ملفات خاصة

 
 
 

وأنت بموتك يا زياد أحييت المعاني

زياد عبدالله

(ملف خاص في مجلة أكسجين)

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

تجتمع في وفاة زياد الرحباني معانٍ كثيرة، وعلى مستويات متعددة، فنية وإبداعية وثقافية، تاريخية وسياسية، وقبل ذلك شخصية لكل من عاش وعايش فنه، وهي تتخطى زياد بوصفه إنساناً طالما أن الموت مصير حتمي، إلى مشروعه الموسيقي والفكري والمسرحي، وكل تجلياته والحالة الفريدة التي أسس لها وكان لها أثرها على وعي أجيال متعددة.

ترى أوكسجين أن فقدان زياد الرحباني يوقظ فقدننا لمعان كثيرة متصلة بمرحلة تسربت من بين الأصابع ونفدت! وما نعيشه ونعايشه في هذه المنطقة ليس إلا حركة نكوص هائلة نجهل إلى أين تقودنا، وقد اختلّت كل الثوابت وبدا كل شيء يستدعي إعادة تعريف: وطن، ثورة، عدو، صديق، يسار، يمين، دين، هوية

في هذا السياق فإن مجلة أوكسجين تقدم عددها الخاص هذا عن زياد الرحباني، ساعية من خلاله إلى معاينة عوالمه عبر السرد أو القص، المتخيل والواقعي، الذاتي والشخصي، التاريخي والفني، وصولاً إلى كل أنماط التعبير الحر.

شكراً لكل من ساهم في هذا العدد الاستثنائي. شكراً كبيرة وكثيرة وجداً للفنان محمود ديوب على رسوماته التي أضفت الكثير على هذا العدد. وهذه الرسمة ليس إلا بعصة في وجه الموت الذي خطفك يا زياد، في وجه الزيف والهمجية وكل ما نحن فيه من هراء الآن.

 

####

 

زياد والملجأ الذي سمح لنا باختراعه والانتماء إليه

يوسف م. شرقاوي

إلى بول مخلوف: تعال نضحك ضحك زياد، لا ضحكنا نحن.

فما الرحيلُ همّنا

بل الوداع.

اكتبوا على الأوراق

على أوراق الدفاتر

على أوراق الأشجار الصفر

اكتبوا على شبابيك الزواريب الطويلة

على أصغر الأحجار

احفروا في جذوع الأشجار

على أبواب البيوت المتهدّمة

اكتبوا كلّ ما يخطر ببالكم

فإننا راحلون”.

*صديقي الله – زياد الرحباني.

 

إذا كانت الثورة – كما هي فعلاً – ملزمة قطعاً وبالضرورة بتفسير العالم وتغييره في آن واحد”.

*غسان كنفاني – المقاومة ومعضلاتها كما تراها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

 

زياد

آخر نوابغ الزمان، العقول المحضة، الأحاسيس الصرفة، آخر العقلاء المجانين والمجانين العقلاء.

نقرأ في سير العباقرة، غالباً: وقد تفتّق ذهنه عن عبقرية، ونبوغٍ وبعضِ جنون وحدسٍ هائل وإحساسٍ مُر وعذابٍ أليم. ويُرفَق هذا الوصف، عادةً، بأنّ العبقري اعتزل العالم ودخل محبسه بإرادته غاضباً من خيبة ألمه لأنّ العالم لم يفهمه.

لكنّ زياد، كان يرى العالم.

يرى العباقرة العالم بما هو عليه فيعتزلونه، يرونه الفلاسفة كما ينبغي أن يكون فيعتزلونه، أيضاً، لأنه لن يكون.

رآه زياد في الحالتين، ولم يعتزله إلا وقد غيّره. فسّره، من ثمّ غيّره، من ثمّ اعتزله.

خرج جورج عبد الله حراً إلى العالم… انتظر زياد أربعة عقود رجلاً يشبهه كي يقول له: هذا ما صنعت، ثم يمضي.

يكتب بول مخلوف عن زياد أنه التفكيكي الرهيب، “يفلح” و”يلحم” و”يلحن” لا لشيء سوى إخراج العبث، واللامعقول من جوف البنية، لإبراز هشاشة المعنى في واقعٍ يبدو مستقيماً، وشديد الصلابة يقف على رجليه كمستبدٍّ قميء لا يعرف الضحك، فيما هو منخور بالمرض وعلله فائضة.

زياد الرحباني ضد كل الهياكل، واقعي ضد الواقع، هو المفكّك، والمنفك عن الأواصر الأسرية، والعائلات الموسيقية، والهويات الفولكلورية والأهازيج التراثية. هو الحداثي الذي كتب مانيفستو الحداثة خاصته مراراً.

زياد الرحباني، التفكيكي الرهيب، ضد نفسه أولاً. تراجيدي إغريقي مغمور، وقد يكون من أواخر التراجيديين المعاصرين. هو الذي أذعن لقدره وقال للموت: نعم، حسناً، تعال.

 

سهريّة: ضد نفسه أولاً، الخروج من العباءة

عام 1973 قدّم زياد أولى مسرحياته “سهريّة”، وقد ألّفها ولحّنها. لا تبدو المسرحية، في كل ما تدور حوله وتنحو نحوه، إلا محاولة للخروج من الإرث الثقيل الرابض على صدره.

نحن، الذين أمهاتنا لسن فيروز، وآباؤنا ليسوا عاصي، لن يكون سهلاً علينا أن نفهم صعوبة هذا الأمر”. يقول طلال شتوي في كتابه “زمن زياد”.

الإنسان متى عرف الحقائق سقط عن سرير الأحلام”… يقول زياد في ديوانه الوحيد الذي كتبه وهو ابن اثنتي عشر سنة “صديقي الله”. في سهرية، يختار زياد، ابن السابعة عشر، أن يصل إلى حل توفيقي مع الإرث الثقيل. هذا ما يبدو، أنّ لا وعيه، في العمق، يريد قوله.

ليس زياد الحقيقي إلا مروان محفوظ: في المسرحية، الشاب الجديد ذو الأنفة، يعرف قدراته، ومدى إمكانياته، ولذا لا يتوانى عن منافسة المعلم نخلة التنين. أما المعلم نخلة، فيبدو تمثيلاً حقيقياً للإرث الرحباني. يقيم مسابقة لاكتشاف الأصوات، ويدبّر نتائجها: لا يريد أن يكتشف صوتاً أجمل من صوته. ولكنّ زياد، في الحقيقة، أو مروان محفوظ في المسرحية، كان قد قُذِف إلى العالم الرحباني (عالم المعلم نخلة التنين)، وليس من ذلك بد.

المعلم نخلة التنين هو مثال الأب الحاضر تخييلياً، ومثلما قدّم عبد الله السفر كتاب الأمريكي بول أوستر “اختراع العزلة” تحت عنوان “القبض على أفق الأب”، فإنّ ذلك يصح تماماً على زياد في “سهرية”.

لكنّ زياد لا يريد تكرار مآسي الأبناء مع الآباء، بل يرغب بإيجاد حلٍّ توفيقي مبني على الحب في جوهره، الحب والحرية. ومثلما الأب، كمقولة وموضوع وظل وشبح، مفتاحٌ أساسي لفهم الكثير من العلاقات النصية في الأدب، فإنّ الإرث الرحباني هو مفتاح “سهريّة”.

والانتقال من “سهرية” إلى ما بعدها، أي “نزل السرور”، هي انتقال، على المستوى المجازي، من الرحابنة كإرث، إلى زياد الذي وجد نفسه، وعلى المستوى المادي: من الريف إلى المدينة، الذي يعني مجدداً: من العائلة إلى الأنا.

عاصي وفيروز في مقدمة المدعوين، أتيا مدهوشين، وخرجا منبهرين. لم تكن لديهما أي فكرة عما يفعله ابنهما. مع انتهاء العرض صفّقا”.

تحقق التوافق، بمحبة. صفّق الإرث للخارج عنه، منحه المباركة، وقال: انطلق.

 

أعطيني رشّاش لولادي، ثورة وحدة

لا يعرف زياد نفسه كيف تحقق مثل هذا الانتقال بين 1973 و1974، بين “سهريّة” و”نزل السرور”. ليس ثمة أجوبة عن هذه السنة الفاصلة، إلا ما يقوله التاريخ:

سنة 1968 كانت الثورة على كل شيء في العالم، دون استثناء، ولابد أنّ زياد شهدها وتابع نتائجها، من ثم أُخِذ بجنون السبعينات. سوف يسمع ويعرف، سنة 1971 عن فوساكو شيغينوبو التي أسّست “الجيش الأحمر الياباني”، وسوف يأخذه النداء الذي أطلقته مجموعة من 40 إنساناً، إلى “ثورة عالمية”. لا ريب أنّ زياد تابع العمليات التي قادتها فوساكو ومجموعتها، من خطف الطائرات إلى “عملية اللد”، وربما اكتشف، مثل باقي الناس بعد سنوات، أنّ لفوساكو ابنة اسمها مي أنجبتها بعد زواجها من فلسطيني ينتمي إلى “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.

سنة 1972 اعتُقل أندرياس بادر وأولريكا ماينهوف، مؤسِّسَي منظمة “أيلول الأحمر” الألمانية، أو: بادر ماينهوف. الثورة العالمية تتحقق. ولكن، بعد سنوات، سيُعلن أنّ أندرياس، ومن ثم أولريكا، وُجدا ميتين في زنزانتيهما. في أيلول 1972، ينفذ أبو حسن سلامة عملية ميونخ.

لكن الحكاية التي سوف يرويها زياد، بعد سنوات، في مقابلته مع طلال شتوي، بإعجاب كبير، مختلفة عن كل ما سبق.

في الثامن عشر من تشرين الأول سنة 1973، دخل كلٌّ من علي شعيب وجهاد أسعد ومرشد شبّو (أفقر أمين عام حزب في لبنان كما تصفه الصحف) مبنى “بنك أوف أميركا” في شارع المصارف في بيروت. أطلق هؤلاء على أنفسهم اسم “حزب الاشتراكيين الثوريين”، واحتلوا المبنى، معلنين أنّ عملهم موجّه ضد النظام المالي العالمي، وضد تحكم المؤسسات المالية الدولية بمصائر الشعوب.

كان “بنك أوف أميركا” يموّل إسرائيل في حربها ضد مصر وسوريا. وكانت مطالب الفقراء الثلاثة واضحة: عشرة ملايين دولار لمصلحة مؤسسات تدعم الحرب على الإمبريالية العالمية، وإطلاق سراح عدد من المعتقلين العرب في السجون الإسرائيلية. قُتل الشبان الثلاثة على يد الأمن.

تحاول “نزل السرور” أن تروي كل ذلك، عن الثورة، أن تفجّر ثورة، وتصنع مصيراً، وتنتهي بصرخة زياد: “أعطيني رشاش لولادي، ثورة وحدة”.

 

إنذار من زياد

أما الشريط الترويجي للمسرحية التي أخذت موقع النبوءة بالنسبة للبنانيين قبل حرب السنتين، فيقول: شهد “مسرح أورلي” ولادة نابغة في لبنان الذي هو زياد الرحباني، ابن فيروز وعاصي، الذي برهن عن طاقة مذهلة في التأليف والتلحين، فجاء عمله هذا من أجمل وأكمل ما شهده المسرح اللبناني حتى اليوم. سوف يتحدث العارفون كثيراً عن “نزل السرور” وأبعاد هذا العمل الكبير.

ينقطع زياد نحو خمس سنوات عن المسرح ولا يعود إلا سنة 1978 مع “بالنسبة لبكرا شو”. يتوه زياد في عالم الاستهلاك الوحشي، في مجتمع الخدمات، ويبدو أنّ الثورة العالمية التي بدأت مطلع السبعينات قد ولّت دون رجعة. الآن، الإنسان كائن تدميري، والآخر كيان مُدمَّر معنوياً. الحرب، كما تتضح مع نهاية سؤال زياد، تتمثل في اختيار البقاء في البيئة المدمرة: “أنا عالخليج مش رايح”.

بعد سنتين، تحضر الطوائف بوصفها قوة أعتى من الطبقات في “فيلم أميركي طويل” 1980، وبعد أقل من سنتين، يحدث الاجتياح.

يستجمع زياد أنفاسه ويرجع، سنة 1983، بما يعرفه عن لبنان، ويختصره. الخشبة هي العالم، ويتردد صدى “شي فاشل جداً” كجواب على “أعطيني رشاش لولادي”.

قال ما عنده، صمت عشرة سنوات، حتى يرجع “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” بمقدمة كتبها جوزيف حرب تحت عنوان “إنذار من زياد الرحباني إلى الشعب اللبناني” يجب أن يقرأها الجمهور:

مشهداً إثر مشهد، ستشاهدون عيّنات، نماذج. يرينا زياد من خلالها، صدأ لغتنا، خطايانا، كذبنا، بشاعتنا، إسلامنا ومسيحيتنا، تبعيتنا، عهر أسواقنا وفسادها، إهانة صلواتنا لأدياننا، عفن فنوننا، جرائم تجاراتنا، تعاسة
أحزابنا، لا ضرورة الماضين والآتين من قادتنا. سيرينا أكف لصوصنا، وشقوق جدار دولتنا

ستشاهدون، مشهداً إثر مشهد، أية بدائية وأي تبدد سننتهي إليهما، وأي ريش سينبت في أكتافنا، وأية قرون ستخرج من رؤوسنا، إذا بقي اللبنانيون الكرام في ما هم عليه.

هكذا يروي زياد الرحباني مصير اللبنانيين، مصير الكرامة التي لم تتقن إلا الذل، والشعب العنيد الذي جعلوه يبيع نفسه لكل من دخل عليه، ويصفّق متأهباً لكل من ساق به إلى الذبح، ويلين حين بات من السهل جداص أن يكون كثير العقد.

إنها مسرحية الإنذار، مسرحية الغضب النابع من أعماق الحب لكم. ومسرحية الخوف عليكم إلى درجة اليأس منكم. زياد الرحباني خائف على مصيركم ومصيره ومصيري. ولهذا السبب، فإنه مصر على الانتماء إليكم، وعلى أن يكون واحداً منكم، ويداً مضافة إلى أياديكم، في بناء وطن، يريده له ولكم، عصرياً، جدياً، حقيقياً، صادقاً وجميلاً، وإلا فلتنشق الأرض لتبتلع الجميع.

إنّ بزياد رغبة جامحة، للذهاب معكم إلى العصر والحرية. ولن يتم هذا له ولكم، إن لم تحبوا هذا الوطن كما هو يحبه. تعالوا نضحك ضحكَ زياد، لا ضِحكنا نحن، لنحتمل أخيراً عمق هذه المأساة.

إنه إنذار من زياد الرحباني إلى الشعب اللبناني. وعندما لا يقتنع زياد الرحباني، لا بأس من أن نعيد النظر بكل شيء”.

لكن: كان الأون قد فات.

 

ليفتح لنا الباب، إلى بابٍ آخر

انسوا الكلام المكرّر عن الأيقونات والأساطير والهالات المقدّسة والعبقريات المحضة والعقول المجنونة الخلّاقة. انسوا التاريخ والحروب والسياقات والمسرح والموسيقى والعائلة والمدينة والريف. انسوا الاستهلاك والبارات ومجتمع الخدمات والاقتتال والخروج من عباءات الأب. انسوا الأطروحات واليسار والماركسية والطرقات والزواريب الضيّقة والاصطفافات السياسية. انسوا اللغة وتفكيك اللغة واختراع اللغة والفلسفة. انسوا العبقرية الفنية. هذا مهم، ولكنه ليس الإجابة عن السؤال.

إننا نحس أننا فقدنا أنفسنا، بفقدان زياد، لأنه سمح لنا جميعاً أن ننتمي إليه، في أشد لحظات حياتنا اغتراباً. ومن أجل هذا نبكي. من أجل هذا تدرّ العين الدمع.

خسرنا الملجأ الوحيد، وربما الأخير في الأزمنة الحديثة كلها، الذي سمح لنا برضا وطيبة نادرة، أن نخترعه ونحتمي به في أكثر اللحظات خطراً.

*****

خاص بأوكسجين

 

####

 

البحث عن نوتات زياد الضائعة

مها عواودة

(المكان مقهى مهجور في شارع خلفي، رائحة قهوة قديمة تختلط برطوبة الجدران. فوق البيانو المغلق صورة قديمة لمدينةٍ منسيّة. عند المدخل حذاء زياد الجلدي البني، مستلقياً مثل شاهدٍ أخير على خطواتٍ انتهت).

(يدخل زياد كأنّه عبر الباب بالخطأ، يعلّق معطفه الطويل على ظهر الكرسي، ويجلس دون ضجيج).

أنا: وُلدتَ ابناً لامرأةٍ تُغني والصبح يتعلَّم منها كيف يُطلّ. هل كان المجدُ بطانيةَ دفء أم غطاءً ثقيلاً؟

زياد: بطانيةٌ دافئة، لكنها من صوفٍ يحكُّ الجلد. تنامين جيداً، لكن لا يمكنكِ أن تتوقفي عن الحكة. وُلدتُ في بيتٍ موسيقاه جاهزةٌ قبل أن تُولد أذناي.

أنا: كراسة «صديقي الله»، كتبتَها مراهقاً. ماذا أردتَ من الإله وقتها؟

زياد: كنتُ أختبره كما يختبر طفلٌ مصباحاً جديداً: هل يحتملُ صفعة اليد؟ الإله صمد، لكن المصباح انطفأ. اليوم أظنّ أنهما الشيء نفسه؛ نورٌ لا يشتعل إلا إذا صدّقته.

زياد (يقاطع بسخرية): بالمناسبة، لماذا يحتملُ الناسُ إلهاً يشتغل ليلاً بينما لا يحتملون جاراً يعزف البيانو بعد منتصف الليل؟

أنا: أبوك عاصي كان مايسترو صارماً، كيف يجلس الطفل إلى البيانو والأب يراقبه كمفتش ضرائب؟

زياد: كنتُ أسمع قبضته تهبط على غطاء البيانو قبل أن تهبط المطرقة على الوتر. الآباء يحبوننا أحياناً كعقوبة مخففة، تعلّمتُ المقام والتمرّد معاً.

أنا: وأمك فيروز؟

زياد: فيروز حدثٌ جوي. لا تكتبين قصيدةً للغيوم؛ يكفي أن تبتلّي.

أنا: أنت ابن من، فيروز أم عاصي؟

زياد: ابن اللحظة التي اختلفا فيها على طبقة صوتها في بروفا الصبح. خرجتُ من ذلك الشرخ، لذا لا يحزنني أن ينقسم الناس عليّ، الانقسام رحمٌ قديم.

أنا: قلتَ إن الجاز علّمك كيمياء الطائفة، أي أستاذ كان تشارلي باركر؟

زياد: صقرٌ يسرق منك سندويشة الكنافة ثم يُلقي نصفها على الأرض. يعلّمك أن اللقمة لا تؤكل كاملةً أبداً.

أنا: مَن أكثر موسيقيّ أثّر بك؟

زياد: ثيلونيوس مونك. كان يعزف وكأنه يخلط السخرية بالبكاء في نفس الإناء، ويشرب الخليط دفعةً واحدة.

أنا: لماذا كل هذا الحضور للرغبة بالاعتراف في نصوصك؟

زياد: الاعترافُ صنبور في بيت مهجور، أفتحه لأتأكد من أن الصدأ لم يحتل المواسير تماماً. أكتب لأسمع خشخشة الصدأ، لا كي يصفق لي أحد.

أنا: لماذا امتلأتَ دوماً بفكرة الهجرة والغياب؟

زياد: لأن الوطن حفرة واسعة، حين تحاولين ردمها بالذاكرة يتّسعُ عمقها أكثر. الهجرة مجرّد محاولةٍ لرؤية الحفرة من مكان بعيد.

زياد (يسألني بهدوء): وماذا فعلتِ أنتِ بحفرة وطنك؟

أنا: وضعتُ على حافتها إشارة تقول: “احذر الاقتراب” ثم قفزتُ إلى الداخل.

أنا: اتهموك بالوقوف مع الجلاد، ماذا تقول؟

زياد: الجلاد ليس بحاجة لمن يقف معه؛ لديه دائماً طابور طويل من المنتظرين. أنا وقفت جانباً لأتفادى أن أكون أحد هؤلاء الذين يصفقون لأي شيء، حتى للمشانق.

أنا: لكن ألا تظنّ أن عدم اختيارك كان اختياراً؟

زياد: الخيارات التي قدموها لنا كانت مثل اختيار طريقة الإعدام. اعتقدتُ أن التردد أمام هذه الخيارات هو الرد الوحيد الممكن على من يسألني كيف أفضّل أن أموت.

أنا: هل كنتَ قادراً على تجاهل البراميل المتفجرة؟

زياد: البراميل لم تكن بحاجة إلى انتباه أحد. كانت مثل الرسائل التي تصل دائماً إلى العنوان الخطأ، لكنها تقتل من يفتحها على أية حال.

أنا: مَن هم حلفاؤك حقاً؟

زياد: حلفائي؟ كانوا دائماً أولئك الذين لم يكن لديهم ما يخسرونه سوى حياتهم. الآخرون لديهم مصالح وأنا لا أملك الوقت الكافي لتعلّم لغة المصالح.

زياد (يسألني): وأنتِ، مَن هم حلفاؤكِ؟

أنا: الذين وعدوني بكل شيء، ثم أخذوا كل شيء قبل أن أستيقظ.

أنا: لكنك كنتَ قادراً على الوقوف بجانب الناس الذين أرادوا تغيير النظام، فلماذا لم تفعل؟

زياد: لأن التغيير كان مثل تبديل الأوركسترا في منتصف السيمفونية دون أن يلاحظ أحد أن النوتة نفسها خاطئة.

زياد (يسألني): هل تظنين فعلاً أن تغيير الرئيس يمكن أن يغير كل شيء؟

أنا: تغيير الرئيس قد لا يُغيّر شيئاً، لكنه يجعلنا نتوهّم أننا فعلنا شيئاً على الأقل.

أنا: أنت محسوب على اليسار، فلماذا بدا يسارك انتقائياً أو براغماتياً؟

زياد: يساري لم يكن انتقائياً؛ كان مرتبكاً. أشبه برجل يحاول العزف على آلة موسيقية لم يتعلمها بعد، لكن الجمهور ينتظر منه لحناً مثالياً.

أنا: ألم تشعر بالندم ولو مرة؟

زياد: الندم؟ الندم هو الشعور الوحيد الذي يثبت أننا ما زلنا نملك ضميراً، لكنه أيضاً الشعور الأكثر عبثية، لأنه يأتي متأخراً مثل عازف يصل بعد انتهاء الحفل.

أنا: هل ما زال الله صديقك؟

زياد: ربما توقف الله عن كونه صديقي في اللحظة التي أدركتُ فيها أنه لم يكن يسمعني جيداً، أو ربما كنتُ أنا الذي لم يسمعه جيداً. الصداقة تحتاج إلى وضوح، والله وأنا كنا دائماً نتحدث بلغتين مختلفتين.

أنا: ما الذي جعلك دائماً تتوقع الخذلان من الآخرين، وتجيد تبريره لنفسك؟

زياد: لأن التوقع الأسوأ أسهل من انتظار الخيبة، هكذا تحولت الخيبة إلى حدث متوقع ومألوف بدلاً من صدمة مفاجئة.

أنا: أنا فلسطينية ومدينة لك. ماذا يمكنني أن أفعل لأجلك؟

زياد: توقفي عن دفع الضرائب العاطفية. الغفران نقدٌ مزيف تقدمه الضحية للجلاد. حين ترفضين التسامح مع قاتليكِ، أكون قد استوفيتُ دَيني.

أنا: قلتَ مرة: «كل امرأة هجرتني كانت محقّة». أإلى هذا الحد كنتَ قابلاً للهجران؟

زياد: أنا بيتٌ له بابان، أدخل من جهة المطبخ مع أغنية وأخرج من جهة الحديقة مع نكتة. من لا يحتمل التيه داخله يرحل محقاً. البيت نفسه لا يعرف عنوانه.

أنا: وماذا عن الزواج؟

زياد: مثل شخصَين يقرّران فجأةً أن يسرقا مصرفاً معاً، وفي منتصف الطريق يكتشفان أنّ أحدهما نسيَ السلاح، والآخر نسيَ قناعَه في البيت. لا السرقة تنجح، ولا طريق العودة آمنة. الزواجُ جريمة عاطفية لا يتقنها المجرمون الهواة مثلي، لذلك فضّلت دائماً أن أترك مسرح الجريمة قبل و صول الشرطة

أنا: والأبناء؟

زياد: الأبناء مثل محاولةِ تهريب أفكارك الثورية عبر المطار في حقيبةٍ صغيرة. تكتشفين فجأةً أن موظّف الجمارك يعرف أكثر منك، وأن الحقيبة ليست لكِ أصلاً. في النهاية، يُصادَرُ كلُّ شيء، وتعودين إلى البيت وأنتِ تردّدين نكتةً بائسةً عن سوء التفاهم الذي حدث، وعن الثورة التي تأجلتْ إلى موعدٍ غير معروف.

أنا: شكّلتَ مراحل ذاكرتي العاشقة. هل تدرك معنى ذلك؟

زياد: الذاكرة العاشقة مثل عازف بيانو مبتدئ، النوتات الضائعة فيها أهم من التي تُعزف. آسفٌ لأنني أتلفتُ ذاكرتكِ بكل هذه الأخطاء اللحنية.

زياد (يسأل بجدية): هل جربتِ يوماً خيانة نصٍّ أحببتِه بشدة؟

أنا: طبعاً، الخيانة في الأدب مثل نغمةٍ زائدة على السلّم الموسيقي. النوتة صحيحة، لكن لا مكان لها في اللحن.

أنا: ما هو الموت بعد أن اختبرته؟

زياد: فاصلة طويلة بين نغمتين، تكفي لتسمعي الفراغ يعزفُ ما تبقى من الموسيقى.

أنا: لماذا رفضت العلاج؟

زياد: لأنني لم أرغب بأن يكون موتي «بروفة» لموتٍ أكبر. أردتُ الخروج من المسرح دون إعادة العرض.

أنا: قلت مرة إنك لا تريد “بكاءً ولا عويلاً” في جنازتك. هل أعجبتك طقوس جنازتك إذن؟

زياد: الجنازة كانت عرضاً لم أحضره. تماماً كحياتي، كانت مليئة بالغرباء الذين قالوا كلمات لم أفهمها، وصفقوا لأسباب لم أعرفها. أعتقد أنها أعجبتهم أكثر مما أعجبتني.

زياد (يسألني): لو مُنحتِ فرصة لإعادة حياتك، ما هو الخطأ الوحيد الذي سترتكبينه مجدداً دون تردد؟

أنا: الخطأ الوحيد الذي سأكرره هو الوثوق بالآخرين، لأنني لم أتعلم بعد كيف أثق بنفسي فقط.

أنا: ما الذي تنتظره الآن بعد كل هذا الخراب؟

زياد: لا أنتظر شيئاً؛ الانتظار يعني أن هناك مَن سيأتي. وأنا أعرف جيداً أن الذين ذهبوا لم يعد لديهم تذاكر عودة.

زياد (يسألني): وأنتِ، ماذا تنتظرين؟

أنا: أنتظر اللحظة التي يكفّ فيها الناس عن إخباري أن الصمت علامة رضا، وأن الصراخ علامة حياة.

زياد (يقترب من المغادرة): إذا أعطيتُكِ لحناً ناقصاً، أين تضعين الفراغ؟

أنا: أضعه في آخر السطر، ليستيقظ المستمعون فجأة، وهم يظنّون أنّ الموسيقى تعطّلت.

ينهض زياد تاركاً خلفه ورقةً صغيرة: الفراغ يعزف أفضل منّا جميعاً”.

يغادر بهدوءٍ ساخر، تاركاً حذاءه عند الباب متكئاً كأنه ينتظر هروباً قد يأتي وقد لا يأتي إطلاقاً,

*****

خاص بأوكسجين

 

####

 

الهجوم كاسح يا كومندان وبعدنا طيبين

زياد عبدالله

من يتمرد يمكن أن يفشل. لكن من لا يتمرد فهو أصلاً خاسر” اقتباس لا بأس به للبداية مع زياد الرحباني، وله أن يمهلني بعض الوقت، لأستجمع نفسي أمام سيل جارف من الذكريات والأفكار الذي يجتاحني منذ 26 تموز/يوليو 2025، يوم وفاته.

أنتقل إلى الفقرة التالية، هذه التي أكتبها الآن، وكلّي أمل بأنها ستتيح لي الإمساك بتلابيب ما أود كتابته، فإذا بي أستعين مجدداً باقتباس آخر، وهو كما السابق لبرتولد بريشت: “إذا كانت الحقيقة في موقع دفاع ضعيف، يجب أن تنتقل إلى الهجوم”، نعم إنها الحقيقة التي تتطلب هجوماً متواصلاً ودائماً، وفيهما أجد ضالتي مع زياد الرحباني. استخلاص الجمال والإبداع المغاير والمختلف من الخراب، اجتراح السخرية من هذا الأخير، استخلاص الحقيقة من سياقاتها الزائفة، التندر على الآني والمؤقت، وكل ما هو مضلل ومغيّب، وصولاً إلى تساؤلي: كم من الأكاذيب تطلب الوصول إلى كل هذا الخراب الذي نعيشه؟ كم من الحقيقة يا زياد احتجت حتى نجوت منه!

هجوم كاسح يا “كومندان”، بالمعزوفات والنوتات والأغاني والآلات الموسيقية، على خشبة المسرح، على الشاشة، من خلف ميكرفون في استديو إذاعي، بالكتابة، هجوم ما زال مستمراً ومتواصلاً، وليبدو الموت مدعاة للتندر، أضحوكة، نوماً فارقك كثيراً، وآن الآوان لتشن هجومك على الأرق وتصرعه.

أجدني جراء ما تقدم، أتحرر من السياق، وأترك نفسي أمضي مع السيل الجارف من الأفكار والذكريات، على شيء من التداعي الحر، مورداً الأفكار التي تتبادر إلى ذهني، متحرراً مما يعيق ذاك السيل الجارف الذي بدأت به، وها هو يأتي على هذا النحو:

سأكون قنوعاً جداً مع موسيقى وأغاني زياد، أريد “تراك” بلا منتهى يجمعها جميعاً، وما إن ينتهي حتى يعاود من جديد، على شيء مما أحس به زياد حين شاهد فيلم بوب فوس “كلّ هذا الجاز” All That Jazz (1979)، وأمنيته بأن “يضل يقلب” أي كلما انتهى عرض الفيلم يعاود من جديد.

زياد في الموسيقى مشغول بـ “الشكل”، بـ “كيف” وليس “ماذا”، وكل إبداع حقيقي هو تجريب بالشكل أولاً وأخيراً، فكل “الذين يحبون فنّهم يبحثون عن جوهر تقنيتهم” على رأي دزيغا فيرتوف، والتجريب إن غاب فهو الرضى بما هو قائم، وهذا الرضى هو التخلف وبأحسن الأحوال الجمود.

شاغل زياد في المسرح مغاير للموسيقى، إنه مشغول تماماً بالقول، بـ ماذا ولماذا، لكنه في الوقت نفسه استخدم أيضاً الوسيط السمعي، الراديو، الذي صار إلى “كاسيت” ليقول الكثير، ليكون على اتصال مباشر ويسير مع كل الناس، كما في “شي فاشل” و”بعدنا طيبين قولوا الله”، وانحسر تقديم أفكاره كتابةً في بضع كتابات متفرقة أو عامودين صحفيين في جريدتي “السفير” و”الأخبار”.

الفن والثقافة لا ينال منهما شيء، حتى في البلدان التي لا تؤمن لا بالثقافة ولا بالفن، هذه جملة اعتراضية، لها أن تتكرر ربما!

 ما لم تكن لبنانياً يا زياد، لكنت شهيداً أو معتقلاً أو مطارداً أو منفياً، بمعنى أن تكون أنت كما أنت في بلد عربي آخر غير لبنان، ما من حركة وطنية فيه ولا أحزاب يسارية أو شيوعية سوى الحزب القائد ومعه القائد الخالد أو في حزب شيوعي داخل الجبهة التقدمية، ولما أتيح لك حتى أن تقول “بعدنا طيبين…”

حين سمعت حديثك عن المجتمع الاستهلاكي وأكياس الزبالة في “بعدنا طيبين..قولوا الله” كنت أعيش في سورية في زمن “المؤسسة الاستهلاكية” القادرة على التحكم بالاستهلاك وتقنينه اشتراكياً، وتوفير الاحتياجات الأساسية لمن لا يطلبون من الرب سوى “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”، وكل ما هو استهلاكي بحق يأتي من لبنان مثل ذلك “الكميون” في “نقليات إلى الشام”.

الكتاب الذي شكّل منعطفاً في حياتي هو كتاب أنجلز “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” والذي قرأته في مجتمع “المؤسسة الاستهلاكية”، ولم أقرأ ماركس وانجلز، وصولاً إلى ألتوسر ومهدي عامل وسمير أمين، إلا حين عشت في “مجتمع استهلاكي” بحق، في “رأسمالية طرفية”، وهنا بدت أدوات مقاربة الواقع تاريخية مادية جدلية، مكنتني، وهبتني القدرة على التحليل، وتكشفت لي أدواتك يا زياد، وقدرتها في الوقت نفسه على منح فضاء إنساني حر، بعيداً عن السائد والمروج له من الحديث عن الجمود العقائدي أو الدوغما ونحو ذلك مما تسيد المشهد الفكري والثقافي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى الفن وأنا أجده حراً ومدهشاً وتجريبياً واستثنائياً مع الرفاق برتولد بريشت ودزيغا فرتيوف وسيرجي ايزنشتين.

يبدو لي الحديث عن زياد الرحباني من دون ماركسيته أمراً مضحكاً، أشبه باعتبار لينين نوعاً من أنواع الفودكا، وكاسترو علامة تجارية لسيجار كوبي، وأن غيفارا لم يكن سوى طبيب أرجنتيني.

مقولات تافهة تم تداولها هنا وهناك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية مثل: “ما لم تكن شيوعياً وأنت شاب في العشرينيات من عمرك، فأنت بلا قلب. وإذا ظللت شيوعياً وأنت في الثلاثينيات من العمر، فأنت بلا عقل” ولي أن أعقب على هذه المقولة بأنها هراء بهراء، وأنها تنتمي إلى عبارات جاهزة تغري شعوب وسائل التواصل الاجتماعي، أو الشعوب التي ليس بمقدورها سوى أن تكون افتراضية.

ثمة كثر أعرفهم صاروا شيوعيين في سورية من دون أن ينتسبوا إلى أي حزب شيوعي، ولا أن يسمعوا بـ “رابطة العمل الشيوعي” في تسعينيات القرن الماضي، وهي تقمع وقد أصبح كل منتم إليها (وهم من محبيك وكثيراً) إما معتقلاً أو مطارداً أو هارباً. آمنوا بلينين وماركس وأنغلز، وراحوا يرددون كما سمعوا منك يا زياد “الله يرحم ترابك يا كارل ماركس شو كان مخك كبير”، ومقولة لينين “من لا يخطئ هو الذي لا يفعل شيئاً”، وهم بدورهم لم يفعلوا شيئاً ولم يخطئوا، إذ في ثمانينات وتسعينات سورية لم يكن متاحاً أن تفعل شيئاً والغلطة بكفرة، لكنهم اكتفوا بك يا زياد الرحباني فأنت – محرفين أغنيتك – “الأمل الذي لن ينقطع بهاليومين”.

أصدقاء كثر أعرفهم تأثروا بك يا زياد، وصاروا يقلّدونك في كل شيء، يتكلمون مثلك ويسخرون من كل شيء، ويتندرون على هذا وذاك، منهم من يلقي علينا نكاتاً بايخة، وقلة أتقنت جيداً جوهر سخريتك، منهم من هو سطحي وتافه، ومنهم من هو عميق وفهيم، منهم من كان ببغائياً وهذا بمقدوره أن يكون طائفياً ورجعياً وأعمى لكنه حفظ كل ما قلته، ومنهم من وجد في ما أخذه منك معبراً ليكون منيعاً وتحليلياً وتقدمياً. هذا هو ما يسمى “التلقي”، أليس كذلك! فالإنسان حيوان أيدلوجي!

يتطلب اجتراح مصطلح أصيل لفن زياد الرحباني إلى بحث عميق، فهو لم يتح له أن ينظّر لذلك، أو أن يتحدث عن “منهج”، فهذه رفاهية فنية غير متاحة في هذا الشرق البائس! لا بل إن فعل ذلك يفترض أن يكون متروكاً لآخرين أو نقّاد، غير خائفين أو متشنجين، أي أحرار ومتخلصين من ركب موجة السائد والمتفق عليه، وفي ذلك مطالبة مستقبلية ربما!

الفن والثقافة الحقيقيان لا ينال منهما شيء، حتى في البلدان التي لا تؤمن لا بالثقافة ولا بالفن، ها أنا أكررها لكن مع التأكيد على الحقيقي، وأختم بها، وإن غداً لناطريه قريب.

 

####

 

الحالة صعبة يا رفيق زياد

خالد بن صالح

إليك زياد،

وأعتذر مسبقاً ولاحقاً على هذه الرسالة المتأخرة عن كلِّ شيء… حتى عن الموت!

أنا – لا يهمُّ مَن أكونُ شخصيَّاً – مجرّد فتى جزائريٍّ ينتمي إلى جيل طالتهُ أعطابٌ كثيرة، جيلُ اللحظةِ ما قبل الأخيرة قبل الهلاك. وعَيتُ على عالمٍ مخبول في ما نسمِّيه جزافاً “التسعينيات” في الجزائر (1992-2002)، أو عشرية الدّم والعنف والإرهاب، وغالباً سنوات الظلام والظلامية التي لم ينج منها الكثيرون وإن ظلوا أحياء أو ما يشبه ذلك. الجزائرُ حينها كانت جرحاً مفتوحاً تحومُ حوله جحافل من مصّاصي الدماء والدولارات والأحلام… كان الدمُ مشاعاً في الشارع، في البيت، في القرية، في المدينة، في كل ما يصلح ليكون ساحة حرب لا قوانين ولا أخلاق لها، على أساس أن لكلِّ شيءٍ أخلاقياته بما في ذلك الحرب. لكننا أدركنا ومنذ بداية الانهيار السياسي والأزمة الأمنية ومن ثمّ القتل المجاني والفوضى، أن لا قانون ولا أخلاق سوى قانون الرعب والخوف المطلق.

في تلك الأنفاق المظلمة، وفي لحظات الصمت التي تلي صخب الرصاص تعرّفتُ عليكَ، وقبلكَ سكنتْ أغاني السيّدة فيروز كل أركانِ الحارة والبيت عبر أسطواناتٍ كانت تأتي من فرنسا وحتى من لبنان. رغم أن “الحالة كانت تعبانة”، إلا أنهُ كما كتبتُ في إحدى قصائدي: “كانت تكفينا أغنية واحدة لنقضي شتاءً كاملاً بلا وعي”، والغريب أن أغنية مثل “أنا مش كافر” التي كانت تدورُ في شريط كاسيت مهترئ، في تلك الليالي الباردة، لا تزيدنا إلا وعياً بمأساتنا وبما سيكون عليه الوطن الذي “دمّرناه على شاكلتنا”، ولم نعد نسأل كما المسحوقين: “بالنسبة لبكرا شو؟

الحالة يا رفيق، جَرَّة أوجاعٍ لا نهاية لها.

وأنتَ تشرع باباً أُغلق منذ زمنٍ، كيف لنا أن نواجه وطناً ينهار؟ تنخره الحربُ والصراعات والمصالح والخيانات؟ تمسّكتُ وأصدقائي – على قلتنا في هذه القرية الصغيرة – بتمرّدك، بسحرك، بفوضاك الخلاقة، وإبداعك الذي كسر كلّ القوالب، بما في ذلك تحدّيك لإرث الرحابنة العظيم، عبقريتك في التجديد والتجريب، أنت الموسيقي والسياسي والإنسان، وقبل ذلك العابث والمغضوب عليهِ والسكران الذي حين يضحك تُقرع أجراسُ فرحٍ غائب، وتُكسر جرَّة الأوجاع لتتدفق أمامنا، في مواجهة مؤلمة وجارحة مع الذات.

كنتُ “كذئبٍ جريح يركضُ في البراري”، وأنا ألملمُ من مسرحياتك وأغانيك وألحانك، ما تبقى من ذاكرة أبطالٍ جزائريين يشبهونكَ، بميولهم اليسارية وحسّهم الاشتراكي وتوجهاتهم الماركسية التي لا تعتبرُ قطعةَ الموسيقى بديلاً لقطعة الخبز! وأن الله يمكن أن يكون صديقَ الجميع، دون فوارق طبقية، وأن التضحيات والعزلة والتغييب جزءٌ لا يتجزأ من النضال الحقيقي. أذكر هنا بشير حاج علي (1920-1991) الذي أحببتُه وكتبتُ عنه، وهو الذي كان يسارياً نقيَّاً حارب من أجل استقلال وحرية الجزائر، وأقسمَ بالولاءِ للوطن مرَّتين، سواء كان السجّانُ عدواً محتلاً أو أخاً صار جلاداً بعد استيلائه على الحكم. أُخبركَ عنهُ لأنه كتبَ في رسائله المهرّبة إلى زوجته: “البحث عن الجمال هو هدف ثوريّ”. ولعلني أضيفُ باسمكَ يا رفيق أنَّ كل هدف ثوري هو بالضرورة إنجازٌ جمالي، يستدعي أن يتحرَّر الشعبُ من “التعسف” الممارس عليه، وهو عنوان أحد أهم كُتب المناضل بشير حاج علي الذي كان أيضاً باحثاً ومهتماً بالموسيقى الشعبية والأندلسية وألّف كتباً ودراسات حول روّاد هذا النوع الغنائي ودراسات عن مصادر الموسيقى الجزائرية والوطنية وآفاقها.

الحالة يا رفيق… لسّاتها تعبانة!

وأنا هنا، كما تعلّمتُ من عبثيتك ولعنتك ولغتك التي تصلحُ لكتابة مناشير وقصائد نثرٍ وشتائم على جدران كلّ العالم، أكتبُ إليك وخلفي آلام الكادحين الذين كتبتَ وألّفت موسيقاكَ وغنّيت لأحزانهم، كيف لأمراء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) أن يكونوا محلّ انتقاد في “فيلم أميركي طويل”، وكيف تُفضَح الدولة والعسكر في “بخصوص الكرامة والشعب العتيد”، أما وقد أدرك الكادحون أن صوتهم صار مسموعاً، أصبحَ “العقل زينة” وكل شيءٍ قابلٌ للمجابهة، لإلقاء النّكات عليه، وللسخرية منه.

الغضبُ إن لم يتحوّل إلا أداة للتغيير، بحثاً عن الحلول في سياق “الأفعال” لن يكون سوى حفنة إداناتٍ تمارَسُ كطقسٍ تطهيري. بينما كنتَ أنت تتخلّى، كان الآخرون يستحوذون، وبينما كنتَ تتخفّف، كان الآخرون ينهبون، والمعادلة الأورويلية، في كل مرة، تنطلي على الكثيرين، هؤلاء الذين حاولتَ بأغانيك ومسرحياتك أن تفتح عيونهم على الحقيقة. مع كل جملة موسيقية، مع كلّ عبارة أو لحن، أو حتى جملة اعتراضية في حفلة جماهيرية، رحتَ تعرّي الكذب والخداع السياسي والاجتماعي المتأصل في الطبقات الحاكمة التي لا تتوقف عن الاستمناء والهراء.

الحالة صعبة بعدك يا رفيق.

رغم انسحابك منذ سنوات بعيدة، رغم انشطار الأفكار وضياع البوصلة في الكثير من المحطات الجديدة، رغم انصهار المسافات بين تلك السنوات الصاخبة والملحمية، التي خرجت من رمادها لا كطائر فينيق يضربُ بجناحيه الذهبِيين عرض السماء، إنما كمواطنٍ رافضٍ، بجسدٍ متهالك، كمناضل عتيد، كقدّيس يرتدي بلو جينز ويعيش في غرفته كفيلسوف زمنٍ رديءٍ، كإنسان عاديٍّ يكافح لأجل عاديّته، كواحد من أكثر المؤلفين الموسيقيين براعةً وشهرةً واعترافاً… رغم كل الألقاب والمجازات والإرث العائلي الكبير؛ إلا أنك ستظّل مشروعاً متكاملاً  فريداً، يشبه مسوّدة مفتوحة على الموسيقى والغناء والشعر والمسرح والسياسة، مسوّدة لا تخلو من التشطيب والمحو وإعادة التأليف، يمكنُ أن يُستخرجَ منها النص النهائي نقياً جاهزاً، كما يمكن أن تُترك على أصالتها وبكل شوائبها، كسيرة فنية عظيمة لم تُحشر في كتاب، وظّلت كشريط حياةٍ متقطّع له أن يُلامس أبعد الأحلام المشتهاة، أن يجمع في عمر واحدٍ متعثّر بين الموهبة والإبداع والاحترافية والعزلة والمرض. فنّك الذي لم يكن يوماً ترفاً، بل مقاومةً وتعبيراً عن قلق مقيمٍ لدى أجيالٍ بأكملها. أتحدث على الأقل عن جيلَيْ الثمانينيات والتسعينيات وما تلاهما من سنوات عجاف استطعتَ أن تكثّفها في عزفك على البيانو، في كلمات تلك الأغاني القصيرة بمقدمّاتها الموسيقية الطويلة وهي “تُبَرزِخ” الموسيقى بين الجاز الأفريقي القادم من أميركا، والتراكيب والمقامات العربية، خالقاً بتناغم عجيب جازكَ الشرقي المُلهِم.

الحالة في وداعكَ متأزمة يا رفيق.

يقول جيل دلوز: “كل فيلسوف له لحنه”، وأقول من بعد إذنه: “كل ملحّن له فلسفته”، وأنت بألحانك وفلسفتك استطعت أن تجعل من “جارة القمر” جارةً للناس، بكل عظمة وسحر اسمها: “فيروز”، والذي له أن يكون اسماً عادياً يشبه أسماء حبيباتنا الفقيرات، حيث تلتصقُ كلمات الأغاني أثناء عناقهن بثيابنا الممزقة، ولا نخجل أن نردّدها ببطون فارغةٍ وعيون مفتوحة على المجهول، ونحبّ إيقاعاتها المتناغمة مع أحلامنا الهشّة التي قد تتكسَّر جرّاء نسمة هواء.

لن أسألك اليوم “كيفك؟”، و”كم بكرا صار مارق من وقتها لليوم؟”، لن أزعجك بالحديث عن “تاريخ صلاحية” هذا العمر، هذا الجسد… “يا خيي ما بعرف” وأنت مَن يتقنُ قول الكثير في قطعة موسيقية، في أغنية، في جملة مقتضبة، في عبارةٍ غير مكتملة، في تصريحٍ عابرٍ يصلحُ عنواناً لمآزقنا المديدة وخرابنا العميم. ومنا هنا، حيث يصعبُ عليَّ الجلوس والتحرّك بحرّية لأسبابٍ صحيَّة وسياسيّة يطول شرحُها، يصعب عليَّ “الحكي” أيضاً، لأن الحرّية كما تقول “مش إنك تحكي”، الحرّية “إنك ما تخاف تحكي”.

الحالة يا زياد إنَّا نحبّك “بلا ولا شي”.

رحيلكَ ليس رحيلَ رجلٍ انتهت سنواتُ عمره في التاسعة والستين، إنما هو، في ظل هذه المآزق والتراجيديات المترامية، انسدال الستار على طريقةٍ في المقاومة، نهجٍ مركّب وأصيل في مواجهة الظلام – دون التفكير في ما وراء النفق الطويل – بالسخرية والضحك والعبث، باللعب والبراءة والنقاء، بالاستفزاز والمساءلة والالتزام.

شكراً، جداً، جزيلاً”، والحالة لم تنته بعد يا رفيق.

سلِّم!

*****

خاص بأوكسجين

______________________

* العبارات بين علامتي الاقتباس الواردة في النص هي حوارية بين مختلف أعمال وتصريحات زياد الرحباني (1956-2025) وقصائد مجموعاتي الشعرية الثلاث الأخيرة.

 

ملف خاص في مجلة "أكسجين" في

04.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004