ملفات خاصة

 
 
 

زياد رحباني.. وأهو ده اللي صار

ماجدة موريس

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

هل كان من الصعب ان تكون المسافة أقصر بيننا وبين فنان كبير كزياد الرحباني؟

لقد احب زياد مصر والمصريين كما اعلن كثيرا في زياراته القليلة لمصر عام ٢٠١٠، و٢٠١٨ والتي أكمل بها زيارة والدته المغنية والمبدعة الكبيرة فيروز وأبيه عاصي الرحباني عام ١٩٨٩، والتي لا ينسي الكثيرين حفلها في ساحة الاهرامات وأغنية لمصر خصيصا (مصر عادت شمسك الذهبي)

رحل ذياد رحباني ليكشف عن محبة كبيرة له في قلوب العرب في كل مكان ،وهو الفنان المبدع الذي كتب المسرحيات والأغاني ،ووضع ألحانها ،ولتصل الكلمات عنه علي السوشيال ميديا الي ما لا يصدق من المحبة والتقدير ،خاصة لحياته التي امتلأت بالأحداث والمفاجات والحكايات التي جمعت بين كونه واحد من آل الرحباني، وفنان اختار ان يكون حرا رافضا لاي قيود ،ولأنني وغيري نحب أغانيه التي تغنيها فيروز ،وألحانه ،بحثت عن مسيرته لأكتشف الكثير جدا من حياة غنية وصعبة ومدهشة ومزعجة ايضا في بعض الأحيان، يروي في احد البرامج الألمانية كيف بدأحياته الفنية ككاتب بمسرحية (سهراية) عام ١٩٧٣، وكانت اول علامة استقلال له عن الاسرة أتاحت له شراء سيارة لاول مرة، لتأتي بعدها الحرب الاهلية علي لبنان بعد عامان وتطيح بأمانه، ويتعلم ذياد ان يقضي يومه كله في العمل حتي يصل لنتائج تساعده في بداية حياته علي حد تعبيره (الفن طغي علي الانسان )وتتوالي الاحداث السياسية، وتنتهي الحرب ويعترف انه (لم يتغير شيء بعد الحرب، ويقرر الهروب هو وزوجته الاولي من البلد كلها، ولكن تحدث مجازر صبرا وشاتيلا ،وانسحب الفلسطينيون من بيروت، و(صار الامن متعدد الاتجاهات، ولم تشرق الشمس بعد هذه الحروب كما كنت أفكر فكتبت مسرحية (شئ فاشل)ً،.

الحالة تعبانة يا ليلي

كتب زياد اول كتاب له وعمره ١٣ عاما ،وكان هذا جزءا من تمرده علي العائلة (كنت اعتقد ان الطفولة لا تعنيني في شيء ،واتضح لي انني مخطئ، فقد شعرت وقتها بأن عالمي صعب فتركت اهلي وعندي ١٤ سنة بسبب تفكك عائلتي، وحين عدت اليها حاولت طول حياتي ان اربط العلاقة بين أبي وامي برغم انها عملية اكبر مني بكثير، وتتوالي اعترافاته، وبعضها كان غريبا مثل (كلمة فنان أكرهها كثيرا ،أنا موسيقي وصحافي)، واستمر يكتب مسرحيات ومقالات وأغاني، ولكنه توقف عن كتابة المسرحيات عام ١٩٩٤. وقرران تكون الموسيقي هي همه الاول وغني اغنية اصبحت شهيرة لموضوعها (الحالة تعبانة يا ليلي) وكانت تصور الحالة الاقتصادية وقتها.

سألوني الناس وسيد درويش

إذا اللحن ضبط في مصر، ما بيهمك شيئ،، هكذا قال زياد لمني الشاذلي في حوار مهم لبرنامج (معكم) عام ٢٠١٨ وبعد عامان ونصف من العزلة التي قررها بسبب (الحياة المهنية الصعبة) والتي خاف ان تدفعه لكراهية المهنة وفقا لاعترافه ،(هنا فيه دولة ودار أوبرا وده كويس )،(اول مرة أشوف دار الأوبرا اليوم)، مؤكدا ان ضياع الوقت في الحرب كان صعبأ وله تأثير سيئ علي الكل ،وعن تلحينه لفيروز وكيف بدأ قال (أنا لم اقرر هذا وانما وضعت لحنا وسمعه عمي منصور فوضع له كلمات ،لتصبح اغنية (سألوني الناس) وكان عندي وقتها ١٤سنة، وصفه كثيرون انه لحن ناضج وليس طفولي، كنت متأثرا بسيد درويش الذي سمعته في أذاعة صوت العرب ،وتأثرت باللحن المصري ،ويكمل ذياد( لو عاش سيد درويش اكثر من هذا كان سيقدم اكثر مما قدمه ومنه (الحلوة دي قامت تعجن في البدرية ،،والديك بيدن كوكو في الفجرية ).وبعد سألوني الناس ،قدم الابن لوالدته الحان حوالي عشرة اغنيات منها (قالولي الناس عنك يا حبيبي) و(سلملي عليه) ،(عندي ثقة فيك ،عندي امل) و(كيفك انت).

زوروني كل سنة مرة

اهو ده اللي صار،، احد الاغاني الرائعة لسيد درويش والتي غنتها فيروز في مصر في حفل الاهرامات عام ١٩٨٩ ايام الحرب في لبنان والتي تعبر كلماتها عن موقفه من الحرب (اهو ده اللي صار وأدي اللي كان،، مالكش حق تلوم عليه،، تلوم عليا ازاي يا سيدنا وخير بلدنا ماهوش بإيدنا، مصر يا ام العجايب،، شعبك اصيل والخصم عايب، خلي بالك م الحبايب، دولا أنصار القضية)، وغنت قبلها (مصر عادت شمسك الذهبي) و(زوروني كل سنة مرة) والتي يعتبرها زياد اغنية ونشيد معا، وفيها طرب لسيد درويش، وهذا نادر علي حد قوله، الغريب في هذا البرنامج ان ذياد لم يرفض الاعتراف بفترة القطيعة بينه وبين فيروز، وكيف تم الصلح بينهما بعض ان اضطرّ لإعطاء بعض الألحان التي كان قد لحنها لها لآخرين، وبعد الصلح بينهما غنت له أغنيتها الشهيرة (كيفك انت) والتي كانت تتساءل فيها عن ايام غيابه الطويل عنها وسفره خارج لبنان وعدم معرفتها باخباره (أنا والله كنت بفكرك برات البلاد،، ويا تري صار عندك اولاد الخ)، ومن الطريف ما قاله عن الأغنية الأقرب لقلبه ليختار (حبيتك ونسيت النوم) التي كتبها لفيروز شاعر آخر هو جوزيف حرب، اما اغنية (نسم علينا الهوي) فكتبها بعد فراق من احبها متسائلا (ايهما احسن المرأة،، ام الأغنية عن المرأة ؟؟) ومفسرا هذا (طبعا انا الحنّ الأغنية بعد ان تفشل العلاقة، لان العلاقة احسن من الأغنية، فاننا كتبت اغاني عن تجارب فاشلة مثل (عندي ثقة فيك) و(حبيتك لنسيت النوم) اكثر اغنية نجحت بعد ان انتهت التجربة).

مؤكدا انه اثناء الحرب تعلم كثيرا من عمله المستمر وبحثه عن مخرج، وقبلها تعلم كثيرا ايضا من ذهابه للمسارح والاستديوهات وهو صغير، فقد رأي تجارب الآخرين وخبراتهم، ومن كل هذا استطاع ان يكتب ما يحبه من كلمات ومعاني، وان يعزف موسيقي الألحان قبل ان تذهب لمن يغنيها، ولا ينسي اغنيات مثل (بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق) و(ع هزيل الغربة) ولا ينسي أبدا الأغنية التي سمعها قبل الحرب (بحبك يا لبنان يا وطني)، ولتعبر له مقدمة البرنامج عن أمنيتها ان تكون أعماله موجودة في فترات اقرب وأكثر فيرد عليها ان (المستمع المصري والشعب المصري هو مرجع بالنسبة لي،، لو اللحن ضبط في مصر ما يهمني شيء) لينتهي اللقاء مع كاتب وموسيقي عظيم قدم الكثير جدا للوطن والفن،، ورحل مساء الاحد الماضي تاركا لنا ميراث عظيم.

 

الجمهورية المصرية في

31.07.2025

 
 
 
 
 

ليلة المتاحف... تحية لزياد الرحباني

يارا عبود

عبر مكبرات الصوت ووسط تجمع عشرات المشاركين كانت جملة «عايشة وحدها بلاك وبلا حبك يا ولد»

ليلة ساحرة عاشها لبنان أول من أمس بعد إطلاق وزارة الثقافة مجدداً فعاليات «ليلة المتاحف» بالتعاون مع المديرية العامة للآثار. منحت هذه الخطوة فرصة استثنائية لاكتشاف كنوز المتاحف اللبنانية مجاناً، مع فرصة التنقل مجاناً من خلال باصات النقل المشترك التي تمر كل نصف ساعة لإصطحاب الزوار في جولة من أمام المتحف الوطني إلى باقي المتاحف المشاركة.

ليلة فنية ساحرة

خاض الحضور تجربة فنية غامرة، إذ تعرف المشاركون على مقتنيات المتاحف المشاركة من آثار وقطع فنية كما قدمت عروض عرّفت المشاركين على تاريخ المتاحف وأنشطتها وأهميتها. كذلك، كان للعروض الموسيقية دور خاص في إضفاء لمسات من الحيوية والتفاعل بين المشاركين. فكانت فرصة لهم ليتجولوا ويتأملوا في ما بقي من حضارات مرّت على أسلافهم وحملت لغتها إلى الحاضر...

المشاركون من كل الفئات العمرية

كان لافتاً حضور فئة الشباب بقوة هذه السنة، مما أثبت أنّ ليلة المتاحف هذه ليست مجرد فعالية، بل دعوة مفتوحة للشباب لاكتشاف تراثهم الثقافي، وتعزيز حس ّالانتماء، والمشاركة في نقل القيم والذاكرة المشتركة بين الأجيال. كذلك، لوحظ حضور لكبار السن الذين كان أغلبهم يردد «لازم نضل نزور تراث وآثار بلادنا ونحكي عنها».

تحية للعبقري... زياد

عبر مكبرات الصوت ووسط تجمع عشرات المشاركين كانت جملة «عايشة وحدها بلاك وبلا حبك يا ولد» من أغنية زياد الرحباني كافية لتشعل الحضور ويبدأ بالتصفيق والبكاء على الفنان الذي يمثّل جميع اللبنانيين الذين خسروا فنّاناً بهذا الحجم رفع اسم لبنان. استطاع زياد الرحباني أن يحفر أعماله الموسيقية والمسرحية والإذاعية، في ذاكرة أكثر من جيل، وهذا كان واضحاً من خلال التفاعل الذي حصل من قبل هذه الفئة خلال عرض صور لزياد على جدار المتحف الوطني. ومن بين الصور كانت صورته مع الكوفية الفلسطينية حيث تفاعل عدد كبير معها عبر الهتافات والتصفيق.

وتعليقاً على ذلك، نشر وزير الثقافة غسان سلامة على حسابه الخاص عبر منصة اكس: «لم يفرحني شيء قدر نسبة الشباب الطاغية في الحشود الهائلة التي تقاطرت من كل لبنان للمشاركة في ليلة المتاحف هذا المساء (أمس الثلثاء)، وهي ليلة بدأت طبعاً بتحية للحبيب زياد. فصنع التاريخ يبدأ بالتعرف على آثاره! »

دعوة شعبية لتفعيل «أسبوع المتاحف»

جمالية الحدث السنوي لم تخف بعض التفاصيل التي لولا حصولها لكانت الفعاليات أجمل، لأن عدد الحضور كان ضخماً بالنسبة للوقت والمساحة وعدم قدرة الباصات التي نقلت المشاركين لإستيعاب كمية أكبر من المشاركين. من المؤكد أنّ ذلك يدل على نجاح الحدث، فأعداد الراغبين بالتعرف على كنوز لبنان التراثية كان كبيراً جداً ويحتاج وقتاً أكثر مما جعل أغلب المشاركين يطالبون «بأسبوع للمتاحف وليس ليلة واحدة» لكي تتسنى الفرصة للجميع المشاركة في هذه الفعالية.

 

####

 

أحمد مدلج... ظِلّ زياد وكاتم أسراره

علي عواد

أمامنا مشهد لا يشبه أي وداع. يجلس أحمد مدلج، كما اعتاد دائماً، قريباً من زياد الرحباني، حتى في لحظة الفراق الأخيرة. وجهه صلب، ملامحه هادئة ولكنها مثقلة.

أمامنا مشهد لا يشبه أي وداع. يجلس أحمد مدلج، كما اعتاد دائماً، قريباً من زياد الرحباني، حتى في لحظة الفراق الأخيرة. وجهه صلب، ملامحه هادئة ولكنها مثقلة. لا دموع ولا انكسار. الرجل الذي أمضى عمره يحمي زياد من صخب العالم، يجلس هنا إلى جانب النعش، يرافقه في رحلته الأخيرة، كما رافقه في الحياة. لا نظرات مسروقة ولا كلمات زائدة. فقط حضور ثقيل. لا أحد يجرؤ على الاقتراب من المسافة بينهما. حتى الموت نفسه بدا عاجزاً عن اقتلاع هذه الرفقة من مقعدها. هذه صورة الرفيق الحقيقي.

للناس حق أن يعرفوا من يكون هذا الرجل الذي ظلّ إلى جانب زياد حتى الرمق الأخير. حاولنا الاتصال به، عزّيناه، ولكنه رفض أن ينطق بحرف: «ولا كلمة». كل ما في وسعنا أن نقدمه هنا هو خلاصة ما عرفناه عنه، وما أسرّ به من أحبوه

أحمد مدلج، ابن كفررمان (جنوب لبنان)، رجل لا يشبه سوى نفسه. حمل منذ طفولته سحنة الزيتون وملامح الصلابة.

شيوعي عتيق، حمل لواء المقاومة باكراً، وبدأ سيرته موظفاً في إذاعة «صوت الشعب»، قبل أن يدخل حياة زياد الرحباني ويصير ظلّه الأمين.

يراه من يعرفه كتوماً، مسافته محسوبة، لا يتكلم كثيراً، لا يروي القصص ولا يوزع الأسرار.

يقول أحد المقربين منه إنه يعتبر الحديث عن زياد أمام أي شخص خيانةً حقيقية، لا يقترفها مهما كانت الظروف. ثلاثون عاماً وأكثر لم يفصح خلالها بكلمة واحدة عن خصوصيات زياد أو يومياته.

لا أحد يكتسب ثقته بسهولة، فقد عُرف عنه الحذر وحدّة الملاحظة والقدرة على الصمت الطويل من دون أن يتسلل إلى أعماقه ملل أو تبرم.

حين تلتقونه، تظنونه للتو أنّه أنهى قطاف الزيتون. في صوته دوماً ثقة ممزوجة بالتبغ، وفي تعابيره مسحة ودّ جنوبي أصيل.

لا ينغمس في العواطف الظاهرة، ولكنه يملك إنسانية لا حدود لها. لا يرد خدمة، لا يطلب شيئاً، ولا يبادل المصالح مع أحد.

لم يسعَ مدلج يوماً إلى استغلال قربه من زياد أو تحويل معرفته به إلى وسيلة لنسج العلاقات أو جني المكاسب. التزم خط الوفاء المطلق، ومارس مهمته مع زياد بتواضع حقيقي، من دون أن يفرض نفسه على أحد أو أن يسمح لأحد بالاقتراب من عالم زياد أكثر مما يسمح به هو نفسه.

رافق الأسطورة

على طريقته الخاصة،

وأحاطها بحزام أمان

يبدأ نهاره في الثامنة صباحاً ولا ينتهي إلا عندما ينتهي نهار زياد، حتى لو طال ذلك إلى الفجر. ظل سنوات طويلة يخفي عن زوجته وأبنائه الثلاثة ومحيطه أنه يعمل مع زياد، حتى إنّ أبناءه لم يتعرفوا إلى زياد شخصياً. مع ذلك، بقي زياد يسأل عنه وعن عائلته، وتقاسما معاً كل تفاصيل الحياة، حتى لقمة الطعام.

كان وجود مدلج في أي مكان يستدعي طيف زياد في الخلفية. حديثه لا يدور عن زياد إلا إذا كان في إطار العمل، ولمن يعرف أن يلتقط الإشارات. يختار كلماته بدقة، ويكتفي أحياناً بإيماءة أو نظرة تغني عن الشرح، فلا يدرك المعنى إلا من اعتادَ لغته الخاصة. يؤدي أدواره كلها في الظل: مرافق، مدير مكتب، سائق، حامٍ، جندي مجهول.

اشتهر أحمد مدلج بصرامته في القوانين، واهتمامه اليومي بالآلات الموسيقية والموسيقيين. لا يرتاح بعد أي حفلة حتى يتأكد بأنّ الآلات عادت إلى الاستديو سالمة.

كان أيضاً المسؤول عن مصالحة كل من أراد التواصل مع زياد، إذ يمر الجميع عبرَه. يعرف بالأمن، ويحب القراءة، وصحيفته وقهوته هما طقسه الصباحي الدائم.

ليس فضولياً، ولكنه يرصد كل تفصيل، وينبّه زياد بطريقته إذا شعر أنّ هناك من يستغله أو يحاول الاستفادة منه. لم يغب عن عمله إلا نادراً، حتى في أشد حالات المرض.

ينتهي دوره في لحظة واحدة، حين يعزف زياد، ليعود في الاستراحة ويطمئن على كل شيء.

كان زياد يقلّد مدلج أحياناً في بعض الحركات الصغيرة، كأنّ الرجلين حفظا بعضهما البعض عبر السنين الطويلة.

فهم مدلج باكراً من هو زياد. رافق الأسطورة على طريقته الخاصة، وأحاطها بحزام أمان، من دون أن يتطفل أو يدّعي دوراً لم يُطلب منه.

كان يعرف أن بقاء زياد متماسكاً وسط العواصف يحتاج إلى ظلّ لا ينافس الضوء، ويد تعرف متى تتدخل ومتى تنسحب. هو من شهد المعجزة من قرب، فآمن بالقديس إلى النهاية، واختار له ثياب الوداع.

 

####

 

ارفعوا أيديكم عن زياد

نجيب نصر الله

لا مفاجأة! فالأوغاد يحسبون أنه زمنهم. في وداع زياد الرحباني، اجتمع اللص مع النصاب مع القواد مع السافل مع العاهرة مع المنحطّ مع العميل مع السمسار مع الانتهازي مع المرتزق مع «الناشط» مع قناص الفرص مع مهووس الضوء مع...

لا مفاجأة!

فالأوغاد يحسبون أنه زمنهم.

في وداع زياد الرحباني، اجتمع اللص مع النصاب مع القواد مع السافل مع العاهرة مع المنحطّ مع العميل مع السمسار مع الانتهازي مع المرتزق مع «الناشط» مع قناص الفرص مع مهووس الضوء مع... (لا ضرورة لذكر الأسماء، ولا متسع لها أصلاً!)، فكان أكثر المشاهد اللبنانية بعثاً للتقزز، وإثارة للاشمئزاز. فهؤلاء الذين توافدوا (من كل وِكر وجُحر) وحداناً وزرافات لم يسبق لهم أن اجتمعوا في مكان واحد كما اجتمعوا في وداع المقاوم الثقافي الأول. بل إن اجتماعاتهم، السابقة على الاجتماع التاريخي الذي يؤمل لبنانياً وعربياً، أخلاقياً وإنسانياً، ألا يتكرر (لا ضمانات في ألا يتكرر)، كانت تقتصر على فئات وشرائح معينة منهم. كأن يجتمع النصاب مع السافل مع المأجور مع الناشط، أو العميل مع العاهرة مع المنحطّ مع المرتد مع... وهكذا. لكن أن يبلغ الاحتشاد ما بلغه في وداع الكبير اللبناني والعربي، فهذا كان مما يصعب توقعه، بل لم يكن ليخطر على بال أعتى المنجمين الذين لم (ولن) يصدقوا يوماً.

لعلها أحد وجوه «المعجزة اللبنانية». تلك التي لا تغيب إلا لتحضر. ومع كل حضور لها تتعمّق الحفرة وتتسع. أو لعلها تجلٍّ لمبلغ الانحطاط والتردي الذي صارت إليه أحوال البلاد المفتوحة أمام كل غازٍ طامع بالأرض.

وبالتزامن مع الاجتماع في بكفيا، سجلت مواقع «الاستعراض الاجتماعي» بدورها أرقاماً قياسية في الكذب الصريح والمفضوح. وعمّ الهرج والمرج. فالفرصة لا تعوّض، وخصوصاً للباحثين والباحثات عن «بقعة ضوء» من فاقدي الأهلية الأخلاقية والسياسية والثقافية، أولئك الذين امتهنوا افتراش «الصفحات» والحسابات للتمويه على بؤس حقيقتهم وفقر واقعهم. فصار في وسع كل عابر لـ «فايسبوك» أو «تويتر» أو «إنستغرام»... ادعاء صداقة الراحل والمعرفة الوثيقة به مسنداً زعمه إلى صور فوتوغرافية ثبت أن بعضها مختلس أو مزوّر تقنياً.

في هذه الغضون، سمح ناشطون لأنفسهم الذهاب بعيداً. إلى حيث لم يجرؤ الآخرون، ومعهم مجموعة من مقاولي ثورات، وسماسرة مبادئ، وأغرار يسار مزعوم، قد تجاوز زميله، وربما مثاله الأعلى، الناشط الفذّ الياس عطالله وتفوق عليه. فالأخير كان - على ما نعلم - قد اكتفى من «المخطط» بتسميم البيئة النضالية وتلويثها بسقط متاع المهزومين والتائبين والمرتدين والحانقين والفاشلين. فكان أن تولى، بالأصالة والوكالة، نشر الأكاذيب وتزوير الوقائع واختلاق السرديات المضادة وادعاء أدوار نضالية لا وجود لها حتى في عالم «الخيال الثوري»، فضلاً عن تلويث سمعة الشهداء والإساءة إلى تضحيات المناضلين. وكانت ذروة ما أتاه نجاحه في شراء البعض من أصحاب «النفوس الميتة» وطنياً وحزبياً وأخلاقياً وقيمياً من «رفاق الأمس النضالي الذي أفل».

إن ناشطنا العتيد بمحاولته، هو الآخر، الاعتداء على المقدس الوطني والأخلاقي والقيمي الذي يمثله زياد الرحباني، عبر الرسملة السياسية الرخيصة، إنما يرتكب إثماً لم يتجرأ حتى الياس عطالله عليه.

لكن هيهات أن يصلوا إلى مبتغاهم الوضيع. إذ يغيب عن هذا الجمع الهجين أنّ زياد الرحباني عنوان مقاومة ورمز صمود وبيرق ثورة ومثال إبداع وقرين عبقرية وعَلَم نزاهة وراية وضوح ومقلع فخر... وأكبر من أن يُختطف أو يُصادر أو يُلوث تاريخه المقاوم والمبدئي والثابت، سواء في مواجهة إسرائيل بما تمثله من عار إنساني وجب محوه، أو أدواتها وصنائعها اللبنانية والعربية ذات الهوية الصحراوية التي قارعها، شبه وحيد، مقارعة الفارس والمناضل والمقاتل والمقاوم والمثقف الثوري الحقيقي الذي لم يهب التبعات، ولا سأل عن الأكلاف. فظل على موقفه الأول (الأول الأول)، موقف الانخراط في المعركة إلى جانب المقاومة وأمامها وخلفها، رافعاً الراية التي لامست السماء وخدشتها في غير موضع، خصوصاً مع استشهاد من استشهد من أبطال تصدّرهم القائد التحرري الفذ السيد حسن نصرالله، وبكتهم السماء قبل الأرض.

إن ما يسمح لهذا الدعي، وريث الدعي، بالتطاول على علامتنا الثقافية الفارقة، هو صمتنا نحن أهل الراحل الكبير من رفاق درب، ورفاق «سلاح» وأبناء مقاومة. فأهل الراحل الكبير الحقيقيون لمن لا يعلم أو لا يريد أن يعلم، هم، في الواقع، كل من يحرص على المقاومة ويدافع عن سلاحها المقدس، نعم المقدس. كمعيار أول وأساسي في تكوين الوعي وصوغ الوجدان وصنع الهوية وحتى رسم الملامح الشخصية لكل صاحب سوية إنسانية.

دعوة الناشط العتيد إلى فتح باب التعازي، خلسة، وبأسماء مفتعلة، لا محل لها من الإعراب النضالي السياسي أو الثقافي أو الوطني هي سطو واضح وفاضح يستدعي من المعنيين بصون العهد ومعها الأمانة، أمانة الموقف والرأي والبندقية، إدانتها واستنكارها ومقاطعتها.

ولتكن الكلمة الواضحة له ولغيره ممن يتجرأ على المسّ بزياد الرحباني وما مثّله ويمثّله من قيم ومُثل، اليوم وغداً وبعده: أبعدوا أيديكم القذرة عن زياد الرحباني.

 

####

 

الصحافة التركية تنعى «أسطورة الموسيقى العربية»

محمد نور الدين

حظي خبر وفاة زياد الرحباني باهتمام الصحف التركية والكردية المكتوبة باللغة التركية التي أجمعت على أنّ زياد كان فناناً عبقرياً ذائع الصيت على الصعيد العالمي.

حظي خبر وفاة زياد الرحباني باهتمام الصحف التركية والكردية المكتوبة باللغة التركية التي أجمعت على أنّ زياد كان فناناً عبقرياً ذائع الصيت على الصعيد العالمي. هكذا، أوردت صحيفة «ميللييات» إنّ زياد ترك أثراً عميقاً في الموسيقى والمسرح على امتداد حياته، هو الذي تميّز بموسيقاه التجديدية ومسرحه السياسي الساخر. وذكر موقع «نوميديا» أنّ زياد الرحياني ورث تقليداً رحبانياً ثقيلاً لكنّه تمرد عليه واختط مساراً خاصاً به. وهو لم يخفِ شيوعيته وأنشأ جيلاً بكامله على وقع موسيقاه ومسرحه. وأشار إلى أنّه بعد عام 1994، تفرّغ أكثر للتأليف الموسيقي فيما أوردت صحيفة «بركون» أنّ زياد عرف بانتقاده الشديد للفساد الذي عرفته كل مسرحياته. وذكر موقع «خارجي» إنّ زياد كان يعكس في كل أعماله روح المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد الظلم والفساد والصراع الطبقي. وأضاف أنّ أعماله محفورة في ذاكرة الناس من كل الأجيال.
وأبرزت صحيفة «يني اوزغور بوليتيكا» الموالية لحزب العمال الكردستاني خبر وفاة زياد الرحباني على صفحتها الأولى. وفي الخبر الذي أرفق بصورة لفيروز مع ابنتها ريما خلال تقبل التعازي، وصفت زياداً بأنّه «أسطورة الموسيقى العربية»، متوقفة عند الجنازة الشعبية التي حظي من قبل المعجبين الذين حيّوه بالورود والتصفيق. وذكرت الصحيفة أنّ زياداً الذي لحّن عام 2000 مقطوعة «آمد – ديار بكر» غنّاها مع أمه فيروز في مهرجان طرابلس عام 2010. وأوردت الصحيفة أنّ زياداً أهدى الأغنية إلى حركة الحرية الكردية ونضالها. وقالت إنّ زياداً دعا في رسالة إلى إطلاق سراح زعيم الحركة الكردية عبدالله أوجلان
.

عندما غنى «بما إنو»، كان يستهدف النظام اللبناني وكل الأنظمة العربية

الجدير ذكره أن المقطوعة الموسيقية التي حملت اسم «ديار بكر» وتزيد مدتها على ثلاث دقائق، تستوحي الكثير من التراث الموسيقي الكردي وجعلت الجمهور الكردي الذي كان مناصراً للحركة الكردية يلتفّ حول زياد. لكن المقالة الرئيسية، والجميلة، التي اهتمت بوفاة زياد كانت للكاتبة المحافظة (المحجبة) شولي ديميرطاش في صحيفة «قرار» المعارضة القريبة من زعيم حزب «المستقبل» أحمد داود أوغلو. كتبت ديميرطاش إنّ «الحياة بالنسبة إلى زياد لم تكن مجرد حالة وجود بل شهادة على العصر وتحمل أكثر من ألم المرء ليكون صوتاً للصامتين وصدى للمكبوت». وأضافت: «كان زياد رجلاً ذا ثقل كبير ولم يكتفِ بتلحين ألحان لبنان غير الملحنة، بل حمل صرخاته المكبوتة إلى المسرح عبر قلمه وبيانوه ومسرحياته. لم يرَ في الفن زينةً بل شكلاً من أشكال المواجهة. كل نغمة وكل سطر وكل جملة كانت بمنزلة صوت داخلي لأرض لا تنطق». وأضافت أنّه عندما كتب زياد مسرحيته الأولى «نزل السرور» عام 1974 «لم تكن المتاريس قد شيدت بعد، ولكنّ المدينة كانت قد بدأت تهتز. ونقل زياد الغصة في حلق الناس إلى المسرح بالكاريكاتور والسخرية والتهكم. السمة الأبرز لزياد لم تكن في من يشبهه، بل في من لا يشبهه. فهو ابن أم كان ظلّها وحده كافياً للحياة الآمنة والتصفيق والشهرة. لكنّ هذا كان لزياد إرثاً ثقيلاً. اختار طريقه وصوته وعبثه. ولم يذهب إلى باريس أو أميركا أو الخليج. لم يكن لبنان موطنه فحسب، بل المكان الذي لا يُهجر. اختار البقاء لأن الفرار سهل». وقالت ديميرطاش إنّ «زياد دائماً ما وقف إلى جانب الشعب وضد إسرائيل. لم يكن دعمه لفلسطين شعارات ومنافع، بل أقرّ بحقّ فلسطين لأن المظلومين لا دين لهم ولا لغة ولا طائفة. ولد في عائلة مسيحية ولكنه شعر بألم طفل فلسطيني كأنه ألمه». وأضافت الكاتبة: «عندما غنى «بما إنو»، كان يستهدف النظام اللبناني وكل الأنظمة العربية. كان يقول: «لقد باعونا ولم يكن لنا في قلوبهم مكان». لم ينشأ في ظل الحشود بل في ظل المقاومة. بوفاته، صمت زياد. لم يكن صمته فراغاً بل صدى. ودّعه الجميع. بعضهم بالورد وبعضهم بحمل ألبوماته. لكنهم كانوا يعرفون أنّ هذا ليس وداعاً بل مجرد نهاية حقبة». أما أمه ــ وفق الكاتبة ـــ فكان صمتها في وداعه أثقل من ألف أغنية. فقدت الصوت الذي كان يفهمها على أفضل وجه وكان يكملها أكثر من أي شيء آخر. رحيل زياد خسارة ليس فقط للموسيقى بل أيضاً للضمير. وقالت: «رحل صوت زياد، وهذا يحزنني بشدة ولا يزال صدى ما تركه يطاردني: بالنسبة لبكرا شو؟».

 

####

 

على بالي

زياد الرحباني، 2.

أسعد أبو خليل

مشروع زياد كان مشروعاً ثوريّاً، وليس أقلّ من ذلك. هو انضمّ إلى المشروع الرحباني فقط في أوّل مسرحيّة، «سهريّة». لكنْ حتى في «سهريّة»، كانت هناك لفتات فكاهية ساخرة تختلف عن النمط التقليدي في المسرح الرحباني. بعد ذلك تمرّدَ، ولم يتوقّف عن التمرّد طوال حياته. لم يتنازل لا في الفنّ ولا في السياسة ولم يساوِم يوماً. كان يمكن له أن يكون «الفنان الأعلى أجراً»، لكنْ لم يكن على نسق فناني لبنان والعالم العربي. طموحُه كان التغيير والثورة وفعلَ الكثير من أجل ذلك. يذكر البعضُ منّا حلقات مسلسله الإذاعي الفذّ، «بعدنا طيبين، قول الله» (مع رفيقه جان شمعون). هذا شكّلَ وعياً لجيل. البرنامج كان أفضل ما أنتجه اليسار اللّبناني والحركة الوطنية مِن إعلام وثقافة وطنيّة معادية للمشروع الانعزالي. وأسهمَ متطوِّعاً في مدّ فنّ المقاومة الفلسطينيّة بصمت. الذي يشاهدُ «نزل السرور» يُدهَش لتصوير زياد الرؤيوي عن الحرب ومجرياتها. سُخريته من شخصيّة اليساري المتفذلك سبقت وصولنا بعد سنوات من الحرب إلى النتيجة نفسها. جمعَ بين المبدئية والواقعيّة في تصوير الأمور وفهْمها. لم يكن جامداً أو مثاليّاً إلّا في ما يقترن مع الحقائق على الأرض. غيّرَ في الموسيقى والتوزيع والقصيدة الغنائيّة. في الحبّ اختلفَ مع مَن سبقه ولحقه: أحبّ بتواضع ومِن دون ذكوريّة. عاتب الحبيبة لأنّه بقي وحيداً يعيش من دونها، فيما أولاد الحي سعداء. أنتجَ الكثير من الإبداع في مجالات مختلفة من الفنّ، إلّا أنّنا دائماً نشعر بنقص معه ونطالبه بالمزيد. لا يمكن أن نكتفي بفنّه. كلّما أبدعَ طالبناه بأكثر وأغزر. مثل عاصي الرحباني، حالت دون إكمال مشروعه مشاكلُ صحيّة عويصة. تعاون مع كثيرين في الفن، والبعض لم يستحقّ. لكنّ اختياراته من حقّه، أحببنا جازه الشرقي أم لم نحبّه. لم يكن هناك أخطر وأصعب من تلحين فيروز لكنّه لم يكتفِ، بل أخذ فيروز إلى مكان آخر عجز الأخَوان عن أخْذها إليه. سيُقال في تأريخ فيروز: مرحلة عاصي ومرحلة زياد، فقط لا غير. لم يعلَقْ غيرهما.

 

الأخبار اللبنانية في

31.07.2025

 
 
 
 
 

"الموسيقار العضوي" وأعمال زياد التي لن تموت

محمد عزام

كأن تلك الخوارزميات "الأميركية" تشاطرنا عزاء منصوباً على مواقع التواصل الاجتماعي وفي قلوب محبي الراحل زياد الرحباني، وقد مسهم ورفاقهم الحزن، فما كان منها استغلالاً للحظة موته، إلا أن سيرت مقاطعه المصورة الواحد تلو الآخر ناشرة إياها بلا فاصل أو حائل لتصبح من بين الأكثر "Viral" أو رواجاً بلغتها البرمجية، رغم أن قيم بلادها التسليعية لكل وأي شيء ونموذج عملها الاستقطابي المحتفي بزبد الهراء، يتناقضان جذرياً مع كل ما اعتنقه وآمن به ويقوله "الرحباني الأخير"، لكنها وعن غير قصد وفي سياق تكريس وتقييد بقائنا ضمن فضائها الرقمي، أسهمت في أكبر عملية نشر مكثفة لأفكار وإبداع وإرث الفنان المشتبك مع الشأن العام مقدماً مبادئه على مصالحه بل حتى على حياته.

إنها رمية من غير رام، فنموذج زياد الثري بأبعاده الفكرية وتقاطعاتها الآنية وإنجازاته الموسيقية، يحتاج إلى إعادة التذكير به وتكراره على الآذان والقلوب، ليس من أجل جمهوره، فهؤلاء كانوا محظوظين بمعاصرته والتفاعل معه، ومضى من عمرهم أكثر مما بقي لذا ارتباطهم به يظل مشدوداً بـ"النوستالجيا" أو الحنين إلى ماض ثقافي أكثر ثراء وازدهاراً، ومع الأسف لم يعد متاحاً لما يسمى بالجيل زد وما بعده، أي هؤلاء الأكثر استهدافاً بتسطيح وتغييب وعيهم عمداً أو جراء الأوضاع السائدة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، فتحرمهم من حالة فنية صارت نادرة مثل زياد وما يجسده من رؤية وانحياز لقضايا "من يعيشون على هوامش العالم والحضارة والمجتمع، أي المخوّلون لرؤية الحقائق المُرّة"، بتعبير الروائي الروماني قسطنطين فيرجيل.

هؤلاء من اختارهم الموسيقار الراحل، رغم كونه ابناً "للمتن"، متمرداً على كل ما أحاط به من طبقية وطائفية وشوفينية، مكرساً فضاء موسيقياً بديلاً ابتدعه ناقلاً صوتهم ومعبراً عن آلامهم وممثلاً لهم ضمن حيز المجال العام بعد إقصائهم منه، معيداً الاعتبار إلى دور "الفنان المثقف" فأضحى محل إجماع شعبي لم يتراجع رغم أفول زمن تياره السياسي، إذ كان إبداعه الموسيقي متجدداً فحمل نموذجه عابراً به الطوائف والأديان والدول، خاصة أن زياد تجرد من كل ما يغبش الرؤية، لذا صدقه الجمهور فقد كانت بصيرته أكثر وضوحاً وضميره أكثر نقاء، ومنخرطاً بشكل مباشر في الدفاع عنه ساعياً لتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي بمزيج من السخرية السياسية والموسيقى الشرقية التقليدية والغربية الحديثة، وملتزماً بمحاولة تغييرية من الأسفل، ما يجعله منه ليس موسيقاراً فقط، وإنما يجوز وصفه بـ"المثقف العضوي" حسب التعبير الغرامشي.

بالتأكيد لم يكن زياد جزءاً من أي نظام يسعى لممارسة الهيمنة الثقافية وربما كان من حظه وحظنا أن وجد نفسه وسط الحالة اللبنانية بانقساماتها وتوازناتها، فمثله لا تحتمله الأنظمة السلطوية الاستبدادية إذ لا تترك خرم إبره يتنفس المجتمع من خلاله، خاصة في مجال الفن الذي لا بد أن يدار ويسيطر عليه باعتباره أحد أدوات الضبط  تخديراً للجمهور أو إلهاء وحشداً وتعبئة وتوظيفاً له ضمن صفوف السلطة، وهو ضد ما يمثله زياد وما نافح عنه طوال عمره، لذا استلهاماً من مفهوم أنطونيو غرامشي يمكن وصف زياد بـ"الموسيقار العضوي"، فقد كان حراً في رسم صورة مغايرة لمجتمعه خالفت التيار السائد، وكان والداه من بين من أرسوا دعائم ما وصفه هو بـ"لبنان الخيالي"، بينما اهتم بكشف تناقضات "لبنان الحقيقي" عاكساً همومه وتطلعاته من خلال الموسيقى، مسهماً في تشكيل وعيه، ومعبراً عن تعدده الثري.

أي أن موسيقاه ليست وسيلة للترفيه فقط وبالطبع يحق لمن يراها كذلك ألا ينازعه أحد في رؤيته، وهذه جدلية لا تنتهي هل الفن من أجل الفن كما تقول النظرية من أنه يجب تحريره من أي قيمة باستثناء الجمال، أي أنه لا بد أن يكون مجرداً من أي حمولات سياسية أو فكریة، أو فلسفية أو دينية، بما يخلصه من النفعیة كما يرى معتنقوها أم أن دور الفن هو تغيير الواقع عبر تحفيز التفكير النقدي وتعزيز الوعي الاجتماعي والانحياز إلى موقف أخلاقي وسياسي ينصر به البسطاء ضد "الزعما"، كما كان زياد ماضياً عبر طريق أصر على المشي فيه بالرغم من آلامه الشخصية التي تظهر في المقاطع المنتشرة، وبعضها حتى ظهر على وجهه الساخر بالرغم من كل ملامح المرارات البادية عليه، كأن أمله خاب في مدينة خائبة وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! فكيف إذا اجتمعت الخيبات الشخصية مع انتكاسات ومآس أحاطت بكل ما آمن به، ولعله على هذه الأرض لم يعد لدى زياد ما يستحق الحياة أو كما قال محمود درويش في جداريته: أنا وحيد، لا شيء يوجِعني على باب القيامةِ، لا الزمان ولا العواطف. لا أحِسٌ بخفةِ الأشياء أو ثِقلِ الهواجس. لم أجد أحداً لأسأل: أين أيْني الآن؟ أَين مدينةُ الموتى، وأَين أَنا؟ فلا عَدَمٌ هنا في اللا هنا … في اللازمان.

"أبو الزوز"، كما كان يناديه المقربون منه، جاء إلى الحياة ورحل عنها بريئاً مثل النبات والوصف للشاعر سيد حجاب، منحازاً إلى الجماهير، ومخاصماً النخب، لكن نموذجه ينقرض، والمطلوب اليوم فن بلا موقف وأعمال بلا دسم، يقدمها أنصاف الموهوبين أو حتى من بلا موهبة وهؤلاء لا انتماء لديهم إلا لمصالحهم الشخصية أو النظام الذي يسبحون بحمده، لذلك أعمالهم سرعان ما تذهب جفاء، بينما بالتأكيد إرث زياد ماكث في الأرض.

 

####

 

مدونات

زياد.. تركنا بالحمرا وراح

سالي موسى

في الحمرا مشى الناس مع زياد. لم يكن وداعًا بقدر ما كان لقاءً أخيرًا مع فنان لم يضع بينهم وبينه يومًا أيّ مسافة. كانوا يغنّون ويبكون. وجوه شابت على مسرحياته، ووجوه صغيرة تعلّمت غضبها ونكتتها منه، جميعهم في الشارع نفسه. كأنّ الزمن كلّه اجتمع في شارع واحد.

أوّل أغنية ارتفعت من الأفواه كانت "سألوني عنك يا حبيبي". تلك الأغنية التي لحّنها زياد على مقام البياتي، مقام الفرح، لكنّه حوّله بذكائه إلى مساحة وجعٍ شفيف، ليحمل حزن فيروز على غياب عاصي. هذا ما خطر ببالي: كيف استطاع زياد أن يجرّد الفرح من مقامه ليصير أداة للحزن.

لم نبكِ زياد وحده، بكينا موت رأي عام موسيقي صنعه زياد وأطلقه في هذا البلد. أمام مدخل الطوارئ كان يقف سامي حوّاط، واحد من أبناء هذا الرأي العام، يحتضن جريدة الأخبار التي وضعت صورته على صفحتها الأولى، وكأنّه يريد أن يمسك بزياد للمرّة الأخيرة. يضغط على الورق كأنّه يخشى أن يفلت منه، يخشى أن يذهب زياد ويأخذ معه ذلك الرأي العام الموسيقي اليساري الذي ظلّ خالد الهبر وسامي حوّاط يحرسانه لعقود. كانت لحظة وداعه أكبر من شخصه، كأنّ الخوف كلّه كان من أن يرحل معه هذا التيار الذي ظلّ حاضرًا لعقود.

ثم مشت الحشود خلف زياد، كانوا يبحثون عنه وهم يمشون وراءه، كأنهم لا يريدون أن يصلوا إلى النهاية. 

تذكّرت في تلك اللحظة مشهدًا من مسلسل "الفصول الأربعة" يوم وفاة نزار قباني، حين قال خالد تاجا: "الدني لسا بخير إذا في بلد كاملة بتطلع بجنازة شاعر". أمس، في الحمرا، شعرت أنّ البلد ما زال بخير ما دام شارع كامل يخرج في جنازة زياد. وفي وسط هذا الخاطر، ظلّ يرافقني زياد الذي كان وفيًّا لدمشق كما هو وفيّ لبيروت؛ كأنّ الموكب كان يشيّع هذا الوفاء أيضًا.

كيف استطاع زياد الرحباني أن يجرّد الفرح من مقامه ليصير أداة للحزن؟

شيء في خطوات الناس خلفه أعادني إلى طفولتي، إلى مقاعد المدرسة حيث بدأت حكايتي مع زياد. تذكّرت "الفرير"، المدرسة التي كلّ شيء فيها بعيد عن السياسة والفكر النقدي، وكيف كان يوم الاثنين يعني شيئًا واحدًا: مقال زياد في الجريدة. كنت أقتطع نصف مصروفي اليومي، ألفي ليرة، لأشتريها وأخفيها في حقيبتي كمن يخبّئ سرًّا شخصيًا. أفتحها على مهل في زاوية الصفّ وأقرأ له كأنني أتنفّس.

وأتذكّر جيّدًا ذلك اليوم حين رفعت معلّمتي نظرها عن الدفتر وسألتني بصوتٍ يسمعه الصف كلّه: من أين تأتين بكلّ هذه الأفكار؟

رفعت رأسي وقلت ببساطة تشبه اليقين: من زياد الرحباني… ومن غسان كنفاني.

لم أكن أقصد القراءة فقط، كنت أعني التربية. كنت أعني أنّ هناك كتّابًا وموسيقيين يتكفّلون بتربية مَن لا يجدون من يربّيهم. زياد وكنفاني علّمونا كيف نرى العالم، كيف نفكّر ونغضب ونحبّ، وكيف لا نصمت. هؤلاء لم يكونوا كلمات أو ألحانًا نستهلكها، كانوا آباءً آخرين.

من تلك النافذة الصغيرة بدأت أفهم أنّ الموسيقى يمكن أن تكون شكلاً من أشكال النضال. قرّرت أن أتعلّم العود لأنّ زياد أقنعني أنّ النوتة قد تكون أفتك من أيّ سلاح، وأنّ الفن إذا كان صادقًا يستطيع أن يخلخل كلّ سلطة.

وبينما كنت أغادر الحمرا مثقلة بكلّ هذه الذكريات، كان النعش قد سبقنا إلى بكفيا. هناك انتهى الموكب، لكن في داخلي ظلّت الجنازة تمشي.

وصل النعش إلى بكفيا. عاد زياد "الرحباني" إلى العائلة، إلى المقابر التي تحمل الاسم والهيبة، إلى الدولة التي علّقت على صدره وسامًا جاء متأخرًا من بلدٍ لطالما انتقده وسخر من سلطته ووجوهه. لكن زياد الآخر، زياد بلا ألقاب، زياد حاف، كان قد شُيّع وانتهى في الحمرا. هناك كان وداعه الحقيقي: بين الأرصفة والوجوه والدموع، لا في صالونات الشرف.

في بكفيا صار رسميًا. في الحمرا كان شعبيًا. في بكفيا صمتٌ بروتوكولي. في الحمرا ضحكة ودمعة وصوت إذاعة محمول بيدٍ ترتجف. هكذا ينقسم الوداع حين يكون الراحل أكبر من مكان واحد.

وفي كلّ هذا، ظلّ ظلٌّ واحد يثقل الهواء: فيروز.

كان الجميع ينتظر أن يلمحها، أن يقرأ وجهها، أن يبحث فيها عن شيء يعزّيهم. لكن هذه السيدة التي حملت العالم على صوتها، لم يُترك لها أن تحزن كأيّ أمّ. العالم كلّه يريد أن يتأملها، أن يستمدّ من صمتها معنى، أن يقرأ على وجهها سيرة لبنان كلّها. لم يُترك لها الحقّ البسيط بأن تحزن وحدها على ولدها، بلا عدسات وبلا عيون، كما تفعل كلّ الأمهات.

محبّوه الذين مشوا في الحمرا لم يكونوا يشيّعون زياد فقط، كانوا يشيّعون جزءًا من زمنهم، ويلتمسون من جنازته ما تبقّى لهم من عزاء. أما فيروز، فظلّت وحدها مع حزنها المستحيل: كيف يمكن أن تبكيه كما تشاء، فيما كلّ هذا العالم واقفٌ على بابها ينتظر دمعة واحدة؟

 

العربي الجديد اللندنية في

31.07.2025

 
 
 
 
 

زياد

ميشيل تويني - المصدرالنهار

هذا المبدع غاب سنين عن الإعلام والفن، وبغيابه كان حاضراً أكثر بكثير من بعض الموجودين

زياد. العنوان يختصر الحالة والإنسان والفنان. زياد. فقط زياد يكفي ليختصر الكثير. كم هو عظيم هذا الإنسان الذي رغم وجوده ضمن عائلة، ورغم كون والدته السيدة فيروز أكبر أيقونة في تاريخ لبنان، ووالده عاصي من أسطع الرموز الفنية، تميز ولمع وبرز وأصبح زياد "بلا ولا شي".

زياد الرحباني الذي يحبه كل لبناني، سواء اتفق معه أو لا. زياد الذي يحترمه كل لبناني لأنه ببساطة زياد، الذي يوم رحيله لم يبقَ إعلامي أو فنان أو لبناني لم يكتب عنه ولم يضع صورته ولم يبكه

زياد أكبر من كل الألقاب والمناصب. لقد تجمع الناس في الحمرا، منطقته التي أحبها، وودّعوه بأجمل طريقة، وهذا المشهد يختصر الكثير ويقول إن زياد "بلا ولا شي" أصبح أكبر من كل شيء. ساكن قلوب اللبنانين ووجدانهم
هذا المبدع غاب سنين عن الإعلام والفن، وبغيابه كان حاضرا أكثر بكثير من بعض الموجودين. يوم رحيله كان حاضرا، وقد طغى حضوره المهيب على أشخاص موجودين. حتى الموت لم يخف قوة حضور زياد، بالعكس، لقد انتصر على الموت وتغلب على هذا الوحش الذي يخطف بدقيقة، وبقي مستمرا في ألحانه وأغانيه وكلماته ومسرحياته ومقابلاته التي أصبحت على كل هاتف وفي كل منزل وعلى كل لسان، فقط لأنه زياد، وزياد أقوى من الغياب والمرض والموت
.

زياد خالد وأبدي ورمز لفنان حقيقي بعيد عن المظاهر والقشور التي يعيشها أغلب الفنانين في مجتمعنا. بأفكاره المختلفة والثورية أسّس نهجا مختلفا، ويبقى مدرسة، هو الذي لم يؤمن بالتعليم بطريقة كلاسيكية، وترك الجامعة وثار على كل القيود وأثبت أن الإبداع لا نمط تقليديا له.

زياد، برحيلك أثبتّ أن وجودك أكبر وأقوى، و"بلا ولا شي" غيرت في المجتمع والفن ببساطة وعبقرية لا يملكها إلا العمالقة.

 

النهار اللبنانية في

31.07.2025

 
 
 
 
 

إن المخرج أوليفر ستون يقدم من خلال فيلمه هذا، إدانة جديدة لأمريكا وجنودها، كما يقدم إدانة لكل الحروب بشكل أو بآخر. لقد قدم المخرج فيلماً متقناً في حرفيته، يعد من بين أهم أفلام الحركة والتكنيك السينمائي الأمريكي، ولكن هذا لا يجعله يتميز كثيراً عن الجيد من أفلام حرب فيتنام.

 

المصرية في

26.07.2025

 
 
 
 
 

إن المخرج أوليفر ستون يقدم من خلال فيلمه هذا، إدانة جديدة لأمريكا وجنودها، كما يقدم إدانة لكل الحروب بشكل أو بآخر. لقد قدم المخرج فيلماً متقناً في حرفيته، يعد من بين أهم أفلام الحركة والتكنيك السينمائي الأمريكي، ولكن هذا لا يجعله يتميز كثيراً عن الجيد من أفلام حرب فيتنام.

 

المصرية في

26.07.2025

 
 
 
 
 

إن المخرج أوليفر ستون يقدم من خلال فيلمه هذا، إدانة جديدة لأمريكا وجنودها، كما يقدم إدانة لكل الحروب بشكل أو بآخر. لقد قدم المخرج فيلماً متقناً في حرفيته، يعد من بين أهم أفلام الحركة والتكنيك السينمائي الأمريكي، ولكن هذا لا يجعله يتميز كثيراً عن الجيد من أفلام حرب فيتنام.

 

المصرية في

26.07.2025

 
 
 
 
 

إن المخرج أوليفر ستون يقدم من خلال فيلمه هذا، إدانة جديدة لأمريكا وجنودها، كما يقدم إدانة لكل الحروب بشكل أو بآخر. لقد قدم المخرج فيلماً متقناً في حرفيته، يعد من بين أهم أفلام الحركة والتكنيك السينمائي الأمريكي، ولكن هذا لا يجعله يتميز كثيراً عن الجيد من أفلام حرب فيتنام.

 

المصرية في

26.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004