ملفات خاصة

 
 
 

في وداع زياد الرحباني

حسن داوود

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

ربما كنت شاهدت مسرحية زياد «نزل السرور» في سينما أورلي في بيروت، لكنني، في الحياة، لم أكن شاهدته وجها لوجه. أول ما حصل ذلك كان في إذاعة لبنان، سنة 1976 على الأغلب، حين أتى من سَكنه في الشرقية، لينضم إلى فريق الشباب الذي مكنته الحركة الوطنية آنذاك من إدارة تلك الإذاعة. قال إنه سيشترك بفاصل يُبثّ يوميا، يكتبه ويقدّمه بنفسه. لم يكن قد انقضى يومان على ذلك حين أتى الردّ عليه . قُصفت الإذاعة، تلك التي لم نكن لنعرف ماذا نفعل كي نجذب اهتمام جمهور المستمعين إليها. في الأيام التالية أشعل فاصلٌ آخر له، النقاشَ بين شباب الأحزاب هؤلاء حول إن كان ينبغي استخدام الكلام الذي قاله بحق الخليج العربي. في الأيام التي تلت كان يشاع أن شوارع بيروت صارت تخلى من عابريها في وقت إذاعة كلمته. أما نحن، شبان الإذاعة المكلّفين بإدارتها، مؤقتا، فصرنا نكثر الذهاب إليها طالما أن زياد سيكون هناك.

كنت حاضرا بين أولئك الشباب، وإن بمهمة قليلة، أو من دون مهمة، وكان عليّ، لذلك، أن التقيه وأنا بين آخرين. وفي السنوات التي تلت، وهي كثيرة، بقيت ألتقيه بين أصدقاء هم أقرب إليه مني. وكانت تلك اللقاءات متفاوتة الطول والقصر. أقصر هذه اللقاءات كان يوم اندفعنا، أنا وهو، في صالة المركز الثقافي الروسي إلى العناق ثم تفرّقنا في زحمة الجمهور المستعجل الدخول إلى القاعة. أما أطولها فكان في إقامتنا معا، أنا وجوزيف سماحة، في منزل باريسي يخصّ صديقنا السينمائي الراحل مارون بغدادي. في اليوم الثاني أتى زياد، على غير اتفاق أو موعد، وإلى جانبه زوجته آنذاك، وقد دلّت الحقيبتان الكبيرتان إلى جانبهما أنهما جاءا للإقامة. كان علينا أن نعيد توزّعنا على الغرف، وأن نستمع إلى تعليقات زياد المتعلقة بذلك. كان نصيب زياد وزوجته أن يناما في الصالون، وحين اطمأن مارون إلى أن كل شيء على ما يرام قال لزياد: «بتعرف كيف بدك تطفي اللمبة قبل ما تنام؟» فأجابه زياد «أنا اللمبات بفكّْهن قبل النوم».

ومن مصادفات لقاءاتنا أننا عدنا مرة من باريس بطائرة ضخمة ليس فيها إلا أنا وزوجتي على مقعدين في مقدمة الطائرة وهو في أحد مقاعد الصفوف الأخيرة، ولا ركّاب في الطائرة سوانا. لا أدري الآن كيف أقلعت الطائرة بثلاثة ركاب فقط، بحضور طاقمها كله. طوال الرحلة كان هؤلاء، المضيفات منهم على الأخصّ، متجمعات حول زياد ما حرمنا من أن نحظى بخدمة استثنائية، بالنظر إلى ما ظنناه ان الخدمة سنحظى بها مركّزة، نحن القليلين.

وإذ رويت ذلك لرشا ابنتي، بادرت من فورها إلى سؤالي لماذا لا أدعو زياد إلى بيتنا، أو نذهب نحن إلى بيته. كانت في العاشرة ربما، وما تنبّهت إليه من رغبتها بحدوث ذلك هو أنني أجتمع معها في إعجابنا بشخص، أو فنان. في العادة أكون أنا قد كبرت عما يعجبها وهي أصغر من أن تتعلّق بما أحب الاستماع إليه. وهذا التوافق النادر في الذائقة لن يختص بنا وحدنا، بل هو ممتدّ إلى جيلها وجيلي. في أحيان أجد أن زياد يرجعني ولدا بتلاعبه، لا على الألفاظ فقط، بل على الأصوات، كما حين يقول متنمّرا «صار إلي… زابات ما شفت هالوجّ الحلو» هكذا بعبثية أن يخلط إسم إليزابات بتعبير «إلي زمان». اضحك وأروي ذلك لآخرين هم أصدقاء من عمري.

وكان قد استوقفني في إحدى أغانيه تساؤل مثل « فيه أمل؟ إيه في أمل، مرّات بيطلع من ملل». رأيت في معنى ذاك التساؤل شعريّة مساوية لما نقرأه لشعراء عالميين كبار. ولم ألبث أن عرفت أن كاتب الأغنية هو زياد، الذي لن يضمّ معي، هذه المرةّ، إلأ من كنّ في عمر ابنتي. أما نحن الكبار فكنا مسلّمين بأن تأثيره الواسع تخطّى التعلّق بقفشاته تلك، وبحوارات مسرحياته، التي ما زلنا نحفظها، وتردادنا لأغانيه التي فاجأت إحداها محمود درويش حين كنا نسمع معا أغنية «عاهدير البوسطة». قال لي محمود يومها متعجّبا كيف، وبأي شجاعة، دفع زياد أمّه إلى هذا الهرج (الجميل طبعا) فيما هي، في أذهان سامعيها، عالقة في مكان هو بين السماء والأرض.

كان التعلّق به شاملا إلى حد أنه في وقت غير قصير من زمن حروبنا جعل كلام اللبنانيين طالعا من تجاربه الكلامية، وكان قادرا على أن يُضحك متى شاء، لا أعرف إن كانت موهبة مثل هذه، مصاحَبة بمواهب كثيرة أخرى، سهلة الانطفاء، أو أن الزمن لكثرة ما بالغ في تخبّطه، سيكون قادرا على التخفيف من قوّتها.

كاتب لبناني

 

####

 

وداعا زياد… أيها الغريب الذي يشبهنا أكثر من أنفسنا

إبراهيم برسي

رحل زياد

كما يرحل الحزن من دون وداع، وكما تنكسر موسيقى من غير أن يُسمع لها نشاز، وكما يتوقف البيانو عن العزف فجأة، لأن القلب خاف أن يخذلها.

زياد الذي لم يكن ابن فيروز وحدها، بل ابن كل من عرف أن الكلمة سلاح، وأن السخرية أنبل أنواع الصراخ.
زياد الذي علّمنا أن الجملة قد تكون رصاصة، والضحكة قد تكون وصمة، والبيانو وطن بديل، و»كيفك إنت؟» سؤال فلسفي يُطرح على دولة، لا على حبيب.

لم يمت زياد اليوم فقط، مات مرّات كثيرة، متشظيا بين موت الحرب، وموت الصداقة، وموت الغدر، وموت الخيبة. مات يوم وجد نفسه يُغنّي في مدينة مقسومة على الطوائف، ويكتب في جريدة مُحاصرة بالرقابة، ويحبّ امرأة تحب صمته أكثر من موسيقاه. مات حين رأى جوزيف صقر يرحل من دون أن يأخذ معه أغنياته، ومات حين قرأ التعليقات على اسمه في «التيارات» التي حوّلها إلى نكتة، ومات أكثر حين احتاجوه مهرّجا لمرحلة ولم يعرفوا أنه كان ينزف وهو يُضحكهم.

زياد لم يكن رجلا، بل حالة.

لم يكن فنانا، بل حوارا طويلا بين وجع الناس وفوضى العقل. كان يشبه بيروت حين كانت تحلم، ويشبه الشام حين كانت تصغي إلى العود، ويشبه الخرطوم حين كانت تصنع من الحروف ثورة. برحيله، لا يرحل نجم.. بل تخفت الإضاءة في زاوية المقهى، تسكت آلة كاتبة كانت تكتب تاريخ البلد الهارب من حقيقته،

تذبل شجرة على شرفة لا أحد يسقيها، ويُغلق باب مسرح لن يُفتح بهذه النبرة مرة أخرى.

سامحيه يا فيروز،

لقد جرّب أن يكون ابنا، فلم تسمح له العبقرية.

جرّب أن يكون رجلا عاديا، فخانته الموسيقى.

جرّب أن يكون مرتاحا، فلم تعطه الحياة استراحة.

رحل زياد،

وترك على الطاولة نصف لحن، ونصف سطر، ونصف نكتة، ورائحة عرق لم تجفّ من خشبة المسرح، وصوتا يقول: «أنا مش كافر.. بس الجوع كافر، والخذلان كافر، والوطن الحزين كافر».

وداعا زياد

يا آخر من عزف على أعصابنا دون أن نغضب، ويا أول من قال الحقيقة بطريقة تُضحكنا وتُبكينا في الوقت نفسه.

وداعا أيها الغريب القريب، أيها الحاضر الغائب، يا من علمتنا أن نُحبّ من يقول لنا الحقيقة بمرارة.. لا من يبيعنا أملا بلا طعم.

وداعا حزينا… دعوا البيانو يستريح قليلا. فقد تعب القلب.

كاتب سوداني

 

القدس العربي اللندنية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني.. اللا توافقيّة مع كل شيء

يقظان التقي

ألقى الموسيقي والفنان اللبناني زياد الرحباني أوجاعه، ورحل عن عمر 69 عاماً بعد صراع صامت مع المرض، على نحو قاسٍ فاجأ غالبية اللبنانيين من محبيه، في لحظة ثقيلة لبنانياً ومعتمة. ليس لأنهم لم يعرفوا أنه كان مريضاً فقط، وأنه يعاني من صعوبة وضعه الصحي في الآونة الأخيرة، و لم يهبّ الكثيرون لنجدته..، بل لأنهم يفقدون نبضاً حياً، ابن الوصال مع العائلة الرحبانية المدلّهة، الشجيّة في أغانيها وموسيقاها ومسرحها الغنائي الحديث. فترك رحيله حسرات وحزن عميقين في صحبة مدينته بيروت، التي تنقضي أيامها أحياناً كثيرة على حزنٍ ووجع

غاب زياد بعيداً، وترك قلقا كبيراً على والدته السيدة فيروز من انهيار وصدمة وحالة الحزن العميق التي سادت عائلته الصغيرة والكبيرة. ولا أحد يجهل ما وقع وتجلى وما أحاط بشخصيته، وبما شابها وأظهر من موهبة شكلت ظاهرة ٳبداعية فنية وثقافية ومسرحية وطنية وعربية وشعبية، عكست ملامح الواقع اللبناني في تمرده على الحرب والظلم والقهر والحرمان والتسلط والتغيير خارج المتاريس والحدود الطائفية والمذهبية. وهو قرأ الواقع اللبناني جيداً بعفوية وغرائزية عاطفية، وحدس برؤية في المستقبل ببصيرة ثاقبة، عبر عنها في موسيقاه وألحانه وأغانيه ومسرحياته وخارجها من أفكار وتطلعات، كرسته نجماً فوق العادة، وشخصية جدلية جاذبة لكتلة شبابية مدينية وازنة أحاطت به

زياد الرحباني أكثر من موسيقي. وأكثر من ممثل. حالة شعبية جاذبة، وظاهرة فنية منذ السبعينيات، هو المدهش والمبدع موسيقياً، والناقد، والساخر حداثياً، وصاحب الكاريزما والكاركتير المسرحي الفاتن، الذي لا يمكن مقاومته.

نجح زياد الرحباني على مدى سنوات عمره ومنذ الصغر في تقديم نفسه في الحيز المعلن والمفتوح، وغير المنغلق عائلياً، مبدياً رغبات كثيرة بالتفاعل مع الآخرين، وإقامة علاقات ودية، وقصص وروايات تطول في المسرح والموسيقى والجاز الشرقي، ونقاشات وحوارات يسارية غير راديكالية، وكلمات وقفشات وضحكات، ونفثات ٳنزال مزن الحكمة والجنون، يحاصر كثيرين من وحي مشكلاتهم، وأينّ يستطاع في موسيقى وحركة وسلطة ثقافية لا تهدأ. بنى عالماً كبيرا فوضويا لنفسه، يسهر فيه، ويترك ما يريده وما يحب الآخرون أن يكونوا فيه من التزامات صفريّة عنده.

 كان حالة فكرية وجودية قلقة، تشبه لبنان المتعب والمختنق منذ “فيلم أميركي طويل” في السبعينيات، ويقول الكثير وسط الضجيج والفوضى بروحه المتمردة ووجدانه الحداثي والمعاصر. لم تصبه رياح الغرور والنجومية، فهناك الشيء الثمين في شخصيته المزاج المتغير والمتبدل، وأحياناً يخرج من عقله، يسقط بألسنة عامية شقيّة لذيذة خاصة به ٳلى حضيص الأوضاع اللبناية المقلقة، ويسمو أحياناً أعلى عليين في خطاب وطني طامح وثوري، وهو الجزء الذي فيه الكل خائف من تداعي البيت اللبناني وسقوطه

نظن، أن أهم سمّة تميز بها زياد الرحباني هو “ اللاتوافقية “ مع كل شيء، مع عائلته، والده، والدته (خاصة الجملة الجديدة في الألحان التي كتبها لها)، ومع سياسيي البلد وأحزابه المتصارعة مع الحرب الأهلية وأحداثها، مع الفرز ما بين بيروت الغربية والشرقية، مع التراصفات الطبقية، مع البيئة الفنية والثقافية والاجتماعية والٳعلامية. لم يكن توافقيا حتى في مشاعره عواطفه تجاه المرأة، وسرب النساء العاشقات اللواتي عبرن في حياته، حتى مع الموت، حين رفض الخضوع لبروتوكولات الطبابة لمعالجة كبده المتشمّع، وتميز بقوة كبريائه وعزتّه، وقوته، حين رفض أن يكون مرضة مادة ٳعلانية ومادية. كأنه يسخر من مرضه، وأن يكون ما وراء الخبر، فيهدمه

كان سباقًاً في نقض الوقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وفي استشراف الواقع (“نزل السرور”، و“فيلم أميركيي طويل”، و“بالنسبة لبكرا شو”، و”شيء فاشل”، “ لولا فسحة الأمل”، و“بخصوص الكرامة والشعب العنيد”..)، ومآلات الحروب، وليس مصادفة أن يغادر زياد وسط الضجيج اليومي للموت والجوع في غزَة، والعالم يموت من حولنا على الضفة القصوى من العنف والفوضى المدمرة. لكن في إطار نقدي متوازن، لا يمكن القول بأن زياد، لم يقع أحياناً في السهولة والاستهلاكية، وفي كليشيهات مزاجيّة سادت إطلالاته وحواراته السياسية وأحدثت تشويشاً وبلبلة ونفوراً سياسيا في مراحل معينة

مع ذلك، برزت شخصيتة لمّاعة، وذكية، راكمها بانتاجات فنية موسيقية ومسرحية كبيرة متقطعة، وبكل ما يصنع نجومية ناضجة وقريبة ومباشرة،، وأمور كثيرة تصنع منه الفنان الاستثنائي على تمرده، وعبثيته والشخصية الجذابة والسحرية التي تتحرك في الضوء غير العادي، سواء على مسارح المدينة أو نواديها الليلية أو مهرجاناتها الدولية على نحو غير ملتبس، بخلاف الكثير من التشفيرات والظلال والغموض التي اكتنفت شخصيته ومواقفه السياسية.

في آخر حفلاته المهرجانية في “بيت الدين”، نحو 2018، جذب زياداً جمهوراً حاشداً يساوي عدد الجمهور الذي تدفق بعشرات الآلاف لحضور أمسيات والدته السيدة فيروز الغنائية (أحيانا رافقها ). بدا ذلك الشخص الجميل، والحضور المسرحي يلّون صفاته، يشرك الناس بكلماته، يتكلم ويعزف ويطرب، ويغادر بسرعة، ويختفي، ويعود، كأنه من سلالة الكهنة السحرة، في مواقع قوته الحيّة والموسيقى المتدفقة، يغذيّها كغرفة موسيقية خاصة لا مثيل لها، ولا أحد يشبهها من الفنانين الاصطناعيين، ولا يحدها زمان ولا خشبة، تثير عاطفة قلوب محبيّة. يعزف بيديه ويوحي بما يريده. كأن بينه وبين الجمهور ميثاقا عاطفيا بمقدوره أن يبقى لسنين طويلة من دون صعوبة، ولا خلاف حول حجم تأثيره الأقوى وشعبيته وقدراته الظاهرة في أرشيف عشرات الاغاني الجميلة، التي غنتها فيروز وأبرز نجوم الأمس على الخشبة المسرحية الغنائية اللبنانية

فنان مليء بموسيقى الجاز وأغاني الراب والبوب الهادئ والمتمرد والمتفجر، وأغاني الواقع والغضب ووالحنين ونوستالجيا رومنطقية في الايقاعات الشرقية والشعبية. طاقة عنيفة بذاتها منذ السبعينيات، وجميعهم صعدوا معه إلى الخشبة أمام جمهور معظمه من الشباب، واستطاع التعايش معه بطريقة مختلفة عن العروض الرحبانية القديمة، كأنها ثورة مضت

بدأ تأليف أول أعماله مراهقاً، يوم لحن لأمه فيروز “سألوني الناس”، وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، سطع نجم زياد الرحباني بشكل لافت، من خلال مسرحياته التي حفظ البعض نصوصها عن ظهر قلب، ولا تزال تتداول كالأغنيات الرئيسة، تتناقلتها الإذاعات وتعيد بثها باستمرار، ثم تم العمل على إعادة تصوير مسرحيتين وعرضتا أخيراً في صالات السينما، وتولت في بيروت إلى تظاهرة كبيرة على مستويات مختلفة في فضاء مديني متسع حضوراً وأضواءً 

 تبقى روح زياد الساخرة، مع براعته اللغوية الاختزالية العميقة، ومهارته الموسيقية اللافتة، صنعت منه مزيجاً غريباً في المسرحيات، وإنما أيضاً في الأغنيات مثل “ع هدير البوسطة” أو “عودك رنان” أو “حبيتك تنسيت النوم”، أو “عندي ثقة فيك”. 

يسجل لزياد مغامرته البعيدة في تغيير النمط الفيروزي، جلبت لهما الكثير من النقد بعد وفاة عاصي. لكن زياد لم يكن مجرد فنان، هو يتحدث باسمها، ويشتكي بلسانها، ويحكي عن عذاباتها، ويسخر من جمهورها التقليدي. وهي تقول لحبيبها “ولّعت كتير”، “خلصت الكبريتي لا إنت الزير ولني نفرتيتي”، أو “ضاق خلقي يا صبي من هالجو العصبي”. “يا صبي شكك ما بينفع، شو بينفع يا ترى”! وبالعفوية والبراعة التي كتب بها زياد، في أغنيات لا تنتهي تمشي مثل الاهواء في المدينة،.صارت الأغنية شيئاً آخر، لا تشبه أغنياته رومانسية الأخوين رحباني أو مثالية أجوائهم المسرحية.

وذهب زياد إلى السخرية الحداثية حتى من نفسه، لم يساير أو يهادن أو يغلف غضبه مع أحد. لكنه لم يلاق في مشواره السياسي إجماعاً، البعض اعتبره “ لا يطاق “ و”غير ديمقراطي. مع ذلك يتفق الجميع  توافقاً كاملاً في عبقريته. وأنه نهض في الموسيقى بشمولية لبنانيا وعربياً، والكثير من العرب يصغون إليه، رغم عامية أعماله ومحكيتها الغائرة في لبنانية محلية، يصعّب فهمها.

الشباب في العديد من الدول العربية، لاسيما في المغرب العربي وبالملايين يغني “كيفك إنت ملّا إنت”، “عندي ثقة فيك” ومش قصة هاي”، و”إيه في أمل” لم تكن أقل عبقرية من “بحبك ما بعرف ليش” و”نسم علينا الهوا”، وهناك المقابلات الصحافية والموسيقى التصويرية، التي قام بوضعها لأعمال فنية عديدة بينها أفلام، وكذلك هناك برامج إذاعية، وأعمال لم تنشر، عدا التوزيع، أضف إلى ذلك أغنياته الخاصة، وتلك التي غناها صديق عمره الفنان الراحل الكبير جوزيف صقر.

استمعت لكثيرين ممن رافقوه، يروون كيف أخذ بعضهم بعفوية من زاوية مقهى، أو صبايا وشباب من الشارع، مجهولين وبلا أسماء مكرسة، وصنع منهم نجوماً وأشياء جوهرية. يقدم اسماً جديداً في مهرجان معه، فيصير أكثر من مهرجان. ٳنه حلم تحقق لكثيرين مع صعوبة الخوض في الأسماء الكثيرة التي كتب لها. كان زياد هذا الانفجار الموسيقي، أسس الحدث، وحول التوجه فيه مع السيدة فيروز نحو جمهور مختلف، واتجاهات جديدة في الأغنية العربية. أحيا أسطورتها في مجاميع أغانيها الجديدة، وأظهر الطاقة الفعلية التي ظهرت بها في حفلاتها الأخيرة، وعاد بها ٳلى الساحة بقوة من الحنين الرومانسي وبتكوين لحني متغير عن التشكيلة القديمة

كان زياد الرحباني تجربة فريدة من نوعها، حالة فريدة من نوعها، فرصة هائلة لتجديد الحركة الموسيقية العربية، التي طورها السيد درويش والاخوان الرحباني في النصف الثاني من القرن العشرين

من الصعب الغوص في عالمه، البعض بحثوا عن الثورة، الصدى العميق لوضع لبناني مأساوي، صدى للعائلة الرحبانية الملون والجميل، والذي يختصر كل الكرنفال اللبناني. بالتأكيد فقدانه حسرة كبيرة، الموسيقار الجديد، الذي ينتمي ٳلى جيل آخر. ليس نسخة عن أحد، وأظهر طاقة هائلة، ربما أتعبت قلبه، هو الهارب من كلاسيكيات مشوهة. ولماذا زياد الرحباني دون سواه، الجواب يكمن في الجرأة، والبناء المؤسسي على الموهبة، والقاطرة، والنجاح متفوقاً على الأنماط الاخرى، وذلك الزخم في شخصية ضخمة شكلت سلطة تغييرية، ظاهرة تخطت عوائق سياسية واجتماعية، بهذا الحجم الكبير في مجتمع تهيمن عليه السياسة ، ما شكل خللا حقيقياً وعنفا كبيرا لمهرجانات أخرى غير سياسية

عكس زياد هذا التفاؤل في التغيير، ٳلا أنه بدا من منعطف لآخر يتلاشى، وسارت الأمور كما توقعها، عصراً يواكب تحولات ومتغيرات مخنلفة كثيراً عن عقد الستينيات الذهبي، الذي كان عصر الابداعات الثقافية والفنية الكبرى في العالم، لصالح أكبر سوق استهلاكية في العالم تخصص أكثر لموسيقى الراب والبوب والهيب هوب، وانتاجات الحملات الدعائية حين تستدعي فنانين، وفي دقائق يكون كل شيء قد انتهى

 نعتقد أن زياد ترك صوتاً مفعماً يالحيوية والوضوح وجمهوراً مختلفاً خلفه، وهو شعار ملائم تماماً. والموسيقى هي الخيال بالنهاية، والفكر، وكل شيء. مع أن موت زياد غلف لبنان بالحزن، وتتجلى فيه مثقلات الأيام، التي تكاد تقف على خط الاستواء، لا سيما القلق على الأم الحزينة فيروز، التي جعلت من لبنان ذلك الزمن العذب، سحراً ينتشر ومعنى، وهي تملأ كأسها بالحزن، وما الذي يبقى من مدينة بيروت الميتة، تتوه من كبدٍ حرّى في حمأة أبعد ممن تحبهم.

ترك الرحباني خلفه ريبرتواراً كبيراً في الفن والكلمة والنضال الحقيقي، وفي استشراف الغد، ومآلات الحروب وكوارثها ومواجهتها بالجمال والحب والموسيقى والمسرح والحضور الكاسح والسخرية الطريفة اللمّاعة واللماحة والطيبة في الذائقة المرهفة لأجيال مقبلة، سيكون لها رأيها في الظاهرة الرحبانية وأسئلتها الجديدة، ومراجعة نقدية لحالة ثقافية سيّالة مثل كثبان الرمل، التي غناها زياد أثراً في الرمال. حزينة كفاية

 

####

 

زياد الرحباني.. سخّر الفن لمحاربة القبح السياسي

سامر المشعل

وسط غمامات الحزن التي تحيق بعالمنا العربي وتمطر على غير موعد حزناً وسواداً وفواجع، جاء نبأ رحيل زياد الرحباني ليخلف حزنا من نوع آخر، فهو ليس موسيقيا وشاعرا وممثلا ومخرجا وحسب، إنما هو ظاهرة فنية لن تتكرر بالحياة الفنية، سخر مواهبه وفكره وثقافته لخدمة الانسان.

ربط الفن بالموقف السياسي، ووظف فكره الموسيقي واللحني بالتعبير عن مفردات الحياة بلغة بسيطة عميقة ومشاكسة، فهو ينقلنا كل صباح عبر صوت والدته فيروز من عالمنا الكآبي إلى أحضان الطبيعة لنعيش عذرية المشاعر بصباحات يلونها زياد بسحر موسيقاه، وهو يرطب اطلالة النهار بندى عبقريته، فنعيش بعالمه الافتراضي ونحن اكثر استرخاء وتأملا مع فنجان القهوة بأغاني تطرق أسماعنا دون ملل:(إحنا كنا طالعين.. طالعين ومش دفعين، نطرونا كتير، حبيتك تنسيت النوم، ضاق خلقي ياصبي، مش قصه هاي، سلملي عليه، عودك رنان، كيفك انت، عندي ثقة فيك، مش كأين هيك تكون.. وغيرها من الاغاني، التي بفيض موهبته وسحر صوت فيروز تجعل حياتنا أكثر بهجة واستمتاعا وجمالا.

حزننا على فقدان شخصية مثل زياد وهب كل ما يملك للانتصار للانسان، هو حزن وجودي إنساني يجعل حياتنا اكثر وحشة وتصحرا وسط وحوش السياسة وتجار الحروب والأوطان.

الاختبار الاول 

أول لحن وضعه زياد الرحباني بالعالم 1971 وكان بعنوان "ظلك حبيني يالوزيه"، لكن الاختبار الحقيقي لمقدرة زياد على التلحين، عندما أسند له عمه منصور الرحباني، نصا كتبه من ثنايا الأحداث، التي كانت تمر بها العائلة، وتغيّب عاصي الرحباني عن العمل الفني ودخوله إلى المستشفى في العام 1973، وكانت أغنية "سألوني الناس"، الذي لحنها وهو في السابعة عشرة من عمره، فكشف عن موهبة تسبق عمره ولا تقل رصانة عن الحان عمه ووالده، وقد حققت الاغنية شهرة كبيرة، وشكلت بصمة إبداعية في تجربة فيروز، وكانت إيذاناً بأعمال استمرت لأكثر من أربعة عقود.

سر التجدد

تكتسب اعمال زياد الرحباني الغنائية والمسرحية صفة التجدد وكأنها كتبت للتو، فهي تنبض بالتعبير عن الواقع بصيغ ابداعية حية، استخدم الفن كاداة لمحاربة القبح السياسي، فكانت مسرحياته مثل "نزل السرور"، " فيلم اميركي طويل"، " بالنسبة لبكرا شو "، " شي فاشل" مثلت تحدياً ونبذاً للطائفية والانقسام الطبقي، اللذين كانت تعاني منهما لبنان وما زالت، مستفيداً من مهاراته الاستثنائية في الكتابة والمنولوج والتوظيف الموسيقى، كأداة سرد بلغة فنية متمردة ساخرة، قريبة من الشارع، لكنها ليست مبتذلة، حمل هموم المواطن اللبناني ودافع عن العدالة الاجتماعية.

المسرح السياسي

أحدث زياد تحولا كبيرا في شكل المسرح اللبناني، اذ ابتعد عن النمط المثالي والخيالي الذي تميز به مسرح الاخوين الرحباني، واتجه إلى مسرح سياسي واقعي يعكس حياة الناس اليومية، فكانت أعماله تعبيرا عن هموم المجتمع اللبناني بلغة نقدية لاذعة، وقد اشار الباحث اكثم اليوسف إلى أن زياد فرض نفسه خلال تلك الفترة ككاتب ومخرج ومؤلف موسيقي وممثل، معتبرا أن مسرحه أصبح منبراً يعبر عن جيل ضائع تتقاذفه أهوال الحروب والضياع، ويشكل صوتاً نقدياً في المشهد الثقافي اللبناني. الكثير من الفنانين والفنانات والكتاب ودَّعوا العبقري زياد الرحباني برثاء مؤثر منهم الفنان جورج وسوف الذي نشر صورة معه قائلاً : "رحل زياد العبقري.. رحل زياد المبدع. اعمالك رح تبقى خالدة وفنك العظيم بالقلب والفكر على مر الاجيال".

اما الفنان سامي كليب فقال: "زياد الرحباني كان ابتسامة المذبوح من الالم، وليس المضحك والمسلي فحسب، كما يحلو للبعض تقديمه، كان مناضلا حقيقيا، صادقا بانتمائه. وعلى مستوى الموسيقى فهو بمستوى موزارت وبتهوفن وشوبان ومايلز دافيس وغيرهم. اما الموسيقار نصير شمة فقد قال عنه: "كان صديقي، بل أكثر من ذلك: رفيق لحن، ونقاش، وضحكة خافتة، ولحظات صمت طويلة تعرف فيها كيف تتكلم الموسيقى حين تصمت الكلمات".

وما زال الكلام لشمة " زياد لم يكن فناناً عاديا، كان حالة فكرية موسيقية وجودية، كان يشبه هذا الشرق المتعب، يضحك وهو ينزف، يسخر وهو يحترق، يعزف وهو يختنق بصوته الداخلي". 

اما المطربة السورية عبير الصائغ فرثت الرحباني بهذه الكلمات: " لم تمت .. فأنت حي في أرواحنا.. حي ترزق مع صباحاتنا المطعمة بألحانك.. وصوت فيروز.. والفيلم الاميركي طويل جدا يازياد.. السلام لروحك".

ختاما

الحديث عن زياد لا نهاية له لكنه مثّل الحلقة الأخيرة من مدرسة الرحابنة، واستطاع بعبقريته الفذَّة التواصل مع الصوت الملائكي فيروز، بأعمال أكثر حداثة من خلال الانفتاح على موسيقى الجاز والبلوز وأغانٍ لا تعرف الحدود بين الشرقي والغربي، انما حالة تعبيرية عن اجواء النص وانثيالاته الحسية بمفردات مستلة من الحياة اليومية، فقدم لنا أغنية للحياة أكثر إشراقا وتطابقا مع إيقاع الحياة في تباشيره الاولى تنث الامل في النفوس، متمردا ثوريا ضد الممارسات التي تنال من كرامة الانسان وحريته.

 

الصباح العراقية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

نَغَم غير شرقي:

هل تجاوزنا شعبوية زياد الرحباني المضادة؟

محمد سامي الكيال

جدّدت وفاة الموسيقي اللبناني زياد الرحباني جدالات كثيرة، لم تنقطع يوماً، شديدة التسيُّس، حتى لو لم تلامس القضايا السياسية مباشرةً، واقتصرت على مسائل فنيّة وموسيقية. وهذا أمر متوقّع، إذ لم ينقطع الفنانون الناطقون بالعربية يوماً عن معالجة مسائل مثل الهوية والحداثة والوطنيّة، وكلها سياسية بالعمق، فما بالك بالرحباني الابن، ذي التصريحات السياسية النارية، الذي ارتبط اسمه باثنتين من أكثر القضايا إشكالية في الجدل السياسي العربي المعاصر: الحرب السورية والمقاومة اللبنانية. وقبلها ارتبط بأحداث وتواريخ لا تقلّ إشكالية، مثل الحرب الأهلية اللبنانية؛ الحركات الشيوعية؛ والتمرّد على ما سميّ «الصيغة اللبنانية»، سياسياً وثقافياً.

ترتفع دعوات كثيرة لعدم تسييس ذكرى الرحباني بعد وفاته، باعتبار أنه موسيقي أولاً وأخيراً، يُقيّم ويُستعاد على هذا الأساس، وما الإصرار على الجدل السياسي حوله إلا علامة غير صحيّة، على تسيُّس مفرط في الحيز العام العربي، يترافق عادةً مع صعود كل أنوع التطرّفات والشعبوية. إلا أن مثل هذه الدعوات لا تحترم رغبة الراحل نفسه، وطريقته في فهم وتقديم نفسه وأعماله، فهو دوماً رأى نفسه فناناً مُسيَّساً، يُضمِّن أعماله كثيراً من المحتوى السياسي، المباشر أو غير المباشر، حتى في أكثر الأغاني عاطفيةً، بل حتى في تعامله مع اللغة والطابع النَّغَمي. وهذا لا ينتقص بالتأكيد من قيمة أعماله، فالسياسة أحد المنظومات التي يتعامل معها الفن، تماماً مثل الدين والأخلاق وغيرها من أنظمة المجتمع، والمقياس هنا هو «اللغة الفنيّة» في التعامل مع تلك المنظومات، أي القدرة على تحويلها إلى شأن فني، وإعادة صياغتها ضمن ترميزات نظام الفن، المتعلّقة بالجماليات، لا أن يُعامل الفن وفق ترميزات أنظمة خارجة عنه. وكان الرحباني صاحب لغة فنيّة فريدة بكل المعايير، إلا أن بتر السياسة من أعماله، سيؤدي إلى قراءة وتلقٍّ فقير لها، يضيّع كثيراً من دلالاتها، وأيضاً جمالياتها.

المشكلة ليست في «التسييس» إذن، بل في «الفنيّة» المفرطة، والزائفة غالباً، في بعض محاولات التلقي، وهي بدورها ذات مغزى مُسيّس في العمق، إذ تحاول معارضة ونقد بيئة سياسية معيّنة، والتهرّب منها، نحو اختلاق أخرى، تعتبرها أكثر «صحيّة». وبالتأكيد، ليست جدالات الحيز العام العربي مَنْ سيّس فن الرحباني قسراً، بل ربما كان العكس صحيحاً، كان هو ممن ساهموا بشدة في تسييس جيل أو جيلين عبر الفن، وإدخالهما إلى جدالات الحيز العام وصراعاته، والتعامي عن ذلك خاطئ حتى من زاوية النقد الثقافي، الذي يجب أن يحقق، مبدئياً، نوعاً من الفهم الداخلي للظاهرة التي يعالجها.

يمكن تمييز عناصر متعددة في سياسيّة الرحباني، يجوز ردّ أغلبها إلى الشعبوية، وهي ليست تهمة أو شتيمة، بل هي تكتيك سياسي، لطالما كانت له تعبيراته الفنيّة عبر التاريخ، خاصة مع انتشار «الثقافة الجماهيرية»، بوصفها أحد أهم ظواهر التحديث، أياً كان الموقف الفلسفي منها. للراحل أعمال كثيرة، مثل ألبوم «أنا مش كافر»، يمكن تصنيفها ضمن البروباغندا، التي ليست بدورها شتيمة، وإنما شكل فنّي ساهم بشدة في تطوير الفنون المعاصرة، وصار جزءاً من الثقافة الجماهيرية في كل أنحاء العالم؛ فضلاً عن تخصص الرحباني بالسخرية السياسية والاجتماعية؛ أما الأعمال غير المباشرة سياسياً، فكانت تحوي مواقف واضحة، من مسائل مثل الهوية والتمدّن والطبقة ولغة التواصل. وفي أحيان كثيرة كان يقدّم توضيحات مبسّطة لغاياته الفنية/السياسية، كما في فيلم «هدوء نسبي»، الذي أنتجه بالتوازي مع ألبوم يحمل الاسم نفسه، يحوي «موسيقى صامتة»، وبعض الأغاني العاطفية، ليشرح أشياء كثيرة عن الهوية الموسيقية، وما سمّاه آنذاك «الجاز الشرقي» (تراجع عن التسمية في ما بعد)، وهوية لبنان (قرص فلافل على هيئة هامبرغر، حسب تعبيره)، والوضع السياسي والاجتماعي العام، وكأنه يريد القول: لا تظنوا أني تخلّيت عن القضية، حتى عندما لا أقدّم لكم كلاماً واضحاً، إلا أن تلك الشعبوية لم تكن تقليدية، أو حتى كلاسيكية (ربما ستصبح كذلك الآن)، بل يمكن وصفها بالمضادة، أي بالضد من الهوية السياسية والوطنية لبلده، ومفهومها عن «الشعب»، والتي ساهمت عائلته في صياغتها.

وصلت شعبوية الرحباني الابن المضادة إلى درجة التهكّم القاسي من «الشعب»، بل حتى تجريمه وإدانته والدعوة إلى محاسبته في بعض الأحيان، وخصص ثلاثة أعمال مسرحية بشكل كامل لهذا، وهي «فيلم أمريكي طويل»، «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، و»لولا فسحة الأمل». أراد زياد الرحباني أن يبني شعباً مضاداً لـ»الشعب»، وكلما أحسّ بعبثيّة ذلك ازداد سوداويةً وتهكماً، إلا أن شعبويته المضادة لم تذهب سدىً، فقد بات هناك كثير من «الزياديين»، شعب من الساخرين السوداويين، الذين يجمعون بين النقد الاجتماعي القاسي والالتزام الشديد بقضية ما، غالباً وطنية. ما يدلُّ بوضوح على أن نقد الرحباني للوطن والأخلاق والشعب، كان ينبع من موقف وطني وأخلاقي وشعبي مفرط. يمكن اعتبار محاولات وتجارب زياد الرحباني هذه من أفضل ما أنتجته المنطقة ثقافياً، في التعاطي مع أسئلة التحديث والهوية، إلا أنها تبدو، مثل سيرة حياة صانعها، عالقة في دائرة مفرغة، كلما تهكّمت ازدادت التزاماً؛ وكلما شتمت «الشعب العنيد» التصقت به أكثر؛ وكلما تمرّدت أخلاقياً وفكرياً عادت إلى أحضان «المقاومة الإسلامية» وطقوس الدفن الكنسي. فهل يمكن بالفعل تجاوز الزيادية؟ أم أن كل محاولة لنقد الشعب والوطن، بكل مآسيهما، ستنتهي إلى «شي فاشل»، مهما بلغت نجوميته وعبقريته؟

غير شرقي

توجد في التراثات الدينية والأسطورية الشعبية، خاصة المسيحية منها، وضعية «غير الميّت»، أي الضائع بين عالمي الفناء والخلود، دون أن ينال الخلاص. وقد ألهم هذا أدب الرعب المعاصر بشدة، وصار ثيمة متكررة، في قصص الأشباح ومصاصي الدماء والموتى الأحياء، بكل دلالاتها الاجتماعية والتاريخية والنفسيّة. هؤلاء لا يموتون، ولكنهم لا ينالون النعمة الإلهية، التي تشكّل جوهر الحياة. قد يشعر «غير الميت» بنشوة في البداية، نظراً لكونه لا يفنى مثل بقية البشر، ولكن سرعان ما يدرك أنه فاقد للحياة والخلاص. وربما يكون هذا الترميز الأسطوري مناسباً لإدراك مأساة وملهاة زياد الرحباني، بوصفه «غير شرقي».

نَظَّر زياد الرحباني، بأسلوب شعبوي، لفكرة النَفَس غير الشرقي في الموسيقى، والهوية عامةً، حتى عندما يتعامل مع مقامات ونغمات شديدة الشرقية. «المضمون» هنا قد يكون شرقياً خالصاً، أو مزيجاً من ثقافات متنوّعة؛ ولكن عبقرية الشكل تكمن في «العالمية»، أي في التوزيع والأداء والمزج المناسب للأذن المعاصرة، الأقرب لـ»الغربية»، ما يكشف، في نهاية المطاف، أن لا فارق جذرياً بين شرق وغرب، وكله ممتزج على أرضنا، ومتقارب بشكل حميم. بإمكان زياد أن يكون شرقياً جداً، ولكن شرقيته هذه أقرب لمحاكاة ساخرة، كما تبدّت في ألبوم «في الأفراح»، وكثير من الأعمال اللاحقة. وهذه المحاكاة الشرقية ترسّخ صورة مُنتج المحاكاة بوصفه غير شرقي تماماً، دون أن يكون غربياً.

اعتُبرت «غير الشرقية» هذه، من قبل زياد وكثيرين غيره، جوهر مشروع الرحابنة، بكل أطواره، وكذلك جوهر التمرّد عليه، باتجاه تعميقه وتجذيره؛ بل ربما جوهر الهوية اللبنانية. وكانت فكرة شديدة الجاذبية لكثير من المثقفين، إلا أنها تكشّفت في ما بعد عن ثغرات كبيرة، فالمزج الموسيقي قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى الاستسهال والنمطيّة، نظراً لعمله على الإلصاق المفتعل لعناصر مألوفة ومترسّخة، لإظهار «المزج»، وهو ما بدا واضحاً لدى معظم تلاميذ زياد الرحباني والمتأثرين به؛ أما «العالمية» فليست أكثر من مفهوم غامض، انقلب، في حالات كثيرة، إلى تقديم رخيص للذات والثقافة، في مؤسسات غربية تُعنى بـ»التبادل الثقافي»، وتسجن مثقفي المنطقة وفنانيها وناشطيها بأدوار محدودة، تتسم بالدونيّة، ولا ترقى إلى مصاف «الثقافة الرفيعة»؛ والأهم أنه لا يوجد ما هو «غير شرقي»، فلبنان، بكل «عالميته» و»مزائجه»، كان مثل غيره، موطناً لكل أشكال التطرفات، والمظاهر العالمثالثية الرثّة، وأحياناً في طليعتها، بما فيها الميليشيات الدينية، والإمارات الإسلامية، والاعتداءات الشاملة على الحريات. زياد الرحباني فهم هذا أسرع من غيره، ما قاده إلى مزيد من التهكّم والسوداوية، من الذات قبل الآخرين. لقد صار عالقاً في وضعية «غير الشرقي»، الذي شهد انحطاط كل المشاريع التي آمن بها، على كل المستويات؛ والذي لا يستطيع أن يلبس عمامة المقاوم، ولا أن يتمرّد على قضيته، ما يوقعه في تناقضات بالجملة، دون أمل بالخلاص.

هذه المأساة/الملهاة أكثر عمقاً من موقفه من «الثورة السورية»، الذي لم يعد يدينه اليوم، بعد توضّح المآسي التي أنتجتها، إلا أنه يظهر تناقض «غير الشرقيين» بأغلبهم: لكل منهم تطرفاته الدينية المُحبَّذة، فيصبحون في قمة التنويرية والإنسانية، عندما يهاجمون متطرفي المعسكر الآخر؛ وينسون منطقهم، عندما يدعمون هذا الزعيم الميليشياوي أو ذاك؛ ويحملون ثقافة «عالمية»، لا تفعل إلا أن تمسخ نفسها أمام «العالم»، الذي ترغبه وتلعنه في الوقت نفسه. والنتيجة «مزيج» غريب المذاق، وغير قابل للهضم، مثل قرص الفلافل الذي يدّعي أنه ليس كذلك، والذي تحدّث عنه زياد في «هدوء نسبي».

ضد الشعب

«غير الشرقي» يدين «الشعب» بقسوة، ولكن ليس للانفصال أو القطيعة معه، وإنما لكي يصبح شعباً كما يجب أن يكون. في مسرحية «لولا فسحة الأمل»، ارتدى الرحباني زيّاً عسكرياً ذي سمة فاشيّة، وانهمك في تقويم وإعادة تربية «الشعب العنيد»؛ وفي مقابلاته تغزّل أكثر من مرة بالدول المركزية الصلبة، والأجهزة الأمنية القوية. ربما كانت مشكلته الفعلية مع ذلك «الشعب» أنه «غير شرقي» بدوره، فلا هو ملتزم مثل المقاومة الإسلامية، التي كثيراً ما رآها الشيء الوحيد الذي يعمل بشكل صحيح في البلد؛ ولا هو واعٍ ومنتج، «كما في مدينة تورينو»، وإنما «يكشّ الحمام»، حسب قوله في أحد برامجه الإذاعية. ربما كانت مشكلة زياد الرحباني مع ذاته، وقد يكون هذا ما دفعه إلى يأس مديد، دفعه إلى التوقف عن الإنتاج الفني في سنواته الأخيرة. كان من الصعب على الرحباني بالطبع تجاوز «الزيادية»، ولكن السؤال ما يزال مطروحاً على الزياديين الكُثر، الذين فُجعوا بوفاته: هل أنتم، مثل زياد، من «الشعب العنيد» في نهاية المطاف؟ الإجابة غالباً نعم، وربما كانت عبقرية زياد الرحباني هي التي جعلته يدرك ذلك مبكراً، ويغرق بعدها في محاكاة ساخرة ويائسة لذاته، وكأنه، في كل مقابلة وحفلة، يمثّل أنه زياد، الذي لم يعد يؤمن به.

قد تكون هناك آفاق أخرى، لم يستطع زياد الرحباني تمييزها، نظراً لثقافته السياسية، وإرثه العائلي، ومكانته الرمزية، وانغماسه في كل الحوادث الكبرى التي شهدتها المنطقة. وتلك الآفاق توجد بالضرورة خارج المفاهيم، التي حاول التمرّد عليها من الداخل، وإعادة ترتيب عناصرها بشكل ساخر. وعلى الرغم من أنه ألّف وأعاد توزيع عدد من أجمل الألحان الكنسيّة (ما ينفي قطيعته مع الإرث المسيحي) فإنه لم ينتبه بما فيه الكفاية على ما يبدو إلى مفهوم «الخروج» Exodus، الأساسي في التراث اليهودي/المسيحي، أي الانسحاب، الهرب، من الدوران في دوائر استعباد مفرغة من المعنى؛ والعبور نحو معانٍ جديدة للوجود. وهذا قد يتطلب القطيعة الكاملة مع «الوطن» و»الشعب»، لا الشفقة عليهما، ومحاولة إعادة بنائهما كما يجب أن يكونا؛ وربما ابتكار بدائل، قد تكون «خيانة»، بالنسبة لمن لم ينجز الخروج.

يبقى لنا من زياد عدد من أجمل الألحان في تاريخ الموسيقى العربية، وطاقة متفجّرة على التهكّم، قد تكون معيناً على «الخروج». ربما نكون مخلصين له أكثر، إذا كسرنا دوائر يأسه، واستطعنا إنجاز ما عجز عنه: تخليص زياد الرحباني من «زياديته».

كاتب سوري

 

القدس العربي اللندنية في

31.07.2025

 
 
 
 
 

ثنائية فيروز وزياد .. تراث لا يمحوه الموت

ندى محسن

"لأول مرة ما ينكون سوا".. لم تكن تعلم جارة القمر فيروز أن الكلمات التي تغنت بها يوماً من ألحان نجلها الراحل زياد الرحباني، سيمهلها القدر لأن تعيشها كواقع مرير مرة أخرى بعد رحيل رفيق دربها، وشريك نجاحاتها، ليس فقط الابن، بل الموسيقي الثائر بإبداعاته الغنائية والمسرحية التي عكست واقع المجتمع اللبناني في أحلك فتراته الزمنية، وكان صوت فيروز الشجي بمثابة ظله الذي رافقه للتعبير عن أفكاره وهمومه، هو الذي اقتحم عزلتها بعد وفاة والده عاصي الرحباني، واستطاع أن يعيدها إلى المسرح مرة أخرى بكامل توهجها وتألقها، مستكملاً معها رحلة الأخوين رحباني، لكن برؤية أكثر عصرية وجرأة.

عكس مشهد الوداع الأخير مدى ترابط العلاقة الفنية والأسرية بين الأم والابن البِكر، حيث اختصر مظهرها الهادئ الصامت الكثير من مشاعر الحزن والألم على فراق ابنها البِكر أولًا، وأحد أبرز مُبدعي الموسيقى والمسرح العربي ثانيًا، في الظهور الأول لها منذ سنوات طويلة، فهي التي اعتادت أن تخرج من عزلتها من أجل زياد فقط، في حياته ومماته.

جلست فيروز في الصف الأمامي داخل كنيسة رقاد السيدة في بكفيا تُصلي بصمت أمام نعش نجلها على وقع ترنيمة “أنا الأم الحزينة”، مُحاطة بالذكريات، تنظر إلى الكواليس حيث كان زياد يرافقها في جولاتهما الفنية، وكيف كان يلحن لها أغانيه الأولى، تتذكر ضحكاته وأفكاره المُبدعة، في لحظات مؤثرة، قبل أن يوارى الثرى، وتتناثر الألحان في الهواء، لكن سيبقى إرثهما الفني خالدًا عبر السنوات، شاهدًا على أبرز المحطات في تاريخ الفن العربي، ومؤثرًا في العديد من الأجيال السابقة والقادمة.

“التعاون الأول”

انطلقت شرارة التعاون الفني الأول بين فيروز وزياد الرحباني في أغنية “سألوني الناس” التي صدرت عام 1973، من تأليف منصور الرحباني، وتوزيع إلياس الرحباني، وبرهنت على ولادة موهبة جديدة داخل عائلة الرحابنة، حيث لحنها زياد وهو لم يتجاوز الـ 15 عامًا من عمره، لكنها أولى التجارب اللحنية التي عكست خبراته الموسيقية، وامتزاجه بالنغم والشعر منذ نعومة أظافره، وحققت الأغنية آنذاك نجاحًا كبيرًا حتى أصبحت واحدة من الأغنيات الخالدة التي ساهمت في تعزيز مكانة فيروز في العالم العربي.

تعكس الأغنية مشاعر الحزن والحنين، حيث تسرد فيروز قصة سؤال الناس عن حالها، وعما يدور في قلبها، بعد الأزمة الصحية التي تعرض لها زوجها عاصي الرحباني، ودخل على أثرها إلى المستشفى بعد إصابته بنزيف في المخ، أثناء الإعداد لمسرحية “المحطة”، حيث غاب عن بروفات وعروض المسرحية التي أدت فيروز فيها الدور الرئيسي، وهو ما كان يحدث للمرة الأولى، إذ كان يحرص على التواجد في كل عروض المسرحيات والحفلات، ولاحظ شقيقه منصور تأثر فيروز بغياب زوجها، فكتب “سألوني الناس” التي كانت بمثابة رسالة شوق وانتظار من فيروز إلى زوجها المريض، لكن غضب عاصي من الأغنية على اعتبار أنها استغلال لمحنته، وقرر حذفها من المسرحية، لكن نجاحها الكبير جعله يتراجع عن قراره فيما بعد، وللأغنية مواقف أخرى حيث انهمرت فيروز في البكاء في إحدى حفلاتها الغنائية وهي تُغني مقطع “بيعز عليً غني يا حبيبي.. لأول مرة ما منكون سوا” وذلك بعد وفاة زوجها عاصي الرحباني، وكان لحن الأغنية في البداية مصنوعًا للمطرب اللبناني مروان محفوظ، وكانت هناك كلمات أخرى لهذا اللحن، لكن حينما استمع عمه منصور الرحباني إلى اللحن، أخبره أنه يريده ليضع عليه كلمات أغنية “سألوني الناس”.

أيضًا لعبت الصدفة دورها في غناء فيروز لأغنية “ع هدير البوسطة” من كلمات وألحان نجلها زياد الرحباني، حيث لم تكن لها من الأصل، وغناها جوزيف صقر قبل أن تُعجب عاصي الرحباني الذي أصر على أن تُقدمها فيروز بصوتها، وهو ما حدث بالفعل عام 1979، وحققت الأغنية نجاحًا كبيرًا، ولعل أكثر ما ميزها هو جرأة مفرداتها، حيث لم يتوقع أحد أن يسمع لأول مرة صاحبة الصوت الملائكي تغنى “يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين”، أو” واحد عم ياكل خس و واحد عم ياكل تين.. في واحد هو ومرته ولوه شو بشعة مرته”.

ومن بعدها، توالت عشرات الأعمال والنجاحات الفنية بين فيروز وزياد، حتى أنه أصبح أحد أكثر المؤثرين والمُبدعين في مشوارها الفني الطويل والممتد بأفكاره المُغايرة، وأسلوبه الفريد في المزج بين الموسيقى الشرقية والغربية، والأنماط التقليدية والحديثة، وهي المدرسة التي قدمت فيروز بشكل مختلف عن مدرسة الأخوين رحباني في الشعر والموسيقى، حيث ابتكر لنفسه مشروع فني مستقل، لكنه ظل محافظًا على أصالة الألحان، وعمق الكلمات في أغنيات (حبيتك تنسيت النوم، قديش كان فيه ناس، البوسطة، معرفتي فيك، وحدن، أنا عندي حنين، عودك رنان، الوداع، حبو بعضن، يا جبل الشيخ).

“نقطة تحول”

كان تعاون فيروز وزياد نقطة تحول في مسيرة كلايهما، لاسيما بعد وفاة والده عاصي الرحباني عام 1986 -أحد أعمدة مدرسة الرحابنة – حيث تسلم الراية من بعده، وأنتجا سويًا العديد من الأغنيات الخالدة حتى يومنا هذا، منها (عندي ثقة فيك، صباح ومسا، أنا فزعانة، تتذكر ما تنعاد، سلملي عليه، ضاق خلقي، بعتلك)، وغيرهم الكثير.

وقالت فيروز عن موهبة نجلها في أحد لقاءاتها الإعلامية السابقة : “زياد مثل آلة تصوير، بتلقط الصور اللي ما بيقدر يشوفها حدا، الصور اللي موجودة بالعتمة، وعنده قدرة على مراقبة الأشياء بدقة غريبة، مثل ما عنده تأمل طويل لعلاقة الأشياء ببعضها، كل شيء بالحياة له وجهه الساخر، وعظمة زياد إنه قادر يلقط ويصور هالوجه الساخر، لأنه عميق كتير بمعرفة الوجه المأساوي لهالشئ”.

وأضافت : “ما كنت بالأول قادرة أشيل لقب الأم، ولا كان عاصي قادر يشيل لقب الأب من خلال نظرتنا لزياد، بس زياد شال الأم والأب على جنب، وحط فيروز الفنانة وعاصي الفنان، ولهالسبب كان في ضرورة إنه زياد يختار بحرية الاتجاه الأنسب لفنه”، وتابعت : “سلاح زياد بالفن نظرته للإنسان والوجود، سلاحه الشك العميق اللي بيخلق جمالية الفن، والقسوة الصعبة اللي بتخلق الأشياء اللي عم تنمى قدام الأشياء اللي عم بتختير”.

“إلهام”

كانت فيروز بصوتها وكلماتها مصدر إلهام لزياد الذي قال عن صوتها : “قادر يخليك تفكر في اللامنطوق”، وهو الإلهام الذي دفعه لكتابة وتلحين أغنية “كيفك انت” أحد أبرز وأشهر وأنجح الأغنيات في تاريخ فيروز، بعد عودته من السفر، ولقاءه بوالدته صدفة، حيث وجهت له عتابًا وسؤالًا بعدما هاجر من لبنان ليتزوج بحبيبته دلال كرم، قائلة : “كيفك انت عم بيقولوا صار عندك ولاد، أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد”، استوحى كلمات الأغنية من حديث عفوي دار بينه وبين والدته، حتى استهل كتابة الأغنية كاملة ولحنها، ثم عرضها على فيروز التي رفضت غنائها في بادئ الأمر بسبب غرابة بعض الكلمات منها (ملا انت)، لكنها وافقت على غنائها بعد 4 سنوات من عرضها عليها، حتى صدرت عام 1991، وحققت نجاحًا مدويًا حتى اليوم.

“تشجيع”

شجع زياد والدته على تقديم أغنيات “زوروني كل سنة مرة”، و “أهو ده اللي صار” لفنان الشعب سيد درويش، لكن كانت تقابل محاولاته التشجيعية بالرفض، وأكد في تصريحات سابقة أن اقناعها بها كان أمرًا صعبًا للغاية، ولكن بعد تقديمها لها، تعامل الجمهور معها وكأنها كُتبت ولُحنت خصيصًا لفيروز.

“خلافات”

علاقة فيروز وزياد لم تدم على نحو هادئ طيلة الوقت والسنوات، بل تسللت إليها الخلافات والمشكلات، خاصة بعد تصريحات زياد عام 2013، وكشفه عن ميول والدته السياسية، حيث قال أنها مُعجبة بالأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، والعقيد الليبي معمر القذافي، والدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين، وزعيم النازية أدولف هتلر، إضافة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، الأمر الذي أغضب الفنانة فيروز وشقيقته المخرجة ريما، وما أغضبها أنه أعلن ذلك دون الرجوع إليها، حيث إنها لم تكن ترغب في الكشف عن ميولها السياسية، ما دفع ريما إلى إصدار بيان أكّدت فيه أنّ ما صرح به زياد ليس أكثر من مجرد اجتهادات زيادية لاتعبر عن فيروز، لكن نفى زياد أن تكون تصريحاته عن والداته السبب في القطيعة بينهما، والتي استمرت لسنوات، رفضت فيروز خلالهم محاولات زياد للصلح بينهما، وأرجح السبب في طريقة إدارة شقيقته ريما لأعمال والدته، وما نتج عنها من خلافات مع أبناء عمه منصور الرحباني.

وأوضح زياد خلال إحدى المقابلات الإعلامية أنه استخدم حيلة للتصالح تستخدمها والدته، حينما ترغب في أن يجيب على اتصالاتها، إذ تتصل وتصمت من دون أن تتحدث، انتظارًا لحديثه هو، وقام زياد بهذه الحيلة مع والدته، واتصل بها وصمت، وحينما بادرت السيدة فيروز بالحديث، أجابها “حمدا لله ع السلامة”، مُنهيًا عامين من القطيعة، مشيرًا إلى أن والدته عاتبته على القطيعة حينما التقى بها لاحقًا.

“إرث فني خالد”

ترك الثنائي فيروز وزياد إرثًا فنيًا خالدًا، استطاعا من خلاله بث رسائل إنسانية وإجتماعية تتعلق بالهوية والانتماء، حيث تُعد أغانيهما مرآة للواقع اللبناني والعربي، ما جعلها تتجاوز الزمن، وسيظلا رمزًا للشراكة الفنية الناجحة من خلال إبداعاتهما، وقصة نجاح لن يمحوها الموت، إذ سيظل تراثهما الفني حيًا في ذاكرة الأجيال القادمة، ويستمر في إلهام الفنانين في كل أنحاء العالم العربي.

رحل زياد الرحباني عن عالمنا عن عُمر ناهز الـ 69 عامًا، لكنه سيبقى حيًا في قلب فيروز الأم، وقلوب جميع مُحبيه في الوطن العربي، فكان ومازال للتمرد عنوان، سواء في أفكاره، كتاباته، آرائه، وموسيقاه، وبرز هذا الملمح عن شخصيته في سن مبكر، وظهر في سلوكياته وتصرفاته، بعدما قرر مغادرة منزل أبويه (عاصي وفيروز) وهو في الثالثة عشرة من عمره، بسبب تصاعد حدة التوترات والخلافات بينهما التي قال عنها سابقًا : “ لم أعش طفولة طبيعية، وفتحت عيوني على مشاكل والدي عاصي الرحباني وفيروز، وذات يوم بلغ غضبي ذروته، وحاولت الحصول على مسدس وأطلق النار عليهما حتى استريح، وغادرت البيت وعمري حوالي 13 عامًا، وعملت عازفًا للبيانو، وانتقلت إلى منزل صديقي ورفيق مسيرتي الفنية جوزيف صقر”.

 

بوابة أخبار اليوم المصرية في

31.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004