ملفات خاصة

 
 
 

ماجدة وفيروز.. مشهد يتجاوز العزاء

خالد محمود

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

فى مشهد نادر ومؤثر التقطته عدسات الكاميرات ومواقع التواصل الاجتماعى، انحنت أو «ركعت» جلوسًا الفنانة اللبنانية الكبيرة ماجدة الرومى بكل ما تحمله من وقار فنى وإنسانى، لتُقبّل يد السيدة فيروز، أيقونة لبنان وصوته الأبدى، خلال عزاء نجلها الموسيقار زياد الرحبانى.

هذا المشهد تجاوز لحظة عاطفية خاصة، ليغدو رمزًا ثقافيًا وإنسانيًا غنيًا بالمعانى، يستحق التأمل والتحليل. فلم يكن مجرّد لحظة عابرة فى مناسبة حزينة، بل كان مشهدًا يحمل من الرمزية ما يتجاوز حدود الصورة، ويتغلغل فى أعماق الوجدان اللبنانى والعربى.

فى تلك القبلة، اجتمع التاريخ الشخصى والفنى، وانكشفت هشاشة الإنسان خلف الألق الفنى. كانت ماجدة، التى لطالما اعتُبرت ابنة المدرسة الرحبانية، تُحيّى السيدة التى غنّت للبنان كما لم يفعل أحد. كانت تحيى التاريخ، تحيى الأم، وتحيى الفنّ الذى شكّل وجدان أجيال.

فى السياق العام للمشهد حدث هذا فى لحظة حزينة من تاريخ الفن اللبنانى والعربى، بوفاة زياد الرحبانى، أحد أعمدة الموسيقى والمسرح السياسى الساخر فى لبنان. وجاءت ماجدة الرومى، المعروفة برقيها وصوتها الوطنى، لتقدم واجب العزاء. غير أن طريقتها فى التعزية كانت استثنائية: ليست مجرد كلمات بل فعل جسدى تعبيرى يحمل دلالات تتجاوز الطقوس الاجتماعية التقليدية.

النقطة الأخرى هى دلالة فيروز فهى كقيمة ليست مجرد فنانة، بل هى رمز وطنى وثقافى وفنى شبه مقدّس فى الوعى اللبنانى والعربى. ارتبطت صورتها بالوطن، بالحنين، بالحب الصافى، وبالزمن الجميل. لذا فإن الانحناء أمامها، خصوصًا فى لحظة ألمها، يأخذ بعدًا احتراميًا قد يوازى الانحناء أمام الوطن نفسه أو الأم الكبرى.

ركوع ماجدة الرومى وتقبيلها ليد فيروز يمكن فهمه على أنه:

تعبير عن المحبة الخالصة والتقدير العميق: فماجدة الرومى تعلن فى هذا الفعل أن فيروز لا تزال الهرم الذى يعلو الجميع، حتى كبار الفنانين.

موقف أخلاقى وإنسانى: تعبير عن التضامن الإنسانى فى لحظة الفقد، حيث لا كلمات تفى، ولا عزاء يكفى.

انكسار الذات أمام العظمة والألم معًا: حين يجتمع الحزن مع الرمزية، يصبح الجسد نفسه وسيلة تعبير، فيركع الكبير أمام الأكبر.

جدل وتأويلات كثيرة صاحبت ذلك المشهد الذى استغرق مجرد ثوانٍ قليلة، فرغم أنه قوبل بإعجاب واسع، لم يخلُ من تساؤلات وانتقادات: هل كان المشهد عفويًا أم مقصودًا كنوع من الاستعراض؟!

أم أن اللحظة الإنسانية تلغى الحسابات الشكلية؟

لا يمكن إنكار تأثير المشهد على الرأى العام، خصوصًا أنه أعاد التذكير بقيمة فيروز لدى الجميع، وبمكانة ماجدة الرومى كفنانة تؤمن بالقيم قبل الفن.

بين فيروز وزياد وماجدة، ثمة خيوط خفية من الفن والاختلاف واللقاء. ماجدة الرومى، فى بداياتها، كانت من الأصوات التى لفتت انتباه منصور وزياد الرحبانى، وقدّما لها ألحانًا وكلمات من طراز رفيع. زياد، بنزعته التجريبية والمتمردة، كتب وألّف لماجدة أغنيات استثنائية مثل «كن صديقى» و«عم يسألونى عليك الناس»، فتولّدت علاقة فنية معقّدة، مزجت بين الحنين والحداثة، بين صفاء الصوت وجرأة الكلمة.

أما فيروز، فكانت دائمًا هى الأم، و المدرسة، والجبل الذى لا يُمسّ. ورغم ما شاب العلاقة بين زياد وعدد من الفنانين، ظلّت فيروز تمثل الرابط الأعمق، الجذر الذى يعود إليه الجميع، حتى فى لحظات الفقد.

لذلك، كان مشهد ماجدة، وهى تُقبّل يد فيروز أشبه باعتراف بصمت، ووداع مزدوج: لزياد، الفنان المختلف والابن المتمرد، ولزمنٍ بات يغيب رموزه واحدًا تلو الآخر.

فى لحظة عزاء، تلخّص مشهد واحد ما لم تقله كلمات كثيرة. ركوع ماجدة الرومى وتقبيلها يد فيروز كان فعلًا فنيًا بحد ذاته، يحمل دلالات الوفاء، والمحبة، والاحترام، والرمزية التاريخية. وربما كان أيضًا تأكيدًا على أن بعض المشاعر لا يُقال، بل يُركع لها.

 

الشروق المصرية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

لاسم زياد الرحباني.. لمسة وفاء من أبناء بيت العود في حفلهم الثاني لعام 2025

مؤلفات جديدة لـ نصير شمة عزفها 12 من متفوقي بيت العود

كتب: سعيد خالد

أقام بيت العود العربي بالقاهرة، تحت إشراف الموسيقار نصير شمة، الحفل الثاني لطلابه المتفوقين لعام 2025، في أمسية فنية ساحرة، الذي نظَّمه صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة، إذ شهدت قاعة طه حسين بمبنى لغات وترجمة تألق 12 عازفًا من المواهب الواعدة، الذين قدموا باقة متنوعة من الألحان التراثية والمعاصرة.

وقدم المشاركون مختارات من مؤلفات الموسيقار الراحل زياد الرحبانى الشهيرة، في لمسة وفاء لاسمه، وبآداء فريد نال الإعجاب والاستحسان ،احتفى العازفون بمعلمهم نصير شمة من خلال عزف مجموعة من أعماله منها «لونجا فرح، فزا ذئاب الليل، بين النخيل»، إلى جانب مقطوعات جديدة تم وضعها خصيصًا لهذا الحفل.

وقدمت للمرة الأولى إضافة إلى نخبة من الحان العظماء، كان منها توتة لـ فريد الأطرش، افرح يا قلبي لـ رياض السنباطي وغيرها، إذجمع الحفل بين الأصالة والإبداع وعكس تفوق الطلاب ومهارتهم العالية، مؤكدًا مكانة بيت العود بوصفه منارة لنشر وتعليم آلة العود باعتبارها أحد العناصر المميزة للموسيقى العربية.

 

المصري اليوم في

30.07.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني.. حين يتحول جرح الرفض إلى هدية للعالم

وداد طه

في أعماق كل إنسان جرح، جرح لا يُرى ولا يُمس، لكنه يشكل النفس ويوجه المسار، وقلة هم من يجعلون منه مصدرا للمعنى والإلهام. زياد الرحباني هو من هؤلاء القلة. عنده لم يكن الجرح ندبة صامتة، بل نداء. نداء دفعه إلى البحث والإصلاح والسعي الذي طالما أسيء فهمه. هذا المقال ينطلق في قراءة حياة زياد الرحباني، ويسعى إلى توليف مساره مع رؤاه وهدف حياته، انطلاقا من البحث في ملفه الجيني. من خلال قراءة ملفه الجيني تتضح لنا خيوط مساره الوجودي، تتبدى جروحه وتتكشف ملامح رحلته على هذه الأرض: من ألم خفي إلى رسالة عميقة، من رغبة في التقدير إلى قيادة عبر الخدمة، من رفض قديم إلى إبداع ملهم.

لقد كان طريق زياد الرحباني مرسوما بدقة متناهية، وقد تشكلت صورته الأخيرة حين وضع آخر قطعة من قطع المكعبات، طريق مليء بالحيوية لكنه مشروط بضبط النفس، مفعم بالحس الإصلاحي لكنه لا يكتمل إلا بالإصغاء إلى مشاعر الجسد، طريق يقوده جرح إنساني عميق لكنه يعبر منه إلى الغاية الكبرى: أن يكون مصدر إلهام حي للآخرين كيف؟ بالقول والفعل كما بالصمت.

الإنقاذ كمعنى للحياة

زياد جاء إلى هذا العالم حاملا رسالة واضحة: أن يُحيي ما مات، أن يخدم قضية خاسرة، أن يصلح ما يبدو ميؤوسا منه. مفتاح الجين 85 لا يترك مجالا للشك؛ طاقة الحياة التي تسكنه هائلة، لكنها لا تتحقق إلا حين تتجاوز حدود الذات. ولهذا، كان مشدودا دوما إلى الأماكن المظلمة، لا لينجو منها فقط، بل ليحمل إليها النور.

أي فكرة على وشك الانهيار، أي مشروع في طريقه للسقوط، أو شخص يوشك أن ينهار، كانت توقظ فيه رغبة عميقة في الإنقاذ، في الترميم، في الإحياء. ذلك النداء الداخلي الذي لا يتوقف.

زياد لم يكن من أولئك الذين يعلنون وجعهم. لكنه، ومنذ بداياته، ربط وجوده بفعل جماعي أكبر، كأنه لا يستطيع أن يكون دون محاولة إنقاذ شيء يراه الآخرون قد انتهى. فالجين 85 جعله يهب نفسه لقضية لا تُخاض إلا إن بدت خاسرة، لأن معنى وجوده لم يكن يوما بعيدا عن بعث الحياة في ما يبدو ميتا.

هذا المسار لم يكن سهلا. كان القلق يسكنه، ذلك التوتر العميق الذي لا يهدأ إلا عندما يشعر بأنه جزء من شيء أوسع منه. ولأن هذه الطاقة كانت أقوى من أن تُحبس، دفعته أحيانا إلى التشتت، أو إلى إسقاط رغبة الإنقاذ تلك على من أحبهم، وهو ما تسبب له بصراعات داخل العلاقات. علاقته المعقدة بوالدته فيروز كانت مثالا واضحا على هذا التوتر.

أما عن ذاته هو، فقد ظل في مساحة ضبابية: يُرى كمنقذ، ويُشعر كإنسان. وهناك بالضبط كان يكمن جرح الرفض.

الصبر كاختيار داخلي

من خلال الجين 25، نلامس التحدي الأكبر في حياة زياد: الصبر، أو بتعبير أكثر دقة، ضبط النفس. فهو ليس من أولئك الذين يحققون قفزات مفاجئة، بل ممن تنضج ثمارهم ببطء، في صمت وتأمل. كان بداخله شعور عميق بالخذلان، وإبداع لم يُفجَّر بعد، يثير فيه رغبة في الإسراع، في أن يرى ويُعترف به. ربما كانت بداياته المبكرة خير دليل، وإن جاءت، كما يعلم الجميع، نتيجة نسبه الفني كابن للرحابنة، ونبوغه الطبيعي. لكن الرحلة، على عكس ما توقع، تطلبت منه شيئا آخر تماما: أن يتراجع خطوة، أن يثق، وأن يسمح للحياة بأن تقوده لا أن يقودها.

وهنا يظهر جرحه الإنساني الحقيقي: الشعور بأنه دائما أكبر مما يحققه واقعه، وأن ما يستحقه من اعتراف وتقدير لا يأتي في وقته، أو لا يأتي كاملا. ذلك الشعور كان يلح عليه، فدفعه إلى التفرد، إلى التجديد، إلى اختراع موسيقى مختلفة، حاول مرارا أن يقنع بها فيروز، الأم والصوت والتاريخ.

وفي رحلة زياد الطويلة، يمكن بوضوح أن نتتبع أثر الجين 25؛ فقد بدأ، شيئا فشيئا، يتعلم أن الكمال لا يكون في سرعة الإنجاز، بل في التمهل، في الاتزان، في أن تمنح الحياة وقتها دون استعجال. ومع هذا، يبقى السؤال معلقا: ما العلاقة بين الصبر كدرس كان يجب عليه أن يتعلمه لتنضج تجربته، وبين جرح الهجر؟

الحقيقة أن جرح الرفض الذي جعله يتقمص دور المنقذ، لم يأت معزولا عن جرح آخر، أكثر عمقا، هو الهجر. لم يكن زياد مهجورا بالضرورة بشكل جسدي، لا من والديه ولا من أحبته، لكن المشاعر التي عبر عنها في موسيقاه، وفي بعض حواراته القليلة، تشبه مشاعر من تُرك في منتصف الطريق. وكأن شيئا ما ظل ناقصا، غير مكتمل؛ تماما كاعتراف العالم بموهبته دائما متأخر، أو منقوص.

ربما شعر زياد في علاقاته أنه يعطي أكثر مما يأخذ -"بدك إترجاك بترجاك…"- وأن رغبته العميقة في إنقاذ الآخر لم تكن دائما بدافع القوة، بل وسيلة للهروب من مواجهة حاجته الشخصية؛ الحاجة إلى ألا يُترك، إلى أن يُحتضن دون شرط أو مقابل. فهل نال ما كان يبحث عنه؟

استقل زياد مبكرا عن عائلته، لا فقط في المكان، بل في الفكر وفي النغمة أيضا. اكتشف موسيقاه الخاصة، ومضى في درب لا يشبه أحدا. بدا هذا الاستقلال قوة، وكان كذلك في بعض جوانبه، لكنه كان أيضا طريقا لتعلم الصبر. غير أن هذا الاعتماد الكامل على الذات كان يخفي هشاشة خفيّة، وحنينا دفينا إلى من يفهمه دون شرح، إلى من يراه خلف القوة الظاهرة، لا فقط كمصدر يُعتمد عليه، بل كإنسان يحتاج بدوره إلى السند.

يتجلى الألم العميق حين نربط هذا المسار بحقيقة أن زياد، وفق الجين 25، كان مدعوا لضبط النفس، للانتظار، لعدم استعجال التقدير. لكن، كيف له أن ينتظر، وهو يحمل في داخله عطشا قديما لأن يُرى، وقد تكوّن وعيه على أرضية من الرفض؟

ذلك الصبر على غياب الاعتراف شكل التحدي الأصعب، لأنه أضرم نار الرفض في داخله، لكنه في الوقت ذاته، مهّد له دربا آخر: أن يسلّم بأن التقدير الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من شعور داخلي راسخ بقيمة الذات. فالقيمة لا تُمنح، بل تُكتشف.

وفي هذا التوتر، بين رغبة دفينة في الصعود إلى هضبة الاعتراف، ونداء داخلي للصبر والانضباط، وُلدت الحكمة. تلك الحكمة التي لم تُكتسب بسهولة، بل جُبلت من جراح، وحولت الألم إلى وعي، والصراع إلى بوصلة.

حين يتكلم الألم عبر العروق

كان الإبداع بالنسبة إلى زياد ضرورة نفسية، لا ترفا ولا خيارا. وفي لحظات صمت الوعي، كان الجسد يتكلم، كما يكشف الجين 84 عن نفسه: قلق عميق تجاه الأمان، يتسلل من تحت سطح الصلابة الظاهرة والنجاح الخارجي، ليقيم في الجسد دون استئذان. فرغم ما بدا عليه من قوة، ظل الشعور بعدم الراحة يرافقه، وربما لم يكن يدركه تماما.

ذلك القلق دفعه أحيانا للبحث عن أمان خارجي، مادي أو اجتماعي، لكنه لم يجد فيه السكينة. وكان من الممكن رصد توتره في كل شيء: في نبرة صوته، في كلماته المتقطعة، في نكاته التي تحمل ظل الحذر، في مقابلاته وأدائه على المسرح. وحتى في آخر ظهور له، كان توتره واضحا في تفاصيل جسده: في حجم حضوره، في انحناءة ظهره، في تعبيرات وجهه. وكأن الجسد كان يحمل الجرح حين عجز العقل عن التعبير، وكان الجسد صادقا دائما، لا يختبئ خلف الكلمات.

لكن مع مرور الوقت، بدا أن زياد بدأ يثق بمشاعره، ويحتضن قلقه بدلا من مقاومته. لم يعد جسده ساحة معركة، بل صار صديقا يقوده بلطف نحو السلام الداخلي. حين أصغى لصوت جسده، عرف الطريق إلى الطمأنينة، وظهر ذلك في هدوئه، في تبسيطه للأشياء، وفي نبرة أكثر صفاء.

تعلّم زياد أن المشاعر لا تخطئ، وأن احتضان الخوف هو الخطوة الأولى نحو تحوله إلى طمأنينة. وهذا الانفتاح الجسدي لم يغير فقط طريقته في الحياة، بل زاد من عمق إبداعه. فكلما اتسع وعيه بمشاعره الحسية، ازداد فنه صدقا واتصالا، وصار أقرب إلى الروح، وأبعد عن القناع.

غايته الأسمى، كما يعبر عنها جين 12، كانت أن يكون قائدا في قلب الميدان. لم يكن زياد يسعى للمنصات ولا للواجهة، بل كان يحمل رؤية تغذيه من الداخل، يقود بها الآخرين بلطف وثبات. لم يسبق الصفوف، بل مشى بينها؛ قيادته لم تصدر من العلو، بل من القرب، من صدقه العميق، ومن التزامه بما يطلبه أولا من نفسه قبل الآخرين.

هذه الطريقة المتفردة في القيادة لم تكن سوى ترجمة لتحول الجرح. فعندما تحول رفض الآخرين له إلى قبول عميق لذاته، أصبح قادرا على حملهم بدوره. لم يعد ينتظر الاعتراف من أحد، بل صار هو من يقدمه. غدا مظلة يحتكم إليها الآخرون، خاصة في لحظات الانهيار، حيث كان صوته، حضوره، وفعله ينقل رسائل غير منطوقة: "نحن نستطيع" لا شيء يضيع إن عملنا عليه. تلك الروح المتواضعة، لكنها صلبة الجذر، هي ما جعلت من زياد مرجعية غير معلنة، في مجاله وفي محيطه. لم يحتج إلى إعلان دوره، لأن أثره كان واضحا، يسكن المساحة بين الناس لا فوقها، ويقود من القلب لا من القمة.

التحولات الجوهرية

من الجينوم الشخصي لزياد الرحباني، يمكن تتبّع 3 مناطق ظل تحولت تدريجيا إلى هبات إبداعية صنعت ملامح شخصيته ومسيرته الفنية. الأولى، كانت تحوّله من الرغبة في السيطرة إلى السلطة الواعية؛ حيث تعلم كيف يؤثّر دون أن يفرض، وكيف يقود دون أن يملي. لم يعد يسعى إلى التحكم، بل إلى الإلهام، فغدت قيادته طبيعية، نابعة من حضوره وصدقه.

الهبة الثانية تمثلت في الانتقال من الخلاف إلى الدبلوماسية. مع الوقت، أتقن زياد فن الإصغاء، وتحول من التوتر والمواجهة إلى جسور تواصل ناعمة. لم يعد بحاجة إلى الانتصار في كل نقاش، بل صار يبحث عن الفهم، عن المعنى، عن المساحات المشتركة التي تسمح بالنمو مع الآخر لا ضده.

أما التحول الثالث، فكان من الطيش إلى الحميمية. تخلى عن التفاعل السريع والعشوائي، وبات أكثر وعيا في علاقاته. صار يبحث عن صدق أعمق، عن علاقات تقوم على الانكشاف الحقيقي لا على تبادل الأقنعة، عن روابط تحتمل الضعف بقدر ما تحتفي بالقوة.

لكنّ ما يضيء هذه التحولات كلها هو الجرح الذي حمله في قلبه؛ جرح زياد لم يكن عائقا أمام الإلهام، بل كان مصدره العميق. لم يُلهم الآخرين برغم جراحه، بل بفضلها. إحساسه بعدم التقدير، حساسيته المفرطة، وشعوره المتأصل بأنه مطالب بإنقاذ كل شيء، لم تكن علامات ضعف، بل بوابات عبور انفتحت على طريقين: أحدهما إلى داخله، إلى قلبه، والآخر إلى فنه، إلى مسرحه.

ربما لم يتجاوز زياد هذا الجرح بالمعنى التقليدي، لكنه لم يهرب منه. بل أصغى إليه، تعايش معه، وسمح له أن يعلّمه. لم يبقه صخرة يحملها فوق كتفيه، بل صليبا وجد عليه خلاصه. فقام، لا كمن ينهض من كبوة، بل كمن يولد من جديد حاملا جرحه كهدية للإنسانية، لا كعبء.

وهكذا، تحولت قصة زياد إلى رسالة ملهمة: أن الجراح حين تُحتضن تصبح هدايا، وأن الإنسان لا يُعرَف بجروحه، بل بما يفعل بها. ومن هذا الجرح خرج إبداعه صادقا، ناضجا، ورسالته خفيفة وعميقة.. تماما كما الحب.

المصدرالجزيرة

 

####

 

زياد الرحباني.. خاطب الوعي وانتقد الطائفية بأعماله الفنية

ملحن وكاتب ومؤلف مسرحي وعازف وصحفي وسياسي لبناني، وُلد في بيروت مطلع يناير/كانون الثاني 1956، وهو الابن البكر للفنانة فيروز. أبدى مبكرا موهبة استثنائية، وألّف أول كتبه بعنوان "صديقي الله" في سن الثالثة عشرة، ودخل عالم المسرح عام 1973 حين قدم أولى مسرحياته "سهرية" ولم يكن قد بلغ الـ17 بعد.

تميّز بأسلوبه الموسيقي المتفرّد الذي مزج بين الموسيقى الشرقية والجاز، وترك بصمته في الأغنية العربية المعاصرة عبر ألحان أبرزها "سألوني الناس" التي غنتها والدته. توفي يوم 26 يوليو/تموز 2025.

المولد والنشأة

وُلد زياد عاصي الرحباني في الأول من يناير/كانون الثاني 1956 في بلدة أنطلياس، الواقعة شمالي العاصمة بيروت.

نشأ في كنف أسرة فنية استثنائية، فوالدته هي نهاد رزق وديع المعروفة باسم فيروز إحدى أيقونات الغناء العربي، ووالده الملحن الراحل عاصي الرحباني، أحد أبرز أعمدة الموسيقى اللبنانية والعربية.

الدراسة والتكوين

تلقى زياد الرحباني تعليمه في مدارس فرنسية ببيروت المعروفة بانضباطها الأكاديمي وانفتاحها الثقافي، وتأثر بالفكر الفلسفي والنقدي الغربي، إلى جانب انغماسه في البيئة الفنية التي نشأ فيها.

منذ طفولته، أبدى شغفا بالموسيقى وبدأ العزف على البيانو تحت إشراف موسيقيين مقربين من والده وعمه.

كان يقضي ساعات يوميا في التمرين، مما مكنه من تطوير أسلوبه الخاص في التأليف والعزف. ورغم تجربته في العزف على العود والطبلة، مال لاحقا إلى الآلات الغربية مثل البيانو الرقمي والساكسوفون، متأثرا برواد الجاز والبلوز من مثل مايلز ديفيس وديف بروبك، واستلهم منهم أساليب في التوزيع والارتجال.

جمع زياد في تكوينه بين روح الموسيقى الشرقية وبنية الموسيقى الغربية، مما منحه هوية موسيقية فريدة مهدت لانطلاقته في عالم المسرح والموسيقى، بعيدا عن النمط الأكاديمي التقليدي.

التجربة المسرحية

لمع اسم زياد الرحباني في المسرح وهو لم يتجاوز الـ17 من عمره حين قدّم أولى مسرحياته "سهرية" عام 1973، والتي تميزت بمزيج من السخرية الحادة والنقد الاجتماعي والسياسي، وعكست واقع المواطن اللبناني بهمومه اليومية وتعقيداته المجتمعية. واستخدم في المسرحية لغة عامية قريبة من الناس، وهو ما رسّخ مكانته باعتباره صوتا نقديا جريئا ومختلفا في المسرح اللبناني.

تابع بعد ذلك إنتاج أعمال مسرحية بارزة، من بينها:

"نزل السرور" عام 1974: وهي مسرحية سياسية كوميدية تناولت الفوارق الطبقية عبر قصة عمال يستولون على مطعم شعبي، في سعيهم لتحقيق العدالة.

"فيلم أميركي طويل" عام 1980: جرت أحداثها في مستشفى للأمراض النفسية، وعكست أزمات لبنان  لطائفية والسياسية والاقتصادية في أوج الحرب الأهلية التي استمرت إلى حتى عام 1990.

"شي فاشل" عام 1983: قدم فيها نقدا لاذعا للواقع اللبناني بعد الحرب عبر حوارات تدور بين شخصيات منهكة في مقهى شعبي.

"بخصوص الكرامة والشعب العنيد" عام 1993: عاد فيها الرحباني إلى المسرح بعد غياب عشر سنوات، وتناولت بأسلوب ساخر مفاهيم الكرامة والوطن.

"لولا فسحة أمل" (1994): وهي مسرحية مكملة لسابقتها.

التجربة الموسيقية

لم تقتصر تجربة الرحباني على خشبة المسرح، بل امتدت إلى عالم الموسيقى وبرز فيه ملحنا موهوبا منذ بداياته. ففي العام نفسه الذي قدّم فيه أولى مسرحياته، لحّن أولى أغاني والدته فيروز "سألوني الناس"، وكانت بمثابة انطلاقة فعلية له في مجال التلحين.

ولاحقا، أصبح الرحباني أحد أبرز من جددوا في الأغنية الفيروزية الحديثة، عبر ألحان حملت بصمته الخاصة، ومزجت بين الإحساس الشرقي والأسلوب الغربي. ومن بين أشهر أعماله: "كيفك إنت"، "صباح ومساء"، "وعودك رنان"، و"بكتب اسمك يا حبيبي" التي أصبحت من كلاسيكيات أرشيف فيروز.

وإلى جانب الأغاني، خاض زياد تجربة الألبومات الموسيقية المستقلة، وأطلق عدة أعمال موسيقية مميزة منها:

"إلى عاصي" عام 1986: وهي تحية موسيقية مؤثرة أهداها إلى روح والده.

"أنا مش كافر" بين عامي 1995 و1996.

"مونودوز" عام 2001: وهي عمل موسيقي بالكامل بدون كلمات، وتميز بمزجه الفريد بين الموسيقى الشرقية وأنماط الجاز.

التجربة الصحفية

خاض الرحباني تجربته الصحفية في منتصف سبعينيات القرن الـ20، عبر كتاباته في "جريدة السفير" اللبنانية، إذ قدّم سلسلة مقالات ساخرة تحت عنوان "بالصميم"، تميزت بلغتها الشعبية القريبة من الناس، واعتمد فيها اللهجة اللبنانية العامية لنقد الواقع السياسي والاجتماعي بأسلوب لاذع ومباشر.

وفي عام 2006، انضم إلى "جريدة الأخبار" منذ انطلاقتها، وكتب فيها مقالات أسبوعية امتدت حتى عام 2014، مستفيدا من الخط التحريري اليساري للصحيفة، الذي انسجم مع رؤاه السياسية.

واتسم أسلوبه في المقالة بالحوار الداخلي (مونولوغ)، فقد كان يعالج القضايا اللبنانية والعربية من منظور نقدي شخصي، يمزج بين التهكم والأسى.

الوفاة

توفي زياد الرحباني يوم 26 يوليو/تموز 2025 عن عمر ناهز 69 عاما، بعد معاناة طويلة مع مرض تليف الكبد، وشارك الآلاف في تشييعه من أمام مستشفى "خوري" في بيروت.

كما رفع المشاركون في الجنازة العلم الفلسطيني وارتدوا الكوفيات، في إشارة إلى مواقف الرحباني المناصرة للقضية الفلسطينية، وظهرت ملصقات تجمع صورته مع الناشط اللبناني جورج عبد الله.

انطلق موكب تشييعه من بيروت إلى بلدة المحيدثة في قضاء المتن، وأقيمت مراسم الدفن في كنيسة "رقاد السيدة"، قبل أن يُوارى الثرى في مدافن العائلة.

نعاه عدد من المسؤولين اللبنانيين، بينهم رئيس الجمهورية جوزيف عون، الذي وصفه بـ"الضمير الحي"، ورئيس الحكومة نواف سلام الذي اعتبره رمزا فنيا وفكريا. كما أشاد به الأمين العام للحزب الشيوعي حنا غريب واصفا إياه بـ"الثائر الإنساني" الحالم بلبنان ديمقراطي بلا طائفية.

المصدرمواقع إلكترونية

 

الجزيرة نت القطرية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

زياد الذي فهم كل شيء باكراً... ودفع الثمن

لم يرحل زياد كما يرحل أي شخص آخر، بل تفكّك إلى بنية رمزية من بُنى المعنى فينا

سامي حداد

لم يرحل زياد كما يرحل أي شخص آخر، بل تفكّك إلى بنية رمزية من بُنى المعنى فينا.

تداعت طبقات من الأسئلة، والمرآة التي لطالما وضعها أمامنا بقسوة المحبّ وسخرية العارف... كسرت.

لم يكن زياد الرحباني فناناً، لم يرث الفن، بل سرقه من نوافذ الليل، وأعاد كتابته على طريقته، متلعثماً بالحب، ساخطاً على الوطن، ضاحكاً من كل ما يدعو للبكاء.

في عمر الطفولة كان يخطّ قصائد عن الله والعدالة والموت، لم يكن حتى فناناً فقط، بل شقاً كاملاً في جبين الوعي، شقاً فتحه بظفره على جدار الصمت اللبناني والعربي. كان مرآةً يرى فيها الناس وجوههم كما هي: مشرذمة، متناقضة، ضعيفة، عنيفة، ومليئة بالحنين الذي لم يعد ينقذ أحداً. كان مؤلفاً موسيقياً، كاتباً، ممثلاً، ناقداً سياسياً، ساخراً، عازفاً، لكنه في جوهره كان شيئاً أكبر من كل هذه العناوين: كان الصرخة التي خرجت من قلب المدينة ولم تصمت، كان كل هذا وضده.

زياد لم يكتب فقط، كان يفضح. تعلّم كل القسوة الممكنة في اللغة ليعيد بها بناء المعنى. لم يكن ساخراً ليمزح، بل ساخراً ليكسر، ليزعزع، ليكشف عفن الداخل. حمل الحرب على ظهره، عرفها بكل ضجيجها، دمها، فراغها، واستثمر وجعه ليكتب لبنانًا آخر، لبنانًا من وعيٍ مرير.

لقد فقد اللبنانيون آخر الذين قالوا الحقيقة بلا تزييف، بلا مساحيق، بلا أوهام التعايش. مات من لم يوفّر أحداً، ولا حتى نفسه. مات من قال يوماً: أنا إذا بموت، رح موت فقع من الفقد مش من المرض. كأنّه أعلن لنا مسبقاً أنّ موته ليس موت الجسد، بل موت الفقد، موت خيانة الحقيقة.

في عمله «صديقي الله »، كتب زياد مذكّراته ناهياً كل المعركة قبل أن تبدأ. صعد إلى سقف الكون، كان ذلك الكتاب ختماً فلسفياً لحياته، إعلان انسحاب من عالم لم يعد يستحق النقاش. ومذ ذاك، كل ما قال وفعل وكتب، كان تكراراً لتلك العبقرية، فدخل بعد «صديقي الله »، مرحلة ما بعد الحقيقة، مرحلة من لا يحتاج للشرح، صار هو الشرح نفسه.

كان ابن فيروز، وابن عاصي، لكنه لم يكن ظلّ أحدهما. خلق لنفسه درباً يقطر طيناً ودماً وسجائر ونكات سوداء. شرب السياسة حتى الثمالة، ثم بصقها على وجوه الذين يدّعون الطهارة - أنفسهم الذين نعوه بالأمس وذرفوا عليه دموع التماسيح-، بنى مسرحه على حطامنا الجماعي.

مسرح هو في ذاته وطن بديل. «نزل السرور» و «فيلم أميركي طويل» و«بالنسبة لبكرا شو؟» ليست عروضاً مسرحيّة، بل وثائق وجوديّة عن العبث اللبناني، عن الكوميديا السوداء للهوية، عن محنة العيش في وطن بلا ملامح.

لا يغرّنّكم صوته الهادئ، ونظراته الزجاجية، ولا حتى نكاته المحبوكة. كان زياد في صلبه كائناً فلسفياً، مدركاً للمأساة الكبرى: أن الإنسان لا يفهم، وإن فهم، لا يتغيّر. أدرك عبث هذا الشرق العالق بين سلطة

الطائفة وحلم التحرر، بين حنين للأم وخوف من الأب، بين الله الذي لا يردّ إلا بالحب، والناس الذين يردّون بالرصاص..

ابن فيروز وعاصي، ابن الحرب، وابن الخيبة، وابن نفسه أكثر من أي شيء عاش كما يريد، مات كما يجب. لم يطلب تقديساً، لانه ليس قديساً، بل إنسان كثيف جد. في أحياء بيروت، بين المتعبين والمجانين، علّمنا أن الصدق ليس نبرة ولا تصريحاً، بل نَفَسٌ طويل يعيش فيك، حتى يُتعبك. ترك لنا أعمالاً، نعم، لكنها ليست أرشيفاً فنياً بل خريطة وجود. كل لحن كتبه، كل جملة قالها، كل تنهيدة أطلقها من أمام الميكروفون، هي درس في فهم المأساة الإنسانية.

لم يكن مرآة تُرضي الآخر، بل مرآة تكسره.

مخلصاً فقط لحقيقته الداخلية، اختار الشك في زمن الشعار، في زمن الولاء، اختار العزلة، وفي زمن التصفيق، اختار أن يتثائب. لم يكن أحداً غير نفسه.

مات اذاً.

مات من عزف ما لا تستطيع آذاننا على تحمّله دائماً، مات وجع العمر الدائم نتيجة الوعي لحقيقة الأمور أكثر من وعي الحقيقة نفسها.

أأنعيك الآن؟ أم أنعي نفسي فيك؟ وكيف لنا أصلاً أن ننعي من علّمنا أن الفكر يمكن أن يُعزف، وأن الموسيقى يمكن أن تكون بياناً سياسياً، وأن السخرية هي في الحقيقة سلاح ثقيل؟ كيف يمكننا أن نودّع آخر نقطة توازن بين العبث والمعنى في هذا الشرق المنكوب بالحماقة والفقر والشعر الرديء؟

الموت، يا زياد، ليس أن تغيب.

بل أن تصمت الأسئلة.

أن لا يعود هناك من يحرج السلطة بنكتة،

أن لا يعيد أحد تعريف الوطن، في مسرحية، بموسيقى، بجملة.

أن ينقطع الجسر بيننا وبين حقيقتنا.

بين السخرية والمواجهة.

بين الحلم والفجيعة.

نم الآن، إنك تعبت منَّا، ونحن لم نكن يوماً على مستواك.

نم، لأن الأرض لم تعد تتسع، ولأن ضجيج هذا العالم لا يستحق صمتك.

نم، يا من كتب مذكّراته مع الله قبل أن ينسحب الله من المشهد ونتناسل نحن في الحماقة.

نم، فقد انتهى دورك بين أقزام لا يقرأون ولا يسمعون، ولا يرتجفون أمام جملة صادقة.

نم، لأنك كنت أمّة وحدك، وكانوا زحفًا من الفراغ.

نم، لأن وضوحك فضحنا أكثر مما احتملنا.

نم، يا من قلت كل شيء، ولم يأخذ عنك أحد شيئاً، قهقهت فوق خرابنا، وركلت أصنامنا، ورفضت أن تركع،

نم، فالزمن الآن بلا موسيقى، بلا كلمات،

نم كما كنتَ تنام في الاستوديو، ورأسك على البيانو، نم لا على فراش بل على صدر المعنى،

نم، فقد بلغت ذروة الحقيقة.

نم، فقد أكلت الحشرات ذرية العبقرية فينا.

نم، فقد انتهى الزمن، وما تبقّى ليس سوى حفلة انقراض يقودها حمقى.

نم يا رجلاً فهم كل شيء باكراً،

فدفع الثمن وحده.

 

####

 

«رولينغ ستون»: هيدي بس تحيّة

الأخبار

رسائل عديدة كتبها مبدعون وفنانون في ساحة الموسيقى البديلة لمحاولة الإحاطة بـ «الهوية الشاملة والمعقدة لهذه الأيقونة اللبنانية».

تخليداً لذكرى الراحل زياد الرحباني، طلبت مجلّة «رولينغ ستون مينا» من «عدد ممّن هم في مجالات الموسيقى والسياسة والنشاط الاجتماعي، كتابة رسائل حبّ بعباراتهم الخاصّة إلى هذا العبقري الموسيقي والظاهرة الثقافية»، وفق ما أعلن رئيس تحريرها داني حجّار، الذي روى بدوره عن إعجابه بالرحباني وأعماله.

كتب الرسائل كلّ من ياسين السلمان، وياسمين حمدان، وزيد حمدان، وليلى مخيبر، فيما اعتبر حجّار أنّ «جمع رسائل من مختلف الأوساط الإبداعية والسياسية تعكس شخصية زياد كفنّان ومحرّض سياسي وإنسان»، بالإضافة إلى «الهوية الشاملة والمعقدة لهذه الأيقونة اللبنانية».

 

####

 

على بالي

أسعد أبو خليل

كان هناك جنازتان لزياد الرحباني أمس في لبنان. واحدة في الحمراء في الصباح أمام المستشفى الذي رقدَ فيه جثّةً، وأخرى بعد الظهر في المحيدثة. في الحمراء، تجمّعَ رفاق زياد وأصدقاؤه الخلّص-هؤلاء الذين يشبهونه في كلّ شيء-. تجمّعَ في الحمراء القريبون من زياد. أمّا في المحيدثة، فكان جمْعٌ آخر ذكّرك ببيت شعر لنزار قبّاني عن جنازة عبد الناصر حين قال عن المُشيّعين: «وخنجره تحت ثوب الحِداد». في المحيدثة، كان هناك ميشال سليمان وأمين الجميّل وأفراد من الطبقة السياسيّة والإعلاميّة كتبَ فيهم زياد أقذع الهجاء. الحشد كان صغيراً نسبيّاً، خصوصاً لو عرفتَ أنّ معظم المتجمّعين كانوا من الإعلاميّين والفنانين (والحراس الشخصيّين والمرافقين لهؤلاء). كان هناك مشروع زياد رحباني الثوري في الإعلام، وهناك في المقابل المشروع السعودي-الإماراتي التطبيعي في الإعلام. هؤلاء كانوا المعزّين من الذين تصنّعوا الحزن والأسى على رجل لم يرحمهم في نقْده. حياة زياد وقيَمُه في تضادّ مع معظم الإعلاميّين والفنانين في لبنان. عندما ترى راغب علامة (مع فرقته من المُطبّلين والمرافقين على طريقة رجالات المافيا) وعندما ترى عتاة اليمينيّين والرجعيّين في وداع زياد، تفتّش عن الأسباب. هؤلاء لم يحزنوا على زياد أبداً. عواطف هؤلاء مكرّسة لوداع شيوخ النفط وأمرائه عندما يموتون. لعلّ هؤلاء ظهروا كي يشمتوا ويتأكدوا أنّ الرجل العظيم ماتَ ماتَ، حقّاً ماتَ. كيف تشعر عندما ترى مارسيل غانم يتحدّث عن زياد الرحباني؟ هذه كأنْ تسمع محمد بن راشد يحدّثكَ عن حريّة المرأة والحركة النسويّة. كان زياد، كما رثاه إميل لحوّد الأقرب إلى خطّه من بين كلّ الساسة، «نقيض الخضوع للأوامر الخارجيّة». إعلاميّون يسألون بأمر وأجرة لنسْف الخطّ الذي مثّله زياد لم يكن مكانهم في الجنازة أمس. والطقوس الدينيّة تُفرَض على المرء في لبنان، رغْماً عنه وبصرْف النظر عن معتقداته الشخصيّة (أوصيتُ شقيقتي على الفَور أمس بوجوب ابتعاد رجال الدين عن جثّتي - بعد موتي- لمسافة لا تقلّ عن ٤٠٠ ميلٍ).

 

الأخبار اللبنانية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

في وداع زياد، حضرت فيروز وغابت نهاد

حنان مبروك

زياد وأمه عاشا صراعا كبيرا بين جيلين لكنهما دائما يجدان نقطة التقاء تعيد الابن إلى حضن أمه وتعيد الأم إلى قمة الهرم الموسيقي.

مسحة حزن بلغت حد الصمت والسكون المطلق

"كل أم ما في عندا أعز من ولدا، بس فيروز كأمه لزياد هيدا شي عائلي إله معنى البيت مش معنى الفن.. أما رأي فيروز الفنانة بزياد الفنان هو إنه زياد عبقرية فنية آخذة ملامحها من رأي زياد بالحياة والإنسان والوطن والشعب".. "يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد، أهكذا كل ولد أم لم يلد مثلي أحد"، لم أجد أفضل من هذه الكلمات لأستهل بها مقالا موجزا عن رحيل الموسيقار اللبناني زياد الرحباني.

إنها كلمات قالتها إعرابية يوما، ووردت على لسان فيروز وهي تصف ابنها زياد. لم يكن وصفها له عند رحيله، بل هو في عز مجده الفني، المجد الذي أخفى وراءه شخصية فنان متمرد لن يتكرر مثله.

بعد غياب لسنوات، ظهرت "جارة القمر" بوقارها المعتاد، إنها سيدة من سيدات الفن في زمن كثرت فيه الجواري، حضرت فيروز وغابت نهاد، تغلبت الأيقونة على الأم، فصاحبة الصوت الملائكي الذي يشوبه الحزن منذ سنين، اعتلت وجهها مسحة حزن غريبة بلغت بها حد الصمت والسكون المطلق في جنازة ولدها.

أم بلغت من العمر تسعين عاما تودع ابنا بعمر التسعة والستين، تشاركا رحلة العائلة طوال عقود، لكنهما تشاركا أكثر رحلة الفن والإبداع والنجاح والشهرة والتحديات وحتى الفشل، ولأنه من ورث الفن من والده عاصي الرحباني، وأصر على التجديد في مسيرة والدته وإحداث نقلة نوعية في موسيقاها، فإنه بالتأكيد أكثر من شاركها جزءا كبيرا من روحها، هويتها، وشخصيتها الفنية.

لم تكن العلاقة بين الأم وابنها مستقرة، هي ككل علاقات الأمهات بأبنائهن، تحبه تارة وتغضب عليه تارة أخرى، مرة تعانده ومرة يعاندها، يختلفان، قد تفرض عليه ما تحب ويجبرها على ما يحب وتكره، يتخاصمان، فيطول الخصام، هكذا كان يؤكد زياد، فمرة افترقا لسنتين كاملتين، ثم عادا بهدوء، باتصال هاتفي ظل فيه كل واحد منهما صامتا حتى نطق الآخر فأسكت في الثاني عناده وكبرياءه.

عاش زياد وأمه صراعا كبيرا بين جيلين، صراعا عائليا وفنيا، لكنهما دائما يجدان نقطة التقاء، تعيد الابن إلى حضن أمه وتعيد الأم إلى قمة الهرم الموسيقي.

فنان متمرد، يحيا بالموسيقى والفن، أحب الحرية الفنية فعاشها حتى سئم منها وقال في آخر تصريحاته إنه "يا ريت ما كان الشغل حر لهالدرجة"، عمل كثيرا، نجح في حفر اسمه بعيدا عن تقليد أسلوب والده عاصي وعمه منصور، كان امتدادا لهما لكنه امتداد ثائر، فشل أيضا في أعمال كثيرة، فبعض مسرحياته لم تحقق ما أراده منها رغم أنها قالت كل ما يريد اللبنانيون أن يقولوه.

يقال إنه زاهد في الدنيا، كان يرفض حتى أن يستلم أجره عن المسرحيات، بل كلما احتاج مبلغا من المال طلب ما يحتاجه فقط. عاش قريبا من الناس رغم أنه ابن عائلة “ملكية” في الفن، وحين وفاته علم السبب. لقد ورث الابن عن أمه الكثير، فهي التي صدح صوتها لعقود، لزمت الصمت في جنازته وحافظت على وقارها.

لقد رأيت نهاد وهي سجينة لفيروز، لم تتحرر، لم تستطع أن تكون نهاد المرأة الطبيعية، بل اعتقلتها فيروز لتجبرها على أن تكون دائما في حجم الهالة الفنية. منذ غيابها فنيا لم تغادر فيروز ثوب "الست"، لم تركض خلف الأضواء، ولم ترضخ للعروض المالية المغرية القادمة من هنا وهناك، لمجرد لقاء أو كلمة أو ظهور إعلامي لثوان معدودة.

لقد صمدت كما صمد اللبنانيون، فالفنان الساخر، الذي وجه سهامه الحادة لكل نقطة خلل في الوطن، جمع اللبنانيين عند وفاته، اتحدت الطوائف على كلمة واحدة، “خسارتنا اليوم كبيرة”، ومن عاش ساخطا على السياسيين منح بعد أن رحل وسام الاستحقاق اللبناني الفضي ذا السعف، وساما وضع على نعشه، بدا كأنه اعتذار له، بأنه صرخ لعقود لكن لبنان لم يتغير فيه شيء.

صحافية تونسية

 

العرب اللندنية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

نصير شمّة:

فيروز علّمتنا الغناء...وتعلّمنا الآن صمت الوداع

المدن - ثقافة

في لحظةٍ تتقاطع فيها الأمومة بالفن، والوجع بالصمت، وقفت فيروز أمام نعش ابنها زياد. لم تكن تقف كرمز وطني أو صوت استثنائي، بل كأمٍّ مكسورة، ترى قطعة من قلبها توارى تحت تراب الحياة. مشهدها في الكنيسة لم يكن مجرد لقطة عابرة، بل صورة ستبقى محفورة في ذاكرة كل من يعرف معنى أن تفقد أمٌّ ولدها، ومعنى أن تودّع روحًا خلقت موسيقى من لحمها وأيامها وأحلامها.

فيروز، الصوت الذي رافق الأمهات في أفراحهنّ وأتراحهنّ، في صباحات المدارس وحنين المنافي، تقف اليوم صامتة، لا تنشد، بل تنصت إلى ما لم يُقل. صمتها أمام زياد، كان أشدّ من كل أناشيد العالم. كأنها كانت تقول: "ها هو الولد الذي لحّن وجعي بصوته، وأعادني إلى ذاتي حين نسيتني الحروب".

في لحظة الوداع، لا نستمع إلى "سألوني الناس"، بل نستعيدها من ذاكرتنا كأغنية وُلدت من أول تجرِبة فَقدٍ عاشتها الأم مع الابن. في تلك الأغنية، كتب زياد عن غياب الأب، ولحّن لصوت أمه ما لم يكن في مقدور صبيّ في الرابعة عشرة أن يعبّر عنه، لولا أن قلبه كان أكبر من عمره. واليوم، تغيب "سألوني الناس" مجددًا، لكن في الغياب الأبدي هذه المرة، لا الأب مسافر، ولا الابن يكتب… بل الرحيل هو اللحن الأخير.

زياد لم يكن فنانًا عاديًا. كان الساخر الذي كشف هشاشة السلطة بابتسامة، والمُجدد الذي كسّر القوالب بجملة موسيقية، والتلقائي الذي جعل العبث أداة من أدوات الوعي. لم يكن يهتم أن يُرضي، بل أن يُفكّر، أن يُثير، أن يوقظ النائمين. هو المبدع الذي أحبّ لبنان حتى في أكثر لحظاته قسوة، وانتقده كمن يعاتب قلبه.

وها هو اليوم يرحل، ويترك الوطن بلا موسيقاه، وأمّه بلا ظله.

إن مشهد فيروز في الكنيسة، لا يخصّها وحدها. لحظة شاملة، تمثل لسان حال كل أمٍّ في العالم فقدت إبنًا، مبدعًا، أو إنسانًا بسيطًا، أو حلمًا لم يكتمل. تمثّل كل أم دفنت قلبها ولم تجد الكلمات. الفرق الوحيد أن فيروز هي من علّمتنا الغناء، والآن تعلمنا الصمت.

أما زياد، فهو لا يذهب إلى الغياب الكامل. هو حيٌّ في اللحن الذي رفض التكرار، في توزيعٍ انحاز إلى الحقيقة، في مقطعٍ إذاعيّ قال فيه ما لم يجرؤ عليه سواه، وفي أغانٍ ستكون زاد أجيال مقبلة تبحث عن المعنى وسط ضجيج العالم.

فيروز اليوم ليست فقط أيقونة، بل هي أمّ نازفة بصمت. والنعش الذي ودّعته لم يكن نعشًا عاديًا، بل صندوقًا يحمل جملةً موسيقية لم تنتهِ، لكنها توقفت حيث بدأ الألم.

وهكذا… كما وُلِد زياد من رحم الفن، يرحل إليه.

وكما غنّت له فيروز في صغره، تصمت له في وداعه.

وهذا الصمت، هو أعلى صوتٍ يمكن أن يُقال.

في وداع زياد، يتجلّى أحد أعقد دروس الحب:

أن المحبة لا تحمينا من الفقد، بل تمنحه شكلاً أعمق.

فكلما كان الحب صافيًا، صار الغياب أوجع.

لكن في المقابل، كلما كان الحب صادقًا، بقي الغائب حاضرًا،

ليس بجسده، بل بصوته، بنوره، بما زرعه في قلوبنا من دهشة وحرية وجرأة على الحياة.

الحب لا يُختبر حين نلتقي، بل حين نُفارق.

في لحظة الفقد، نكتشف أن الحب ليس تملّكًا، بل استمرار.

وأن من نحبهم لا يرحلون فعلاً

بل يتوزّعون في تفاصيلنا: في نغمة، في جملة، في صمت، في دمعة لا تحتاج إلى تبرير.

وهكذا، علمتنا فيروز، دون أن تقول:

أن الحب لا ينتهي عند الموت،

بل يبدأ من جديد… فينا، بنا، ولنا.

(*) مدونة نشرها الموسيقي العراقي نصير شمّة في صفحته الفايسبوكية

 

المدن الإلكترونية في

30.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004