ملفات خاصة

 
 
 

زياد الرحباني الذي جلس على الزمن!

عصام زكريا

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

آه لو كان الكلام كالخبز يُشرى

فلا يستطيع أحد أن يتكلم

إلا إذا اشترى كلامًا(*)

الكلام عن الموسيقى أصعب استخدام للغة. وصف الشعر أو الأدب أو السينما ليس سهلًا؛ ولكن من المستحيل وصف الموسيقى، التي تبدو وكأنها ظاهرة تعود إلى المرحلة الأولى من نمو الإنسان، منذ أن يتكوَّن جنينًا؛ حين يبدأ في الاستماع إلى رتمِ نبض أمه مع الأصوات القادمة من الخارج، وحتى الشهور الأولى من عمره، قبل دخوله في مرحلة اللغة، الرمزية، حسب جاك لاكان.

أتخيل أن الناس في الجنة سيتحدثون بالموسيقى. بالتأكيد، فالكلام لن يكون له معنى، ولا التصوير أو الرسم، ولن يحتاج المرء إلى تأويل شيء أو محاولة فهمه، أو البحث عن الكلمات المناسبة لوصفه. كل شيء سيكون واضحًا ونقيًا، ولن يكون أفضل من الموسيقى للتعبير عن أي شعور أو فكرة.

جاء زياد الرحباني، نطفةً ثم جنينًا ثم طفلًا، في بحر من الموسيقى. أتخيله أحيانًا مثل شخصية 1900 في فيلم جوزيبي تورناتوري البديع أسطورة 1900؛ ذلك الطفل الذي يولد فوق بيانو على متن سفينة وحين يجرب أن يهبط إلى البر يُحبط، ويعود مرة أخرى إلى البحر. مُدهشٌ الشبه بين زياد وتيم روث، بطل الفيلم، حين تراه مُنكبًّا على البيانو، مستغرقًا في العزف.

في هذا الوضع الجنيني نوع من العودة الرمزية إلى البحر/الرحم/الأم، أو بالأحرى إعلان رفض للخروج إلى العالم.

لعبة الرحيل والعودة

السيدة فيروز تتلقى العزاء في ابنها زياد الرحباني 

أمي لماذا أرحل إلى المدرسة؟

أتُحبِّين هذا؟

وتقول:

أشتاق إليك في نهاري.

وأقول لأمي:

ما دمت أنا لا أحب أن أرحل

وأنت لا تحبين

فلماذا أرحل؟

في عمر الثانية عشر كتب زياد الرحباني بعض قصائد الطفولة البسيطة، من حسن الحظ أن أباه عاصي انتبه لها. وللتفاخر بنبوغ ابنه البكر، جمعها وأصدرها في ديوان صغير هو صديقي الله، وزّعه على الأصدقاء والأقارب.

في هذه القصائد نعثر على الكثير من مفاتيح شخصية زياد وأسرار خياله الإبداعي. العديد منها عن علاقته بأمه؛ مرةً وهي تحكي له قصص قبل النوم، ومرةً وهي تسأل رأيه في فساتينها، ومرةً وهو يصف حزنه ووحدته حين يبتعد عنها ليذهب إلى المدرسة.

في العديد من حوارته، بصراحته نقية القلب، يتحدث عن علاقته المعقدة بأبويه. عن تأثير الخلافات والشجارات المتكررة بينهما على نفسيته، ومحاولاته اليائسة للاصلاح بينهما. عن آراء أبيه الرجعية في المرأة، واحتجاجه عليها، وعن تقديسه للنساء اللاتي ارتبط بهن، وخيانتهن.

في أغانيه التي كتبها على ألسنة هؤلاء النساء، ومنهن أمه، نوعٌ من التماهي الأوديبي المزمن. فشل زياد المتكرر في علاقاته الزوجية والعاطفية هو نوع من إعادة سيناريو الانفصال عن الأم، إحساسه بأنها نبذته حين سلمته إلى العالم، والمدرسة، والأب.

مربى الدلال، كلمات وألحان زياد الرحباني، غناء جوزيف صقر

عقدة الابن البكر

اخترت اسمي مغيرًا عن كل الأسماء

حتى إذا ندهتني

صرخت وحدي: نعم

وما ظننت النداء لغيري

ارتباط زياد بأمه وصوتها أبدي. لم يجد بديلًا لها في حضن امرأة أخرى، أو في صوت مطربة أخرى. ظلَّ ينفصل عنها ثم يعود إليها بنمط متكرر/pattern، وكأنه يستعيد دومًا إحساس الطفل العائد من المدرسة للقاء أمه. وربما تكون اللحظة القاضية في حياة زياد هي التي أدرك فيها أن العلاقة العائلية والفنية التي كانت تجمعه بفيروز بعد انفصالهما الأخير، ورغم العودة، لن تعود كما كانت.

من ناحية ثانية، ارتبط زياد الرحباني بأبيه ارتباط الابن الذكر البكر في مجتمع عربي قبلي شرقي يُعلي شأن الانتساب إلى الأب فوق أي شيء

في حواراته التي تحدث فيها عن علاقته المعقدة بأبيه، حكى زياد أيضًا عن الموهبة التي ورثها عنه واكتسبها من التتلمذ على يديه. تحدث عن تركه للبيت وهو في الرابعة عشر للاستقلال عن الرحابنة، وأيضًا عن حكمة أبيه وآرائه التي اكتشف صحتها لاحقًا، باستثناء رأيه في المرأة، كما يقول. في نهاية المطاف لا يستطيع الابن التخلص من قوانين الوراثة.

في كتاب "شخصية المولود البكر: نشأةً وبلوغًايحلل كيفن ليمان شخصية الابن البكر، المتميز، المختلف، وكأنه يصف شخصية زياد الرحباني!

يتحدث عن سعيه للكمال، هوسه بالإتقان، مغالاته في النقد، وعدم شعوره بالرضا عن النفس. عن التخطيط لحياته، تعرّضه الدائم للضغط. عن غياب حيز المرونة في حياته، ثقافته، قدرته على حل المشاكل، المبالغة في التفكير الجاد. عن شخصيته القيادية، عدوانيته النسبية، واستعداده لارتكاب الحماقات.

رزح زياد الرحباني تحت عبء الابن الأكبر، الذي يشعر بالمسؤولية عن أسرته، ومجتمعه، ووطنه. وتجلى ذلك في تمسكه بالبقاء، ونزعته الملحة للتغيير، وراديكاليته، ومثاليته المطلقة، وتقديسه للإتقان في العمل، وأيضًا في وقوعه فريسة وضحية للخداع والغدر، وفي غضبه وصراحته الجارحة.

في فيلم Little Buddha/بوذا الصغير (1993) للمخرج بيرناردو بيرتولوتشي، يُجسّد كيانو ريفز، في واحد من أوائل أدواره، الأمير سيدهارتا، الذي عاش حياته كلها في قصر منيف لا يعرف شيئًا عن العالم، لكنه تسلل ذات ليلة خارجًا بمفرده، ليفزعه قبح ما رآه من فقر ومرض وبؤس، فيبدأ تحت وقع الصدمة رحلةً روحيةً طويلةً تنتهي بتحوله إلى الإله بوذا.

فيما يروي زياد كيف هزّه من الأعماق ذلك الطفل الفقير الذي كان يقف حافيًا بائسًا على الطريق، يطرق زجاج السيارة الخاصة التي كانت توصله إلى المدرسة وهو في التاسعة من العمر. كيف جعله ذلك يتساءل عن العدالة في فترة مبكرة من طفولته. هذه التساؤلات التي انتهت بأن أصبح شيوعيًا، وتجلَّت في العديد من أعماله.

لا أعرف هل قرأ زياد الرحباني قصة سيدهارتا، بوذا، أم لا. ولكن استوقفتني إجابته عندما سُئل عن البلد الذي يتمنى أن يعيش فيه: الصين أو اليابان!

أنا مش كافر، كلمات وألحان وغناء زياد الرحباني

L’enfant terrible

لا أريد أن أصلي إلا ما أفهمه

لا أريد أن أصلي

أريد أن أصرخ

لا يمكن فصل شخصية الابن البكر، ذو النزعة الأوديبية، عن شخصية الابن المزعج/L’enfant terrible، حسب المصطلح الفرنسي المستخدم لوصف الأطفال الذين يتِّسمون بالصراحة وكراهية مظاهر الكذب والزيف والنفاق، والاستمتاع بصدم الأهل والمعارف بهذه الصراحة التي تهدد "السلم الأسري والاجتماعي" غالبًا.

هذا الابن المزعج نجده مثلًا في شخصية هاملت، التي يعتقد فرويد أنها الامتداد الطبيعي لشخصية أوديب نفسيًا ودراميًا وحضاريًا. ذلك أن الطفل الأوديبي، في لحظة ما، يبدأ في تحرير مشاعره وإسقاطها على العالم الخارجي، فيُحوِّل كراهيته للأب إلى العم أو مؤسسات السلطة والسياسيين الفاسدين ومظاهر الاستبداد بأشكالها.

ولعلنا نجد هنا ذلك الشبه الذي يجمع زياد الرحباني بيوسف شاهين، ويمكن أن يمتد إلى آخرين كُثُر، في الحرص على تكريس العمل من أجل الصراحة الصادمة وهجاء مؤسسات السلطة والفساد بأنواعها. "هناك شيء عفن في الدنمارك" كما تقول العبارة الأولى في مسرحية "هاملت" لشكسبير. وهي عبارة تتردد، بالنسبة للبنان، في كل أعمال زياد الرحباني.

الصدق مع الذات والله والآخرين هو مفتاح فهم شخصية زياد الرحباني. هو ما يُفسِّر نفوره الشديد من الادعاء والتكلف والكلمات الجوفاء من المعنى. ويُفسِّر أيضًا بحثه عن أبسط الكلمات وأقصر الطرق للتعبير عن المعنى. وكذلك خلو أعماله الموسيقية، على كثرة ما تحفل به من توزيعات، من الحشو بالعُرَب والحُلي الصوتية والراش، أو من المبالغات والميلودراما، أو الاستخدام المفرط لبعض الآلات الموسيقية "العاطفية" مثل النايات والوتريات، وتفضيله الواضح للبيانو والبُزُق

هذا الصدق هو ما جعل زيادَ، من بين عشرات الفنانين حولنا، أكثر من تتسق أفكاره وخطابه وأعماله مع نمط حياته وسلوكياته اليومية.

جاء زياد الرحباني، نطفةً ثم جنينًا ثم طفلًا، في بحر من الموسيقى

الصمت.. والصوت.. والوقت

تعبت فجلست

ومرَّت بي فتاة وقالت:

ما بِك تجلس على الوقت؟!

هذه الصورة الشعرية العبقرية، التي يصعب أن نستوعب كيف خطرت ببال صبي قبل أن يتجاوز الثالثة عشر، تُلخِّص نبوغ زياد الرحباني الموسيقي المتمثل في إدراكه الاستثنائي للزمن وعلاقته بالموسيقى.

كل الفنون تقريبًا توجد في المكان: الكتاب، اللوحة، التمثال. وبعض الفنون تجمع المكان بالزمان مثل الشِعر والسينما والرقص. الموسيقى، وحدها، المُشيّدة بالكامل في الزمن. هي، وحدها، من بين كل الفنون، التي تحاول الامساك بالزمن.

كل شيء بخصوص الموسيقى يتعلق بالوقت؛ الصوت، والصمت. تقسيم الزمن الفاصل بينهما هو ما يصنع الموسيقى. وولع زياد في التلاعب بهذا الزمن ملحوظ في أعماله.

بشعور دقيق ومُلِحٌّ بالإيقاع؛ يُفجّر زياد الزمن الفاصل بين الصوت والصمت، كما تنفجر الذرة فتتحول إلى طاقة ومادة هائلة. بعض المقطوعات لا تتعدى بضعة "موازير" أو "نوتات" أو "أصوات" معدودة مثل وقمح، وبعضها لا تتعدى مقطعين أو ثلاثة مثل ميس الريم وأبو علي. ولكن التوزيع يحولها إلى بناء وصرح عملاق، باللعب بالوقت والآلات الموسيقية المختلفة.

تتجسد موهبة زياد الرحباني الحقيقية في التوزيع/orchestration أكثر من التلحين/composing. بالطبع ألحانه رائعة، ولكن التوزيع هو ملعبه ولعبته المفضلة. ويعكس هذا الاهتمام بالتوزيع ولعه بالزمن، بالوقت، بتلك العلاقة السرية الميتافيزيقية بين الصمت والصوت.

في نهاية المطاف، على الجانب الآخر من الكون، في الجنة، أو نيرفانا بوذا، سيلتقي الصمت والصوت معًا، ويتوقف الوقت، ليجلس عليه الصبي الصغير، سابحًا في بحر الموسيقى الأسمى.

(*)الفواصل الشعرية التي تتخلل هذا المقال مقتبسة من ديوان صديقي الله لزياد الرحباني (1971)

 

موقع "المنصة" في

01.08.2025

 
 
 
 
 

عن عالم لا سيد ولا زياد فيه: «نكبة المعنى»

زينب الموسوي

لكلّ منا تقويمه الشخصي للسنوات، وأسلوبه في اجتراح المعنى. وعلى ذلك، يُقسّم زمان الباحثين في هذا العالم عن «المعنى» إلى حقبتين، يفصل بينهما ظُهر السابع والعشرين من أيلول عام 2024.

لكلّ منا تقويمه الشخصي للسنوات، وأسلوبه في اجتراح المعنى. وعلى ذلك، يُقسّم زمان الباحثين في هذا العالم عن «المعنى» إلى حقبتين، يفصل بينهما ظُهر السابع والعشرين من أيلول عام 2024. وشاء زياد الرحباني، عرّاب المعنى، برحيله الصامت، كما أراد هو، الصاخب، كما أراد محبوه ومريدوه، أن يكون حلقةً أساسية في سلسلة المرحلة الثانية: «نكبة المعنى».

لم يُرد زياد أن يكون حدثاً مستقلاً عن هذه المرحلة، «مرحلة ما بعد نصرالله»، بل محوراً أساسياً في فصولها، فلا خروجَ عن مشهد عالمٍ تنهار أعمدته الثقيلة، بل أداء للدور بإتقان.

بات العالم اليوم أكثر ميلاً إلى الصمت المتواطئ، والفَنّ التافه، وحشو الكلام الفارغ، وارتعاد الأوصال، وبيع المواقف وشرائها، وكلها تلفظُ زياداً، «فلا الزمان زمانه، ولا المكان مكانه». لذا، قرر الانسحاب على طريقته، ساخطًا ومتمردًا، لا معتذراً ولا نادماً. أدار ظهره لعالمٍ لم يعد فيه ما يُغنّى، ومضى...

لم تجمعني بزياد مصادفة، ولم أُحط بكل أرشيفه، ولا حفظت عن ظهر قلب كل أقواله وأغانيه، ولا رأيَ فنياً لي في موسيقاه، إلا أن القلب شاء أن يرقص طرباً لها. كما شاهدت مقابلاته في أوقات متأخرة، قضاءً عما في الذمة، لا فرق، فحديثه لا تاريخ انتهاء صلاحية له، ليس لأنه قدّيس عارف، ولا منجّم متنبّئ، بل لأن العالم يدور حوله في دائرة مُفرَغة، ويكرر نفسه. ولكنني كنت دائماً في الخلف، أصفّق من حيث لا يُسمع التصفيق، وكان هو دائماً هنا، كما تكون الطمأنينة، في خندق يجمعنا بالسيد.

لم يكن زياد «أسطورة» وفقاً للتعريف الاستهلاكي للأسطورة، بل كان وعياً متقدماً، صادماً، باحثاً في ما ورائيات الكلام عن المعنى، ومشتبكاً مع من أرادوا للفن أن يكون ترفاً معزولاً عن السياسة والنضال.

كما إنه لم يُحط نفسه بهالة من القداسة، ولم يبنِ له أسطورةً من تضخيم شعبويّ، بل من تراكم مواقف لا تساوم، ومن فنٍّ قاوم البلادة، ورفض أن يكون دمية في مسرح الطوائف والرأسمال والسلطة.

وكانت «سلطة الحسب والنسب» أولَ ما تمرّد عليه ونسفه، إذ لم يُرد أن يوجَدَ لأنه ابن «سفيرة لبنان إلى النجوم»، ولا أن يُرفع لأنه سليل عائلة موسيقية مرموقة، بل خرج من بيت فيروز وعاصي إلى الشوارع والمقاهي الضاجّة بالأسئلة، ليجيب إن ما وجد أجوبة، ويقول «لا» متى ما استدعت المواقف لاءاتها، وليغيّر شيئاً قبل أن تغيّره الأشياء. خرج ليكون حيث يجب له أن يكون.

لم يكن «أسطورةً» وفقاً للتعريف الاستهلاكي للأسطورة

أما حبّي له، فكان لاستثنائيته، لا لأنه مقاوم فحسب، بل لأن الخيارات الأخرى كانت مفروشةً أمام قدميه، برّاقة ومُغرية، ولكنه رفضها، سخر منها واحتقرها. في زمن بات الرهان فيه على بيع الضمائر فصلاً من فصول المهنة، وفيما هبط الفن إلى الدرك الأسفل من الابتذال والانحطاط، بلا ذائقة ولا موقف، حافظ على فرادته. لم يكن ينقصه شيء ليكون جوهرة في تاج الخليج، وليُطوِّع «شيوعيته» لتصبح ديكوراً على مسارح الذهب.

ولكنه بقي هنا، يعيد كتابة بيروت في ذروات جنونها فصولاً على المسارح، ويغنيها مقطوعات في الشوارع. بقي هنا، يدقّ مساميرَ في توابيت الجهل والعنصرية، والعمالة والقتل على الهوية. كما برع في إعادة تعريف الـ «هو الآخر المختلف»، التي تكرّست في عبارة «ما بيشبهونا» على أسس طائفية ومناطقية، موضحاً أن من ينتمي إلى المقاومة وقضايا الناس وهموم الفقراء ويتحدّث لغتهم هو «النحن»، وما دون ذلك هو «الآخر المختلف». وهكذا، كان فنه أقوى من متاريس المدينة وصوته أصدح من شطريها.

في إصراره العنيد على أن يكون كما يشاء، لا كما يُراد له أن يكون، وفي إعطائه لكل شيء معناه، بلغة العامة، وبلهجة أبناء الأرض دون تكلّف أو مواربة، كان فكرةً أكبر من «بيروت الجغرافيا»، فكرةَ أن للفنّ وظيفة، وللمسرح صوتاً، وللموسيقى ضميراً. لذا جمع شطرَي بيروت على المسرح، لم يجمّل وجهها، بل كشف الدماء تحت جلدها. فلم يقدّم صورة مثالية عنها، بل تركها تتلوّى أمامه، عرّاها، سخر منها، ثم احتضنها.

هذا المعنى الذي قدّمه للوجود هو ما يجعل فقدانه فادحاً، ويطرح للعيان أسئلة مؤرقة: أي جيل هذا الذي سينشأ بعد الآن، في زمان لا سيّد حسن فيه يراكم وعيه بخطاباته الثورية، ولا زيادَ فيه يهديه سُبلَ الفنّ المُلتزم والفكر الثوري؟ من سيُورثه القلم والثورة، والأغنية والبندقية، في زمان المحللين التجار، والساسة السماسرة، والفنانين الهابطين؟

ومن سيهديه سُبلَ «أن تكون» في زمان كل شيء فيه يراهن على سلبك معنى الوجود؟ ومن سينحاز إلى قضايا الفقراء والمُضطَهدين؟ ومن سيحيي في نفوسهم «فلسطين»؟

أما «بالنسبة لبكرا شو» في عالمٍ خالٍ منهما؟ ولأننا نخاف أن نعتاد «الانحطاط»، فكل هذه الأسئلة تضع الجميع أمام مسؤوليته تجاه جيل كامل، لم يجد إلا التفاهة والانحطاط أمامه. لذا، لا بد من إعادة تذكيره برموزه عند كل محطة، وإعادة إحيائها والتمسك بها واقتفاء أثرها عند كل درب، وتكريس الفن أداة للمقاومة، لنحافظ على أصالتنا في عالم يحاول سلبنا كل يوم تراثنا، وقتل هويتنا.

 

####

 

موزار المشرق

معتصم ناهض حتر

السماء ملبدة بالغيوم، والرياح شديدة البرودة تصفعني، بينما أسير مسرعاً. لا أسمع صوت الريح. أسمع موسيقى تنهمر من سماعتين في أذني، وتجتاح وجداني.

السماء ملبدة بالغيوم، والرياح شديدة البرودة تصفعني، بينما أسير مسرعاً. لا أسمع صوت الريح. أسمع موسيقى تنهمر من سماعتين في أذني، وتجتاح وجداني.

جسدي في مكانٍ بعيدٍ في نهايات الأرض ووعيي في بيروت، فزياد الرحباني يجرفني بعيداً من كل ما يحيط بي. ينطلق بموسيقى «ميس الريم» في كل الاتجاهات، في اللحن والتوزيع. حتى بعد أن يعتقد المرء بأن زياداً قد شارف على إرساله نحو السماء يبدأ مقطع صولو البيانو عند الدقيقة الثامنة والنصف.

في هذا المقطع يختلط الشرقي بالغربي، والجاز بالديسكو. ويجعل زياد النوتات من تريبليتس وتريلات تلعب بحرية، فتمضي كمقطوعة موسيقية من دون أن نشعر بأنها تقف على إيقاع ديسكو!

يستخدم زياد زمنين أحدهما منتظم والآخر غير منتظم. في انتظام الزمن المنتظم ثمة عشوائية ما. وفي عشوائية غير المنتظم ثمة انتظامٌ حقيقيٌّ، تعجز الكلمات عن تفسيره.

ما الذي يفعله زياد بكل هذه الأجناس الموسيقية التي يجمعها في آن؟ كأنه يزيل خطوط التماس بالقرب من المتحف الوطني في بيروت! السماء الآن ليست ملبدة بالغيوم، والرياح ساكنة، ولكنني استيقظت على خبر عصف بي: رحيل زياد الرّحباني. كيف يمكن تلقّي خبر كهذا؟

بالبكاء؟ بالتفكير في كم الألم الذي يجب أن تتحمله السيدة فيروز؟ إنه جزء منا، وذهابه أعاد وضعنا أمام الأسئلة المصيرية ذاتها المتعلقة بالإنسان والوطن ومستقبل البشرية. يفتح بوابات الأسئلة الكبرى تلك التي تأخذنا دوماً نحو التفكير بالوقت «بكل الوقت»، بالخمسة عشر عاماً التي أضاعها الإخوة في قتل بعضهم، وربما ليس الإخوة في لبنان فحسب، بل أيضاً الإنسان لأخيه الإنسان.

عقلي مشتت، وأشعر بحزن من نوع آخر. ليس ذلك الحزن الذي يأتي بالدموع، بل بحزن دفين يأخذني بعيداً من كل هذا الضجيج ويغرقني بصمت. الذكريات في دماغي تأخذني من مكان إلى آخر وأتذكّر حين كنتُ أمشي بين أوراق الشجر الذهبية والخمرية المتساقطة في فصل الخريف، في نوفمبر، الشهر الذي ولدت فيه السيدة فيروز.

أعود للتفكير في صوتها الذي يعجز الكاتب والشاعر عن وصفه، وفي ذلك الاختمار المخملي في صوتها عندما أستمع لتسجيلات بيت الدين بعد نحو عشرة أعوام من صدور أسطوانة «كيفك إنت»، وكأنه كان فيولين ثم بات تشيللو «خصوصاً ما بعد الألفين» يضرب صوته المبحوح عميقاً في باطن الأرض فيذكرني بالماتريارك - الطبيعة.

أعاود التركيز شيئاً فشيئاً. أحاول الابتعاد عن ذلك الثقب الأسود الذي عاد ليذكرني بوجوده، واستعداده الدائم لالتهام كل مساعينا الروحانية. نعم! تذكرت الآن أنني أعدتُ قراءة الخبر مرّة تلو الأُخرى ولم أصدّقه. شعرتُ باختناق وغصّة في حلقي، هي ذاتها التي شعرتُ بها يوم تم تدمير حارة حريك.

طغى خبر رحيل زياد على قسوة أخبار كثيرة أُخرى، دائماً ما كنت أخشى حدوثها. الموت هو الموت. وموت زياد ليس هو المشكلة الحقيقية التي تركنا نواجهها. المعضلة التي وضعنا في مواجهتها هي الحياة، وواقعها. كان زياد، لا عبر المواعظ، بل عبر سلوكه، يحفزنا للتمسك بما هو مبدئي. يحثنا على الانحياز للجمال والبحث عنه. وهذا أمر منهك بالنسبة إلى الفنان، والمناضل والإنسان عموماً.

خصوصاً أنه لا يمكن وضع الجمال في قالب قيمي، ذلك أنه كامن أصلاً في الكون، كما كان يقول موزار: إن الألحان التي يضعها موجودة أصلاً في الأثير وما عليه سوى تدوينها.

المستمع العربي عموماً لا يركّز كثيراً في سياقات الألحان والتوزيع. وقد يجد أحياناً صعوبة في الاستماع إلى موسيقى من دون كلمات. ذكرتُ موزار عن قصد لأن زياد كان مثله وبحجمه، وموسيقاه لا تقل بمستواها الجمالي عن مستوى موسيقى موزار.

وقد تقصدّت مقارنته بموزارت الذي كانت الألحان تأتيه بسهولة، على خلاف بيتهوفن الذي كان عبقرياً وفذّاً وعلامة فارقة في تاريخ الموسيقى، ونقل قدرتها على التعبير نقلة نوعية، غير أنه كان يعاني حين يكتب الموسيقى ولم تكن الألحان تأتيه بسهولة، كما موزارت. ولم ينضج إلا في المرحلة الأخيرة من حياته، وليس في المرحلتين الأولى والثانية، كما موزارت. زياد الرحباني أيضاً، في المرحلتين الأولى والثانية من حياته، كان يتمتع بسهولة فائقة في وضع الألحان.

في أحد اللقاءات معه، سألته المذيعة عمّا يشعر به حينما يسمع تلك الألحان العظيمة، ألحانه: «هل تشعر بما نشعر به نحن؟»، أجابها بالنفي، لأن هذه الألحان «طلعت هيك وما بعرف كيف طلعت معي».

بالطبع نحن هنا نتحدث عن الألحان فقط، أما التوزيع الموسيقي لدى زياد، فهو شأن آخر. لا يحمل التوزيع الموسيقي لديه دوراً وظيفياً في بناء خلفية للحن الرئيسي للصوت، بقدر ما يستخدمه كوسيلة للمحاكاة ما بين اللحن والكلمات. في هذا الأمر تحديداً برع زياد لدرجة التفرد.

لهذا، فإن التوزيع الموسيقي لديه بات جزءاً لا يتجزأ من إبداعاته الفنية، خصوصاً أنه يشكّل بالنسبة إليه سؤالاً مقلقاً، ففي مقابلة أخرى، يجيب عن سؤال: «ما هو أفضل شيء في التوزيع» بالقول «إن أفضل ما في التوزيع هو إتمامه».

إذن، وعلى النقيض من عملية التلحين، السهلة وغير المقصودة لديه، أي تحدث بتلقائية «هيك طلع معي»، يتضح أن التوزيع الموسيقي عملية مشغول عليها، وتُبنى بحرفية وعلى نحو مقصود تماماً، ليستطرد على اللحن الرئيسي فيومئ توصيفياً لنا عن اللحن الرئيسي بألحان الآلات أو يواجهه أو يعقب على الكلمات. وهنا تتجلى الميزة البوليفونية لزياد كإنسان وكفنان إذ إنه يجمع الكثير من الأبعاد في آن.

وكأنه يدمج باخ بموزار في قالب أغنية مدنية تحاكي الواقع السوسيواقتصادي. ربما عبر قصة حب، ترتبط عضوياً بنسيج الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتجري في واقع مادي ملموس، ولكنها بشكلها الفني الموسيقى تعلو فوق كل السياقات التاريخية بما تنطوي عليه من صراعات. هذا ما يمنح زياد الرحباني فرادة واستثنائية.

لهذا يبدو عصياً على التكرار، خصوصاً أن ظروفاً عدة اجتمعت في تشكيله: فهو ابن عاصي والسيدة فيروز اللذين أتاحا له فرصة موسيقية متقدمة. ثم، وبغض النظر عن كونه ابنهما، فهو موسيقي عبقري بمستوى موزارت.

ثم عاش تجربة الحرب الأهلية اللبنانية بكل تداعياتها التي أسهمت في تحديد وعيه السياسي والاجتماعي والفكري. ثم وعيه الفلسفي المتأمل في الوجود، بعد كل تلك المعارك التي خاضها، حيث نسمعه يتحدث عن استمرارية وتجدد الحياة: «شوف القمح اللي بيطلع بسهول. شوف المَيّ اللّي بتنزَل عَ طُول».

قام علماء الحاسوب في الآونة الأخيرة بإجراء تجارب عدة بالذكاء الاصطناعي لكتابة السمفونية العاشرة لبتهوفن. وقدّم الذكاء الاصطناعي موسيقى بالقالب السمفوني نفسه تماماً، ولكنها كانت تخلو من أي موسيقى. كانت مجرد أصوات منسقة، إنما بلا روح، بلا شعلة إلهية.

لقد فهم الذكاء الاصطناعي أن بتهوفن يستخدم العدد الفلاني من الوتريات مع العدد الفلاني من النحاسيات، بيد أنه أخفق في الاقتراب ذرة واحدة من ماهية بتهوفن وإنسانيته وعمقه ومعاناته، وإصراره على المضي قدماً، وقدرته على إعادة التماسك.

أخفق في فهم عدول بيتهوفن عن الانتحار (بعدما قرر ذلك في وثيقة Heiligenstadt التي كتبها لأخويه) بسبب حزنه الشديد لبدء فقدانه السمع.

هذه الإنسانية ذاتها تتعرض اليوم للإنهاء في داخلنا جميعاً، عبر محاولة إقناعنا من قبل الشر بأننا مجرد ذكاء اصطناعي، وأن الفرق الوحيد بيننا وبين الذكاء الاصطناعي هو قدرتنا على التكاثر.

لكن الذكاء الاصطناعي لن يكون قادراً بأي شكل من الأشكال على الاقتراب من ماهية الإنسان الذي اكتملت إنسانيته. إننا نستمع إلى تلك الماهية في بروفة «كيفك إنت»، في حوار السيدة فيروز وزياد أثناء التسجيل، في تلك النضارة في ضحكة السيدة فيروز العفوية في نهاية البروفة. ونعلم حقاً بأن ذلك الألبوم، ألبوم «كيفك إنت»، هو من أحد أفضل الأعمال الموسيقية الغنائية في القرن العشرين.

 

####

 

قضايا وآراء

وطنٌ من ورق

جمال غصن

من الأدوار التمثيلية السينمائية التي قام بها الراحل زياد الرحباني هو دور جندي صهيوني محتلّ عند مثلّث جنوب لبنان - جنوب سوريا - شمال فلسطين في فيلم «طيارة من ورق» للراحلة رندة الشهال. الفيلم هو قصة زواج طائفي عابر للحدود والأزمان ولكنّه أصبح دراميّاً سينمائياً بفضل راسِمَي حدود المنطقة منذ قرن، المستعمر البريطاني سايكس والمستعمر الفرنسي بيكو.

لا أريد أن أفسد حبكة الفيلم على من لم يشاهده بعد لكنّ العبرة منه هي أن الطائرة الورقيّة بهشاشتها خارقة للحدود المصطنعة بين الشعوب، أو الشعب الواحد في بلدان مصطنعة. يحصل اليوم أنّ في هذه البلدان حكومات تخال أن الورق الذي يتطاير مع الرياح ولا يبقيه في مَرآنا إلّا خيط رفيع حقّاً باقٍ. هذا الفرق بين السينما وأحلامها المتطايرة، والواقع وجذوره المترسّخة.

في قصور دمشق وبيروت الرئاسية اليوم لا يركض المسترئسون خلف لعبة الأطفال تلك المصنوعة من «ورق وخيطان» والتي جعلت من «أم زياد» تريد أن «ترجع بنت صغيرة على سطح الجيران» وينساها الزمان على سطح الجيران، بل هم تحرّكهم الخيطان و«النفخات» الهوائية لاهثين وراء الحبر المتناثر على الورق المتطاير. هذا الحبر يسيل من أقلام «المباعيث» توماس برّاك ومورغان أورتاغوس وآموس هوكشتاين وقبلهم «دين راسك» وغيرهم من مبعوثين نُسيوا أو باتوا في طور النسيان، علماً أن كلمات «طيري يا طيّارة» خطّها بحبر قلمه الراحل فيليمون وهبة قبل الحركة التصحيحية لـ«البعث».

في فيلمٍ أميركي طويل، يصعب أخذ «ورقة أميركية» يتيمة على هذا المحمل من الجدّ الذي يتخذه العهد الورقي الحالي في لبنان. إنّها مجرّد ورقة. وزراء ورؤساء ورؤساء وزراء يتحدّثون عن «ورقة أميركية» كأنّها أول مرّة يرون ورقة. الورق يصنع من الشجر، وعلى علمنا اللبناني أقوى شجرة في العالم، الأرزة. شدّوا حالكم شويّ!

المتلاهثون خلف ورقة برّاك يدركون هشاشتهم. حدود سايكس وبيكو دامت مئة من الأعوام. هم لن يدوموا مئة من الأيام. بالنسبة إليهم موسم الحصاد حان الآن وهنا وقد لا يحين مجدّداً أبداً. الورقة هي كل ما يملكونه. دعك من أنّ الورقة مجبولة بدمّ من يسقي الأرض وجذورها كل يوم، في لبنان أقلّه. المتلاهثون خلف ورقة تتطايرها «خمسينية الصيف» بين الشام وبرّ الشام يتجاهلون أنها من إمضاء من يرتكبون الإبادة صيفاً شتاءً في الشام وبرّها ويرتكبون الإبادة في غزة فلسطين الآن وهنا.

قد تكون مفاهيم الأوطان التي عايشناها آخر كم سنة فعلاً أوراقاً أميركية تتطايرها الرياح، خاصة إذا بات مصيرها في يد محمود عباس في رام الله ومحمود عباس آخر في الأمويين ومحمود عباس جونيور في بعبدا وآخر هنا في كعب الشارع عـ«البريستول». لكن الشعوب لا تحدّها الأوراق. في فيلم رندة الشهال يتزاوج جنوب لبنان المحتلّ مع الجولان المحتلّ، يتحرّر الزوجان وغالبية الظن أنهما ينجبان. مهما أنجبا حتماً لن يسمّياه لا جوزيف ولا نوّاف.

 

####

 

فائق حميصي يتذكّر زياد: الموسيقى أولاً... ثم كل شيء

غادة حداد

بعد عودته من باريس عام 1978، التقى فائق حميصي مصادفة بزياد الرحباني في أحد مطاعم الحمرا، ما قاده للمشاركة في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» بدور الشاعر «أسامة».

بعد عودته من باريس عام 1978، التقى فائق حميصي مصادفة بزياد الرحباني في أحد مطاعم الحمرا، ما قاده للمشاركة في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» بدور الشاعر «أسامة». أعجب زياد بمظهره قبل أن يكتشف أنه ممثل وموسيقي، فضمّه إلى الكورال خلف جوزف صقر. نشأت بينهما صداقة إنسانية وفنية عميقة، عززها عملهما المشترك «إيماء 88» الذي مزج الحركة الصامتة بالموسيقى. ظلّ الجمهور يتذكر دور حميصي حتى بعد عقود، مردّداً جمل المسرحية الشهيرة. وآخر لقاء جمعهما كان قبل عام ونصف عام، قبل أن يفجع حميصي بخبر رحيل زياد من دون أن يعرف بمرضه.

يمكن اعتبار قصيدة «متعاقبٌ أنا» من أشهر القصائد الحديثة، وأفضل تجسيد لتفشي «الشعراء» في المقاهي إلى صفحات التواصل الاجتماعي.

في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟»، يهدأ ويثور الشاعر «أسامة» (فائق حميصي) قائلاً: «معذورٌ أنا أفلا تعذريني؟/ فلا تعذريني بعد أن سقطت حتى الأزل/ ولم تزل/ تسقط حتى الريش/ صورة الأصل من أصل الصورة».

يحاول رامز (جوزف صقر) و«نجيب» (رفيق نجم) فهم الشاعر، الذي يقتحم بأبياته أحاديث الحب اليومية بين «نجيب» وحبيبته، ويجاهر «أسامة» بفوقية «المثقفين» أنّه ليس مطلوباً من العاملين في المطعم فهم هذه القصائد، ليثور «نجيب» قائلاً إحدى أشهر جمل المسرحية: «ما بدنا نفهم قده بس بدنا نفهم عليه». ويبقى سؤال «نجيب» بعد المسرحية معلقاً: «شو أصل الصورة؟».

من مصادفة المقهى إلى خشبة المسرح

قبل أن يجسد فائق حميصي إحدى أبرز شخصيات مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» للراحل زياد الرحباني، حاول بناء حياة خارج البلاد. توجّه إلى فرنسا، حيث التحق بمدرسة «مونتروي» للمسرح والإيماء.

وبعد إنهاء دراسته في باريس عام 1978، عاد حميصي إلى لبنان بدعوة وتشجيع من أصدقائه الذين رأوا أنّ البلاد بحاجة إلى تخصّصه.

وفي أحد الأيام، قصد مطعماً في الحمرا، ولم يجد مكاناً للجلوس. هناك، لمح زياد الرحباني يجلس منفرداً، فتعرف إليه فوراً، إذ كانت شهرته قد بدأت تتصاعد بعد «سهرية» و«نزل السرور».

دعاه زياد للجلوس معه وسأله عن عمله، فأجاب بأنه مذيع في إذاعة «مونتي كارلو».

عندها، عرض عليه زياد دوراً في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟»، من دون أن يعرف أنه درس التمثيل. ما لفت انتباه زياد كان مظهره: شعر طويل ومعطف «ترنش»، فاعتبره مناسباً لدور «أسامة» الشاعر. لاحقاً، وأثناء التمرينات، اكتشف زياد أنّ حميصي ممثل متخرّج من الجامعة.

الموسيقى قبل المسرح

كان يفضل زياد في اختياراته أسلوب السينما. يلتقط وجوهاً من الشارع تبدو طبيعية للدور، بينما يرى أنّ خريجي المسرح يبالغون في الأداء. وكان الرحباني محترفاً في عمله، وفق ما يقوله حميصي لنا، خصوصاً في الجانب الموسيقي، إذ كان يعتبر نفسه موسيقياً يقدم مسرحاً، لا العكس.

ونشأ بينهما تعاون موسيقي إلى جانب المسرحي، فحميصي كان يعزف على غيتار الباس ويقرأ النوتات ويتقن السولفيج، ما أثار دهشة زياد قائلاً له: «أنت بتعزف وبتقرأ النوتات وعامل حالك ممثل؟». إذ بالنسبة إلى زياد، الموسيقى هي في مرتبة أرقى من التمثيل لأنها علم وفن وموهبة.

يصف حميصي زياد بأنه منهجيّ في عمله، فقد أسند إدارة الممثلين إلى غازي قهوجي، فيما ركّز هو على الموسيقى. وعندما اكتشف خلفية حميصي الموسيقية، ضمه إلى الكورال كمغنٍ رئيسي خلف جوزيف صقر، إلى جانب رفيق نجم وغازاروس ألطونيان وسعاد نصر.

فكانوا يسجلون الأغاني نهاراً ويتدربون على المسرحيات ليلاً. مع ذلك، وقع خلاف بين زياد وقهوجي حول طريقة تجسيد دور الشاعر، إذ أراده زياد هادئاً، بينما فضل قهوجي تضخيم الشخصية.

تدخل حميصي هنا مقترحاً حلاً وسطاً، مقدماً الشاعر كمزيج من الهدوء والنوبات العصبية القريبة من الجنون. ولا يزال هذا الدور حاضراً في ذاكرة الناس بعد خمسين عاماً من عرض المسرحية، إذ يوقف بعضهم حميصي في المطار، خصوصاً المغتربين، ليكرروا عليه جملة «هوت سنونوتي على الرماد».

صداقة عائلية وفنية

العلاقة التي جمعت حميصي بزياد تطورت إلى صداقة عائلية، خصوصاً مع معرفته الوطيدة بالراحل عاصي الرحباني. بعدما شاهد عاصي مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» توجّه إلى الكواليس وقال لابنه: «لا تكتب له مجدداً، أنا أريده في عمل». وكان من المفترض أن يتعاونا في «يا أنا يا أنت»، ولكن الخلاف بين عاصي وفيروز أوقف المشروع.

بدأ عاصي بعدها التحضير لـ«الربيع السابع» مع ملحم بركات ورونزا، ومنح حميصي دور شاعر باسم «أسامة» أيضاً. وخلال التحضير، أقام حميصي في منزل عاصي في الرابية لمدة عام ونصف عام.

استمرت علاقته بعائلة زياد، وكان حلقة وصل بينهم، خصوصاً خلال الاجتياح الإسرائيلي، بحكم قرب سكنهم في رأس بيروت. لاحقاً، قدّم حميصي مع زياد العمل المشترك «إيماء 88»، إذ أخذ حميصي مقطوعتي «هدوء نسبي» و«المصنع»، ووضع عليهما تقسيمات حركية.

انطلق حميصي من قناعة أكاديمية بأنّ «لا صمت كليّاً في العالم» وأن كل ما في الطبيعة يحكي، وهو ما يعرف بالفرنسية بـÉtats d›âme، أي تجسيد المشهد العاطفي غير الملموس. في هذا العمل، أثبت أنّ الحركة الصامتة والموسيقى الصامتة قادرتان على إنتاج معنى، استناداً إلى نظريته بأنّ كل شيء في الكون يتكوّن من شكل وحركة وإيقاع، وتفاعل هذه العناصر يخلق المعنى.

بالنسبة إلى حميصي، كانت علاقته بزياد إنسانية وفنية في آن، جمعت بين النقاشات العميقة وحب الموسيقى بلا كلام. أعجب زياد بفكرة الإيماء ومعنى الحركة التي تشربها خلال تعاونهما في «إيماء 88»، خصوصاً في مقطوعة «المعمل» التي تحولت إلى حوار بين الحركة والموسيقى في الاستديو.

لم يكن حميصي يعلم بمرض زياد، ووصله خبر وفاته من ابنه الذي أرسل له ما تناقلته الأخبار.

آخر لقاء جمعهما كان قبل نحو عام ونصف عام، أثناء حضورهما عرضاً مسرحياً لصديق. جلس زياد بين الجمهور معتمراً قبعة، ولكنّ أحداً لم يلتفت إليه. حين جلس حميصي أمامه وربّت على كتفه، تنبه الحضور واندفع المعجبون نحوه. اقترح زياد أن يخرجا لأنه يريد التحدث معه، وهذا كان اللقاء الأخير.

 

####

 

حواره مع بسام كوسا: نهايات العصر الذهبي الثاني

صدقي عاصور

بسام كوسا: «في رأي على فكرة حلو وقاسي كتير على زياد، إنه بعد ما عملت انت «وحدن بيبقوا»، إذا متت، انت [تعتبر هيك] سويت كل شي، بكفي إلي عملتو هاد». 

بسام كوسا: «في رأي على فكرة حلو وقاسي كتير على زياد، إنه بعد ما عملت انت «وحدن بيبقوا»، إذا متت، انت [تعتبر هيك] سويت كل شي، بكفي إلي عملتو هاد».

زياد الرحباني: «كتّر خيرو الي قايل هيك، هيدا أنا بشوفو إيجابي منو عاطل».

لن يتفق كثيرون معي إن قلت إنّ حقبة (2006-2011) كانت عصراً ذهبياً ثانياً انطوى على انتعاش عربي سياسي وثقافي وفكري، لأنّ العصر الذهبي بالنسبة إلى شخص ما قد يكون عصر الظلام بالنسبة إلى شخص آخر والعكس صحيح.

شارل جبور مثلاً يرى أنّ عصر «الهدنة» مع إسرائيل (1949-1968) هو العصر الذهبي. هو لن يرى في حقبة تلاحم الثورتين الفلسطينية واللبنانية عصراً ذهبياً أول، لمَ إذن سيرى في الفترة الواقعة بين انتصار المقاومة في حرب تموز وبدء الحرب السورية، عصراً ذهبياً ثانياً؟

كنت أردت، قبل وفاة زياد الرحباني بكثير، كتابة مراجعة لحوار بسام كوسا مع زياد الرحباني، على هامش حفلات زياد الصيفية في قلعة دمشق عام 2009، لكون زيارة زياد لسوريا إحدى نواتج تلك الحقبة. واليوم، أستبدل النعي أو السيرة الشخصية بهذه المراجعة كونها صنفاً كتابياً مرادفاً. مثل تلك الحوارات غير القابلة للتكرار هي نسخة مصغرة من حياة الإنسان.

هذا ليس حواراً قيماً كونه بين «حبيب الشعب» زياد و«حبيب الشعب» بسام، بل لكونه حواراً بين قامتين عظيمتين أنتجهما بالمصادفة تاريخان قائمان على أزمتين مختلفتين (حتى لا ننحصر بثنائية العصر الذهبي والمظلم)، أي أزمة الحرب الأهلية في لبنان وأزمة الدولة السلطوية في سوريا.

يقول زياد في المقابلة مستدركاً الواقع اللبناني: «أنا كل ما يتوتر الوضع ببيروت بنتعش. لأنو كل هيدا السلم كذب منو سلم». ويقول مستدركاً الوضع السوري وتقاطعه مع لبنان: «السلطة [السورية]... مشهورة بإنو في عراقة بالعمل الاستخباراتي، يشهد لها بالعالم، إنه بينجح السوري استخباراتياً، بس ما بيتفوق على لبناني بالتجارة وبالزعبرة، مش ممكن. اللبناني بضل يتعلم منه السوري الإبداعات الجديدة بالزعبرة».

زياد الرحباني: اليسار كلّفه لرفيق الحريري لأنه بياخذ أكثر من اليمين 

هذا الحوار كذلك درس عابر للمكان والزمان في نقد اليسار لليسار، سواء أكان نقد اليسار في نقده للفكر الديني حيث يقول زياد: «اتحاد رأس المال (العالمي) ما إلو وطن أساساً، ولا دين ولا رب ولا أخلاق، هو دين بحد ذاته.

الدين معاملة؛ ممتازة هذه الجملة ما بعرف مين اخترعها»، أم من ناحية اليسار اللبناني الممول من 14 آذار والخليج، حيث يقول: «اليسار كلفه الله يرحمه لرفيق الحريري، كلفه اليسار لأنه بياخذ أكثر من اليمين.

عم تشتري فكر إنت، بدك تشتري واحد جاي في وراه مخزون فكري ونضال سنين، شهريته أغلى من غيره»، أم من ناحية النقد الموضوعي للأجيال الشابة التي ستكون مستقبلاً عنوان 17 تشرين بعد عقد من الزمن، قائلاً إن هؤلاء المراهقين والشباب «بتفكرهن أجانب جايين أو عايشين فترة برا… يمكن لو كنا محلن لنعمل نفس الشيء، إنه ما بده يسمع شيء عن البلد، معه حق يمكن».

ربما من الأفضل هنا استبدال مصطلح «العصر الذهبي» بكل إشكالياته بمصطلح «النوستالجيا». دائماً ما يتعرض الحنين إلى الماضي لهجوم فكري، خاصة ضمن ثقافة 17 تشرين المتوجسة من الماضي. يتعامل كثيرون مع هذا الحنين كأنّه حالة غيبية لا تملك أي أساس مادي. لكن ثمة حدس تاريخي صحيح، ولو جزئياً بشأن الحنين نحو حقبة ما، خاصة إذا كان نحو ظواهر فقدناها ولن تعود، لأن أنماط إنتاجها التاريخية لم تعد موجودة.

إذا كنت تعود مرة تلو الأخرى إلى موسيقى زياد الرحباني أو المسلسلات السورية القديمة، أو ارتأيت أنّ حوار كوسا- الرحباني أفضل من أي بودكاست سمعته أخيراً، فلربما حدسك صحيح.

ليس الموضوع أنك متخشب تكره الجديد. الموضوع هنا أن نمط الإنتاج في القرن العشرين كان مختلفاً، وهو ليس نمط إنتاج مذموماً لارتباطه حصراً بالدولة الأسدية في سوريا أو محموداً لارتباطه بالحركة الوطنية في لبنان، بل هو يتعلق بالدولة والحركة السياسية الطلائعية في أنظمة وأحزاب سياسية متعددة ومتناقضة أحياناً، من دولة «الصفقة الجديدة» في الولايات المتحدة إلى الدولة السوفيتية، إلى الدولة العالم-ثالثية المتحررة من الاستعمار.

يقول القدير بسام كوسا أثناء الحوار: «كل الأمم كل نص قرن بتطالع عظيم، بالثلاثينات طالعت سيد درويش، بالثمانينات طالعت زياد الرحباني». الظرف التاريخي الذي أعطانا زياد كان ببساطة واقعاً عروبياً ينتمي إلى القرن العشرين.

وهنا يؤكد زياد في الحوار عروبَته: «في جزء من لبنان محطط على السوريين لأسباب سياسية، وأكثر من هيك عنصرية، لأنه هو ضد العرب مش ضد سوريا، مين جاره بس؟ سوريا. ملخصتله العرب كلن، لسوء الحظ هي هيك. في جزء عنصري، إنه العرب كلهن للإبادة».

لم يكن مفاجئاً في هذا الحوار المتعلق باليسار والعروبة أن يأتي زياد على ذكر إدوارد سعيد، في معرض نقده للموسيقى الغربية الاستشراقية: «هيدا اسمه الاستشراق، التفكير المسبق عن كيف بدهن إيانا نكون»، رافضاً الحداثة السائلة السياحية-التراثية أو ما يعطيه زياد اسم «التوراثزم».

كثير ممن يعتبرون أنفسهم يساريين اليوم في مناخنا «الثورجي» حيناً و«الإبراهيمي» أحياناً يعتقدون أن زياد لهم (هذا إن لم يحاولوا إلغاء زياد). هم يحاولون اقتباس تهكم زياد وما بعد حداثته من دون إدراك عمق عقيدته وحداثته، التي لم تتحقق في مشرقنا، أو كما يقول الراحل الداعم لقضايانا، الكوميدي الأميركي جورج كارلن: «داخل كل تهكمي، هنالك مثالي خيبت آماله».

المدة الواقعة بين عامي 2006 و2011، لم تكن مثالية بالأخص لأنها جاءت قبل الانهيار الكبير. مع ذلك، كان فيها نفس أخير من الحداثة العربية المشرقية فقدناه، كما نفقد زياد اليوم.

ذاك الفقيد عبّر عنه بسام كوسا في نهاية الحوار: «إلك كثير مكانة كبيرة بقلوبنا، بدون مانشيتات وبدون شي، لأنك انت إنسان شريف وحقيقي».

 

الأخبار اللبنانية في

09.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004