البحث عن نوتات زياد الضائعة
مها عواودة
(المكان
مقهى مهجور في شارع خلفي، رائحة قهوة قديمة تختلط برطوبة الجدران. فوق
البيانو المغلق صورة قديمة لمدينةٍ منسيّة. عند المدخل حذاء زياد الجلدي
البني، مستلقياً مثل شاهدٍ أخير على خطواتٍ انتهت).
(يدخل
زياد كأنّه عبر الباب بالخطأ، يعلّق معطفه الطويل على ظهر الكرسي، ويجلس
دون ضجيج).
أنا:
وُلدتَ ابناً لامرأةٍ تُغني والصبح يتعلَّم منها كيف يُطلّ.
هل كان المجدُ بطانيةَ دفء أم غطاءً ثقيلاً؟
زياد:
بطانيةٌ دافئة، لكنها من صوفٍ يحكُّ الجلد. تنامين جيداً، لكن لا يمكنكِ أن
تتوقفي عن الحكة. وُلدتُ في بيتٍ موسيقاه جاهزةٌ قبل أن تُولد أذناي.
أنا:
كراسة «صديقي الله»، كتبتَها مراهقاً. ماذا أردتَ من الإله
وقتها؟
زياد:
كنتُ أختبره كما يختبر طفلٌ مصباحاً جديداً: هل يحتملُ صفعة اليد؟ الإله
صمد، لكن المصباح انطفأ. اليوم أظنّ أنهما الشيء نفسه؛ نورٌ لا يشتعل إلا
إذا صدّقته.
زياد (يقاطع بسخرية):
بالمناسبة، لماذا يحتملُ الناسُ إلهاً يشتغل ليلاً بينما لا
يحتملون جاراً يعزف البيانو بعد منتصف الليل؟
أنا:
أبوك عاصي كان مايسترو صارماً، كيف يجلس الطفل إلى البيانو
والأب يراقبه كمفتش ضرائب؟
زياد:
كنتُ أسمع قبضته تهبط على غطاء البيانو قبل أن تهبط المطرقة على الوتر.
الآباء يحبوننا أحياناً كعقوبة مخففة، تعلّمتُ المقام والتمرّد معاً.
أنا:
وأمك فيروز؟
زياد:
فيروز حدثٌ جوي. لا تكتبين قصيدةً للغيوم؛ يكفي أن تبتلّي.
أنا:
أنت ابن من، فيروز أم عاصي؟
زياد:
ابن
اللحظة التي اختلفا فيها على طبقة صوتها في بروفا الصبح. خرجتُ من ذلك
الشرخ، لذا لا يحزنني أن ينقسم الناس عليّ، الانقسام رحمٌ قديم.
أنا:
قلتَ إن الجاز علّمك كيمياء الطائفة، أي أستاذ كان تشارلي
باركر؟
زياد:
صقرٌ يسرق منك سندويشة الكنافة ثم يُلقي نصفها على الأرض. يعلّمك أن اللقمة
لا تؤكل كاملةً أبداً.
أنا:
مَن أكثر موسيقيّ أثّر بك؟
زياد:
ثيلونيوس مونك. كان يعزف وكأنه يخلط السخرية بالبكاء في نفس الإناء، ويشرب
الخليط دفعةً واحدة.
أنا:
لماذا كل هذا الحضور للرغبة بالاعتراف في نصوصك؟
زياد:
الاعترافُ صنبور في بيت مهجور، أفتحه لأتأكد من أن الصدأ لم يحتل المواسير
تماماً. أكتب لأسمع خشخشة الصدأ، لا كي يصفق لي أحد.
أنا:
لماذا امتلأتَ دوماً بفكرة الهجرة والغياب؟
زياد:
لأن
الوطن حفرة واسعة، حين تحاولين ردمها بالذاكرة يتّسعُ عمقها أكثر. الهجرة
مجرّد محاولةٍ لرؤية الحفرة من مكان بعيد.
زياد (يسألني بهدوء):
وماذا فعلتِ أنتِ بحفرة وطنك؟
أنا:
وضعتُ على حافتها إشارة تقول: “احذر الاقتراب” ثم قفزتُ إلى الداخل.
أنا:
اتهموك بالوقوف مع الجلاد، ماذا تقول؟
زياد:
الجلاد ليس بحاجة لمن يقف معه؛ لديه دائماً طابور طويل من المنتظرين. أنا
وقفت جانباً لأتفادى أن أكون أحد هؤلاء الذين يصفقون لأي شيء، حتى للمشانق.
أنا:
لكن ألا تظنّ أن عدم اختيارك كان اختياراً؟
زياد:
الخيارات التي قدموها لنا كانت مثل اختيار طريقة الإعدام. اعتقدتُ أن
التردد أمام هذه الخيارات هو الرد الوحيد الممكن على من يسألني كيف أفضّل
أن أموت.
أنا:
هل كنتَ قادراً على تجاهل البراميل المتفجرة؟
زياد:
البراميل لم تكن بحاجة إلى انتباه أحد. كانت مثل الرسائل التي تصل دائماً
إلى العنوان الخطأ، لكنها تقتل من يفتحها على أية حال.
أنا:
مَن هم حلفاؤك حقاً؟
زياد:
حلفائي؟ كانوا دائماً أولئك الذين لم يكن لديهم ما يخسرونه سوى حياتهم.
الآخرون لديهم مصالح وأنا لا أملك الوقت الكافي لتعلّم لغة المصالح.
زياد (يسألني):
وأنتِ، مَن هم حلفاؤكِ؟
أنا:
الذين وعدوني بكل شيء، ثم أخذوا كل شيء قبل أن أستيقظ.
أنا:
لكنك كنتَ قادراً على الوقوف بجانب الناس الذين أرادوا
تغيير النظام، فلماذا لم تفعل؟
زياد:
لأن
التغيير كان مثل تبديل الأوركسترا في منتصف السيمفونية دون أن يلاحظ أحد أن
النوتة نفسها خاطئة.
زياد (يسألني):
هل تظنين فعلاً أن تغيير الرئيس يمكن أن يغير كل شيء؟
أنا:
تغيير الرئيس قد لا يُغيّر شيئاً، لكنه يجعلنا نتوهّم أننا فعلنا شيئاً على
الأقل.
أنا:
أنت محسوب على اليسار، فلماذا بدا يسارك انتقائياً أو
براغماتياً؟
زياد:
يساري لم يكن انتقائياً؛ كان مرتبكاً. أشبه برجل يحاول العزف على آلة
موسيقية لم يتعلمها بعد، لكن الجمهور ينتظر منه لحناً مثالياً.
أنا:
ألم تشعر بالندم ولو مرة؟
زياد:
الندم؟ الندم هو الشعور الوحيد الذي يثبت أننا ما زلنا نملك ضميراً، لكنه
أيضاً الشعور الأكثر عبثية، لأنه يأتي متأخراً مثل عازف يصل بعد انتهاء
الحفل.
أنا:
هل ما زال الله صديقك؟
زياد:
ربما توقف الله عن كونه صديقي في اللحظة التي أدركتُ فيها أنه لم يكن
يسمعني جيداً، أو ربما كنتُ أنا الذي لم يسمعه جيداً. الصداقة تحتاج إلى
وضوح، والله وأنا كنا دائماً نتحدث بلغتين مختلفتين.
أنا:
ما الذي جعلك دائماً تتوقع الخذلان من الآخرين، وتجيد
تبريره لنفسك؟
زياد:
لأن
التوقع الأسوأ أسهل من انتظار الخيبة، هكذا تحولت الخيبة إلى حدث متوقع
ومألوف بدلاً من صدمة مفاجئة.
أنا:
أنا فلسطينية ومدينة لك. ماذا يمكنني أن أفعل لأجلك؟
زياد:
توقفي عن دفع الضرائب العاطفية. الغفران نقدٌ مزيف تقدمه الضحية للجلاد.
حين ترفضين التسامح مع قاتليكِ، أكون قد استوفيتُ دَيني.
أنا:
قلتَ مرة: «كل امرأة هجرتني كانت محقّة». أإلى هذا الحد
كنتَ قابلاً للهجران؟
زياد:
أنا
بيتٌ له بابان، أدخل من جهة المطبخ مع أغنية وأخرج من جهة الحديقة مع نكتة.
من لا يحتمل التيه داخله يرحل محقاً. البيت نفسه لا يعرف عنوانه.
أنا:
وماذا عن الزواج؟
زياد:
مثل شخصَين يقرّران فجأةً أن يسرقا مصرفاً معاً، وفي منتصف
الطريق يكتشفان أنّ أحدهما نسيَ السلاح، والآخر نسيَ قناعَه في البيت. لا
السرقة تنجح، ولا طريق العودة آمنة. الزواجُ جريمة عاطفية لا يتقنها
المجرمون الهواة مثلي، لذلك فضّلت دائماً أن أترك مسرح الجريمة قبل و صول
الشرطة
أنا:
والأبناء؟
زياد:
الأبناء مثل محاولةِ تهريب أفكارك الثورية عبر المطار في حقيبةٍ صغيرة.
تكتشفين فجأةً أن موظّف الجمارك يعرف أكثر منك، وأن الحقيبة ليست لكِ
أصلاً. في النهاية، يُصادَرُ كلُّ شيء، وتعودين إلى البيت وأنتِ تردّدين
نكتةً بائسةً عن سوء التفاهم الذي حدث، وعن الثورة التي تأجلتْ إلى موعدٍ
غير معروف.
أنا:
شكّلتَ مراحل ذاكرتي العاشقة. هل تدرك معنى ذلك؟
زياد:
الذاكرة العاشقة مثل عازف بيانو مبتدئ، النوتات الضائعة فيها أهم من التي
تُعزف. آسفٌ لأنني أتلفتُ ذاكرتكِ بكل هذه الأخطاء اللحنية.
زياد (يسأل بجدية):
هل جربتِ يوماً خيانة نصٍّ أحببتِه بشدة؟
أنا:
طبعاً، الخيانة في الأدب مثل نغمةٍ زائدة على السلّم الموسيقي. النوتة
صحيحة، لكن لا مكان لها في اللحن.
أنا:
ما هو الموت بعد أن اختبرته؟
زياد:
فاصلة طويلة بين نغمتين، تكفي لتسمعي الفراغ يعزفُ ما تبقى من الموسيقى.
أنا:
لماذا رفضت العلاج؟
زياد:
لأنني لم أرغب بأن يكون موتي «بروفة» لموتٍ أكبر. أردتُ الخروج من المسرح
دون إعادة العرض.
أنا:
قلت مرة إنك لا تريد “بكاءً ولا عويلاً” في جنازتك. هل
أعجبتك طقوس جنازتك إذن؟
زياد:
الجنازة كانت عرضاً لم أحضره. تماماً كحياتي، كانت مليئة بالغرباء الذين
قالوا كلمات لم أفهمها، وصفقوا لأسباب لم أعرفها. أعتقد أنها أعجبتهم أكثر
مما أعجبتني.
زياد (يسألني):
لو مُنحتِ فرصة لإعادة حياتك، ما هو الخطأ الوحيد الذي
سترتكبينه مجدداً دون تردد؟
أنا:
الخطأ الوحيد الذي سأكرره هو الوثوق بالآخرين، لأنني لم أتعلم بعد كيف أثق
بنفسي فقط.
أنا:
ما الذي تنتظره الآن بعد كل هذا الخراب؟
زياد:
لا
أنتظر شيئاً؛ الانتظار يعني أن هناك مَن سيأتي. وأنا أعرف جيداً أن الذين
ذهبوا لم يعد لديهم تذاكر عودة.
زياد (يسألني):
وأنتِ، ماذا تنتظرين؟
أنا:
أنتظر اللحظة التي يكفّ فيها الناس عن إخباري أن الصمت علامة رضا، وأن
الصراخ علامة حياة.
زياد (يقترب من المغادرة):
إذا أعطيتُكِ لحناً ناقصاً، أين تضعين الفراغ؟
أنا:
أضعه في آخر السطر، ليستيقظ المستمعون فجأة، وهم يظنّون أنّ الموسيقى
تعطّلت.
ينهض زياد تاركاً خلفه ورقةً صغيرة:
“الفراغ
يعزف أفضل منّا جميعاً”.
يغادر بهدوءٍ ساخر، تاركاً حذاءه عند الباب متكئاً كأنه
ينتظر هروباً قد يأتي وقد لا يأتي إطلاقاً,
*****
خاص بأوكسجين |