زياد الرحباني: أحبَّه السوريون أكثر مما عرفوه
عمر قدور
أحَبَّ السوريون زياد أكثر مما عرفوه؛ أحبّوه في المسرح
والغناء، وأحبّوه على نحو أوسع قبل اندلاع الثورة في آذار 2011. عند تلك
النقطة خذل زياد الكثير من محبيه؛ أولئك الذين توقعوا منه موقفاً مغايراً،
الذين فوجئوا حقاً بأنه خالف توقّعاتهم، الذين لم يعرفوا زياد بقدر ما
أحبّوه. البعض منهم وجد العزاء فيما وجده آخرون كثر، ومنهم لبنانيون،
بالقول إن السياسي لدى زياد هو أسوأ ما فيه، وليته صمت فلم يتحدث في
السياسة نهائياً خارج فنّه، مسرحاً كان أو غناء وموسيقى.
أشقاء زياد السوريون
شهيرة هي الحفلة التي أحياها زياد في دمشق عام 2008، وربما
احتفظ منها بدهشته إزاء جَمهور شديد الحماس إلى حدٍّ منعه من الغناء، لأنه
راح يغنّي بدلاً منه. هو جيل من السوريين لا يعرف زياد عنه شيئاً؛ جيل
ينتسب إليه لأسباب يجهلها هو، وقد لا تكون معرفتها ضمن اهتمامات أبناء
الجيل نفسه.
قسم معتبر من هذا الجيل ينحدر من آباء رحبانيين، من أمهات
وآباء يعشقون تجربة فيروز مع عاصي ومنصور. أبناؤهم يرون أنفسهم، على نحو
ما، أشقاء لزياد، ويرون في تمرّده على أبويه الحقيقيين صورة تمرّدهم على
أهاليهم، سواء أكان تمردهم ناجزًا أو مأمولًا. في العموم، يصحّ القول إن
هؤلاء الآباء والأمهات ليسوا بعيدين عن جوّ السياسة، بقدر ما كانت تسمح به
الظروف أثناء حكم الأسد، أو بقدر ما أمكن تجاوز الخطوط الحمراء. في كل
الأحوال، لم يكن ذلك الانشغال السياسي مما يرضي جيل الأبناء الذين وعوا على
نهاياته الخائبة، من جهة السلطة والمعارضة.
السواد الأعظم من الآباء، عشّاق الرحابنة، من منبت ريفي،
وقد أتى قسم كبير منهم للاستقرار في المدينة في عقدي الستينيات
والسبعينيات. أولادهم يرون أنفسهم أبناء للمدينة، أو مدينيين حتى بالمقارنة
مع أهاليهم. هذا الاختلاف يجعلهم أقرب إلى زياد، فهو قد ابتدأ حياته الفنية
المستقلة بمسرحية "سهرية"، والتي تدور أحداثها كما هو معلوم في مقهى؛
المقهى الذي هو علامة مدينية بامتياز. ثم لن يتأخر في إصدار مسرحيته "نزل
السرور"، والنزل أيضاً علامة مدينية بامتياز.
في "سهرية" كان الصراع الجيلي حاضرًا في ثنايا الحكاية،
وكان تمرُّد زياد على أهله أقل بروزًا، إذ بدا أنه استلف من مسرح العائلة
عدّة مسرحيته الأولى. إلا أنه كان قد أخذ من الصف الثاني لمسرح الأهل
فنانين دفع بهم إلى الصف الأول، ولم يكن وارداً أن يستلف من الصف الأول
المحجوز بأكمله لفيروز. غياب فيروز، بما تمثّله، أفسح في "سهرية" لتكون
البطولة جماعية، وهذا وجه من الاختلاف بين مسرحه ومسرح الرحابنة الذي اعتمد
على البطولة المطلقة، وفشل عندما انفرط عقد الشراكة مع فيروز لعدم وجود
بديل قادر على ملءَ مكانها.
وجه الافتراق الآخر لزياد على تجربة عاصي أنه عاد إلى مشارب
طربية كان الأب قد استغنى هنا، وهنا أمثولة في أن بوصلة التمرّد لا تشير
إلى اتجاه وحيد. فالابن عاد إلى نموذج الشيخ زكريا أحمد، إذا صحّ التعبير،
وربما أتت عودته عن طريق ألحان فيلمون وهبي، أو بعض ألحان الشيخ إمام التي
راحت تنتشر في مستهل السبعينيات. في إحدى المقابلات المصوَّرة ستظهر صورة
زكريا أحمد وراء زياد، وعلى الحائط (في الغرفة ذاتها) ستكون هناك صورة
لستالين!
إذا شئنا إيجاد قرابة لعاصي بالطرب المصري فأغلب الظن أنها
ستكون بعبدالوهاب، ونموذجها ألحان عبدالوهاب حوالى منتصف الأربعينيات. أما
ما أخذه من سيد درويش فلم يتعدَّ الطقاطيق مثل زوروني كل سنة مرة، والحلوة
دي، ولم يكن أداء موشَّح "يا شادي الألحان" لدرويش بعيد عن التبسيط
الرحباني لما غنّته فيروز من موشّحات. في المجمل، قد يبدو غريباً أن الابن
المتمرد ذهب وراءً أبعد من أبيه، إذا صنّفنا زكريا أحمد بأنه أقدم من
عبدالوهاب. أما لقاء الأب والابن عند سيد درويش فهو أقلّ من أن يُحمَّل
دلالة عميقة، لأن الانتساب إلى درويش صار بمثابة الموضة، تساعد في انتشارها
سهولةُ الحصول في تجربته المتنوعة على وجه للانتساب.
ويجوز القول إن مدينية زياد جعلته أكثر تركيبًا في
الموسيقى، بخلاف بساطة عاصي الذي يسهل القبض على مناهله الأساسية. يلتقي
الابن مع الأب على أهمية التوزيع الموسيقي في توليف العناصر الشرقية
والغربية، إلا أن الابن القادم من موسيقا الجاز استغنى عن بساطة الفلكلور
الشعبي، وهو من المؤثرات الريفية الرحبانية، لينشغل باستكشاف ما هو طربي،
والذي بطبيعة الحال أكثر تركيباً على الصعيد الموسيقي.
لعل تأثير الجاز على زياد من الملامح غير المكتَشفة
سوريّاً، إلا على نطاق ضيق من المختصين موسيقياً والمهتمين به. ويمكن القول
بوجود فجوة في المعرفة الموسيقية السورية، تعكس التراجع العام للمعارف، هي
الفجوة بين معرفة قديمة بالموسيقا الكلاسيكية، والقفز منها إلى موسيقا
البوب مباشرة، من دون المرور بتذوق الجاز والبلوز وسواهما. أغلب الظن أن
موسيقا زياد هي الجاز الأبلغ تأثيراً لدى شرائح واسعة من السوريين، بصرف
النظر عمّا يقوله المختصون في قيمته الفنية.
ستالين بديلاً عن بوسطة عين الرمانة
من خلال مقابلات عيدة لزياد، نميل إلى الاعتقاد بأن الحدث
الأبلغ تأثيرًا عليه كان الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت كما هو معلوم
بحادثة بوسطة عين الرمانة. الشاب الذي كان في العشرين، (الموهبة الصاعدة
بقوة آنذاك)، اصطدم بالحرب الأهلية فصدمته بقوة لن ينجو منها وعيه السياسي
إطلاقًا.
لا يُستبعد في هذا السياق أن يكون زياد في نشأته قد تأثّر
بلبنان الرحباني، أي بتلك الصورة الريفية المبسَّطة جداً عن الوطن، والتي
بيّنت الحرب الأهلية مدى افتراقها عن الواقع اللبناني؛ المعقَّد والقابل
للاشتعال معًا. بهذا المعنى، كانت الحرب اللبنانية إجهازًا على المشروع
الرحباني، إنما ليس على الشاكلة التي يريدها الابن المتمرّد؛ الابن الذي
يريده تمردًا فنيًا، لا حربًا بمنتهى الفظاعة.
عند هذه النقطة يمكن القول إن الابن امتلك وعياً سياسياً لا
يتقدّم على وعي الأهل، وإن ظهر على السطح متمرّداً على الخيارات السياسية
لأبيه أو لأمه، أو على الخطاب الرحباني كما صيغ بمسرح الأخوين. وجه التشابه
بين زياد (الشخص) والمسرح الرحباني أنه يقدّم حلاً تبسيطياً لمشكلة مركَّبة
ومعقَّدة بطبيعتها، فإذ كانت المشكلة من وجهة نظره هي الطوائف فالحل هو
الدولة، ولئن كانت الدولة الموجودة ضعيفة، ولم تستطع منع الحرب أو إيقافها،
فالحل يكون بمزيد من الدولة. أو بالأحرى بالدولة التي تمتلك القدرة على قمع
الطوائف، وهذه الدولة لا بد أن يتهيأ لها رأس قوي باطش؛ لا بد لها من
ستالين.
فكرة النظام الستاليني الصارم هي فكرة جوهرية لدى زياد،
بمعنى أنه ليس على النقيض سياسياً من أي نظام قمعي. هذا يصحّ بالمطلق
تقريباً، وأينما كان، بما أن النظام الستاليني المأمول لم يتحقق في لبنان،
أي لم يصبح بعدُ واقعًا يمكن حينها النيلُ منه والوقوف على نقيضه. على ذلك،
من المفهوم انحياز زياد إلى البيئات الحزبية اللبنانية الأشد انضباطًا على
الصعيدين التنظيمي والعسكري، وصولًا إلى انحيازه لحزب الله في أعلى مراحل
سيطرته على (الدولة) اللبنانية التي لا يحترمها زياد، ولا يراها أهلاً
للقيادة بقدر ما يرى الأهليةَ في الحزب.
لا غرابة بالطبع أن يأتي توسّل الستالينية مشفوعًا بالهمّ
الطبقي، فهذه هي تيمة اليسار الأرثوذكسي في العالم كله، ولم يندر أن يتجاور
الانحياز إلى الفقراء والمهمَّشين مع الإعجاب بالديكتاتوريات. هذا التناقض
لم يوضع على المحكّ الصعب بالنسبة لزياد، وهكذا كان بوسعه التعاطي سلبًا مع
الثورات ضد الطغاة في بلدان أخرى، ومنها سوريا بما أنه منفصل مكانيًا
ونفسيًا عن المقتلة التي حدثت فيها. بل من المرجَّح أن يكون لسوريا خصوصية
تشجّعه على اتخاذ الموقف الذي اتخذه، مصدر الخصوصية هو التنوع الطائفي الذي
أدى (بغياب النظام الصارم) إلى الحرب الأهلية اللبنانية. وقد يكون مفاجئًا
الكلام عن وجود سوريين يشبهونه من حيث لا يدرون ولا يقصدون، أي أولئك الذين
بسبب الصراع القاسي في سوريا، وما رافقه من فوضى، راحوا يتوسّلون النظام؛
أيّ نظام كان، ومهما بلغ من السوء، والبعض قَبِل بداعش بديلاً عن الفوضى.
الحديث هو بالأحرى عن رضٍّ سياسي، لا عن مشروع سياسي واعٍ
حمَله زياد، وحمّله الآخرون تبعاته؛ إما بأخذه على محمل الجد بوصفه
مشروعاً، أو بالاستهانة التامة به من دون تكلّف عناء فهمه. الصيغة الدارجة
على شكل تقدير فنّ زياد والاستخفاف بموقفه السياسي لا تقول الكثير عما قد
يكون وعياً شقيّاً ممزَّقاً في الأصل لأسباب خارجة عن إرادته، منها الحرب
الأهلية، ومنها انفراط عقد عاصي وفيروز بعد اندلاعها بوقت قصير، فالتمرّد
الجيلي الذي أشرنا إليه يتغذّى جانب مهم منه من وجود العائلة، لا من
انفراطها الذي له تأثيرات مغايرة كليّاً، ومن ذلك أن يلتبس التمرّد بنقيضه.
***
كان زياد ثرثارًا كبيرًا، شديد الجاذبية، في كلّ شيء. لكنه
لم يكن كذلك فيما يخص الحديث عن مختبره الفني، أو حتى الحديث عن انحيازه
السياسي من موقع الإيجاب. انحيازه السياسي كان دائمًا (ضدّ)، ما يشي
بالأسباب التي أتينا على ذكرها. ولئن كان موقفه السياسي أكثر قابلية
للاستكشاف من قبل العموم، فإن تعويض عدم تحدّثه في مشروعه الفني هو أفضل ما
يمكن فعله لتبديد سوء الفهم الذي كثيرًا ما اعترى العلاقة بينه وبين جمهوره
الأوسع.
ربما يكون سوء الفهم هذا مادةً فنية، خصوصًا من فنّان
لطالما اعتمد عليه لبناء حواريات فيها الكثير من العبث الكلامي. إلا أن سوء
الفهم الذي نشير إليه هو ما جعله نزقًا في الكثير من الأحيان، لأنه لم يكن
مفهومًا، ولأن كرامة الفنّ تقتضي عدم التوضيح. على صعيد متصل بمفهوم
الكرامة ذاته، لا شكّ في أنها خسارة كبرى أن ينتهي مبكرًا سوءُ الفهم
المتبادَل بينه وبين الحياة. |