ملفات خاصة

 
 
 

موسيقى

زياد الرحباني... آثار على رمال الأخوين

فارس يواكيم

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

يمثّل زياد الرحباني في نشأته الفنية ومراحل تطوره، موهبةً بزغت في بيئة ملائمة ضمن مسار نموّ طبيعي. تبقى في جيناتها بصمات وراثية من المنبع، ولا تلبث في جوهرها ومظهرها أن تكتسب هوية خاصة. كتب الكلمات، ولحّن، ووزّع الموسيقي، وألّف المسرحيات. زياد أخرج مسرحياته، أما تلك التي كتبها الأخوان رحباني، فكان إخراجها بتوقيع صبري الشريف، ثم برج فازليان. وفي الحالين، لم يكفّ عاصي عن التدخل الفني. لم يتولَّ زياد قيادة الأوركسترا لانشغاله بالتمثيل، وفي الحفلات الموسيقية تولّى مهمة العزف على البيانو. في البدايات، دخل هذه الفضاءات الموسيقية الغنائية والمسرحية من باب الأخوين رحباني، ثم ما لبث أن صنع أبوابه، وأصبح يدخل ويخرج منها

لم يكن إنجاز الأخوين رحباني رجعياً، لينكره زياد حين أصبح الفنان الملتزم بالتوجّهات التقدمية، أو ليعلن الحرب عليه. حتماً لم يكن لديه موقف معادٍ لمجموعات روائع الأخوين عن فلسطين، ولم يستنكر الأغاني التي صاغاها عن الفلاحين والمعاول ومواسم الحصاد وجبهة العامل السمراء، والمواطن - الجندي الذي "راح مع العسكر" وأصبح برجاً مسوّراً (وسيرجع بأصوات البلابل وأغاني الحصادين وكتب المدارس). لم يستهجن النبرة المرحة في أغاني الشاويش، أو "بويا بويا" أو "جدي يا بو ديب". لم يرفض أغاني الحب من لون "طريق النحل".
الخلاف كان واضحاً بشأن الأغاني التي اتُّفق على تسميتها "الوطنية"، ومردّه إلى أسلوب النظم. لم يستسغ زياد المبالغة في التغنّي بجمال لبنان إلى حد الطوباوية، خصوصاً عندما ترسّخت لديه نظرة واقعية تجاه المجتمع، يوم بدأ لبنان يفقد جماله مع اندلاع الحرب سنة 1975 وحدوث الانهيارات السياسية والاجتماعية والثقافية. في مقابلة صحافية أجرتها منى غندور (سنة 1980) قال بالحرف الواحد: "بعد الحرب بدأ الخط الرحباني "يعصّبني" وأتعب من سماعه. أحبّه في بعض الأحيان، لكنه حين يزيد أختنق. لا أفهم أن يقال بعد الحرب حكايات عن الغيمة الزرقاء والعصفور والسمّاعة التي تبكي. يجب أن يجرب الرحابنة نوعاً آخر". وفي جلسة معه في مطلع التسعينيات، أتينا على ذكر هذا النمط، فاستعاد ختام مغناة "موسم العز" وتساءل بسخرية: "معقول نغني اليوم: بعد الله اعبدوا لبنان؟ الناس مش عم يعبدوا الله بدك ياهم يعبدوا لبنان؟ معقول نرندح: القوي لبنان، الغني لبنان، الهَنا والجنى بسما لبنان. أي قوي؟ ما عاد عنده رجلين يمشي، وأي غني والفقر عم ينهش الناس؟ وأي هَنا بالسما وما في غير رصاص وقذايف وطائفية عم تكبر متل غول متوحش؟
".  

صحيح أن الأخوين رحباني في البدايات بمهرجانات بعلبك، نظرا إلى لبنان بمثالية، وتغنّيا بصورة له كما يتمنّيانه، ليس كما هو عليه. والصحيح أيضاً أن هذه النظرة لم تقتصر عليهما، في مرحلة أنشد فيها وديع الصافي "لبنان يا قطعة سما"، وغنّت صباح "يسلم لنا لبنان جنة أمانينا" (الأغنيتان للشاعر يونس الابن) وصدح صوت نجاح سلام بقصيدة أمين تقي الدين "الله يا لبنان ما أجملك". وبدءاً من "بياع الخواتم"، وصولاً إلى "بترا"، لم تكن مسرحيات الأخوين رحباني تحمل سمات لبنان المثالي الوهمي، بل لم تخلُ من نقد ومن غمز ولمز، كما هو الحال في "هالة والملك" و"الشخص" و"يعيش يعيش" و"ناطورة المفاتيح" وسواها. وفي "جبال الصوان"، هناك موقف صريح مؤيد للمقاومة ضد الاحتلال. تغنّى الأخوان عاصي ومنصور بلبنان الوطن وليس بلبنان النظام. وفي الإطار نفسه، أبدع زياد لاحقاً لحناً جميلاً، زاد من جماله صوت فيروز وهي تغني كلمات جوزف حرب "من يوم اللي تكوّن يا وطني الموج". ليس الخلاف هنا بين زياد وأهله على حبّ لبنان، بل على طريقة حبّه، كأنما لهم لبنانهم وله لبنانه

نشأ زياد رحباني في بيت مفعم بالشعر والأنغام. وتعلم العزف ونظم قصائد وهو في عمر المراهقة، ثم خاض تجربة التلحين بأغان لخالته هدى حداد ولمروان محفوظ، إلى أن ظهر بقوة في المشهد الغنائي عندما أُعلن أن فيروز ستغني لحنه "سألوني الناس" في مسرحية "المحطة".

كان زياد قد كتب ولحن أغنية لينشدها مروان محفوظ مطلعها "أخدوا الحلوين قلبي وعينيي/ أخدوا الليالي العشناها سوا"، لكن فيروز ومنصور طلبا اللحن، وعلى نغماته كتب منصور كلمات "سألوني الناس". ونجح اللحن نجاحاً كبيراً، واعتُمد زياد رحباني ملحناً أصيلاً يساهم في مسرحيات الأخوين رحباني وفيروز. لم تغنّ فيروز ألحان زياد مجاملة لابنها، بل اعترافاً منها بموهبته الأكيدة. آنذاك، غنّت فيروز في ما غنّت: "قديش كان في ناس" و"ع مفرق دارينا" و"حبّو بعضن" و"يا جبل الشيخ"، وكانت تحمل بصمات زياد الرحباني الجميلة وتعبّر عن ذائقته الخاصة، لكنها في إطار الإبداع الرحباني العام

كذلك الحال وزياد لمّا يزل في الفريق الرحباني الكبير، فبقيت ألحانه لغير فيروز ضمن تقاليد الغناء الرحبانية مع احتفاظها بأسلوبه الخاص، مثل "خايف كون عشقتك" (مروان محفوظ) و"دلوني على عيون السود" (جورجيت صايغ) و"الحالة تعبانة يا ليلى" و"قلتي لي تاركتك ماشي الحال" و"أنا اللي عليك مشتاق" (جوزف صقر)

شهد عام 1975 خروج زياد التدريجي من الانتداب الرحباني بقيادة عاصي ومنصور، إلى الاستقلال الذاتي. كان في عمر التاسعة عشرة، في مرحلة الرفض التي يعيشها الشباب (صراع الأجيال) وما ينجم عنه من شعور فطري غريزي لديهم بضرورة الثورة على تقاليد الآباء وعلى الأعراف التي مشت بوحيها الأجيال الماضية، مع عدم إغفال الظروف السائدة في المجتمع اللبناني، من تفاقم حدة الطائفية، والتشظي السياسي، ودويّ قذائف المدافع. في هذا الإطار، بدأ زياد الرحباني بتكوين قناعاته الفكرية والسياسية التي قادته إلى موقع مختلف
وبعد انفصال فيروز الفني عن الأخوين رحباني سنة 1979، تعاونت مع الملحنين: فيلمون وهبي وزكي ناصيف ومحمد محسن (بعض الموشحات). وتبنّت آنذاك ألحان زياد بإعجاب أكيد، وقالت عنها: "أحب فيها الجديد في التعبير الموسيقي والأدائي. للماضي أغنياته وذكرياته ومجده. المرحلة الرحبانية كانت ذهبية، أنا اليوم أجدد مع زياد
".  

حملت أغاني تلك المرحلة بصمات زياد في "وحدن" (شعر طلال حيدر) و"حبيتك تا نسيت النوم" و"زعلي طوّل أنا ويّاك" (شعر جوزف حرب) و"أغنية الوداع" (شعر زياد)، لكنها لم تقطع الصلة بتقاليد الأخوين رحباني، ربما لتجنّب المخاطرة وصدم مَنْ اعتاد خلال عقود لوناً فيروزياً معيّناً. تدريجياً، بدأ الجمهور يتذوق التوليفة الجديدة: فيروز بثوب غنائي "زيادي" مبتكر.

من أولى الأغاني التي تُنسب ألحانها إليه وحده وليس لسواه: "عودك رنان" و"اشتقت لك" وتنويعات "يا ليل". ويدرك المستمع ألحانه من النوتة الأولى تقريباً. 80% منها من روحه ومزاجه، وبها شيء من النغم المصري ومن الجاز. كان يحب سيد درويش وزكريا أحمد وتشعر بأطيافهما تحوم حول "بعتت لك" و"سلّم لي عليه". وتشعر بحب زياد لأغاني نجم-إمام في أغان من إبداعه التام، تسلك درباً مشابهة، مثل: "شو ها الإيام اللي وصلنا لها" و"بهاليومين" (رح ينقطع البنزين والماء والحليب، إلخ) و"الله يساعد الله يعين" و"أنا مش كافر" و"أمريكا مين". 

تقبّل الجمهور أغنية "البوسطة" لجمال لحنها، وطرافة فكرتها وصياغتها، وفيها فيروز تصف آخرين "واحد عم ياكل خس، ولوه شو بشعة مرته". هذه كلها تعابير واقعية من الحياة اليومية، لا صلة فنيّة تربطها بكلمات شعرية مثل "تعا ولا تجي". لكن ذلك الجمهور تفاجأ بصوت فيروز تغني "معرفتي فيك، إجِت عَ زعل، ما كانت طبيعية من بعد ملل"، وتختم الأغنية بقولها "حبيبي، مش إنت حبيبي". فضلاً عن التجديد اللفظي، ثمة تغيّر تمثّل بجرأة المرأة على قول رأيها الصريح، هي التي كانت كلمات العتاب الرصين أقصى تعابير التمرّد لديها. كانت المفاجأة الثانية في قول فيروز: "كيفك إنت، ملّا إنت". أثارت سجالات لدى الجمهور، الذي ما لبث أن اقتنع، لأن هذا الكلام مقتلع من منطق التخاطب الحقيقي، وليس منتمياً إلى الخيال الأدبي

في إطار الأغاني المعبّرة عن صور الحياة الواقعية تُصَنَّف "كان غير شكل الزيتون" و"إن شالله ما به شي" و"شو بخاف دقّ عليك". وفي إطار أغنية المرأة الحرّة، أضع مجموعة مثل "ضاق خلقي"، و"عندي ثقة فيك"، و"في شي عم بيصير". أسلوب زياد في كتابة الأغاني يهتم بالواقعية وبالتأثير المباشر لدى الجمهور. وينطبق القول تماماً على أغانيه السياسية، وما أجملها، وهي من فرط صدقها أصبحت كلماتها على كل الشفاه.   

كانت مسرحية "سهرية" بألحانها الجميلة وحواراتها الطريفة، من النمط الإبداعي الرحباني التقليدي. وفي "نزل السرور" ظهرت إرهاصات التحول. والمسرحيتان من صنعه قبل 1975. بعد ذلك ولد مسرحه المختلف عن مسرح الأخوين في الشكل والمضمون. إبداعهما في باب المسرح الغنائي، وإنجازه مسرحيات درامية واقعية وإنْ تخلّلها بعض أغان. مسرحياته أقرب إلى مسرح بريشت التحريضي، الذي يجعل المتفرج في مواجهة الإشكالية ويدفعه إلى مناقشتها. في مسرحه، كما في أغانيه السياسية، كان ابن عصره. تناول مواضيع المجتمع الذي يعيشها المتفرج - المواطن ويعاني من آثارها. من "بالنسبه لبكره شو؟" إلى "لولا فسحة الأمل" وبينهما "فيلم أميركي طويل" و"شي فاشل" و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد". تشريح بالكلام الصريح لا يلجأ إلى التلميح. بالكلام الساخر المرير، المضحك الموجع في آن واحد. هي الكوميديا السوداء.

لم ينس زياد الرحباني التأليف الموسيقي البحت، مثل افتتاحية "ميس الريم" ومقطوعات مثل "ضيعانُه" و"تل الزعتر"، وموسيقى تصويرية مثل "آثار على الرمال". وكانت مناسبة أعتز بها شخصياً، لأنني كاتب سيناريو هذا المسلسل. وقتها (1973) عرفته من كثب. هي موسيقى تصويرية فعلاً، وجمالية مرهفة، من إبداع فتى كان في السابعة عشرة من عمره! وهي رائدة في التلفزيون اللبناني، إذ لأول مرة يُلجأ إلى موسيقى مؤلّفة خصيصاً لمسلسل تمثيلي

سخر زياد من مسرح الأخوين رحباني في "شي فاشل"، ومن تغنّيهما بالريف الجميل، المنقرض في زمن الحرب وما تلاها. هجاء للون غنائي "كلنا أخوة، بالمحبة والإيمان، رح نرجع نبني لبنان". وواصل الوخز في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، بدءاً بعنوانها، في زمن أخذ فيه المجتمع يفقد كرامته، والشعب يصبّ عناده في مستنقع الطائفية. ومع ذلك، ظلّ زياد رحباني معجباً بإبداع أبيه وعمه الفني. زرته سنة 1994 فأسمعني شريطاً جديداً عنوانه "إلى عاصي". أعاد فيه توزيع ألحان مجموعة من أغاني الأخوين، ومنها "بحبك ما بعرف" فقال لي: "انتبه. هذا لحن ليس به مذهب وكوبليهات. هو سحبة واحدة". لولا شغفه بألحانهما لما أعاد توزيعها. فضلاً عما أنجزه لاحقاً بتوزيعات جديدة: "تراب عينطورة"، و"حبيتك بالصيف" وفي إعادة إبداع "بكتب اسمك يا حبيبي" إذ بلغ الإعجاب والوفاء الذروة: "بتِرْجَع ذكرى يا حبيبي، عن عاصي ومنصور/ ع انطلياس العتيقة، وكل شي حولها جسور/ وبكره بتشتّي الدنيي، والطرقات مزيَّحَه/ بيبقى إسمُنْ قدّ الساحة/ ما عاد ينمحى". إنجاز الأخوين جميل، وكذلك إنجاز زياد، وسيبقى كلاهما خالداً. وإزاء إبداع الكبار، لا مجال للمفاضلة.

 

العربي الجديد اللندنية في

04.08.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني الهامش في المتن

محمد حجيري

من ميزات الفنان والموسيقار والمسرحي زياد الرحباني، أنه في معظم أعماله الموسيقية اختار فنانين وفنانات كانوا على الهامش، وتعاون معهم أو أطلقهم. لم تكن لديه مشكلة أن يتعاون مع مادونا ومايا دياب من جهة، وفيروز من جهة أخرى، كان يبحث عن أصوات وشخصيات تشبه الأغنيات التي يقدمها أو يلحنها، وكان للحنه شخصيته ومتنه و"قدسيته"، مع أنهم يقولون أنه أنزل فيروز من التقديس إلى الواقع، لكنه كان في مقدس آخر، والصوت الذي يتعاون معه زياد يتبع لحنه. هو موسيقار ليس على الهامش كما حال الذين يلحنون لنجوم الحفلات والسهرات والكاسيتات، هو موسيقار الهامش في المتن، وحتى في تعاونه مع فيروز، فهو لم يتعاون مع المطربة الحالمة التي تنشد القمر والنبع وجبال الغيم، بل كنا أمام واقعة فيروز تغني لحن زياد وكلماته، وجعل الفنانة الكبيرة تعود لتقديم أغنيات سبق أن قدمها فنانون من الصف الثاني أو من الهامشيين والمغمورين، بل جعلها تنطق بمفرداتٍ وعبارات مثل "يخرب بيت عيونِك". في هذا كسر النمطيات ولعبة المراتب والمقامات. وربما، لسياق الأغنية بذاتها، ةليس لمصلحة صاحب(ة) الصوت، اعاد الاعتبار للموسيقى.

بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، أعدنا الاكتشاف أو انتبهنا إلى أن أغنية "لبيروت" التي اشتهرت بتقديمها فيروز، هي في الأصل أغنية أعاد زياد توزيعها (اقتباساً عن لحن يواكيم رودريغو ) للفنان والمؤدي المقيم في باريس، أسامة حلاق العام 1976. كانت كلماتها مختلفة قليلاً بعنوان "بيروت منديل الحرير"، والأغنية في الواقع كانت سُجّلت في استديو إحدى الإذاعات اللبنانية خلال الحرب، ودخلت في دائرة النسيان بسبب التحولات والإهمال. كتب الناقد عبيدو باشا في كتابه "ذاكرة الأغنية السياسة": "فيروز المكرسة تعود إلى أغنية أداها مغنٍّ هاو في كليب تلفزيوني هادئ أرسلته قناة تلفزيون لبنان في صخب الحرب وضجيجها الهائل. بدا أسامة حلاق مفجوعًا وهو يغنّي لبيروت خلف آلة البيانو. لحن أجنبي وضع له جوزف حرب كلمات خاصة". وأسامة حلاق، حسبما صرّح في مقابلة إذاعية مع الاعلامي زافين قيومجيان، كان يعمل مع الأخوين فليفل في الإذاعة، وشارك في الكورس الشعبي الذي قدم موسيقى للجيش اللبناني، وأسس فرقة النورس. ترك الغناء العام 1983، وسافر إلى باريس بهدف الدارسة، وفقد الكثير من التسجيلات التي قدمها بين العامين 1976 و1981 بسبب الحرب، واستعاد جزءًا منها من أرشيف الفنان زياد الرحباني. ومن بعد اعتزاله، لا نعرف الكثير عن تجربته أو اهتماماته.

ع هدير البوسطة

وفي مسرحية "بالنسبة لبكرة شو"، كتب زياد ولحّن أغنيّة "ع هدير البوسطة" التي أداها الفنان جوزف صقر، "الصوت اللي بيغني متل ما الناس بتحكي… وبيغني الجاز ومواله شرقي".(زياد – مقابلة  أوائل الثمانينيات) والأغنية وصلت إلى مسامع عاصي الرحباني وأعجبته وطلب من زياد إنّ يسمح لفيروزبتقديمها في حفلتها في مسرح الأولمبيا في باريس العام 1979.. قال زياد: "ما في مشكله بس الأغنية حقها 500 ليرة. أنت أبي بس نحنا بحالة حرب". وتم الاتفاق، وغنّت فيروز الأغنية لكن الأمر الذي أزعج زياد إنّ اللحن تم تسريعه بشكل كبير عن اللحن الأصلي الذي غناه جوزيف.

وتحكي أغنية "ع هدير البوسطة"، قصة مُحب يستمع إلى صوت الأوتوبيس والعالم من حوله بينما كل هذا لا يبعده عن عيون حبيبته "عليا". وحسبما حكى زياد في إحدى مقابلاته التلفزيونية، أنه كتب هذه الأغنية حين كان طالباً في المدرسة، وكان يحب فتاة مصرية تعمل في متجر واسمها "ليلى"، لكنه قام بتغيير الاسم عند كتابة الأغنية إلى "عليا" حتى لا يعرف أحد من العائلة أنه يحكي عن هذه الفتاة ويتسبب لها في مشكلة.

صبحي الجيز

وفي ألبوم "ولا كيف" 2001 قدمت فيروز أغنية "صبحي الجيز" وكان الفنان خالد الهبر غناها في ألبومه "إلى حبيبتي على سبيل التطمين" 1976، وهي كُتبت لشخصية في مسرحية لزياد الرحباني، لم تبصر النور، وكان الاعتقاد بأن صبحي الجيز كنّاس شيوعي أو شخصية يسارية من أصدقاء أو رفاق زياد. إلا أن الممثل الراحل شوقي متى، روى في تقرير، أن صبحي شخصية وهمية، وهو بطل مسرحية كان كتبها زياد ويستعد لتقديمها في العام 1975، غير أن اندلاع الحرب حال دون ذلك. أيضا قدمت فيروز أغنية "المقاومة الوطنية اللبنانية" بعدما أداها الطفل فاروق الكوسا...

 "سألوني الناس"

حتى أغنية "سألوني الناس" لم تكن لفيروز في البداية، كشف زياد الرحباني أنه انتهى من وضع اللحن خصيصاً لمروان محفوظ، وكانت هناك كلمات أخرى لهذا اللحن، قبل أن يستمع عمه منصور الرحباني إلى اللحن، ويصدر قرارًا مفاجئًا للجميع. أخبره عمه أنه يريد اللحن من أجل فيروز، ليضع عليه كلمات أغنية "سألوني الناس"، لتبدو فيروز وكأنها تغنيها للراحل عاصي الرحباني. كتب منصور الرحباني كلمات الاغنية العام 1972 إثر إصابة أخيه عاصي بنزيف في الرأس ودخوله إلى المشفى، الأمر الذي أدى إلى تغيبه عن البروفات والعروض التي كانت تتمرن عليها السيدة فيروز، فكتب حينها "سألوني الناس عنك يا حبيبي... كتبوا المكاتيب وأخذها الهوا... بيعزّ عليي غني يا حبيبي... لأول مرة ما بنكون سوا".

يقول الفنان الراحل مروان محفوظ الذي عمل مع الرحابنة وفيروز في الفرقة الشعبية اللبنانية منذ العام 1965: "كنت أول مطرب يغني للفنان زياد رحباني في بداياته الأولى فقد شاركت معه في تقديم أوبريت صغير لا أذكر اسمه، بمشاركة إحدى عضوات الفرقة الشعبية اللبنانية، اسمها مادلين ماردن، ولحن لي وقتها أغنية "قلبك بعدو صغير" وحوارات مغناه وذلك بعد وضعه  لحن "ضلي حبيني يالوزية" لخالته هدى حداد في المسلسل التلفزيوني "من يوم ليوم" والذي كان أول ألحانه العام 1971. بعدها، وفي خريف 1972، وضع لي زياد ثلاث أغنيات من كلماته وألحانه وتوزيعه هي: "لوما حبيتك لوما" و"يا حلوى يا ست الدار" والثالثة كانت بعنوان "أخدوا الحلوين"، وبعدما عملنا بروفات تحفيظ عليهم، فوجئنا قبل التسجيل بإصابة الفنان الكبير عاصي الرحباني بنزيف في الدماغ، ودخوله المستشفى ثم سفره لباريس لإجراء عملية جراحية، بالطبع أجلنا تسجيل الأغنيات حتى تم الاطمئنان عليه وعلى تحسن حالته بعد العملية، ثم طلب مني زياد أن التقي به في المنزل أي منزل عاصي وفيروز، وكان وقتها ما زال مقيمًا في بيت أبيه فقد كان بعد يدرس في البكالوريا –الثانوية العامة- وكان الفنان منصور الرحباني مع السيدة فيروز في صالون البيت في الطابق الأول من المنزل يحضران ترتيبات مسرحية "المحطة"، خصوصاً ان منصور استكمل العمل فيها بعد مرض عاصي، وفيما أنا وزياد في الطابق الثاني يعزف لحن أغنية "أخدوا الحلوين"، تنامي اللحن إلى أذن فيروز ومنصور، فنادى منصور على زياد أن ينزل إليهما، وفي الطابق الأسفل في صالون البيت سأل منصور زياد عن اللحن وأبدى إعجابه به هو وفيروز وقال له أريد هذا اللحن لكن من دون الكلمات الخاصة به وسأكتب أنا كلامًا عليه تحية لعاصي الذي سيغيب للمرة الأولى عن إحدى مسرحياته، كونه من كان يقود الفرقة الموسيقية خلال تقديم عروض المسرحية، فقال لهم زياد: عليّ أن أسال مروان أولاً إذا كان يوافق على ذلك فالأغنية له، فقال له عمه منصور: قل لمروان أن فيروز ومنصور معجبان باللحن، وأنه في حال رفضه لن نغضب منه ولن نأخذ اللحن!".

ويتابع محفوظ: "صعد إلي زياد وهو محرج وشرح لي الأمر ولم يخف سعادته كونه سيضع اللحن الأول لوالدته فيروز، وكيف لي أن أرفض أغنية ستهدى إلي أستاذنا عاصي وبصوت السيدة فيروز وشعر منصور ولحن زياد، بالطبع وافقت على الفور". وهنا طيّب زياد خاطري وقال لي سألحن لك أغنيتين عوضاً عنها، وبالفعل قدم لي بعدها لحني "خايف كون عشقتك وحبيتك" و"يا سيف اللي عالاعدا طايل" اللتين قدمتهما في أول مسرحية غنائية لزياد وهي "سهرية" العام 1973. وظهرت أغنية فيروز الأولى من ألَحان نجلها زياد وشعر عمه منصور: "سألوني الناس عنك يا حبيبي / كتبوا المكاتيب وأخدها الهوى/ بيعز علي غني يا حبيبي لأول مرة ما منكون سوا". وكانت الكلمات الأصلية للأغنية التي تنازلت عنها للست فيروز تقول كلماتها: "أخدوا الحلوين قلبي وعينيه / أخدوا الليالي اللي عشناها سوا/ أخدوا الحلوين ما سألو عليي / يا مين يرجع إيام الهوا" وبالطبع الكلمات هذه من تأليف زياد نفسه.

الطريف كما يذكر مروان محفوظ أن الأغنية التي حققت نجاحاً مدوياً، وكانت تحصل على القدر الأكبر من إعجاب وتصفيق جَمهور مسرحية "المحطة" في البيكاديللي، أغضبت عاصي الرحباني وأنّب شقيقه منصور عليها، متهماً إياه باستجداء إعجاب الجَمهور على حساب مرضه، وفكر في استبعادها من المسرحية لولا أنه شاهد بنفسه مدى إعجاب الجَمهور بها. وبعد 14 عامًا على إطلاق الأغنية، رحل عاصي الرحباني، ووقفت فيروز لتغني الأغنية فبكت أمام الآلاف.

 

المدن الإلكترونية في

04.08.2025

 
 
 
 
 

عن آخر جيل عاصرَ زياد

يارا حوحو - المصدرالنهار

كنتُ في الخامسة من عمري، أصعد على طرف كنبةٍ في غرفة الجلوس، وأخي، الذي يصغرني بعام، يقف على الطرف المقابل، كأنهما خشبة مسرح. نفرغ وسائد الكنبة ونكدّسها في وسط الغرفة كجمهورٍ صامتٍ، ونبدأ العرض. يناديني فيروز، وأناديه كحلون. أسماءٌ أخذناها من مسرح الرحابنة

كنتُ في الخامسة من عمري، أصعد على طرف كنبةٍ في غرفة الجلوس، وأخي، الذي يصغرني بعام، يقف على الطرف المقابل، كأنهما خشبة مسرح. نفرغ وسائد الكنبة ونكدّسها في وسط الغرفة كجمهورٍ صامتٍ، ونبدأ العرض. يناديني فيروز، وأناديه كحلون. أسماءٌ أخذناها من مسرح الرحابنة. نغنّي من مسرحيّة ميس الريم، ما حفظه طفل في سنواته الأولى، لا أذكر منها شيئاً إلا خفّة اللحن وبهجة الارتجال. لا نصّ مكتوب، لا ستار يُسدل، ولا أضواء، فقط أصواتُنا الرقيقة، وغرفة جلوس باتت مسرحاً وليداً من خيال طفلين نشآ على أغاني فيروز وزياد يسمعانها عبر إذاعة صوت الشعب، في كاسيتات والدهما، أو في مظاهرة تسير من شارع الحمرا على ألحان زياد وكلماته. هذا ما بقي في الذاكرة... ويكفي أنّ طفولة غنّت زياد قبل أن تفهم الكلام.

كبرت، ولم أعد فيروز التي أحببتها في لعبتنا، بل فتاة تبحث عن وطن، فوجدت زياد. كبرت وأصبح زياد رفيقي في رحلة البحث عن معنى.

صباح سبت عادي، استيقظت أتصفح هاتفي، لأجد رفيقاً قد أرسل في مجموعة "اتحاد الشباب الديمقراطي" على واتساب صورةً لزياد، مرفقةً بعبارة: "وداعًا زياد".

أسأله بدهشة: "مات؟"

فيردّ: "راح الغالي".

في هذا الصباح، توقّفت الموسيقى، خفت صوت المسرح وبقي الستار مفتوحاً أمام عيونٍ تنوحُ بصمتٍ. رحل زياد، رحل من كتب الحياة ولحّنها وغنّاها، "راح رفيقي وما قلّي شو بقدر أعمل لملايين المساكين". 
تركنا زياد، ترك الفقراء والمساكين يمضون وحيدين تحت رحمة تجّار المال وحرس السلطان "وبيبقوا جماعة بسطا وطيبين على نيّاتن صمدوا وغلبوا". تركنا معلّم الحبّ، وأوّل مدرّسيه، وأصدق من أحبّ حباً "بلا ولا شي
".

"هيك بتعمل هيك؟".

مات زياد، وماتت "فيروز" الطفلة التي كانت ترتجل على الكنبة، ومات المسرح في البيت الشيوعيّ.

وماتت الوسادة التي كانت تصفّق لنا صمتًا.

أستيقظ اليوم على صوته يقول: "في عيون بتبكي ولا أرى أمامي سوى عيونه. عيونه  "مش فجأة بينتسوا"، عيون زياد التي حُفرت تجاعيدها من قهر بلادنا، تعب الكادحين وعرقهم من أجل رغيف الخبز. عيون زياد التي لم تحتمل حرب غزّة، فقرّر للمرّة الأولى أن لا يعارك، أن لا يغنّي ولا يشتم ولا يحفر لحناً في جدران الضجيج. وكأنّه يعتذر إلينا، ويقول "أنا صار لازم ودّعكن".

أسأل نفسي كيف كانت بروفته الأخيرة؟ 

ما كان آخر لحن دوّنه؟

هل كان يعرف أننا أحببناه إلى هذا الحدّ؟

رحل بوصلة الشيوعيّين، وصوت الشعب، ومن جعل من كل القضايا موسيقى سياسية واجتماعية، ساخرة حينًا، ودامعة كثيرًا؟ 

"الحالة تعبانة يا ليلى وكتير" لأن "رفيقي تركني عالأرض وراح"

لأن رفيقي، الذي أعطاني معنى الأغاني،

"راح"...

 
 

####

 

زياد وفضيلة الاسترخاء في غمرة الفن

د. مارلين يونس - المصدر: "النهار"

زياد كان محصّنًا بحسّ الموهبة التي منعته من السقوط، وبسرّ الإبداع الذي أبعده عن الزحف والمسايرة.

شكرا زياد!!

وأخيرًا نطق الناس باسم الفلسفة من دون إرادة ووعي منهم،عرفوا أنّها فنّ إبداع المفاهيم والنظر في عمق الموجودات والعلم بحقائق الأشياء ومحاولة فهم لحقيقة العالم وقيمة الإنسان وأخلاقه...

كما هو معلوم أنّ الفلسفة تضيء على رمزيّة معاني السخرية والعبثيّة وروح الخفّة والمرح على اعتبار أنّ هذه المفاهيم قد تكون بمثابة إشارات وتنبيهات لالتقاط معاني الحكمة الحقيقيّة القائمة على رصد الأحداث ومعاينة الوقائع المتهادية على وقع الصير التاريخي وانزياحاته. وما التاريخ سوى الوصف لسرديّة الملاقاة للإرادة الكونيّة مع الردّ الكينونيّ القائم في عمق تجليّات الحدث الراهن. والفلسفة كفعل اعتمال للفكر النقدي الحرّ تتمثّل بنقل ثقل حمولة الأفكار إلى عدّة حقول معرفيّة ومن أهمّها الفن. والفنّ بدوره يمنحنا دلالة أنطولوجيّة تتحوّل إلى شجى مشحون بإحساس الفنان المسجون بأقدار الناس وأحزانهم وأحوالهم.

ألم يُقل؟ ويل للشجيّ من الخليّ  أو بتعبير آخر "ويل للهموم ممّن لا همّ له"، هذا هو حضور زياد الشجين (حزين ومهموم) القائم في عمق بساطة الفلسفة التي انتهجها في مسلكه الحياتي وفي براعته الفنيّة.

زياد كان محصّنًا بحسّ الموهبة التي منعته من السقوط، وبسرّ الإبداع الذي أبعده عن الزحف والمسايرة... وقد حوّل المدركات الحسيّة إلى مدركات ماهويّة، فأثمر العمل الفني نتاجه في حدث تأويليّ تحدّث بذاته عن دواخله المنحجبة في الظهور المختفي. هذا الارتباط بالحدث هو نموذج فنيّ هادف جدًّا وزياد كان حريصُا على تفريغه وتفعيله ب إرادة الكرامة. هذه الإرادة التي لا تتضخّم لسحق الآخر في الفنّ مع أنّه سحقه، ولا تُسحق في ظلّ الرغبات الجارفة والتدفّق النقدي التفاضلي، بل تنبسط في الزهد المنسلّ في كلّ السياقات المتخفّية وراء صور الهزل وكأنّه يؤكد على تعريف أينشتاين للتفكير بأنّه "لعب إرادي بالمفاهيم" وعلى هذه الفضيلة الأرسطيّة فضيلة الاسترخاء اليوترابيلية ( (eutrapélieالتي تعني فطنة الفكاهة اللطيفة.

قد يكون من أولى مقاصد الفنّ حدوث الحقيقة وإظهار وقائع من الراهن الوجودي على حدّ قول الفيلسوف هايدغر، و أيضًا حدوث الحقيقة الذي يتوقّف عند حدوث اللاحقيقة، فالأغاني التي نستدلّ منها على الراحة والاسترخاء عنده ما هي إلا التكوين التفوّقي (suprématisme) للشعور الصادق من ناحية إعادة ابتكار جذريّة للفراغ أو للشيء الذي لا نعتبره مهمًّا، وتأتي دلالات هذا الشعور تعبيرًا عن عدم الالتزام أو التحرّر من كلّ القيود إلى حدّ  تغييب هويّة الموضوع والوصول إلى حدّ اللاشيء، وهذا الأمر يجعلنا نفكّر بدورنا في هذا اللاشيء كيفما نريد ومن أي زاوية معرفيّة معيّنة ، قد يفيد ذلك بانتصار فلسفة البساطة على كلّ المفاهيم. هذه الفلسفة الفنيّة الوجوديّة المبثوثة في روح عامّة كونيّة مستقلة عن جغرافيّة المكان وصيرورة الزمان، وهنا تكمن أهميّة قوة العقل الفردي القائمة على توحيد التنوّع وكأنّما هي قوة عقل كلي. وفي معضلة الإبداع هذه ينضمّ الإنسان إلى مدى أوسع من الذات فيصبح صدى لصوت الذاكرة الجماعيّة. وهذه القوّة الإبداعيّة  القوة غير الشخصيّة الثاوية في عمق الباطن هي صميم الذات وفي الوقت نفسه ليست هي الذات نفسها. وهنا تكمن تجليات مفهوم التفرّد الغائر في ديناميّات الإبداع التي تستنفذ العالم في ذاتها، وتبدّد الذات في ثناياه.  يبقى أن نقول أنّ تجربة الغياب التي نعيشها بعد موت زياد تبقى في صيغة سؤال مفتوح على إحياء الأشياء التي تحضر من خلال غياب نقيضها.

 

####

 

جوزف عازار لـ "النهار": نحلم بالسلام... زياد الرحباني لا يُعوّض (فيديو)

"كنت أحلم أن تشرق الشمس ويأتي السلام، وأن أؤدي النشيد الكبير في ساحة البرج".

المصدر: "النهار"

أعرب الفنان اللبناني جوزف عازار عن حبه الكبير للعاصمة بيروت، التي لطالما حلم بأن يعمّها السلام، وذلك خلال مشاركته في مهرجان بيروت الدولي للتكريم (BIAF).

وفي حديث خاص لـ"النهار"، قال عازار: "بيروت، هل ذرفت عيونك دمعة؟ كما يقول الشاعر العظيم. في زمن كانت تمرّ فيه البلاد بالحوادث والاضطرابات، كنت أحلم أن تشرق الشمس ويأتي السلام، وأن أؤدي النشيد الكبير في ساحة البرج، وفعلناها. وإن شاء الله تأتي الأيام التي يحلّ فيها السلام بكل ما للكلمة من معنى، لبيروت ولبنان".

وعن تكريمه في بلده، يرى عازار أنه "إذا كُرّم المرء، فعليه واجب الشكر. ومن أسمى الفضائل كلمة 'شكراً'. لذلك أختصر كل شيء بهذه الكلمة".

أما عن السيدة فيروز بعد رحيل نجلها الفنان الكبير زياد الرحباني، فقال عازار: "استخدمت هذه العبارة في وقت سابق: 'أنا الأم الحزينة'. فقد طُرحت عليّ أسئلة عن الروحانيات، وعن الألحان الليترجية التي كان يقدمها زياد، من تأليفه ومن فكره. قلت لهم حينها: زياد كان يشرب من الينابيع، فسألوني: أي ينابيع؟ قلت: ينابيع البيزنطية، وينابيع السريانية. فالله يرحمه... لا يُعوّض".

 

النهار اللبنانية في

04.08.2025

 
 
 
 
 

هذا أسخف أعمالك يا زياد!

لماذا نحب هذا الساخر المتشائل المتألم؟

نوارة نجم

في السادس والعشرين من شهر يوليو/تموز الماضي، فُجع العالم العربي بخبرٍ لم نحسب حسابه، ولم نتوقعه رغم أن كل حي زائل ولا دائم إلا وجه اللهوفاة زياد الرحباني.

اختلطت بداخلي مشاعر تتراوح بين الإنكار والصدمة، إلى الغضب، ثم الرغبة في الوصول لرقمه والتشاجر معه، إلى الحزن الأسيف، إلى الضحك على هذا "المقلب" الساخن. خبر لم أنتظره ولم أتوقعه، ولم أرغب في سماعه.

غادر مبكرًا عن عمر يناهز التاسعة والستين، بعد مشوار فني حافل، ثري، غزير، متطور، متفرد، مختلف، متجذر، دامَ لمدة تزيد عن 55 عامًا. نعم، كما قرأت، بدأ مشواره الفني الاحترافي وهو أقل من 14 سنة، ليس كما يبدأ الناس عادةً؛ محاولات، وتجارب، ثم نضج. بل بدأ طفلًا ناضجًا وكبيرًا.

الحديث عن زياد شديد الصعوبة رغم سهولة الرجل. هذا النحيل صغير الحجم، يمثل عدة وجوه وزوايا، ويؤثر على أجيال من الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج، بدءًا من شباب السبعينيات وحتى شباب الألفية. لكن جمهوره دائمًا شاب، حتى من أصبح كهلًا، يعود به زياد إلى الشباب.

يتنازل الأب عن مكانته

بدأ زياد مشواره بتأليف ديوان شعر صديقي الله في أواخر الستينيات، أي وهو بين العاشرة والحادية عشرة من عمره، وصدر عام 1971. وكان ينبئ بمشروع شاعر كبير لولا انشغاله بتأليف الموسيقى، والتأليف والإخراج المسرحي، والتمثيل، وبرنامجه الإذاعي، والمقالات السياسية، والنضال المعادي للطائفية والظلم الاجتماعي والإمبريالية، ونضاله في دعم قضايا التحرر الوطني، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

أول عمل فنِّي لزياد خرج إلى النور عام 1971، ضلّي حبيني يا لوزية من كلماته وألحانه وغناء خالته هدى حداد، وهو في الخامسة عشرة. استقبل الجمهور الأغنية بترحاب، محتفيًا بانضمام عضو جديد لمجموعة الرحابنة. دخل منظومة عائلته الفنية التي أحبها الناس وفتنوا ببساطتها ونقائها وملائكيتها وأجوائها المبهجة الملونة المضيئة، التي تبث الحلم والحب في نفوس جمهورها.

غير أن زيادَ بادر إلى تحدي توقعات الجمهور، والأسرة أيضًا، حين ألَّف مسرحية سهرية، ليعلن بشكل مبكر وصادم خروجه من عباءة الرحابنة، وتقديم نفسه بوصفه زياد وفقط.

أعدَّ زياد المسرحية في عام 1972، أي بعد عام واحد من استبشار الجمهور خيرًا بنمو الكيان الرحباني، حيث ألّف النص ووضع الأغاني والألحان، وقدم العرض بإخراج المخرج المسرحي اللبناني الكبير نيقولا أبو سمح، وبطولة عدد كبير من الفنانين الذين لا ينتمون إلى فرقة الرحباني.

تدور أحداث المسرحية التي عُرضت للمرة الأولى عام 1973 حول صاحب مقهى يغني للزبائن، تقدّم العمر به فراح يبحث عن خليفة له، حتى ظهر شاب صوته أجمل لدرجة جعلت الغيرة الفنية تستبد بصاحب المقهى، فأنكر عليه موهبته. وأخيرًا، بعدما وقعت ابنة صاحب المقهى في حب الشاب، يتنازل الأب عن مكانته.

رغم بساطة القصة، ورمزيتها، ورغم أن زيادَ قدم قوالبَ موسيقيةً أقرب إلى الأرض والواقع، لا ينكر فيها تأثره بوالده دون إغفال الروافد الموسيقية الأخرى التي تأثر بها عربية ولبنانية وغربية؛ فقد حقق العمل نجاحًا باهرًا، وراجت العديد من أغنياته التي تحيا معنا حتى هذه اللحظة، مثل أغانيه الأشهر؛ دلّوني على عيونه السود، والحالة تعبانة يا ليلى، وغيرهما.

كانت مسرحية سهرية هي التعاون الأول بين زياد الرحباني وصديقه ورفيق رحلته الفنان جوزيف صقر، الذي كان صوته المُعبِّر عن كلمات وألحان زياد في جل مسرحياته التي تلت هذا العمل.

بينما كان الناس يشاهدون المسرحية في تعجب من ثورته المبكرة على والده، كان الابن يكتب مسرحيته الثورية نزل السرور، التي قدمته مؤلفًا وملحنًا وممثلًا وثوريًا، بل ومتنبئًا بالحرب الأهلية اللبنانية وهو بعد في سن السابعة عشرة.

في إطار كوميدي سوداوي، يحذر زياد اللبنانيين من الاستمرار في خداع أنفسهم بالسعادة الزائفة، بينما النار تحت الرماد تكاد تُفجِّر الوضع، مبشرًا بمقتل الجميع إذا لم ينتفضوا بالثورة التي ستنقذهم من التحزبات الطائفية، في مشهد النهاية الرمزي حيث يموت الكل ولا يتبقى سوى المحشش والراقصة.

لم يكن للعرض مخرجٌ معلنٌ، واعتمد زياد الرحباني على أن يُخرِجَ النصُ نفسَه. عُرضت المسرحية عام 1974، أي قبل عام واحد من نشوب الحرب الأهلية. قوبل العرض في حينه بردود أفعال متباينة، بين الصدمة والإعجاب والهجاء، فقد أمسك زياد بمرآة ضخمة ووضعها أمام المجتمع اللبناني ليرى نفسه بوضوح.

لم يكن فنًّا مُلطَّفًا ولا مُخففًا، ولا مستدعيًا لماضٍ تليد ولا محفزًا على الأمل، بل صفعة قاسية ونداءات مقرعة لا تخفف الخبر المشؤوم، وهو توجه معاكس تمامًا لما تبناه الرحبانة في مسرحياتهم. لم يخفوا الحقيقة، لكنهم لم يصفعوا الجمهور، ولم يجعلوه يغادر مسرحياتهم مصابًا بالهلع.

منذ تلك السنة، وزياد الرحباني يقوم بدور زرقاء اليمامة التي تستخدم لهجة قاسية، تفسد على الناس استمتاعهم بالحياة وهم يجلسون في المطاعم، محذرًا من "فاتورة الغدا"، مستعدًا لدفع أثمان الهجوم عليه، أولًا، ثم التنبه لصدق نبوءاته بعد وقوع الطامة.

طفل يشرب الموسيقى بنهم

حين أقول زياد الرحباني، أتصور في مخيلتي طفلًا جميلًا، يضع فمه في صنبورٍ يُغذِّي عدة خراطيم تستقي حليبها من ضرع الموسيقى العربية والشعبية والشرقية والغربية الكلاسيكية والجاز والبلوز والفانك والروك والموسيقى اللاتينية والكنسية والتواشيح الإسلامية. والطفل يشرب بنهم حتى يمتلئ، فيصبح جسدًا ضخمًا بوجه طفل.

لم أندهش حين قال قبل سنوات من وفاته إنه تأثر بالشيخ إمام ورغب في أن يغني ألحانه لولا مدير أعماله التونسي الذي حال دون ذلك. وكانت معلومة قديمة بالنسبة لي حين قال إنه تأثر بشدة بأعمال والدي الشاعر أحمد فؤاد نجم، وإنه يحب كل أعماله، لأنني كنت أعلم برغبة الطرفين؛ زياد ونجم، في التعاون الفني. وقد خططا عدة مرات لمشاريع أبى القدر أن تتحقق، لحكمة لا يعلمها إلا الله.

على سبيل المثال، وافق زياد على تلحين أوبريت "لولي" الذي ألّفه والدي، وحددا موعدًا للقاء في بيروت. ثم تفجّرت الحرب التي طالت حتى حالت بينهما، فمضى العمل بألحان عمار الشريعي. في مرة أخرى، كان هناك مشروع للتعاون في ألبوم للفنانة لطيفة، لكن المشروع تأجل، وظل والدي في انتظار مكالمة زياد ليبدأ العمل حتى توفاه الله

في برنامج معكم، أوشك زياد أن يحكي عن مقابلاته مع أبي الشاعر أحمد فؤاد نجم، غير أن الأستاذة منى الشاذلي قاطعته قبل أن يُسهب في الحديث. قد يكون ذلك لأسباب أمنية، وربما لفكرة خطرت لها وارتأت أن تسأل فيها محولة دفة الحديث.

على أي حال، هذا قدر الله الذي وقف أمام رغبة الطرفين الملحة في التعاون، ربما لأن البشرية لا تتحمل كل هذا القدر من الصعلكة والصراحة في عمل واحد

في عام 1973، قدم لحنًا بسيطًا شرقيًا جميلًا، حمله لنا صوت فيروز ليقدم تحية لعاصي الرحباني في مرضه "سألوني الناس عنك يا حبيبي"، واضعًا كلماته عمه الفنان العظيم منصور الرحباني، الذي لم يكن على وفاق مع ابن أخيه، الذي بادر بالهجوم عليه متهمًا إياه بالدخول في عباءة السلطة.

غير أن زيادَ قدم أعمالًا موسيقية في إطار الرحابنة، مراعيًا أسلوبهم المتبع، ومتماشيًا مع نهجهم الفني، دون الإخلال بإصراره على الاختلاف. فألفَّ مقدمة مسرحية ميس الريم، ولحَّن أغنيات مثل نطرونا، وحبّوا بعضن، وقديش كان فيه ناس، وغيرها من الأعمال التي لا تجرح السياق الجمالي الذي يحبذه الرحابنة في أعمالهم.

لكن بعد انفصال فيروز عن عاصي، وعن مشروع الرحابنة الفني عام 1979، اقتنص زياد صوت أمه ليُحمِّله ما لم يتوقعه أحد. فيروز التي مثلت للعالم العربي الصوت الملائكي، أو كما قال عنها عبد الوهاب إنها "صوت قادم من السماء"،  أخرجها زياد من فردوسها الأعلى ونزل بها إلى الساحات والمقاهي.

أطلق الطفل سراح أمه لتعبّر عن نفسها كامرأة في منتصف العمر، ضاعت زهرة شبابها في خدمة الأولاد والزوج ذي الشخصية القيادية، وهي الآن تبحث عن نفسها في مشاعر متضاربة ما بين الخجل والرغبة في تعويض ما فات، والحنين إلى الألم المعتاد في حياتها السابقة، وتبلور ذلك في ثاني ألبومات زياد لأمه: معرفتي فيك.

ضم الألبوم مجموعة أغنيات تشعر وأنت تسمعها بأن زياد يكتب أمه بكل ما استشعره من آلام عمرها. واستُقبل، كالعادة، برفض واسع. هدم زياد صنم فيروز المقدّسة، وقدمها في كلماته وكلمات جوزيف حرب، وفي ألحانه، كإنسانة مجروحة متشبثة بما تبقى لها من حياة. متألمة لوطنها الذي تدين له بالولاء بلا طوائف.

ورغم الهجوم الكاسح، كان النجاح كاسحًا، حيًا، متواصلًا: عودك رنان، ما قدرت نسيت، لبيروت، خليك بالبيت، رح نبقى سوا.

أشواك السياسة

زياد الرحباني كان شيوعيًا واضحًا بلا مراء، منحازًا للفقراء بلا جدال، مناهضًا للاستعمار بلا مواءمات، محاربًا للطائفية بلا حسابات، كاشفًا مكنوناته بلا حياء، فاضحًا نوايا الجميع بلا توجس.

انضم للحزب الشيوعي في سن مبكرة. ولم يتوانَ عن الهجوم على آلياته وتأخره في تطوير خطابه ونسق عمله على الأرض. تحالف مع المقاومة في الجنوب ممثلةً في حزب الله. لكنه لم يتأخر عن الإشارة إلى الميول الطائفية لدى الحزب وتجاهله للإسهام اليساري في المقاومة الجنوبية. بل وسخر من الطرفين حين قال بأن الحلف بين الشيوعي والشيعي حب من طرف واحد.

فاجأ الناس برأيه في حركة المقاومة الإسلامية حماس، التي شكك في منبتها ونواياها رغم دعمه للمقاومة الفلسطينية. لم يفهم الكثيرون موقفه المركب من حماس التي يكرهها ويتشكك فيها، لكنه يدعم مقاومتها، ولا يسمح بالتقليل من حق المقاومة. تركيبة أفهمها شخصيًا، وربما يفهمها من يستطيعون تبنّي مواقف مُركّبة.

ثم عاد زياد ليصدم الناس ثانيةً حين أعلن في وقت مبكر رفضه للحراك السوري، ووصفه بـ"الطائفي" الذي سيؤدي إلى فوضى، متنبئًا بكل ما تلا الثورة ومستعرضًا مستقبل سوريا حتى وصل إلى ما آل إليه مؤخرًا، في دقة أذهلت الناس.

تعرض زياد لمغريات وتهديدات عدة، لم تفلح في إسكاته، أو في دفعه إلى حساب الحسابات قبل أن ينطق. لم يعبأ بغضب الجمهور حين يواجهه بما يكره من حقائق، لم يقلق من الفصل من الحزب الشيوعي لأنه ينتقده بشدة، لم يخشَ جمهور حزب الله حين وضعه أمام مرآة طائفيته. بل لم يكترث بصدمة جمهوره هو، الذي تربى على كلماته وألحانه واعتبره متحدثًا ثوريًا باسمه، حين ناهض زياد فعلًا رأوه ثوريًا، وانحاز لطرف قمعي؛ بشار الأسد.

تمامًا كما ضحك ملء قلبه حين عُرضت عليه مبالغ خيالية، لم تُعرض على سواه، للتحكيم في برامج المواهب في قنوات طالما هاجم مُلاكها ومن يقف خلفهم.

"ع صرمايته" رأي الجميع، وقوة الجميع، بل وحب الجميع.

ولهذا، نحن نحب زياد الرحباني.

نحن لا نحب زياد لأنه يتحدث "بناء على طلب الجماهير".

نحن لا نحب زياد لأنه "يُسلي الجماهير".

نحن لا نحب زياد لأنه "يسهر من أجل إسعاد الجماهير".

نحن نحب زياد لأنه لا يكترث بكل ذلك.

ولأنه لا يكترث بكل ذلك فقد مات دون موافقتنا، رافضًا التشبث بالحياة، لافظًا استقبال العلاج؛ هكذا بكل بساطة لملم مبعثراته وتركنا مصدومين كما اعتاد أن يصدمنا في كل مرة.

والله هذه أسخف أعمالك يا زياد.


(*)"المتشائل" في العنوان الفرعي هي دمجٌ لغوي بين المتضادين؛ "المتفائل" و"المتشائم"، أبدعه الأديب الفلسطيني إميل حبيبي في عنوان روايته الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل.

 

####

 

ثقافة_

خبز فيروز الذي لن يحن إليه زياد

هشام يونس

جسَّد رحيل زياد الرحباني امتدادًا لحالة الحزن والشجن والفقد التي سرت عبر عقود، في عائلة هي الأهم فنيًا في عالمنا العربي الممتد من الخليج إلى المحيط

عائلة الرحابنة التي انضمت لها فيروز بالزواج في خمسينيات القرن العشرين، كانت ملء السمع والبصر وذاع صيت التحالف الفني بين أفرادها دون منغصات، حتى وقع الانفصال بين فيروز وعاصي عام 1979، ثم وفاة عاصي في 1986، مرورًا برحيل ابنتهما ليال عام 1988 في شبابها بسكتة دماغية مفاجئة، ليقيم الحزن في بيت العائلة التي طالما صدرت البهجة والمتعة.

لم يكن الهم شخصيًا لدى العائلة، فقد ترافق الوجع الخاص مع همٍّ عامٍ أغرق لبنان في الحرب الأهلية ومزّقه بين الطوائف، ليصبح الألم والتعبير مزدوجًا.

فيروز وزياد

علاقة زياد بأمه نُهاد وديع حداد، الشهيرة بـ"فيروز"، كانت استثنائية في احتمالها كل شيء من التعاون الفني إلى الهجر الشخصي، فقد تباعدا حتى القطيعة وامتزجا حتى الإبداع

سجلت العلاقة ارتقاءً وتماهيًا وانسجامًا أنتج ألحانًا حلَّقت في الآفاق، كما سجّلت انخفاضًا حد الخصام، ثم انفتاحًا وعود على بدء. هكذا دائمًا كان هناك ما يُقال ويُروَى عن مياه النهر الذي يجري بين فيروز وزياد؛ الأم والابن، المطربة والمؤلف. قطبين يتجاذبان ثم يتنافران. كان هناك دائمًا تدفقٌ يعقبُه كدرٌ أو فيضٌ يتبعه غيضٌ

شبَّ زياد عن الطوق وخطَّ لنفسه مسارًا متفردًا عن تراث الرحابنة

دخل زياد بنضجٍ نادرٍ عالم الفن عبر حنجرة أمه الذهبية، فلحن وهو بعدُ مراهقٌ أغنية سألوني الناس، لكنه منذ خطواته الأولى لم يعش في جلباب أبيه ولا كنف أمه، بل اختار مسار التجديد، ومزج الموسيقى العربية بألوان أخرى، وسحب فيروز لمناطقه الجديدة بعيدًا عن "البلدة القديمة".

قدم زياد أمه "صوت الجبل" للأجيال الجديدة بلغةٍ فنيةٍ حديثةٍ ميّزت إبداعه وقربت السيدة التراثية لمن هم أدنى في العمر وأكثر تمردًا وتقلبًّا في المزاج والهوى

شبَّ زياد عن الطوق وخطَّ لنفسه مسارًا متفردًا عن تراث الرحابنة؛ لا يهدمه أو ينكره لكنه لا يقف أمامه جامدًا في محراب الفن دون حراك، مفضّلًا النزول بآرائه وفنه من الأبراج العالية لمجالسة الناس في الطرقات، والاشتباك على المقاهي مع آمالهم وآلامهم.

ضد الطائفية

السيدة فيروز تتلقى العزاء في ابنها زياد الرحباني بكنيسة سيدة الرقاد في بكفيا، جبل لبنان. 28 يوليو 2025

زياد الساخر الذي يقطر كلامه نقدًا ومرارةً يشبه الناس العاديين في سلوكه ومظهره وكلامه، فتشكلت شعبيته من خليط من محبي الفنان الجامح بخياله، وأنصار السياسي بواقعيته، وأتباع الفيلسوف بحكمته، وكان أحد التعابير الرائعة عن مزاج من يرغبون في وحدة لبنان كارهًا الطائفية البغيضة التي ألقت بلاده في أتون حرب أهلية امتدت 15 سنة (1975-1990).

من بين السياسيين والنخب مَن حرص على تكريس الطائفية في لبنان، ودفع نحو تجذيرها في كل مناحي الحياة. لكنَّ زيادَ سعى لتفكيك الخطاب الطائفي بإطلاق سهام الفن نحو مروجيه والداعين له، وفضح في مسرحياته بالنسبة لبكرا شو؟ التي قدمها 1978 وفيلم أمريكي طويل 1980، وشي فاشل 1983، وبخصوص الكرامة والشعب العنيد 1993 تناقضات لبنان في أعوام الحرب وتحكم الطائفية في القرارات والمصالح، حتى في علاقات الحب والعاطفة وربما في الموت والحياة

هاجم زياد قادة الطوائف معبرًا عن خيبة أمله الشخصية وخيبة أمل بلاده في السياسيين، الذين لم يستوعبوا دروس الحرب الأهلية واستمروا في النفخ بنيران الطائفية والمحاصصة.

لقي أسلوبه الساخر والجريء في أعماله وبرامجه ومقابلاته صدى لدى الشباب الذين حفَّز لديهم التفكير النقدي، كما لم يكتفِ بنقد السياسيين بل وجه سخريته للمواطنين الذين يقبلون الطائفية ويسكتون، معتبرًا أن ما يشهده لبنان فوضى لا حرية.

بلا شبكات بلا أمل

لم ينسجم زياد مع السوشيال ميديا، وكان أقل الشخصيات العامة حضورًا عبر الفضاء الافتراضي في بلاد الأرز، وليست له حسابات يديرها هو أو غيره وذلك بدفعٍ من طبيعته التي تفضل العزلة والتعبير بالموسيقى أو المسرح بعيدًا عن الإنترنت التي يراها ساحةَ ضجيج ليست لها قدرة على التغيير. مع ذلك كان نجمًا متداولًا على شبكات التواصل بمقاطع كثيرة يتناقلها النشطاء تتضمن أحاديثه وآراءه ومداخلاته واشتباكاته وكلماته المأثورة.

سيطر فقدان الأمل في إصلاح لبنان على روح زياد المتمردة مع تلاشي أي خطوات لتغيير الوضع البائسوحكى في إحدى حلقات برنامجه الإذاعي العقل زينة بتهكمٍ أنه أبلغ عن مواطن متهم بالتمسك بالأمل، داعيًا إلى عدم ترك هؤلاء الحالمين بيننا.

وفي مرضه الأخير لم يتمسك بأمل الشفاء من تليف الكبد، ورفض الخضوع لجراحة معقدة لزراعة كبد، ملمحًا بأن الوضع العام لا يدعوه لأي أمل، مفضلًا انتظار المصير بدلًا من المقاومة

خبز أمي

سيطرت فكرة موت الابن قبل أمه على تفكير مبدعين من بينهم زياد، الذي نُقل عنه دون توثيق دقيق، بسخريةٍ لازمته، أنه وعد أمه ألا يموت في حياتها، وهو نقل يتفق مع طبيعته الساخرة والمتمردة، لكن أشهر من وثق هذه الحالة الشاعر الفلسطيني محمود درويش بقصيدته إلى أمي:

أحنُّ إلى خبر أمي 

وقهوة أمي 

ولمسة أمي

وتكبر فيَّ الطفولة يومًا على صدر يوم

وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي 

التراجيديا أن ما خشيه محمود درويش حدث بالفعل، فغيّبه الموت عام 2008 في حياةِ أمه التي شاركت في تشييعه ودفنه، ثم لحقت به بعد أشهر

الخبر الأقسى على أي أمٍّ هو أن تُسلِّم ولدها، أن تضع يدها على نعشه وهو يدلف إلى القبر والرقاد الأخير.

رحيل زياد موجعٌ ومؤلمٌ للكثيرين في لبنان والعالم، لكن أحدًا لن يضاهي وجع أمه التي لن تكون لديها فرصة لأن تتمتع بحنينه لخبزها وقهوتها ولمستها، ولأنه في سخرية أخيرة ومعتادة منه قد يكون خالف وعدًا لا يملكه

 

موقع "المنصة" في

04.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004