ملفات خاصة

 
 
 

الشاعر المشاكس والموسيقي الموهوب

عبد الخالق كيطان

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

ضرورة المسرح الغنائي

يصحّ القول، من دون تحفظ، إن المسرح الغنائي هو أقل الأنواع المسرحية تقديماً على خشبات المسارح العربية. والسبب ثقافي مثلما هو إنتاجي.

والمسرح الغنائي في حواضر العالم لا يكاد يخلو موسم منه. إنه تقليد ثابت في البرامج المسرحية السنوية. يشارك فيه كبار صناع المسرح، وتنتشر أغنياته وموسيقاه بعد العرض لتكون فناً خالصاً آخر له عشاقه ومتابعيه. ويتشارك المسرح الغنائي مع المسرح الأوبرالي في خصال عدة، مع أن المسرحين يقدمان أنماطاً فنية مختلفة.

تبدأ المشكلة عربياً من المرجعيات الثقافية للمسرح، إذ إنه يقدم على شكلين أساسيين: الترفيه، وهو ما تمثله المسرحيات الكوميدية على اختلاف مسمياتها… والمسرح الجاد على اختلاف مسمياته أيضاً. ورغم أن الترفيه هو هدف بحد ذاته للفنون عامة، إلا أنه في عالمنا العربي حشر في زاوية الإضحاك فقط. وبقي المسرح الجاد، وهذا اصطلاح فضفاض، مهتماً بالتجريب والبحث عن حلول بصرية جديدة، ناهيك بقوة الأفكار فيه. الموسيقى في الحالتين كانت تكميلاً للمبنى، وليست العنصر الأساسي فيه.

والموسيقى عندنا تخضع لمشكلات ثقافية عدة. ورغم أنّ الجمهور، بالمجمل، يستمع إلى الموسيقى، إلا أنها، أي الموسيقى بحدّ ذاتها، ظلت تتأرجح بين التحريم، والتمويل والتسويق. هكذا يجد المنتج الفني نفسه في ورطة حقيقية إذا ما تصدى لهذا النوع من الأعمال. بالطبع لا يمكن مقارنة ذلك مطلقاً بعواصم مثل باريس أو لندن، ولا مع مسارح نيويورك أو موسكو. الموسيقى هناك، والمسرح، عنصران لا يفترقان.

بعد هذا كله، إن المسرح الغنائي كان يطلّ، عربياً، في أوقات متفاوتة وبشكل خجول أحياناً. ولكن تجربة الأخوين رحباني، وتجربة زياد رحباني الخاصة، ظلّتا دوماً نقطة إشعاع حضاري في هذا المجال.

ذكرى شخصية

يطيب لي هنا أن استذكر واحداً من أعظم نتاجات الأخوين الرحباني في المسرحية الغنائية، هي مسرحية «ميس الريم». قدّمت المسرحية في منتصف السبعينيات في بيروت. وكان من عادة الأخوين الرحباني تسجيل مسرحياتهما، بعد عرضها على الخشبة، في استوديو تلفزيوني. وهكذا وصلت هذه التحفة الفنية إلى الأجيال اللاحقة، وأنا منها.

في صيف بغدادي لاهب، وكنت حينها أعدّ برنامجاً للتلفزيون العراقي عن المسرح، فتشت في المكتبة الصورية للتلفزيون عن مسرحية يمكن عرضها كسهرة تلفزيونية. كان الأمر مستحيلاً، والسبب في ندرة ما تضمه هذه المكتبة من مسرحيات من جهة، ومن جهة ثانية صلاحية ما يتوافر منها للعرض التلفزيوني، صلاحية فنية بالدرجة الأساس.

وبعد بحث استمر لساعات، عثرت على نسخة من مسرحية «ميس الريم» على شريط قيم ينبغي تحويله ليناسب العرض التلفزيوني، وهو أمر لم يكن صعباً، بل كان متعارفاً عليه حينها.

شاهدت العرض كاملاً. سجّلت ملاحظاتي، وكان علي أن اختصر الكثير من أجل أن يكون العرض لساعة تلفزيونية واحدة أو ساعتين على سهرتين في أسبوعين.

تدور أحداث هذه المسرحية حول حكاية بسيطة بين عاشقين أجبرا على الفراق بسبب عداء قديم ومستمر بين عائلتيهما، وتجري الأحداث خلال سفر زيون، لعبتها الفنانة القديرة فيروز، إلى ضيعة كحلون لحضور زفاف بنت خالتها.

وحتى يكتمل سيناريو العرض، اتصلت بالأستاذ الفنان الكبير الراحل يوسف العاني ليكون ضيف البرنامج، والذي قدمه على ما أذكر الصديق الدكتور وليد شامل، ليتحدث عن المسرح الغنائي ومسرح الرحابنة بشكل خاص. وقد سعد أستاذنا العاني بالدعوة، خاصة أنّه كان قريباً من الرحابنة ومسرحهم في ستينيات القرن الماضي. وبالفعل تم تسجيل المحاورة، وبثت مع المسرحية من تلفزيون بغداد على جزأين. وحقق البرنامج نجاحاً عند محبي المسرح الغنائي ومسرح الرحابنة على وجه الخصوص.

ماذا فعل زياد؟

في عرض مسرحية «ميس الريم»، يدخل زياد الرحباني ملحناً لقطعتين وممثلاً في دور بسيط. عبقرية زياد تجلّت في لحن المقدمة الموسيقية للعمل. وهي المقدمة التي ظل زياد يقدمها في حفلاته منذ تاريخ عرض المسرحية وحتى وفاته.

سبق ذلك قيام زياد، الشاعر المشاكس، والموسيقي الموهوب حينها بمفاجأة والده عاصي الرحباني، بل الجمهور عامة، بلحن استثنائي لأغنية «سألوني الناس». ويمكن القول إنّ هذه الأغنية مثلت المفتاح الحقيقي للتعاون الفني الوثيق بين السيدة فيروز وزياد.

هكذا تمت إحالة المقدمة الموسيقية للمسرحية إلى زياد، كأنّها إعلان مباشر وصريح عن الموهبة التي ستشغل الفضاء الفني، خصوصاً في المسرح الغنائي والموسيقى. نجح زياد في مهمته، وحققت موسيقاه نجاحاً لا يقل أبداً عن نجاح أغنيات المسرحية التسع (واحد من ألحان زياد وهو «حبّوا بعضن») وغناء السيدة فيروز، باستثناء أغنية واحدة هي «يا مارق عالطواحين» التي أداها الفنان نصري شمس الدين.

استثمر زياد معارفه بجنون الجاز في المقدمة الموسيقية للمسرحية ومعرفته العميقة بالتراث اللبناني في أغنية «حبوا بعضن». والحال أنّه استطاع تقديم موهبته عبر عمل كبير مع مجموعة كبيرة من النجوم. وإذ افترق زياد عن فريق الرحابنة لاحقاً، فإنه ظل وفياً لما تعلمه، وزاد عليه الكثير، خصوصاً النقد اللاذع والنكتة القاسية الجارحة، تلك التي تعبّر عن واقع حال بلمسة يأس محببة.

بعيداً من العائلة، قدّم زياد مسرحيات عدة واصل عبرها توجيه النقد السياسي والاجتماعي بلغة غاضبة وقريبة جداً من لغة الناس. بل إنه كرّر في لقاءاته التلفزيونية أن نقد الناس في الواقع أقسى وأشد مما يكتبه هو. وبالطبع ذلك يقود إلى أسلوبه الخاص الذي عرف به في المزج بين الموسيقى والمسرح والكوميديا السوداء من دون أن يتخلى عن الشرط الجمالي.

واللافت، ختاماً، هو وضوح النبرة الدرامية في مجمل أعمال زياد الموسيقية. ولو أخذت أغنية «البوسطة» مثلاً، ستجد أركان المسرح، أو بالأحرى العرض المسرحي، متوافرة بشكل واضح. شخصيات وزمان ومكان وحدث وعقد وتصاعد درامي... وكان من الذكاء أن تقدم السيدة فيروز الأغنية في حفلة على المسرح مع فرقة تمثيلية راقصة، لا يستطيع من شاهدها أن يسقطها من ذاكرته.

* كاتب عراقي

 

الأخبار اللبنانية في

11.08.2025

 
 
 
 
 

مدونات

فلنحبّه أكثر في غيابه

ضحى شمس

لن أشكّك بنيّات أحد، فنحن أولاد القرى، وحتى المدن، وفي تربيتنا، أنّ مجالس تقبّل العزاء مفتوحة الأبواب هي للجميع، حرفياً. كذلك فإنها غالباً ما تتحوّل الى أمكنة مواتية للمصالحات الصعبة بين متخاصمين. ففي حضرة الموت يتذكّر البشر هشاشة وجودهم، وحجمهم كذرة لا تُرى في هذا الكون العظيم، وإن كان البعض يستعرض حتى في مناسبات كهذه. 

لن أشكّك، ولن أردّد عبارات الغاضبين من محبّي زياد الرحباني، عن أعداء فقيدنا الذين قالوا فيه شعراً، لكن في جنازته. ولن أشكّك بعواطف أحد أو أطعن بندم صادق أدرك أصحابه قيمة الراحل بعد رحيله، كما أدركوا أنهم، في أحيان كثيرة، تسبّبوا بتعزيز أسباب ذلك الرحيل المبكّر والمُفجع بالتعاون والتضامن مع أحوال وطنية وسياسية كثيرة. 

كذلك فإني لست بوارد تفحّص نيّات الأشخاص الذين توافدوا للعزاء بزياد، إن كان ذلك حقاً، أو استعراضاً أمام شاشات البثّ المباشر. إن كان في منطقة الحمرا، حيث كان التشييع الشعبي والعاطفي، أو بكفيا، حيث كان العزاء الرسمي والعائلي، أو أيّ مكان آخر أقيم له فيه عزاء، في لبنان أو تونس إلى مصر وفلسطين. مع العلم أنّ بعض هؤلاء المعزّين لبنانياً، كانوا من أشدّ منتقديه، وأحياناً كارهيه، خصوصاً في المواقف السياسية، لدرجة محاربته، وأنا شاهدة كالكثيرين، إن كان في الإعلام أو في مصادر تمويل أعماله، أو محاولات التخويف وتشويه السمعة باستخدام الشارعين، الفني والسياسي، وحتى الأمني. 

في حضرة الموت يتذكّر البشر هشاشة وجودهم، وحجمهم كذرة لا تُرى في هذا الكون العظيم

لكن الموت استباحة. وفي لبنان الموت مناسبة لاستباحة أشدّ، تصل إلى حدّ الوقاحة، خصوصاً إن كان الراحل شخصية عامة، بأهمية تأثير زياد الرحباني، عندها يصبح الإغراء كبيراً. فالرجل الذي لم يكن أحد يجرؤ على تقويله ما لا يريد قوله، لم يعد بيننا. ولم يعد يستطيع الخروج في مؤتمر صحافي أو بيان لتصويب أو نفي، وهذا ما شجّع على استباحة غيابه لاختراع مواقف، أو نسب تصريحات إليه، وترداد كلام مجتزأ قاله في سياق مختلف فتغيّر المراد منه بالكامل، وصولاً إلى تشهيد المتوفى على أحداث، أو التصريح بآراء شخصية على طريقة "لو كان زياد حياً لقال أو فعل كذا"! 

فزياد اليوم ليس حيّاً. وإن أحببتم تخيّل ما قد يقوله، فليكن نوعاً من رياضة ذهنية تمارسونها في البيت ومع أصدقائكم، لإن أحداً منّا، وهذه ليست إهانة لنا ولا مديحاً لزياد، لن ينجح في تخيّل ما قد يفعله أو يقوله. 

أليس هذا أصلاً سرّ فرادته؟ متى توقّع أحدنا ما الذي سيقوله زياد وأصاب؟ ألم يكن بالضبط مُذهلاً في هذه النقطة بالذات؟ في كيف يرى الأمور من موقع مختلف لا يخطر ببال أحد منا؟ في كونه رؤيوياً، تأتي رؤيويته من مدى فهمه السريع والمبكّر لبنية البلاد وأعطابها، واستيعابه (الموجع) لآليات تفكير اللبنانيين وأمراضهم الاجتماعية والسياسية، ومتابعته الدؤوبة لكلّ شؤوننا العامة؟ 

لن ينجح أحد في تخيّل ما قد يفعله أو يقوله زياد الرحباني

كان له دوماً رأي يُفاجئ بالزاوية التي ينظر منها إلى الأمور. هي زاويته المخترعة، إبداع عقله وروحه وتجاربه. لدرجة أنه حتى لو أخطأ، يبقى رأياً جديراً بالتأمّل، لأنّه من خارج التوقّع صادر عن خيال أوسع وأغنى. 

زياد مات. لا يهتم الجسد، على ما أعتقد، بمصادرته جثةً من دون حياة. فليمارس أي إكليروس طقوسه وسلطته المستمدة من "سماء ما" على المتوفى الذي.. توفي. والجنازة والطقوس الدينية هي فعلياً لطمأنة الأحياء. لكن ما هو أخطر من استباحة الجثمان، استباحة اسم الشخص وتوقيعه وإرثه، خصوصاً حين تكون التركة بحجم تركة زياد.

هكذا، انتشرت فيديوهات تَنسب إليه أقوالاً ما أنزل الله بها من سلطان، لا بالركاكة اللغوية التي تحاول تقليد أسلوبه الساخر والفريد بفشل مهول، ولا بالمضمون المُبتذل الذي لا يشبهه مطلقاً، والذي طفق بعض الناس، المحبّين للرجل، يردّدونه كما لو أنّه كان حقيقة ثابتة. 

وبغضّ النظر عن تحيّز زياد للمقاومة مهما كانت هُويّتها، فهو لم يلحّن نشيد "السيّد"، ولا قاد أوركسترا لتسجيل هذا العمل، بل من قام بذلك هو المايسترو إحسان المنذر. والراحل، وإن كان قد عبّر في مناسبات كثيرة عن احترامه للسيد حسن نصر الله، فهو لا شك لم يقل إن "الحياة بعد السيد جحيم عسل مسموم"، أو شيء بهذه الركاكة مضموناً ولغةً. 

وزياد، وإن كان شيوعياً بالقناعة والفكر، كما صرّح هو بنفسه مرات عدّة، إلا أنّه لم ينتسب رسمياً إلى الحزب، وهذا ثابت، مع أنّه أراد ذلك. وهناك ورقة بخطه كتبها لأحد مسؤولي الحزب ينحو فيها باللائمة على قيادات نصحته بالبقاء حرّاً خارج التنظيم لمزيد من الفائدة. 

هذا في الأكثر تداولاً منذ الوفاة. لكن، منذ وقت طويل، يجري تناقل فيديوهات مُجتزأة من مقابلات تلفزيونية مع زياد الرحباني أو حلقات إذاعية بصوته، كما لو كانت كلاماً مُكتملاً، مع أنها مُقتطعة من سياقها التاريخي أو السياسي، ولقد أضاف خبر الوفاة زخماً أكبر إلى انتشارها. 

الثابت والوحيد لمحاربة استباحة الراحل، أن لا نتناقل إلا ما قاله هو وما تحدّث به هو، بالصوت والصورة

هذه الفيديوهات، وإن كانت غير مزيّفة، إلا أنّ اجتزاءها يزيّف مضمونها بتقديمه كما لو كان مُكتمل المعنى. كذلك إنّ تناقلها الواسع، بحالها هذا، في لحظة تأثّر عاطفي وألم جماعي لفقدان هذه القامة الاستثنائية، سيرسّخها في الوعي العام كمجرّد جمل متناثرة، محطات كلام من نوع الإيفيهات، أو حتى كنُكات، كما عنوَن أحدهم بخفّة قلّ نظيرها: "نكات زياد الرحباني". كما لو أنّ زياد الذي تعرفون ونعرف، ليس سوى نوع من "جحا"، أو "أبو العبد البيروتي" بطل النُكات المعروفة باسمه. 

لذا، يبقى الثابت والوحيد لمحاربة استباحة الراحل، أن لا نتناقل إلا ما قاله هو وما تحدّث به هو، بالصوت والصورة، كما في مقابلاته التلفزيونية والإذاعية وفيديوهات حفلاته المتوفّرة، أو بالنصّ ذي المرجع المضمون، كما في كتاباته في جريدة "السفير" أو "الأخبار"، أو مقابلاته المنشورة في الصحافة المكتوبة، وهي متاحة للجميع، فكما كان هو يقول ببساطة بديهية: عندما يحضر الأصيل لا حاجة للوكيل. 

هل يكفي هذا لحماية زياد؟ في حال التزامنا، أو بالأصح التزام الجمهور الواسع، قد يكون الأمر كافياً. 

لكن ربما وجب التخوّف من محاولات، فاشلة ومثيرة للسخرية حتى اليوم، جرّبت تقليد وتوليد كلام بصوته أو صوت فيروز بواسطة الذكاء الاصطناعي. إلا أنّ تطوّر هذه التقنيات السريع معطوفاً على رغبات البعض في استخدام إرثه لكسب رأي عام أو استغلال نتاجه تجارياً، يمكن أن يكون مُقلقاً. مع أني أكاد أجزم بأنّ هذه التقنية ذات التسمية المُضلّلة، لن تستطيع توليد فكرة واحدة من أفكار زياد الرحباني. 

لذا لنفكّر، إن كنا نحبّه وممتنين له، كيف نحميه من الاستباحة، كيف نحبّه أكثر في غيابه. فهذه الحماية، أقلّ ما قد نقدّمه ردّاً لجميله الفائق الروعة، والأثر الهائل وعصيّ الوصف، على حياتنا جميعاً.

 

####

 

موسيقى

زياد الرحباني والبيانو... أن يتجاوز العازف آلته

علي موره لي

لا ينبغي النظر إلى الموسيقي الراحل زياد الرحباني بوصفه عازفَ بيانو فائق المهارة (Virtuoso)، ولم يكن ذلك جزءاً من مشروعه الفني ومساره المهني؛ فالعازف الڤيرتيوز هو من يهب حياته كليةً لأجل هدفٍ وحيد؛ أن يؤدي كل نغمة على أقصى درجات الإتقان، وأن يحمّل كل لحن وكل جملة أو موضوعة موسيقية بما يُناسبها من شحنة عاطفية وحمولة فكرية، سواء أكانت المقطوعة مكتوبة أم مُرتجلة.

أما زياد الرحباني؛ فيمكن اعتبار سيرته نموذجاً للفنان الشامل، المشتغل في عدد من وسائط التعبير والمنشغل في مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية، فلم يقتصر نشاطه على الموسيقى ولم ينحصر في تقديم الحفلات وتسجيل الألبومات، وإنما تجاوزها إلى الأدب، سواء القصائد، أو كلمات للأغاني، أو نصوص المسرحيات ليقوم هو بتلحينها.

فضلاً عن كونه شخصية جماهيرية مؤثرة لبنانيّاً وعربيّاً، لها حضور متواتر عبر وسائل الإعلام، من خلال مقالات صحافية، أو مقابلات وبرامج إذاعية وتلفزيونية. لذا، لم يكن يصرف كل الوقت، يتمرّن على آلته البيانو، ولئن أراد فلن يجده.

مع ذلك، اشتُهر بإطلالته وهو جالسٌ إليها، إما مُوجِّهاً فرقته الموسيقية من خلف هيكلها الأسود المهيب، وإما مؤانساً جمهوره، بينما تُوضّب أصابع يديه صفحات النوتة المُبعثرة على مَنصبها، أو تلاعب لوحَ مفاتيحها السود والبيض.

في المقابل، لعبت آلة البيانو دوراً محورياً في تكوين زياد الرحباني الموسيقي، وتشكيل مفرداته التعبيرية، ورسم ملامح شخصيّته الفنيّة (Persona) في الوعي العام، فإذا ما قورنت بآلات أخرى تعلّم العزف ومارسه عليها، كالبزق والأكورديون تبقى البيانو الأشد ارتباطاً بصورته في مِخيال جمهوره، فلا ترمز إلى موسيقاه فحسب، وإنما إلى تموضعه الثقافي أيضاً، المتجاوز للمحلّية المشرقيّة، من غير قطعٍ كاملٍ معها، والمحتضن للعالمية الغربية، من دون ذوبان تامٍّ فيها.

في الصغر، أعطاه دروسه الأولى في عزف البيانو على الطريقة الكلاسيكية الغربية، بوغوض جلاليان، العازف في فرقة أبيه وعمه، عاصي ومنصور. لاحقاً في شبابه، اتجه زياد الرحباني بقوة إلى موسيقى الجاز، الذي يعتمد على ارتجال الجمل اللحنية والانسجامات الموسيقية بصورة فيضية وتلقائية، تمايزاً من نهج التحضير المسبق والتركيز المطلق كما هي الحال لدى عازفي الموسيقى الكلاسيكية، الذين يعملون على توجيه الأداء لكي يُطابق تأوّل المؤدي لما أراده المؤلّف من خلال ما أورده من إرشادات خطّها على صفحات مدوّنته، أو تمثّلاً بتقاليد أدائيّة، تكوّنت بفعل إرث اجتهادات تأوّليّة لدى مؤدّين سابقين ومعاصرين، وُثّقت صوتيّاً عبر تقنيات التسجيل.

بالاستماع إلى مقطوعة "وقمح" من خلال تسجيل حيّ ضمن حفل قدمه الفنان في أبوظبي سنة 2005، يمكن التقاط سمات الأسلوب الذي قارب زياد الرحباني وفقه دوره الأدائي. تفتتح آلة البيانو الموسيقى بإرسائها الأرضية النغمية (الهارمونية) عبر استعراضه سلسلة من الأكوردات، أي الانسجامات، توحي للأذن بمقام الحجاز الشرقي الذي يطبع الموتيڤ الرئيسي، ثم ينحرف على غرار موسيقيي الجاز، ليرتجل على سلالم خماسية (Pentatonic) لم تألفها الأذن الشرقية، من شأن ذلك أن يضع المزاج العام ضمن إطار جاز الفيوجن، أي المزيج الذي شاع خلال الربع الأخير من القرن الماضي

عند الثانية (00:20) يُمهّد زياد الرحباني لمقام الحجاز مستخدماً اليد اليمنى وحدها، التي غالباً ما ينيط بها عزف الألحان، نظراً إلى تموضعها حيث الأقسام العلوية من لوح مفاتيح الآلة، المرادفة في ارتفاعها لمناسيب الأصوات الغنائية

بعد فاصلة وجيزة تؤدّيها آلات النفخ النحاسية، تعود يده اليمنى لتُقدّم الموتيف الرئيسي للمقطوعة، ترافقها في طباق تام آلة القانون. بذلك، يُشار إلى القرابة العمرانية واللونية لكلتا الآلتين، اللتين يمكن اعتبارهما، مع أخذ الفوارق الزمنية والجغرافية في الحسبان، تطوّراً عن آلة القيثارة العائدة إلى حضارة الرافدين القديمة.

مثل كل عازفي بيانو الجاز، على الأخص ذوي الأصول المشرقية، ولربما انطبق ذلك أيضاً على من احترف الموسيقى الكلاسيكية الغربية، يظهر ميل زياد الرحباني إلى استخدام اليد اليمنى في العزف. يعود ذلك إلى سمة الغنائية الطاغية للذائقة الموسيقيّة في المنطقة الناطقة بالعربية. يُستدل على ذلك عند الدقيقة (01:00)، حينما يشرع في الارتجال على لحن الموتيف الحجازي، بتنويعات لحنية، يكسرها على وقع إيقاع المقسوم الرباعي، المنظومةُ مقطوعتهُ وفقه.

من بين ارتجالات الجاز التقليدية، تُسمَع بين الحين والآخر زركشات شرقية تُنفّذها اليد اليمنى برشاقة، تُذكّر برائد عزف الموسيقى المقامية على البيانو بأسلوب الجاز، الأذري واكيف مصطفى زاده (Vagif Mustafazadeh)؛ إذ يوحي تلاصق العلامات الموسيقية، في حال نُفِّذت بسرعة فائقة، بالبُعيد الصوتي، أو الربع تون الشائع سماعه في المقامات الشرقية

يبقى أن لتلك الآلة المركزية دورٌ تعدّى الأداء بالنسبة إلى زياد الرحباني. دورٌ ارتبط بكونه مؤلّفاً أكثر منه مؤدّياً؛ سواءً كان التأليف الموسيقي كلاسيكيّاً أوروبيّاً (جاز) أم عبوراً (Crossover) بين الموسيقى الشرقية والغربية، يُعدّ البيانو بين يديّ المؤلّف أو الموزّع أو كاتب الأغاني بمثابة جهاز كومبيوتر، وذلك قبل أن تدخل الحواسيب على صناعة الموسيقى، فعلى لوحها تصطفّ مفاتيحٌ، تغطّي جلّ النغمات، يستطيع بواسطتها تشكيل كلّ الانسجامات الهارمونية الممكنة، بغية تأليف الجمل اللحنية هارمونيّاً متعدّد الأصوات، أو الاستماع إلى لحن من أجل توزيعه على عدّة مناسيب، ستُسند إلى  مجموعة من الآلات المختلفة.

من هنا، يُمكن لآلة البيانو أن تختصر فرقة أوركسترالية بأكملها، بما لا يزيد عن عشر أصابع. مثال ذلك، حينما قدّم الموسيقي الراحل مقطوعته الآلية الأشهر مقدّمة مسرحية ميس الريم خلال سهرة سنة 2018 تلفزيونية (معكم منى الشاذلي)، إذ يكاد يكون البيانو قائماً بجميع الأدوار، من موتيف دوّار (Riffs) ومرافقة إيقاعية وهارمونية تؤدّيها اليد اليسرى، بينما يصدر عن اليد اليمنى اللحن الرئيسي والتنويعات عليه، إضافة إلى الوصلات الارتجالية المنفردة، فلا يتجاوز حضور الفرقة المشهدية (Optics) وبعض الديكور الصوتي.

 

####

 

آراء

طمّنونا عنكم

فاطمة العيساوي

توفّي الموسيقار والمسرحي اللبناني، زياد الرحباني، بسبب أزمة قلبية ألمّت به بعد رفضه متابعة علاج مرض تشمّع الكبد، والعملية الجراحية المعقّدة التي تستتبعه. لكنّ وفاة الرحباني، التي أشعلت ثورة من الحنين والحبّ لدى اللبنانيين وجمهوره العريض خارج لبنان، استسلام للتعب واليأس قبل كلّ شيء. استسلام يبدو متوقّعاً ومفاجئاً في الوقت نفسه لمن أحبّه من جمهور عابر للطوائف والفئات والأعمار، تلقّن منه السخرية والضحك على الحياة ومن خيباتها. لم يبقَ إلى جانبه في الأيام والشهور الأخيرة سوى قلّة من الأصدقاء الحقيقيّين، ومعظمنا قد لا يحظى بهذا الدعم المعنوي الهائل في وقت الشدّة، إلا أن أيّاً منهم لم ينجح في إقناع زياد بالبقاء والاستمرار في المحاولة رغم فراغ المعنى. بقي زياد وحيداً في مواجهة مرض الكآبة سنوات من دون محاولة جدّية للنجاة.

دفق من تعبيرات الحبّ والحزن والحنين اجتاحت الإعلاميْن، القديم والحديث. البكاء والضحك تجاورا إلى جانب الصور التي التقطها بعضهم مع زياد للإيحاء بأنهم أصدقاء أو أنهم (أقلّه) كانوا قريبين منه. لكنّ الرحباني اختار الوحدة بعيداً من هذا الدفق من الحبّ والتضامن الذي خرج إلى الإعلام بعد وفاته فقط. مشاعر الحزن والحنين والشعور بالفقد لدى هؤلاء حقيقية، ولكن هل بكاؤهم هو فعلاً على رحيل المبدع، الذي طبعت أعماله ذاكرة أجيال، أم أنه تماهٍ مع يأسه من فراغ المعنى، ولا جدوى حياة لم تعد تقدّم إمكانات الاستمرار؟

أكد بحث للمجلة العلمية نيتشر هيومان بيهافير، في يونيو 2023، العلاقة بين العزلة الاجتماعية والوحدة وخطر الموت المبكّر

أفاد تقرير لمنظّمة الصحّة العالمية أن واحداً من كلّ ستّة أشخاص حول العالم يعاني الوحدة، وما يُقارب مائة شخص يُتوَفَّون كلّ ساعة بسبب الوحدة، أي ما يزيد عن 871.000 حالة وفاة سنوياً. يقول التقرير الذي يميّز بين الوحدة والعزلة الاجتماعية التامّة إن أسباباً عديدة تساهم في تعميق الوحدة، ومنها سوء الصحّة، وانخفاض الدخل ومستوى التعليم، والعيش وحيداً، وضعف البنية التحتية المجتمعية التي تشكّل دعامةً للتواصل، وغلو التقنيات الرقمية، والإفراط في استخدام "السوشال ميديا" وتفاعلاتها السلبية. بحسب التقرير الصادر في يونيو/ حزيران الماضي (2025)، يؤثّر الشعور بالوحدة على الصحّة النفسية، إذ إن الأشخاص الوحيدين أكثر عرضةً للإصابة بالاكتئاب بمرَّتَين من المحاطين اجتماعياً، وقد يؤدّي إلى تفاقم القلق والتفكير في إيذاء النفس أو الانتحار. كذا، أكّدت ورقة بحثية، نشرتها أخيراً المجلة العلمية نيتشر هيومان بيهافير في يونيو 2023، العلاقة بين العزلة الاجتماعية والوحدة وخطر الموت المبكّر. والورقة التي قدّمت تحليلاً لـ90 دراسة سابقة، شملت معاينة سلوك أكثر من مليونَي بالغ، أظهرت أن الذين يعانون العزلة الاجتماعية هم أكثر عرضةً للوفاة المبكّرة لأيّ سبب مرضي كان، وذلك بنسبة 32%، مقارنةً بمن لا يعانون العزلة الاجتماعية. أمّا الذين أفادوا بشعورهم بالوحدة، فإنهم أكثر عرضةً للوفاة المبكّرة بنسبة 14% من الذين قالوا إنهم لا يشعرون بالوحدة عموماً. أثبتت أبحاث علم النفس العلاقة بين الكآبة الحادّة التي قد تؤدّي إلى انهيار عصبي، والوفيات المبكّرة، إذ يؤدّي الفقدان لدى المصاب (سواء فقدان شخص قريب أو فقدان شيء له رمزية كبيرة) إلى فقدان الرغبة في التواصل مع العالم الخارجي بسبب حالة تماهٍ بين الشخص المصاب بالكآبة، وموضوع الفقدان أو غرضه. لا يعود هنالك إمكانية للاستمرار خارج موضوع أو غرض الخسارة أو الانفصال عنه.

لم يكن زياد الرحباني شخصاً عادياً، لكنّ حالات الكآبة الحادّة لا تقتصر على الأشخاص العاديين أمثالنا، فتشمل النجوم الذين قد نعتقد أنهم يحظون بفرص علاقات اجتماعية أوسع ممّا نحظى به. قبل الرحباني، نجوم كبار تعبوا من الاستمرار، منهم النجمة داليدا التي اختارت الانتحار في مايو/ أيار 1987 في منزلها في باريس بتناول جرعة زائدة من أدوية الأعصاب، وتركت وراءها رسالةً كتبت فيها: "الحياة لم تعد تُطاق. سامحوني". وكذا فعل الممثّل الكوميدي الأميركي الشهير روبن وليامز، الذي تُوفّي في منزله في كاليفورنيا في أغسطس/ آب 2014 منتحراً شنقاً، بعدما بلغ مرحلةً متقدّمةً من إصابته بمرض باركنسون. رغم نجوميته وموقعه الفريد في القلوب، كان زياد الرحباني شخصاً عادياً مثلنا. أكثر ما نجده مؤثّراً في المقابلات التي تلت وفاته لقاؤه مع مالك محلّ في شارع الحمرا، يروي فيها الأخير الحوارات البسيطة مع الرحباني الذي كان يقصد المحلّ في الفجر لشراء منقوشة، وهو الذي كان التجوّل في الشارع نافذته على العالم، وفعل هروب من الأرق الذي يصيبه.

الحزن على وفاة زياد الرحباني إشارة كي نبادر بالتواصل الحقيقي مع الذات ونتفقّد من يغيب: طمّنونا عنكم

بقي زياد الرحباني صامتاً سنواتٍ لا يُنتج فنّاً. اعتدنا صمته، ولم يسأل أيّ صحافي أو مهتم أين هو، ولمَ توقّف عن الإنتاج، وما هي حال يومياته، وما حالته الصحّية وهل تتوافر له ظروف العلاج؟ ما وراء نكاته وقرفه من البلاد والحياة بشكل عام؟ هل نضحك على نكاته أم نبكي؟ العديد من الأصدقاء والأقارب حاولوا الاتصال به من دون أن يتلقّوا جواباً منه، كما صرّحوا أخيراً. بقيت والدته فيروز قريبة دوماً منه، كما قال هؤلاء. قد يكون الرحباني اختار أن يبقى وحيداً من دون حاجة إلى الآخرين، رغم صلابة الصداقات التي بقيت محيطة به. قد يكون حاول أيضاً أن يجد شيئاً جديداً أو ذا معنى يقوله في فنّه ولم يستطع. لا نعرف.

يعيش كلّ منّا في سجن حياته اليومية ومشكلاتها. نقول جميعاً ألّا وقت لدينا للتواصل مع الآخرين ونعتاد الوحدة. نحتمي خلف قناع الكلام الخشبي اليومي، ونقول إننا بخير، حتى عندما نكون في ضياع. نتواصل مع الآخرين بكلام سطحي يتفادى الأساسيات خلف الثرثرة. الأحباء بعيدون في الغالب نتواصل معهم عبر الهاتف من دون أن نتمكّن من أن نقول لهم: لنشرب القهوة اليوم في مقهى جميل، ونثرثر عن الحياة، فنتجاوز معاً ثقلها ولو لساعة أو ساعتَين. موجة الحزن التي اجتاحتنا بوفاة زياد الرحباني ربّما إشارة لنا كي نبادر بالتواصل الحقيقي مع الذات والآخر، ونتفقّد أيّ صديق (أو صديقة) يغيب عن السمع بسؤال بسيط: أنتم بخير؟ طمّنونا عنكم.

 

العربي الجديد اللندنية في

10.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004