ملفات خاصة

 
 
 

زياد الرحباني والسينما:

ابتعادٌ عن التمثيل ومشاركة في الموسيقى

نديم جرجوره

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

لم يكن زياد الرحباني (1956 ـ 2025) ممثلاً تنجذب الكاميرا، السينمائية والتلفزيونية، إليه، بينما تأديته الأدوار الأولى في مسرحياته السبع (1973 ـ 1994) منبثقٌة من أنّ الشخصيات تلك تُشبهه تماماً صوتاً ونبرة وحركة، وسخرية أيضاً، كما يفعل في حياته اليومية. قول هذا لا ينتقص من أي قيمة فنية له في الموسيقى والأغنية وكتابة نصوصها، وفي مسرحياته، خاصة تلك المُنجزة في أعوام الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). فالقول واقعٌ معروفٌ، وسبب قلّة تمثيله السينمائي غير واضح نقدياً تماماً، فلعلّ عزوفه عنه منبثقٌ من عدم انجذابه هو إلى الشاشة الكبيرة.

أمّا "الاستماع" إلى تلك المسرحيات، عبر أشرطة "كاسيت" تُباع في أمكنةٍ، أو يتمّ الحصول عليها للتمتّع بها في المناطق الشرقية في تلك الفترة، فيؤكّد أنّ هناك إمكانية كبيرة للتفاعل معه باعتباره فناناً له موقف واضح في السياسة والاجتماع والثقافة والمسرح والفن، وشخصاً يُجيد نقل لغة الشارع، أي لغة الناس العاديين، إلى نصوص بالعاميّة تُصبح لازماتٍ أساسية في كلّ حوار بين لبنانيين ولبنانيات، وربما غيرهم أيضاً. والتفاعل المذكور غير مُحتاج إلى براعة تمثيل غير مُشاهَد غالباً، لذا، يغيب أيّ اكتراثٍ بالتمثيل كفنّ، فزياد الرحباني وحده كافٍ لإثارة متعةٍ وضحكٍ غير حاجِبَين تنبّهاً إلى شقاء اليومي، وبؤس العيش في بلدٍ ممزّق، زمن الحرب أولاً، وفترة السلم الأهلي الهشّ والناقص.

رغم ذلك، يتوق كثيرون وكثيرات إليه، في أي شكلٍ من أشكال الفنون التي يُتقنها بحِرفية وبراعة وجمال وسحرٍ يصنع (السحر) شغفاً به وبها. يُدرك هؤلاء أنّ الأهم في الرحباني كامنٌ في شخصه ونبرة صوته والكلام الذي يلتقطه من الناس أنفسهم، مُطوّراً لغة الشارع إلى نصٍّ حقيقي وصادق وشفّاف، وأقدر على قراءة راهنٍ، وانتقاد حالة، وتنبيهٍ إلى مسألة. لذا، يغيب التمثيل بصفته فنّاً، لأنّ الرحباني نفسه غير مكترثٍ بفنّ التمثيل، فشخصياته ـ التي يكتبها ثم يؤدّيها بعفوية تمنحها مصداقية أكبر، وواقعيّة أعمق، ونظرة أقدر على رؤية بعض المقبل قبل حدوثه ـ غير مُحتاجة إلى ذاك الفنّ كي تؤرّخ لحظة، وتوثّق انفعالاً، وتكتب، أو ربما تشارك في كتابة فصلٍ أساسي من تاريخ بلد ومجتمع وثقافة وحياة.

لعلّ ذلك يتأكّد أكثر في غيابه شبه التام عن السينما، التي تشهد، في زمني الحرب المعطّلة والسلم المرتبك، إنتاجاً وفيراً يصبّ في النوعين التجاري وغير التجاري. ابتعاد السينما عنه (أمْ أنّه هو المبتعد عنها؟) ربما يكون دليلاً على فقدان الجاذبية بين الفنان والكاميرا. أو ربما زياد نفسه غير راغبٍ في تمثيل أدوار وشخصيات يكتبها آخرون وأخريات، باستثناء فيلمي "نهلة" (1979) للجزائري فاروق بلوفة، و"طيّارة من ورق" (2003) للّبنانية رندة الشهّال، إضافة إلى تأديته دور طبيبٍ نفسيّ يُعالِج صحافية "تُعتَقل" في مشفى للاضطرابات النفسية، في "مجنون يحكي" (2013) للّبنانية لينا خوري. لكنّ مشاركته في "نهلة" تقتصر على ظهور قصير، مؤدّياً دور مؤلّف موسيقيّ يُشبهه كثيراً، بينما يمثّل في الثاني دور ضابطٍ إسرائيلي مُكلّف بمراقبة منطقة عبور بين إسرئيل ولبنان، ينتبه إلى هيام جنديّ في فرقته بصبيّة درزية، يُفرض عليها الزواج من قريب لها في الجانب المحتلّ من القرية الدرزية اللبنانية.

يصعب التوقّف طويلاً عند دوره في "نهلة"، إذْ يؤدّي شخصيته الحقيقية، أي فنان موسيقيّ، يُمرِّن نهلة (ياسمين خلاط) على أغنية جديدة. لكنّ فيلم بلوفة هذا مُثير للاهتمام بقراءته وقائع من الحرب الأهلية اللبنانية، بعينيّ صحافي جزائري (يوسف السايح) يأتي إلى بيروت ويُراقب أحوالها وأحوال ناسها بعد أعوام قليلة على اندلاع حربها. أهمية "نهلة" تُقابلها أهمية "طيّارة من ورق" في معاينة بصرية لأحوال أناسٍ يعانون احتلالاً وأهواله، ويلتزمون تقاليد متشدّدة في اجتماعهم وعلاقاتهم، من خلال المُراهِقة لميا (فلافيا بشارة). وزياد، بتأديته دور الضابط الإسرائيلي، غير فاقدٍ كلّياً سخريته المعتادة، لكنّ شخصيته تفرض حالات وتفكيراً ومشاعر أخرى. تمثيله هذا كأنّه تمرينٌ على ابتكار شخصية تختلف تماماً عن كلّ شخصياته المسرحية والإذاعية، ما يعني أنّ هناك فسحة له لتغيير مؤقّت.

لكنّ هذا غير مانعٍ زياد الرحباني من العمل للسينما، عبر تأليفه الموسيقى التصويرية لـ"نهلة" و"طيّارة من ورق"، كما لـ"عائدٌ إلى حيفا" (1982) للعراقي قاسم حَول، و"وقائع العام المقبل" (1985) للسوري سمير ذكرى، و"بيروت، الفيلم المنزلي الأخير" (1987، مع الموسيقيّ الأميركي ليني مايرز) للأميركية جينيفر فوكس، و"متحضرات" (1989) للشهّال، و"ظلال الصمت" (2006) للسعودي عبد الله المحسن، الذي يبتعد مع حَول وذكرى عن الحرب الأهلية اللبنانية، الحاضرة في الأفلام الأخرى. كأنّ الرحباني الموسيقيّ يختبر سينمائياً كيفية منح كلّ فيلمٍ ما يرغب في إضافته إليه، أي أنْ تكون موسيقاه مرآة أخرى عن تلك الحرب، العاجزة عن دفعه إلى الهجرة، فالحاصل أنّها (الحرب) تجعله يُصرّ على البقاء في بيروت الغربية، مراقباً تدهور أحوالها وأحوال البلد لاحقاً.

في موسيقاه التصويرية انعكاس طبيعي لرهافة اشتغاله، المتناقضة مع قسوة العنف البيروتي، والارتباك الفردي للتائه فيها، والخلل الانفعاليّ لذوات وتفكير. كأنّه، بقلّة الأفلام التي يؤلّف موسيقاها، يُشير إلى حيرة له أمام هذا الفن: ابتعادٌ عن التمثيل، ومشاركته في التأليف الموسيقي نوعٌ من تمرين إبداعي آخر.

 

####

 

رسالة إلى ولدي: "كيفك انتَ؟"

سما حسن

ولدي الحبيب:

أكتب لك صباح يوم مولدك، اليوم الذي كان مميّزاً في حياتي، رغم أنني أصبحت فيه أمّاً للمرة الثالثة، وكان قرار إنجابك المحاولة الثالثة لتحقيق الحلم أو الحياة مع كذبة أن من الممكن أن أستمرّ في دور المرأة التقليدي في مجتمع لا تزال تحكمه الذكورية، وقوامه إعلاء شأن الرجل. ولذلك، كنتَ ذاك الكائن الصغير الذي يموء في جواري فوق سرير مهترئ في مستشفىً حكومي، محاولتي الثالثة لكي أجد لي موضع قدم وسط عالم يتكلّم لغةً لا أجيدها، ولكنّك حين جئت وكبرت، عرفتُ أنك كما أطلقت عليك لاحقاً "البطّة السوداء"، التي ستنقذ الأمّ وباقي البطّات البيضاء الصغيرات الضعيفات، رغم أنني لم أكن يوماً البطّة الأمّ التي ترى بطتها السوداء مختلفة، فرغم أنك جئت ببشرتك الغامقة المحبّبة إلى قلبي، وجعلتني بعد أن كبرت أهيم حبّاً بسواد القهوة والشوكولاتة المرّة، إلا أنني لم أحاول التفرقة بينك وبين إخوتك، بل كنتَ (ولا تزال) الأقرب والأغلى، حتى إذا ما باعَدت بيننا الغربة، وأصبح اللقاء صعباً، صرت بالفعل الأغلى، حسبما أجاب حكيم قديماً، حين سُئل عن أعزّ أولاده فقال: "وغائبهم حتى يعود".

تذكّر، يا ولدي، كيف عشنا في غزّة التي ضاقت بأهلها بفعل الحصار، وكيف صرتَ تحلم بأن تبقى البطة السوداء المنقذة، فحملتَ متاعك القليل، وسافرت بعيداً من قلبي، ولم تنسَ قبل سفرك أن تجدّد العهد معي ومع إخوتك بأننا إمّا نموت معاً وإمّا نعيش معاً، وذكّرتني وأنت تحمل حقيبتك على ظهرك بقولك ضاغطاً على أسنانك، محذّراً: "تذكّري أننا كنّا وسنبقى في سفينة واحدة، وعليك أن تحافظي على الجميع".

اعلم، يا ولدي الحبيب، أنني بقيت على العهد حتى دقّت طبول الحرب المجنونة قبل نحو عامَين، وأصبح هاجس الفقد يلاحقني، وكنتُ كلّ ليلة، وأنا أحاول النوم فوق حشيّة مهترئةٍ على الأرض، أتذكّر وعدي لك. ولذلك، حرصتُ على ألا نفترق حتى ونحن ننزح من مكان إلى آخر، فلم أستمع إلى أيّ نصيحة بأن نقسّم أنفسنا كما كانت كثير من العائلات تفعل، فلم تخطر ببالي هذه الفكرة، لأنني عشت بكم ومعكم، وقد اعتدنا وعاهدنا أنفسنا على ألا نفترق، وأن نحاول ونجاهد، حتى نرفع شارة النجاة الأخيرة. وكما قلتُ لكم دوماً: "سننجح ذات يوم، وسنرفع شارة النجاة فوق أرضٍ غير الأرض".

اليوم يا ولدي تلفّنا (أنا وإخوتك) الغربة، وأنت غريب وبعيد منّي، وكنتُ أحسب أن خروجي من غزّة (بعد جهد مستميت)، حيث كانت تستعر نار الحرب، سيكون إلى القرب منك، ولكن وجدت نفسي مرّة أخرى محاصرةً وعالقةً، واكتشفت أن العالم الواسع يضيق بالفلسطيني أينما حلّ، وإلى حيث لا يمكنني أن أغادر صوبك لأضمّك إلى صدري وأتحسّس خصلات شعركَ يا ابن العمر والشقاء والدمع!

هل تعلم، يا ولدي، أنني كنتُ (ولا أزال) أمّاً تخاف الفقد، وكنت أكرّر دعاء أمّي ألا يجعل الرب ابتلائي بفقد أحدكم، فكانت أمّي تردّد: "يا رب ما أشرب حسرة واحد من أولادي"، فرحلتْ قبل أن يحدث ذلك. ولذلك، فأنا أتعذّب، يا ولدي، كلّما رأيت مشاهد الفقد والوداع للأبناء من أمّهاتهم الثكالى في غزّة، وأشعر بشعور لا يمكن وصفه، لأن فقد الابن، ومهما بلغت الأم من العمر، هو أكبر مصيبة قد تحلّ بها، ولذلك أيضاً فقد تخيّلتُ "جارة القمر"، وهي تناهز 90 عاماً، حين علمت بموت ابنها زياد (69 عاماً)، غنّت له أجمل وأبدع أغانيها " كيفك انتَ"، التي كنت أستمع إليها في صباحاتي الغزّية بعد سفرك، قبل أن يحلّ الموت والخراب في بلادنا وتطوينا الغربة جميعاً، فتُطلَّ عبر الفضاء الإلكتروني لتسألني كلّ يوم: "أمي كيفك"، فأرد على سؤالك بسؤال: "كيفك انتَ".

 

####

 

توزيع مسؤوليات عن فاجعة زياد الرحباني

أرنست خوري

ليس صحيحاً أن "الأسباب تعدّدت والموت واحد"، وإلا لكان المثل العربي أفتى بأن الحياة واحدة أيضاً كيفما عيشَت. فالموت، على حتميّته، أصناف، أكثرها تسبّباً بقهرٍ مجبول بحزن وغضب وشعور بالعجز، ذلك الذي يسهّله صاحبه أو يسرّعه نتيجة يأس وإحباط وقناعة بأنّه لم يعد من لزوم لتأخير الرحيل. بأنّه لم يعد من داعٍ للبقاء بضع سنوات إضافية مع أمراض الجسد والاكتئاب وفقدان الرغبة بفعل ما كان يحب فعله. بأنّ كل شيء ذهب سدى والعمر مرّ مزحةً كبيرة، وسط هؤلاء الناس الذين يسمّون جمهوراً ومريدين، في هذا البلد الذي قُدّر له قضاء العمر فيه بينما كانت عروض عمل مغرية تنتظره في ألمانيا وروسيا وغيرهما. هذا شيء مما يجعل من رحيل زياد الرحباني فاجعة لا موتاً ربما كان يتوقعه أن يأتي مبكراً شخصٌ مثله لا ينام أكثر من ساعتين في اليوم منذ تشكّل وعيه ولا يتّبع نمط حياة صحّياً. عقله يعمل حتى وهو نائم، ولا شيء عنده اسمه "صغّرها تصغر". يحمل رأساً مشغولاً بهموم شعوب وبلدان وعالم، مرهف المشاعر، فكيف لو أضيف إلى ما سبق أن السنوات الـ69 لهذا العبقري خلطة فواجع شخصية ــ عائلية ونضالات سياسية وحرب أهلية مديدة كان منخرطاً فيها حتى النخاع، وهزائم عالمية بما أن شواغل الرجل كانت أممية بالتعريف الشيوعي الحرفي الذي اعتنقه بعناد. ولمقتنع مع الفيلسوف الألماني شوبنهاور بكون الموسيقى "أرقى الفنون وجوهر الوجود" أن يردّ صمود زياد الرحباني كل هذه السنوات في هذا الدنيا إلى أنه كان موسيقياً، وأيّ موسيقي، أحد أعظم عظماء من ألّف ووزّع ولحّن في الشرقي والغربي.

إذاً، ليست المأساة موت زياد الرحباني، بل ملابسات الرحيل استسلاماً ويأساً وفقداناً لرغبة البقاء، بما جعله يقرّر التوقّف عن تناول الدواء، ويرفض زرع كبد. وحاملُ أملٍ بحجم كوكب مثله كان يُخشى عليه من يأس يأتي بوزن الخيبة أو مضاعفاً. سياسياً، وطنياً وعربياً وعالمياً، علامات "انتهاء كل شيء" بالنسبة إليه عبّر عنها في آخر مقابلات أجريت معه قبل انعزاله التام. الأقسى ربما كان سعيه إلى تعويض 15 سنة سُرقت منه ومن جيله، وهو عدد أعوام الحرب الأهلية اللبنانية، رغم أن السنوات تلك سجّلت أعظم أعماله في الموسيقى والمسرح والإذاعة والنقد الاجتماعي والسياسي، لكن ما تلاها كان من النوع الذي يطرح الشكوك بكل شيء، بالأفكار والقناعات والمشاريع الكبرى والطموحات.

في ظروف لبنانية وعربية وعالمية كالتي نعيش فيها وتابعها زياد الرحباني بتفاصيلها، كان بإمكان أمر واحد أن يُبقي أملاً عند شخص مثله مدمن على العمل: الإنتاج، وهنا تكمن المأساة ــ الفاجعة. فلمن لا يعرف، ما هو مطروح في "السوق" من أعمال زياد الرحباني، في الموسيقى أولاً ثم في المسرح، قد يكون أقل من إنتاجه الذي ظلّ ينتظر تمويلاً لطبعه في أسطوانات يشتريها البشر ليعتاش الموسيقي منها ويستمر في الإبداع. ورغم تعدّد أوجه إبداعه، ظلّ طموح زياد الرحباني أن يكون عازفاً ومؤلفاً موسيقياً في الكلاسيك الغربي والشرقي والجاز والبوسانوفا والبوب والتانغو وغيرها. أخذته السياسة إلى المسرح لأنه لم يُعثر على وسيلة تجعل الموسيقى تقول رسالة سياسية ـ اجتماعية، ولكن الرجل موسيقي أولاً وقبل أي شيء آخر، وموسيقي من جماعة "الموسيقى الصامتة"، الموسيقى لا الأغاني. وفي ذلك تقع مسؤولية عدم تقبّله كما أراد أن يكون من قبل جمهوره العريض، ذلك الذي كان زياد يشعر بقهر لا قاع له في كل مرة يصعد إلى الخشبة ليعزف رائعة من روائعه الموسيقية، فيلاحقه مريدون بطلب أغانٍ مثل عايشة وحدها بلاك وأنا مش كافر!

كثر يتحمّلون مسؤوليات عن استسلام زياد الرحباني ورحيله الانتحاري. حتى من يعتبرون أعماله مصدر الفرح الباقي في هذه الدنيا، وكاتب هذه السطور من بينهم، ربما لم يبذلوا جهداً كافياً لإقناعه بكم كان عظيماً. كثر منهم يأسهم وإحباطهم بحجم يأس زياد الرحباني وإحباطه، ولكن الشجاعة تنقصهم، شجاعة اتخاذ قرار كالذي مضى فيه وتركنا نثرثر عن الفاجعة.

 

العربي الجديد اللندنية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

"شو هالأيام اللي وصلنالا"… وما الأيام دون زياد الرحباني؟

المصدرالنهار - سارة الدّنف

المرمدة فارغة، والليل على حاله في عتاب دائمٍ، الّا أن رائحة الدخان ملازمة للأجواء، ففي الأفق، هناك من "يولّع كتير، وخلّص الكبريتة". فللصمت في لياليّ صوتك الدّائم، زياد، ولحن من أمل، أحتال على نفسي كي تصدّقه.

المرمدة فارغة، والليل على حاله في عتاب دائمٍ، الّا أن رائحة الدخان ملازمة للأجواء، ففي الأفق، هناك من "يولّع كتير، وخلّص الكبريتة". فللصمت في لياليّ صوتك الدّائم، زياد، ولحن من أمل، أحتال على نفسي كي تصدّقه.
أنت تعلم بلا ريب، كيف نحبّك. كلُّ بأنانية صراعاته، الّتي تتقن وحدك ترنيمها. ولنفسي، جعلتك الوهم الذي اتكأت عليه، يوم صدّقتك فأحببت الغربة، بجيب فارغ، و"بلا ولا شي". عندما قرّرت أن أكون الفتاة الـ"عايشة وحدا بلاه"، هو الذي لم ينوجد، أو غادر يوم غادرت أنت. وتلك الّتي تنتظر ببساطة، أن تتمادى في "استفزازه، كي يترجّاني"، و"يترّجى ربّي"… ويريدني

أرأيت؟ يصعب عليّ اكمال جملة دون اقتباس منك. لكنّني أردت أن أعطيك رغم ذلك، شيئاً من حزنٍ يخصّني. فهل سمعت رثائي الذي أرسلته لك عبر الأثير؟ أم أنّك مللت "الراديو" وثرثرته غير المجدية، فأَقفَلتَهُ، رغبةً بنسيان "جهنّم العسل" التي نعيش فيها؟ صارحني، هل كان الفقد من قتلك، كما قلت، فعاقَبتَنا به إلى الأبد؟ 

أفهمك، فأنا لا أملك بعد الآن ما أقوله "بخصوص الكرامة والشّعب العنيد"، لأنني مثلك، ومثل كثيرين، أصبحت على يقين أن هذا العصر ما عاد يليق بالمتمرّدين، ولا الكلمة الحرّة. فالكرامة، غيّرت مجراها، والشعب، يرثيك، من دون أن يفهمك، يسمعك، ولا يطبّق شيئاً ممّا تقول، "بيشرب قهوة هلقد" ولكن حتّى معك، وبعدك، لم "يصحصح".

هذا العصر الغريب، الذي شرّد أكثر من يشبهك الى بلاد المهرّج البرتقالي، وأرسلك أنت، الى "الجنّة أو جهنّم" ما بعرف، لأنّني "مش شايفة ولا وحدة من الاتنين"، لكنّني رأيتك أنتَ، رفيقاً لنضالي يوم حَسَمتُ أنني شيوعيّة، وفي ما بعد أغنية "عندك ثقة فيها"، أن تعبّر عن فوضاي، كلّما أردت، والرّفاق، لا يغادرون، بل يغيبون موقّتاً، مثل الأغاني.

لا أعلم صدقاً إن كنت قد رحلت بالفعل، أم أن "هذه المزحة" ستنتهي يوماً ما، لكنّني متأكدة أن جزءاً من ذكرياتنا لن يعود، وأن البلاد التي فُرِّغت من معانيها لم تعد تتسع لحدادٍ وطني يلائمك.
تَعِبْتَ، ومن حقّك أن تتعبَ من مكان لم يتغيّر منذ المرّة الأولى الّتي سألته فيها "بالنسبة لبكرا شو؟"، فهذا "البكرا" لم يتبدّل، حاله حال الكابوس الأميركي الطويل الّذي بات يسيطر على كل ما حولنا
.

أن تغادر هكذا بعد يوم من عودة جورج عبدالله… أليست هذه العدمية التّي تغار منك، فتتبنّى سخريتك بأقهر صورة؟ لم أرَ أوقح من هذه "المصادفة"، من قدرٍ يُثبت لي كلّ مرّة كم أنه هو الآخر متواطىء ضدّ الأمل. وإن كان ذلك فِعلَ "الهٍ"، له من خلفه حكمة، فبئس الحكمة، وبئس الحياة. وان رفضت أن تنعت نفسك بالكافر، ملصقاً الكفر بالجوع، فمن جهتي أنا، الّتي لم يعد "الله صديقها" منذ زمن، مستعدّة للكفر بكل الديانات التي تتيح لهذه البشاعة أن تستمر

أن يموت زياد، ولا تموت المجاعة؟ أن يموت زياد ولا تموت الطبقيّة؟ أن يموت زياد ولا تموت الطائفية؟ أن يموت زياد ولا يموت الاحتلال؟ لماذا؟ 

"لأنو السعادة محرّمة، والحرية وهم، والفرحة ما بحياتها بتكمل"…

كيف تكون اليسارية من دونك، لمن لم تعش دخّان الحمرا وتبغها مثلي؟ كيف يكون النّضال، والحب غير المشروط، والحلم، و"الصراحة، اللي بتجرح بس بتفيد"، في عالمٍ يسيطر عليه الكاذبون، والقَتَلة، والمجرمون، وعديمو الفنّ؟ من يجرؤ بعدك على تعرية الشاشات من زيفها، فـ"الليلة ليلتك"، وانتَ تقول ما يفكرون فيه، ويخذلهم ابتذالهم

"هيدي هي الأيام اللي وصلنالا"، أيام يستشري فيها الغني بتدمير الفقير، والمصاري، آخذة بالصعود والتمادي، أيام "بلا زهر بتلي الحقول"، لكن حنينها لك "مش معقول يزول"…

 

####

 

نبيّ اليسار

خرج ابن عاصي وفيروز من جلباب الرحابنة، لكنه لم ينكره. سخر من "الجرّة" و"القنطرة"، ونفخ في "أبو الزلف" روحاً جديدة

محمود فقيه - المصدرالنهار

نعش الأيقونة زياد الرحباني في كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة بكفيا في محافظة جبل لبنان (نبيل إسماعيل).

أرسى زياد الرحباني، قبل رحيله، مداميك جنّته على الأرض، لا في الفردوس الأعلى. جنّةٌ أقرب إلى الواقع، ذلك الواقع الذي لطالما حاول أن يُوقظ الناس على معالمه. هي جنة فيها أنهار من نوتاتٍ ونصوص ومشاهد مسرحية وأغانٍ وكلمات كالخمر، تسكر في تفاصيلها.

في جنة زياد، نساء خائنات، وفيّات، سارحات، غانيات ومحتشمات. على أرضه يكذب البشر كما كذب "عيّاش"، يتخاطبون، يتزوجون، ينجبون، يسافرون، ويعيشون الحياة كما هي. كلّ شيءٍ يبدو بسيطا ومفهوما، رغم عبقرية حياكته وتعقيد بنائه.

خرج ابن عاصي وفيروز من جلباب الرحابنة، لكنه لم ينكره. سخر من "الجرّة" و"القنطرة"، ونفخ في "أبو الزلف" روحاً جديدة، جعلت من القرية الرحبانية قرية لا جرّة فيها، ولا شلال من جفصين، هو مجرد ديكور خافت يحاولون إنارته، ولكن لا "لمبات".

زياد لم يهدم الموروث، بل فككه وأعاد تركيبه بلغة الناس، باليومي والواقعي والسّاخر.

حتى السيدة فيروز، نزلت عن عرش الأخوين عاصي ومنصور، وتجولت في الشوارع، تحدّثت مع الناس بكلماتهم، بأفكارهم، بمصطلحاتهم وتعابيرهم. جعل زياد من سفيرتنا إلى النجوم "الرفيقة فيروز"، التي رافقت "صبحي الجيز" وغنّت "يا ضيعانو".

ومن كان في ضفوف تياره رفيقة مثلها، فقد بلغ أسمى مراتب المجد. لم يكن ذلك عبثا، بل رؤية فنية متكاملة حرّكت الأسطورة من إطارها المقدّس إلى نبض الشارع.

وما بدا للبعض خفة ظل أو تهكما، كان في جوهره استشرافا أقرب إلى النبوءة. كلّ ما قاله زياد تحقّق، كأنّ كلماته رسمت خطّا زمنيّا لمسار حياتنا. لم ينزل عليه الوحي، لكنه امتلك رؤية حادّة، وقراءة ذكية للواقع وتحليلا لِما بين السطور.

ولهذا السبب، اعتبره اليساريون نبيّهم، صوتهم، وضميرهم الحيّ. لكنّ يسار زياد لم يكن كأي يسار، بل بدا مشروعا نقديًّا وفنيًّا متفرّدًا، تعدّت أبعاده حدود لبنان، فامتدّت إلى الشام، والرافدين، وشمال أفريقيا.

لم تُفتح له الأبواب لأنه ابن الرحابنة فقط، بل لأنه مبدعٌ عبقريٌ من طرازٍ خاص، استطاع أن يخترق جدران الحرب بالكلمة والنغمة والموقف. في زمن الانقسام العمودي، سار زياد أفقيًّا بين خطوط التماس والمناطق المحرّمة، رافعًا راية العقل وسط جنون الاقتتال.

كان صوته صوت العاقل في زمن الهياج، وكان حضوره فعل مقاومة فكرية وثقافية.

وهذا التحدي الذي مارسه في حياته، ظلّ يمارسه حتى بعد رحيله. فقد فرض على اليسار، وعلى الشيوعيين، أن يرافقوه إلى بكفيا، بكل رمزيتها، وأن يجلسوا في الصف نفسه مع الرئيس السابق أمين الجميّل. هذه المفارقة تختصر مسيرته، وتُترجم رسائله المبطّنة.

أتى زياد كالأنبياء إلى الشعب المسكين وعاش معهم وبينهم. سار معهم في شارع الحمرا، حتى لحظاته الأخيرة، وجمعهم في كنيسة صغيرة في المحيدثة ببكفيا.

لم يكن فنانا عابرا في لبنان، بل كان زلزالًا ثقافيًّا، وحدثًا لا يتكرّر. الموسيقار، المؤلف المسرحي، الكاتب، المحلل السياسي، والملهم... كلّ هذه الصفات اجتمعت في رجلٍ واحد، لم يحتج إلى ريشةٍ ليرسم الواقع، بل إلى كلمةٍ توازي ألف لون ولوحة.

وفي رحيله، لا نجد كلامًا يليق بختم الحديث عنه، إلا ما قاله هو يومًا لصبحي الجيز:

"رَفيق ما عندي رَفيق،

ورح يبقى إسمي رَفيق،

عم فتِّش عَ واحَد غيرَك،

عم فتِّش عَ واحَد متلَك،

يمشي.. يمشي بِمشي...

منِمْشي ومنكفّي الطريق".

 

####

 

شكران مرتجى لـ"النهار": زياد الرحباني... حرٌ جداً

أمين حمادة - المصدر: "النهار"

كان لدينا أمل بأن يعود إلينا بعمل يردّ لنا شيئاً من الروح، أو أن نرى السيدة فيروز على المسرح لا في جنازة ابنها.

فُجعت الفنانة الفلسطينية السورية شكران مرتجى بشكل شخصي بوفاة زياد الرحباني، من دون ألقاب كما يُحب أن يُدعى. كلماتها الصادقة حتى النخاع وبكاؤها الحار حتى الوجع، خلال اتصال "النهار" بها، يحملان جدولاً وجدانياً من العزاء، الموجّه لها، بدلاً من تلقيه، إذ تصفه بأنه "إنسان عصي على النسيان خارج كل تصنيف، تماماً كما أمه السيدة فيروز".

تقول بألم: "رحيل زياد الرحباني خسارة كبيرة لكل واحد منا، فهو لم يكن فناناً فقط، بل كان صوتاً للجميع،يحمل همومنا وآمالنا. كل واحد منا كان له شيء خاص مع زياد، شيء يربطه بهذا الرجل العظيم".

تسكت قليلاً لتعود في الذاكرة: "اللقاء الوحيد الذي جمعني به، كان في شارع الحمراء الذي يحبه، كان عبثياً مثله. كنت أشاهد عرضاً فنياً صغيراً في مقهى بالقرب من مسرح البيكاديللي، فرأيته بوجود صديقي الغالي والمقرّب منه طارق تميم، لأطلب منه وساطة الحديث مع زياد. تحدثت معه، عرّفت عن نفسي بأني شكران مرتجى فلسطينية سورية، فرح جداً حين عرف أنا من أين، لا أنا مَن، كان هذا الأهم، ثم سألني عن دمشق وأخبارها، كان ذلك في ذروة الحرب. قال (خلينا نلتقي)، لم أعرف كيف ومتى، لكنه قالها". وتضيف: "كنت أتمنى لو أنني كنت صديقته، لأتعلم منه الكثير عن الحياة، لو أنني عملت معه في المسرح، رغم معرفتي بأن هذا حلم لم يكن ممكن التحقق".

وتغوص مرتجى في مدى تأثير الراحل وفنّه بها: "ما قاله في أعماله الفنية، جعلني أرى الحياة بطريقة مختلفة، أفهم الفن بطريقة أعمق، وأزداد نضجاً. كان صوتاً للواقع، صوتاً للإنسانية. أعماله جعلتني أخرج من الحالة التي كوّنها الرحابنة، حالة السحر والضيعة والحب المثالي، والتي هي جميلة جداً حتماً، إلى الواقع. هزّني منذ سمعته للمرة الأولى، ما تغنيه السيدة فيروز هو ما نتمناه، ولكن ما قدّمه هو الحقيقة. أثره غير عادي، أثره إنساني بالدرجة الأولى، ثم فني ووجداني".

وتتابع: "رغم أننا لم نكن نراه كثيراً، فهو عوّدنا ذلك، كنا نشعر بالطمأنينة لمجرد الشعور بأنه موجود، وأننا سنراه في أي لحظة، في حديث يجعلنا نرتاح، أو يعبّر عنا، هناك أشياء هو أكثر جرأة بالحديث عنها، نحن لا نستطيع قولها رغم أننا فنانون، هو حر جداً. كنت أنتظره بشوق، كلما تأخر كنت أعرف أنه فقد الأمل، مثلما فقدناه نحن!  في داخلي كنت أعلم أنه حزين جداً أعتقد أننا جميعاً كنا حزينين للأسباب عينها".

وتتوجّه بالعزاء إلى كل من يحبه، ولبنان وسوريا وفلسطين: "أعلم محبته لهذه الأوطان، وأن أحد أسباب قهره هو ما جرى ويجري فيها، وخصوصاً غزة، شعوري يخبرني بأنه فارق الحياة قهراً قبل المرض".

وتختم رغم محاولتها لجم الحزن والعبرة: "كان لدينا أمل بأن يعود إلينا بعمل يردّ لنا شيئاً من الروح، أو أن نرى السيدة فيروز على المسرح لا في جنازة ابنها. الرحابنة ربونا كما أهلنا، شكلوا جزءاً كبيراً من ذاكرتنا وذكرياتنا، وزياد تحديداً الذي استوعبناه في حالة النضج، هو مدرسة بكل شيء، يجعلك تبتسم بوجود الدمعة في العينين، أو تبكي بحضور الضحكة على الثغر، حالة لا تتكرر".

 

####

 

وائل شرف لـ"النهار":

زياد الرحباني خسارة لسوريا والمظلومين

هذا قهر ما بعده قهر!

أمين حمادة - المصدر: "النهار"

الفكرة الأولى التي تخطر على بال الفنان السوري وائل شرف حين علمه برحيل زياد الرحباني، بكل ما يعنيه الإسم واللقب، أنه ذهب إلى مكان أفضل، خارج كل ما كرهه في حياته.

يقول في اتصال لـ "النهار" كان لا بد منه، فهو أيضاً فنان خارج الصندوق بتميز: "في الزمان، حين كنا صغاراً، حين كان الحب حباً، والعشق عشقاً، حين كان المطر يهبط على الأرض فتفوح رائحة التراب، حين كان شريط الكاسيت جزءاً كبيراً من حياتنا، حين كانت المسرحيات تُشاهد وتُفهم وتُسمع، حين كان الزمن زمن العبق، حين كان الزمن العتيق، حين كان كل شيء جميلاً، هناك كان زياد الرحباني".

ويضيف: "رحم الله الفنان زياد الرحباني، لقد كان فناناً حقيقياً ومبدعاً، ترك بصمة كبيرة على مستويات كثيرة وتفاصيل كبرى من حولنا. قد لا تعبر الكلبمات عن الفَقد".

ويشعر شرف رعم محاولته إخفاء حزنه البالغ علّه يظهر عادياً، أنه "من سنن الحياة الأكثر قهراً، أن يدفن الابن أباه، وهذا حق لأن الموت حق. ولكن ما يقهر حتى اكثر، هو أن يدفن الأب أو الأم الابن، هذا عادة خارج عن طبيعة سير الأمور، هذا قهر ما بعده قهر! فكيف إذا كانت هذه الأم هي فيروز بكل ما تعنيه من خلود، وهذا الابن هو زياد الرحباني الاسثنائي، وفنان حقيقي، إحدى الماسات النادرة في عالمنا العربي، بكل ما قدمه، من التغيير الذي احدثه في عالم موسيقى الجاز وإدخاله إلى الموسيقى العربية والفن العربي".

ويشير النجم العربي إلى أكثر ما لمسه في مسيرة الراحل: "غير عادي أيضاً بالثورة الحقيقية الموجودة داخله ضد الظلم، والتي هي واحدة من أهم الثورات الفعلية، أن يحمل الإنسان داخله شعلة ثورة ضد الظلم، وأن يشعر هذا الفنان الحقيقي بالفقراء و"المعترين في هذه الأرض"، فيتكلم بلسانهم كواحد منهم لا كممثل عنهم، وهذا ما أتى به الأنبياء!".

ويتابع: "زياد الرحباني شعلة وكتلة من الفن، فقدناه، ولكني مؤمن تماماً بأنه رحل إلى مكان أفضل، لعل هذا ما يعزّيني قليلاً. وللمفارقة، كنت أستمع يومياً مدى الأسبوعين الأخيرين، إلى موسيقى "ميس الريم" التي ألّفها، ما هذه الموسيقى الرائعة، ما أروع كل ما قدمه".

ويختم وائل شرف بقوله: "زياد الرحباني خسارة كبرى للجميع للفن و(المعترين، ونشعر في سوريا أيضاً أنه خسارة لنا تحديداً، زياد الرحباني خسارة لسوريا. والأن... (بالنسبة لبكرا شو)؟ سيظل زياد الرحباني الأيقونة بكل ما فعله وما قدمه، سيظل أيقونة حاضرة".

 

النهار اللبنانية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني.. موسيقى تمشي على حواف الجراح

كتبت ياسمين عبدالرسول

في بيتٍ يعجّ بالفن والمسرح، وُلد زياد الرحباني عام 1956، للسيدة فيروز والراحل عاصي الرحباني. لم يكن مجرد امتداد لسلالة موسيقية عظيمة، بل كان تمردًا عليها أيضًا. عرف طريقه إلى البيانو قبل أن يعرف طريقه إلى المدرسة، وكتب أولى مسرحياته وهو في عمر العشرين.

خرج من عباءة الوريث للمجد العائلي؛ ليصبح مشروعًا مختلفًا تمامًا، صوتًا غريبًا في أوركسترا مألوفة، لا يشبه أحدًا، ولا يريد أن يُشبهه أحد.

زياد الوجه الآخر لبيروت.. بيروت الساخطة، الساخرة، المنهكة من الحرب، والباحثة عن معنى. لم تغره النجومية، بل اختار أن يكتب عن البسطاء، عن الفقراء، عن الحب المكسور، والسياسة المهترئة. فكان مؤمنًا بأن الفن يجب أن يزعج لا أن يجمّل، أن يُقاوم لا أن يُصفّق.

"سألوني الناس".. أول نغمة

في عام 1973 خرجت أولى ألحان زياد للجمهور وهو في السابعة عشرة من عمره، ليعلن عن ميلاد موهبة موسيقية ساحرة، فكانت "سألوني الناس" هي أول ألحانه التي غنتها فيروز عام 1973، في غياب عاصي إثر وعكة صحية.

جاءت الأغنية محمّلة بالشجن، واللحن يحمل ما يكفي من الحساسية ليتسائل الجميع بدهشة: من هذا الصغير الذي يكتب بهذا النضج؟

الخشبة التي تحكي الحرب

لم يكتفِ زياد بكونه ملحّنًا شابًا، سرعان ما دخل المسرح، والكتابة الساخرة، والسياسة، والاشتباك مع الشأن العام. كانت مسرحيات زياد السياسية/الكوميدية كـ "نزل السرور"، "بالنسبة لبكرا شو"، "فيلم أميركي طويل"، و"شي فاشل"، بمثابة نشرة أخبار بديلة. عَبر بشخصيات مسحوقة، ومواقف يومية، وشتائم لاذعة، عن مزاج الشارع اللبناني، لا كما يريد الإعلام، بل كلسان حال الشعب. فمسرح زياد الرحباني لم يكن فقط عرضًا فنيًا، بل تفريغًا جماعيًا من القهر، ومُساءلة مفتوحة للنظام، والطائفية، والفساد، والتاريخ.

اليسار، السياسة، والخروج من الحلم

لم يتردد في الاعتراف بانكساراته السياسية، بل وبخيبة أمله في كثير ممن كان يُعلّق عليهم آمالًا. وبهذا، ظلّ صوته مستقلًا، متمرّدًا، ورافضًا للتصنيف

على الرغم من انتماء زياد للتيار اليساري، إلا انه لم يتبنى فصيل بعينه ليكون بطل لأعماله، بل انخرط في التعبير عن القضايا العمالية والفقر والتفاوت الطبقي. فكتب للإذاعة، وتحدث عن "المناضل المهزوم" كما لم يفعل أحد، لكنّه ظلّ ساخرًا من كل شيء، حتى من اليسار نفسه..

الحبّ في حياة زياد.. بين الهروب والاعتراف

لم يكن زياد يومًا رومانسيًا بالمعنى التقليدي، لكنه كان عاشقًا بشراسة. فكتب "البوسطة" وهو في عمر الرابعة عشرة ليوثق حبه الخفي لمحبوبته ليلى التي استعاض عن اسمها بعالية.

في مطلع شبابه تزوج من الصحفية "دلال كرم"، وأنجب منها ابنه "عاصي"، ثم انفصلا، وجمعته قصة حب طويلة بالنجمة "كارمن لبّس"، فكتب لها "بلا ولا شي" و " بنص الجو" وغيرها من الأغنيات التي وثقت عنفوان هذا الحب.

فشل زياد في قصصه العاطفية لم يمنعه عن كتابة أغنيات الحب، فكانت دومًا تحمل حنينًا من نوع خاص، وكأنها موجهة لحب خسره سلفًا. يقول في إحدى مقابلاته: "أنا مش ضد الحب، بس الحب ضدّي غالبًا".

قصص الحب في حياته ظلّت حاضرة في أعماله، خاصة حين يتحدث عن العجز، عن اللقاء، أو عن العتاب الطويل الذي لا يجد طريقه للنهاية. ويمكن القول إن الحب عند زياد كان مشاغبًا، عكس ما تربّى عليه جمهوره من رومانسية فيروزية.

خلافه مع فيروز.. صمت يبوح بالكثير

منذ أوائل التسعينات، بدأت الخلافات تطفو إلى السطح بين زياد ووالدته، كان الخلاف شخصيًا وفنيًا في آنٍ واحد. انتقاد زياد لبعض خيارات فيروز كان الشرارة التي أشعلت نيران الخلاف، حيث اعتبر أن ما تُغنيه فيروز لا يُشبه العصر، بينما هي تمسكت بمسارها الكلاسيكي، ورفضت بعض ألحانه ذات الطابع الغربي أو السياسي.

عندما تجاوزت علاقة زياد الرحباني بلبنان والخروج المفاجئ للزواج، التقى بفي‍روز مصادفة، فسألته ببراءة:
"
كيفك إنت؟ عم بيقولوا صار عندك ولاد، وأنا والله كنت مفكرتك براة البلاد." شكّلت الشرارة التي أثرت لاحقًا أغنية تحمل طابع الحنين والمواجهة المنصفة بين الأم وابنها
.

بعد سنوات من التردد، أخفى زياد الأغنية في أدراجه لأكثر من أربع سنوات، قبل أن يقنع فيروز بها، رغم تحفظاتها الأولية. سألت بصراحة: "هيدي شو بدنا نعمل فيها؟" لكنه أصرّ، وفي النهاية غنتها السيدة فيروز عام 1991 ضمن أغنيات ألبوم يحمل اسمها.

"كيفك إنت" لم تكن مجرد عمل موسيقي، بل رسالة مزدوجة: للابن، للأم، وللبنان. بنغماتها الحزينة ومفرداتها العاطفية، بدت كأنها صدى لجفاء مضمر، ومصالحة موعودة لا تُعلن.

كما تُعد تحولًا لافتًا في المشهد الفني الرحباني، حيث خَلَت الموسيقى من الأساطير، وحملت الحقيقة على لسان امرأة تحزم جعبتها من الأسى والعتاب، لكن رغم النجاح الجماهيري الكبير، إذ بيعت بنسخ كثيرة وحققت انتشارًا واسعًا، بقيت الأغنية من أهم نقاط التوتر الفني بين زياد ووالدته. حيث جاءت بمثابة النقطة فاصلة في علاقتهما.

موسيقاه بـ أصوات أخرى

رغم ارتباط اسمه الدائم بفيروز، فإنّ زياد لحّن لعددٍ كبير من المطربين, حيث لحّن لـ جوزيف صقر صديقه وشريكه الفني الأقرب، وأعاد تقديم الفنانة التونسية لطيفة بـ ألبوم غنائي ذو تيمة موسيقية مختلفة قدمت صوت لطيفة من زاويا غير التي اعتادها الجمهور. تميز زياد الرحباني بموسيقاه المتنوعة بين الجاز، والموسيقى الشرقية، والتجريب. وحتى في أكثر ألحانه بساطة، كان يحمل توقيعه المميز: نصف ابتسامة، ونصف ناي حزين.

الغياب الطويل.. والحضور المستمر

في السنوات الأخيرة، ابتعد زياد عن الأضواء. لم يُصدر ألبومات جديدة، وقلّ ظهوره الإعلامي، لكنه ظلّ حاضرًا في الذاكرة. أعماله المسرحية يُعاد بثّها، تسجيلاته النادرة تُتداول على نطاق واسع، وكلماته يُستشهد بها كأنها من كتاب مقدّس للواقعية الساخرة.

ابتعاده لم يكن انسحابًا، بل احتجاجًا أخيرًا من فنان رفض أن يكون جزءًا من مهرجانات التصفيق، أو أيقونة تُستَهلَك فقط. كان يكرّر: "أنا مش نجم، وما بدي كون نجم".

وداعًا يا زياد..

عندما يُذكر زياد الرحباني، لا يُذكر كملحّن فقط، ولا ككاتب ساخر، بل كظاهرة. رجلٌ حمل على كتفيه إرثًا هائلًا، لكنه اختار أن يسير وحده في الاتجاه المعاكس. كان يحلم بوطن عادل، وبفنّ يقول الحقيقة بعيدًا عن التجميل. ورغم خذلان الوطن، لم يخن فنه.

زياد الرحباني الفنان الفيلسوف، ربما لم يُنصفه الزمن، ولا الصحافة، ولا حتى بعض أفراد عائلته. لكنّه، دون شك، أنصف نفسه أمام مرآة الخلود.

 

النهار المصرية في

30.07.2025

 
 
 
 
 

السؤال لزياد الرحباني.. بالنسبة لبكرا شو ؟

علا رضوان

زياد الرحباني،  فنان لبناني استثنائي، لم يكن مجرد مؤلف موسيقي أو ملحن، بل كان صوت جيل بأكمله، ومُعبّرًا عن نبض الشارع اللبناني بكل تناقضاته وأحلامه. ثورته تجلت  في أعماله تلك الروح الثائرة التي لم تخشَ كسر القواعد، والتعبير عن أعمق المشاعر بصدقٍ وجرأة.

زياد تأثر بكل التناقضات التي بحياته من كونه ابن قيثارة السماء  وعائلة فنية تتوارث الفن كما توارثت التفكك والخلافات والعنف أحيانا، بدأت مسيرة زياد الفنية في فترة السبعينيات، متأثرًا بكل مامرت به لبنان من طائفية وحروب وانقسامات . لكن وجد في فنه وصوت فيروز العزاء  كيف وهي  كانت المخلص ومصدر إلهام لا ينضب لكل العرب  . لم تكن مجرد أم، بل كانت أيقونة فنية صقلت ذائقته الموسيقية وفتحت له أبواب التجريب.

من أولى أعماله البارزة التي حملت توقيعه الخاص، مسرحية "سهرية" التي قُدمت عام 1973، تلاها "نزل السرور" في 1974. هذه الأعمال لم تكن مجرد بدايات، بل كانت إعلاناً عن ميلاد فنان يمزج الكوميديا السوداء بالنقد الاجتماعي الحاد، ويصوغها في قالب موسيقي فريد يجمع بين النغم الشرقي الأصيل والإيقاعات الغربية الجازية. ألحانه لـ"يا مهنا" و"البوسطة" لفيروز، حملت في طياتها روحًا شبابية متجددة، وأظهرت قدرته على فهم صوت والدته وتطويعه ليعبر عن قضايا جيله.

لبنان، الحب، والفقد ، الجرح ، منابع الإلهام.

لم يكن لبنان مجرد مكان لزياد، بل كان جزءًا من روحه، يتنفسه في كل أغنية وكل نص. عبر عن عشقه لوطنه بمرارة وحب في آن واحد، انتقد فيه الفساد والظلم، وحلم بوطن أفضل. هذا الشعور العميق بالانتماء، ممزوجًا بمشاعر الحزن التي رافقته، خاصة بعد فقدان والده عاصي الرحباني، غذى إبداعه وأضفى عليه طابعًا إنسانيًا عميقًا. ألبومات مثل "بالنسبة لبكرا شو؟" و"أنا مش كافر" لم تكن مجرد أغاني، بل كانت مرايا تعكس الواقع اللبناني في أصعب مراحله، وتترجم حالة الفقد والألم التي عاشها هو والكثيرون.

أعمال متأخرة وتأثير خالد

مع مرور السنين، استمر زياد الرحباني في عطائه الفني، وإن كان بوتيرة أقل. أعماله المتأخرة حملت نفس البصمة الجريئة، لكنها عكست نضوجًا فكريًا وفنيًا أعمق. لم يتخلَ عن نقده اللاذع والكوميدي في نفس الوقت للمجتمع والسياسة، لكنه قدمه بقالب أكثر هدوءًا وتأملًا. استمر في تقديم الحفلات الموسيقية، وظهر في حوارات قليلة كانت كل منها بمثابة بصيص ضوء يكشف عن فكره وثقافته الواسعة. أعماله، سواء كانت مسرحيات، أغاني منفردة، أو مقطوعات موسيقية، لم تفقد بريقها، بل أصبحت تُدرّس وتُحلل في الأوساط الأكاديمية والفنية، مؤكدة على مكانته كفنان تجاوز حدود الزمان والمكان. إرث زياد الرحباني هو شهادة حية على قوة الفن في التعبير عن الذات والوطن، وفي لمس أرواح البشر بعمق لا يُضاهى.

في النهاية نعزي انفسنا بأيمان ان الموت يعلن هزيمته دائما

امام روح ثائرة اودعت صرختها في وتر ولحن واغنية تطرب

 

####

 

الناقدة اللبنانية رحاب ضاهر تكتب:

ثواني بين يدي فيروز

 "رأيتُ فيروز". أكتب الجملة الآن وأرتجف، كما ارتجفت حين وقفتُ وجهًا لوجه أمامها في عزاء ابنها زياد. مثل كثيرين غيري ، كنت أتخيل أن فيروز مخلوق من نور ونجوم، أسطورة لا تهبط إلى الأرض… إلا ليلًا، وفي الليالي المقمرة فقط. كان وجودها بالنسبة إليّ دائمًا بعيدًا، مُعلَّقًا فوق مدارٍ من أضواء مبهمة، أشبه بسماء نستمع إليها ولا نراها.

قالت لي صديقتي  ميشا مخول: "شفتها… شفتها". لم تنطق بالاسم.

صرخت " مين شفتي ؟"  لم تنطق بالاسم. قالت " هي هي ". وكأننا معًا لا نجرؤ على قول اسمها.  كررت السؤال "شفتيها هي…هي؟!". ردّت وهي تهزّ رأسها: "إيه، شُفتها وحكيت معاها". لكنها لم تقل "فيروز"، وكأننا  لا نصدّق أن فيروز تجلس لتقبَل العزاء، أن فيروز بكل أسطوريتها، على بعد خطوات من الأرض.

دخلتُ صالون الكنيسة، أتهيأ لمواجهة لحظة لا أعرف إن كنت أحتملها. لحظة سأقف فيها أمام فيروز، أسطورتي. هل كنت أتصوّر أن المسافة بيني وبينها ستكون خطوة؟ أقل من خطوة؟ هل كنت أتصوّر أن أقترب منها إلى هذا الحد؟

وقفت أمامها. شعرت برهبة لا تشبه أي شعور آخر، وخشيت أن يخرج صوتي متعرّجًا، متذبذبًا، قبل أن يصل إليها. كانت هناك، فيروز، بكامل حزنها المهيب، ترتدي سوادًا أكثر من الحداد ذاته، تضع طرحتها السوداء على شعرها، ترتدي نظارتها، وتجلس على كرسيّ متواضع. لكن الهيبة التي ملأت المكان فاقت هيبة الملوك والسلاطين… هيبة لا يمكن تحديدها أو وصفها أو حتى تسميتها.

أنا بين يدي فيروز”… هكذا قلت في سري. وكأني أدخل مقامًا لأتلو صلوات. فيروز في حزنها المهيب، في شموخها وتواضعها معًا.

اقتربت، وتمتمت بكلمات عزاء لا أعلم كيف لم يتكسّر صوتي فيها. و أنا أمامها، شعرت برغبة أن أركع عند قدميها، أن أقبّل يدها. ثم راودني صوت داخلي: “لا… دَعيها تظل أسطورتك، دعها تبقى فوق اللمس”.

وما زاد من رغبتي في ألا ألمسها أنني حين رأيتها عن قرب، كان بياض بشرتها صاعقًا  وناصعا . للحظة ظننت أنّ خيالي يبالغ، أنني أرى هالة من نور تحيطها. سألت زملائي بصوت هامس: "هي فعلًا بيضاء البشرة هكذا؟ أم أن عيوني تتوهّم وأن الخيال يتداخل مع الحقيقة؟" فأكدوا لي أنهم أيضًا صُدموا من بياض بشرتها النوراني، بياض ناصع كوقارها، مثل دموعها التي كانت تمسحها برفق، وأنا أقرأ في إيماءة رأسها ألف كلمة لا تُقال. وكنت أتساءل: هل تشعر بكل هذا الحب والمشاعر التي نرسلها إليها؟

قد يظن البعض أنني أبالغ، أنني أرفعها إلى مصافّ الآلهة. لكن الأمر ليس كذلك. نحن جيلٌ نشأ وفيروز في بيوتنا أكثر من صلاة يومية. فيروز لم تكن صوتًا فقط. كانت سماءً "ثامنة"، كانت مجرّة بعيدة نحيا فيها. من صغرنا ونحن نراها مخلوقة من ضوء النجوم ومن وجه القمر ، من وهج الشمس، من عذوبة الأنهار وغموض البحار. وحين نسمع صوتها، لا يدخل أذننا أولاً، بل يتسلل إلى أرواحنا وأحلامنا وخلايانا… إلى الـDNA الخاص بنا.

رحل زياد… زياد الذي أنزل فيروز من عليائها قليلًا حين جعلها تغني : "كان غير شكل الزيتون". رحل زياد، وجعلها تتجلّى أمامنا، جعلنا نلتقيها وجهًا لوجه. ، نلتقيها  للحظة عاجزون فيها عن أن نواسي حرقة قلبها، وعاجزون أكثر عن كبح الرجفة في قلوبنا والقشعريرة في أجسادنا.

لحظة سنظل نرتجف ونحن نستعيدها، لأننا لمسنا الحلم، لأننا لمسنا فيروز بأم العين

هكذا كانت الثواني القصيرة بين يدي مولاتي فيروز: رهبة وانتعاش في القلب، وخيط ضوء في الروح لا ينطفئ.
رحم الله زياد الرحباني ابن فيروز

 

اليوم السابع المصرية في

30.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004