تقريباً، وأينما كان، بما أن النظام الستاليني المأمول لم يتحقق في لبنان، أي لم يصبح بعدُ واقعًا يمكن حينها النيلُ منه والوقوف على نقيضه. على ذلك، من المفهوم انحياز زياد إلى البيئات الحزبية اللبنانية الأشد انضباطًا على الصعيدين التنظيمي والعسكري، وصولًا إلى انحيازه لحزب الله في أعلى مراحل سيطرته على (الدولة) اللبنانية التي لا يحترمها زياد، ولا يراها أهلاً للقيادة بقدر ما يرى الأهليةَ في الحزب.

لا غرابة بالطبع أن يأتي توسّل الستالينية مشفوعًا بالهمّ الطبقي، فهذه هي تيمة اليسار الأرثوذكسي في العالم كله، ولم يندر أن يتجاور الانحياز إلى الفقراء والمهمَّشين مع الإعجاب بالديكتاتوريات. هذا التناقض لم يوضع على المحكّ الصعب بالنسبة لزياد، وهكذا كان بوسعه التعاطي سلبًا مع الثورات ضد الطغاة في بلدان أخرى، ومنها سوريا بما أنه منفصل مكانيًا ونفسيًا عن المقتلة التي حدثت فيها. بل من المرجَّح أن يكون لسوريا خصوصية تشجّعه على اتخاذ الموقف الذي اتخذه، مصدر الخصوصية هو التنوع الطائفي الذي أدى (بغياب النظام الصارم) إلى الحرب الأهلية اللبنانية. وقد يكون مفاجئًا الكلام عن وجود سوريين يشبهونه من حيث لا يدرون ولا يقصدون، أي أولئك الذين بسبب الصراع القاسي في سوريا، وما رافقه من فوضى، راحوا يتوسّلون النظام؛ أيّ نظام كان، ومهما بلغ من السوء، والبعض قَبِل بداعش بديلاً عن الفوضى.

الحديث هو بالأحرى عن رضٍّ سياسي، لا عن مشروع سياسي واعٍ حمَله زياد، وحمّله الآخرون تبعاته؛ إما بأخذه على محمل الجد بوصفه مشروعاً، أو بالاستهانة التامة به من دون تكلّف عناء فهمه. الصيغة الدارجة على شكل تقدير فنّ زياد والاستخفاف بموقفه السياسي لا تقول الكثير عما قد يكون وعياً شقيّاً ممزَّقاً في الأصل لأسباب خارجة عن إرادته، منها الحرب الأهلية، ومنها انفراط عقد عاصي وفيروز بعد اندلاعها بوقت قصير، فالتمرّد الجيلي الذي أشرنا إليه يتغذّى جانب مهم منه من وجود العائلة، لا من انفراطها الذي له تأثيرات مغايرة كليّاً، ومن ذلك أن يلتبس التمرّد بنقيضه.

***

كان زياد ثرثارًا كبيرًا، شديد الجاذبية، في كلّ شيء. لكنه لم يكن كذلك فيما يخص  الحديث عن مختبره الفني، أو حتى الحديث عن انحيازه السياسي من موقع الإيجاب. انحيازه السياسي كان دائمًا (ضدّ)، ما يشي بالأسباب التي أتينا على ذكرها. ولئن كان موقفه السياسي أكثر قابلية للاستكشاف من قبل العموم، فإن تعويض عدم تحدّثه في مشروعه الفني هو أفضل ما يمكن فعله لتبديد سوء الفهم الذي كثيرًا ما اعترى العلاقة بينه وبين جمهوره الأوسع.

ربما يكون سوء الفهم هذا مادةً فنية، خصوصًا من فنّان لطالما اعتمد عليه لبناء حواريات فيها الكثير من العبث الكلامي. إلا أن سوء الفهم الذي نشير إليه هو ما جعله نزقًا في الكثير من الأحيان، لأنه لم يكن مفهومًا، ولأن كرامة الفنّ تقتضي عدم التوضيح. على صعيد متصل بمفهوم الكرامة ذاته، لا شكّ في أنها خسارة كبرى أن ينتهي مبكرًا سوءُ الفهم المتبادَل بينه وبين الحياة.

 

المدن الإلكترونية في

01.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004