زياد الرحباني.. اللا توافقيّة مع كل شيء
يقظان التقي
ألقى الموسيقي والفنان اللبناني زياد الرحباني أوجاعه، ورحل
عن عمر 69 عاماً بعد صراع صامت مع المرض، على نحو قاسٍ فاجأ غالبية
اللبنانيين من محبيه، في لحظة ثقيلة لبنانياً ومعتمة. ليس لأنهم لم يعرفوا
أنه كان مريضاً فقط، وأنه يعاني من صعوبة وضعه الصحي في الآونة الأخيرة، و
لم يهبّ الكثيرون لنجدته..،
بل لأنهم يفقدون نبضاً حياً، ابن الوصال مع العائلة الرحبانية المدلّهة،
الشجيّة في أغانيها وموسيقاها ومسرحها الغنائي الحديث. فترك رحيله حسرات
وحزن عميقين في صحبة مدينته بيروت، التي تنقضي أيامها أحياناً كثيرة على
حزنٍ ووجع.
غاب زياد بعيداً، وترك قلقا كبيراً على والدته السيدة فيروز
من انهيار وصدمة وحالة الحزن العميق التي سادت عائلته الصغيرة والكبيرة.
ولا أحد يجهل ما وقع وتجلى وما أحاط بشخصيته، وبما شابها وأظهر من موهبة
شكلت ظاهرة ٳبداعية فنية وثقافية ومسرحية وطنية وعربية وشعبية، عكست ملامح
الواقع اللبناني في تمرده على الحرب والظلم والقهر والحرمان والتسلط
والتغيير خارج المتاريس والحدود الطائفية والمذهبية. وهو قرأ الواقع
اللبناني جيداً بعفوية وغرائزية عاطفية، وحدس برؤية في المستقبل ببصيرة
ثاقبة، عبر عنها في موسيقاه وألحانه وأغانيه ومسرحياته وخارجها من أفكار
وتطلعات، كرسته نجماً فوق العادة، وشخصية جدلية جاذبة لكتلة شبابية مدينية
وازنة أحاطت به.
زياد الرحباني أكثر من موسيقي. وأكثر من ممثل. حالة شعبية
جاذبة، وظاهرة فنية منذ السبعينيات، هو المدهش والمبدع موسيقياً، والناقد،
والساخر حداثياً، وصاحب الكاريزما والكاركتير المسرحي الفاتن، الذي لا يمكن
مقاومته.
نجح زياد الرحباني على مدى سنوات عمره ومنذ الصغر في تقديم
نفسه في الحيز المعلن والمفتوح، وغير المنغلق عائلياً، مبدياً رغبات كثيرة
بالتفاعل مع الآخرين، وإقامة علاقات ودية، وقصص وروايات تطول في المسرح
والموسيقى والجاز الشرقي، ونقاشات وحوارات يسارية غير راديكالية، وكلمات
وقفشات وضحكات، ونفثات ٳنزال مزن الحكمة والجنون، يحاصر كثيرين من وحي
مشكلاتهم، وأينّ يستطاع في موسيقى وحركة وسلطة ثقافية لا تهدأ. بنى عالماً
كبيرا فوضويا لنفسه، يسهر فيه، ويترك ما يريده وما يحب الآخرون أن يكونوا
فيه من التزامات صفريّة عنده.
كان
حالة فكرية وجودية قلقة، تشبه لبنان المتعب والمختنق منذ “فيلم أميركي
طويل” في السبعينيات، ويقول الكثير وسط الضجيج والفوضى بروحه المتمردة
ووجدانه الحداثي والمعاصر. لم تصبه رياح الغرور والنجومية، فهناك الشيء
الثمين في شخصيته المزاج المتغير والمتبدل، وأحياناً يخرج من عقله، يسقط
بألسنة عامية شقيّة لذيذة خاصة به ٳلى حضيص الأوضاع اللبناية المقلقة،
ويسمو أحياناً أعلى عليين في خطاب وطني طامح وثوري، وهو الجزء الذي فيه
الكل خائف من تداعي البيت اللبناني وسقوطه.
نظن، أن أهم سمّة تميز بها زياد الرحباني هو “ اللاتوافقية
“ مع كل شيء، مع عائلته، والده، والدته (خاصة الجملة الجديدة في الألحان
التي كتبها لها)، ومع سياسيي البلد وأحزابه المتصارعة مع الحرب الأهلية
وأحداثها، مع الفرز ما بين بيروت الغربية والشرقية، مع التراصفات الطبقية،
مع البيئة الفنية والثقافية والاجتماعية والٳعلامية. لم يكن توافقيا حتى في
مشاعره عواطفه تجاه المرأة، وسرب النساء العاشقات اللواتي عبرن في حياته،
حتى مع الموت، حين رفض الخضوع لبروتوكولات الطبابة لمعالجة كبده المتشمّع،
وتميز بقوة كبريائه وعزتّه، وقوته، حين رفض أن يكون مرضة مادة ٳعلانية
ومادية. كأنه يسخر من مرضه، وأن يكون ما وراء الخبر، فيهدمه.
كان سباقًاً في نقض الوقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي
وفي استشراف الواقع (“نزل السرور”، و“فيلم أميركيي طويل”، و“بالنسبة لبكرا
شو”، و”شيء فاشل”، “ لولا فسحة الأمل”، و“بخصوص الكرامة والشعب العنيد”..)،
ومآلات الحروب، وليس مصادفة أن يغادر زياد وسط الضجيج اليومي للموت والجوع
في غزَة، والعالم يموت من حولنا على الضفة القصوى من العنف والفوضى
المدمرة. لكن في إطار نقدي متوازن، لا يمكن القول بأن زياد، لم يقع أحياناً
في السهولة والاستهلاكية، وفي كليشيهات مزاجيّة سادت إطلالاته وحواراته
السياسية وأحدثت تشويشاً وبلبلة ونفوراً سياسيا في مراحل معينة.
مع ذلك، برزت شخصيتة لمّاعة، وذكية، راكمها بانتاجات فنية
موسيقية ومسرحية كبيرة متقطعة، وبكل ما يصنع نجومية ناضجة وقريبة ومباشرة،،
وأمور كثيرة تصنع منه الفنان الاستثنائي على تمرده، وعبثيته والشخصية
الجذابة والسحرية التي تتحرك في الضوء غير العادي، سواء على مسارح المدينة
أو نواديها الليلية أو مهرجاناتها الدولية على نحو غير ملتبس، بخلاف الكثير
من التشفيرات والظلال والغموض التي اكتنفت شخصيته ومواقفه السياسية.
في آخر حفلاته المهرجانية في “بيت الدين”، نحو 2018، جذب
زياداً جمهوراً حاشداً يساوي عدد الجمهور الذي تدفق بعشرات الآلاف لحضور
أمسيات والدته السيدة فيروز الغنائية (أحيانا رافقها ). بدا ذلك الشخص
الجميل، والحضور المسرحي يلّون صفاته، يشرك الناس بكلماته، يتكلم ويعزف
ويطرب، ويغادر بسرعة، ويختفي، ويعود، كأنه من سلالة الكهنة السحرة، في
مواقع قوته الحيّة والموسيقى المتدفقة، يغذيّها كغرفة موسيقية خاصة لا مثيل
لها، ولا أحد يشبهها من الفنانين الاصطناعيين، ولا يحدها زمان ولا خشبة،
تثير عاطفة قلوب محبيّة. يعزف بيديه ويوحي بما يريده. كأن بينه وبين
الجمهور ميثاقا عاطفيا بمقدوره أن يبقى لسنين طويلة من دون صعوبة، ولا خلاف
حول حجم تأثيره الأقوى وشعبيته وقدراته الظاهرة في أرشيف عشرات الاغاني
الجميلة، التي غنتها فيروز وأبرز نجوم الأمس على الخشبة المسرحية الغنائية
اللبنانية.
فنان مليء بموسيقى الجاز وأغاني الراب والبوب الهادئ
والمتمرد والمتفجر، وأغاني الواقع والغضب ووالحنين ونوستالجيا رومنطقية في
الايقاعات الشرقية والشعبية. طاقة عنيفة بذاتها منذ السبعينيات، وجميعهم
صعدوا معه إلى الخشبة أمام جمهور معظمه من الشباب، واستطاع التعايش معه
بطريقة مختلفة عن العروض الرحبانية القديمة، كأنها ثورة مضت.
بدأ تأليف أول أعماله مراهقاً، يوم لحن لأمه فيروز “سألوني
الناس”، وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، سطع نجم زياد الرحباني بشكل لافت،
من خلال مسرحياته التي حفظ البعض نصوصها عن ظهر قلب، ولا تزال تتداول
كالأغنيات الرئيسة، تتناقلتها الإذاعات وتعيد بثها باستمرار، ثم تم العمل
على إعادة تصوير مسرحيتين وعرضتا أخيراً في صالات السينما، وتولت في بيروت
إلى تظاهرة كبيرة على مستويات مختلفة في فضاء مديني متسع حضوراً وأضواءً
تبقى
روح زياد الساخرة، مع براعته اللغوية الاختزالية العميقة، ومهارته
الموسيقية اللافتة، صنعت منه مزيجاً غريباً في المسرحيات، وإنما أيضاً في
الأغنيات مثل “ع هدير البوسطة” أو “عودك رنان” أو “حبيتك تنسيت النوم”، أو
“عندي ثقة فيك”.
يسجل لزياد مغامرته البعيدة في تغيير النمط الفيروزي، جلبت
لهما الكثير من النقد بعد وفاة عاصي. لكن زياد لم يكن مجرد فنان، هو يتحدث
باسمها، ويشتكي بلسانها، ويحكي عن عذاباتها، ويسخر من جمهورها التقليدي.
وهي تقول لحبيبها “ولّعت كتير”، “خلصت الكبريتي لا إنت الزير ولني
نفرتيتي”، أو “ضاق خلقي يا صبي من هالجو العصبي”. “يا صبي شكك ما بينفع، شو
بينفع يا ترى”! وبالعفوية والبراعة التي كتب بها زياد، في أغنيات لا تنتهي
تمشي مثل الاهواء في المدينة،.صارت الأغنية شيئاً آخر، لا تشبه أغنياته
رومانسية الأخوين رحباني أو مثالية أجوائهم المسرحية.
وذهب زياد إلى السخرية الحداثية حتى من نفسه، لم يساير أو
يهادن أو يغلف غضبه مع أحد. لكنه لم يلاق في مشواره السياسي إجماعاً، البعض
اعتبره “ لا يطاق “ و”غير ديمقراطي. مع ذلك يتفق الجميع توافقاً كاملاً في
عبقريته. وأنه نهض في الموسيقى بشمولية لبنانيا وعربياً، والكثير من العرب
يصغون إليه، رغم عامية أعماله ومحكيتها الغائرة في لبنانية محلية، يصعّب
فهمها.
الشباب في العديد من الدول العربية، لاسيما في المغرب
العربي وبالملايين يغني “كيفك إنت ملّا إنت”، “عندي ثقة فيك” ومش قصة هاي”،
و”إيه في أمل” لم تكن أقل عبقرية من “بحبك ما بعرف ليش” و”نسم علينا
الهوا”، وهناك المقابلات الصحافية والموسيقى التصويرية، التي قام بوضعها
لأعمال فنية عديدة بينها أفلام، وكذلك هناك برامج إذاعية، وأعمال لم تنشر،
عدا التوزيع، أضف إلى ذلك أغنياته الخاصة، وتلك التي غناها صديق عمره
الفنان الراحل الكبير جوزيف صقر.
استمعت لكثيرين ممن رافقوه، يروون كيف أخذ بعضهم بعفوية من
زاوية مقهى، أو صبايا وشباب من الشارع، مجهولين وبلا أسماء مكرسة، وصنع
منهم نجوماً وأشياء جوهرية. يقدم اسماً جديداً في مهرجان معه، فيصير أكثر
من مهرجان. ٳنه حلم تحقق لكثيرين مع صعوبة الخوض في الأسماء الكثيرة التي
كتب لها. كان زياد هذا الانفجار الموسيقي، أسس الحدث، وحول التوجه فيه مع
السيدة فيروز نحو جمهور مختلف، واتجاهات جديدة في الأغنية العربية. أحيا
أسطورتها في مجاميع أغانيها الجديدة، وأظهر الطاقة الفعلية التي ظهرت بها
في حفلاتها الأخيرة، وعاد بها ٳلى الساحة بقوة من الحنين الرومانسي وبتكوين
لحني متغير عن التشكيلة القديمة.
كان زياد الرحباني تجربة فريدة من نوعها، حالة فريدة من
نوعها، فرصة هائلة لتجديد الحركة الموسيقية العربية، التي طورها السيد
درويش والاخوان الرحباني في النصف الثاني من القرن العشرين.
من الصعب الغوص في عالمه، البعض بحثوا عن الثورة، الصدى
العميق لوضع لبناني مأساوي، صدى للعائلة الرحبانية الملون والجميل، والذي
يختصر كل الكرنفال اللبناني. بالتأكيد فقدانه حسرة كبيرة، الموسيقار
الجديد، الذي ينتمي ٳلى جيل آخر. ليس نسخة عن أحد، وأظهر طاقة هائلة، ربما
أتعبت قلبه، هو الهارب من كلاسيكيات مشوهة. ولماذا زياد الرحباني دون سواه،
الجواب يكمن في الجرأة، والبناء المؤسسي على الموهبة، والقاطرة، والنجاح
متفوقاً على الأنماط الاخرى، وذلك الزخم في شخصية ضخمة شكلت سلطة تغييرية،
ظاهرة تخطت عوائق سياسية واجتماعية، بهذا الحجم الكبير في مجتمع تهيمن عليه
السياسة ، ما شكل خللا حقيقياً وعنفا كبيرا لمهرجانات أخرى غير سياسية.
عكس زياد هذا التفاؤل في التغيير، ٳلا أنه بدا من منعطف
لآخر يتلاشى، وسارت الأمور كما توقعها، عصراً يواكب تحولات ومتغيرات مخنلفة
كثيراً عن عقد الستينيات الذهبي، الذي كان عصر الابداعات الثقافية والفنية
الكبرى في العالم، لصالح أكبر سوق استهلاكية في العالم تخصص أكثر لموسيقى
الراب والبوب والهيب هوب، وانتاجات الحملات الدعائية حين تستدعي فنانين،
وفي دقائق يكون كل شيء قد انتهى.
نعتقد
أن زياد ترك صوتاً مفعماً يالحيوية والوضوح وجمهوراً مختلفاً خلفه، وهو
شعار ملائم تماماً. والموسيقى هي الخيال بالنهاية، والفكر، وكل شيء. مع أن
موت زياد غلف لبنان بالحزن، وتتجلى فيه مثقلات الأيام، التي تكاد تقف على
خط الاستواء، لا سيما القلق على الأم الحزينة فيروز، التي جعلت من لبنان
ذلك الزمن العذب، سحراً ينتشر ومعنى، وهي تملأ كأسها بالحزن، وما الذي يبقى
من مدينة بيروت الميتة، تتوه من كبدٍ حرّى في حمأة أبعد ممن تحبهم.
ترك الرحباني خلفه ريبرتواراً كبيراً في الفن والكلمة
والنضال الحقيقي، وفي استشراف الغد، ومآلات الحروب وكوارثها ومواجهتها
بالجمال والحب والموسيقى والمسرح والحضور الكاسح والسخرية الطريفة اللمّاعة
واللماحة والطيبة في الذائقة المرهفة لأجيال مقبلة، سيكون لها رأيها في
الظاهرة الرحبانية وأسئلتها الجديدة، ومراجعة نقدية لحالة ثقافية سيّالة
مثل كثبان الرمل، التي غناها زياد أثراً في الرمال. حزينة كفاية. |