ملفات خاصة

 
 
 

ألهمهم فنّياً وأغضبهم سياسياً وأحبّه كثيرون في الحالين…

زياد الرحباني كما يراه السوريون

أنيس المهنا

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

لا يمرّ لقائي بصديقي عمار من القصير في حمص، أو رؤيته في الطريق، إلا وأبادره بالسؤال الذي صار طقساً بيننا: "وين هوّي... نور؟". فيجيبنّي بحنينٍ يختلط بمرارة سنوات المدينة الجامعية في دمشق: "هوّي... وراك! شو عم تعمل ورايي؟ تعا لشوف!". كلماتٌ من مسرحية زياد الرحباني "شي فاشل" ما زلنا نتبادلها بعد 30 عاماً، كشاهدٍ على تشبُّع ذاكرتنا المحفورة بأعمال ذلك "العبقري" كما وصفته فيروز مراراً

قبل يومين، وحين اتصلت بعمار لمواساته بصدمة الرحيل، بدأت بالعبارة ذاتها: "وين هوّي… نور؟". فصاح في الهاتف: "بطّل وراك... اليوم سافر نور!". وكأنما اختار القدر، في لحظةٍ كان السوريون ينتظرون فيها مقتلةً جديدةً بعد فيض دماء السويداء، أن يهبط عليهم بخبرٍ يهزّ المشاعر بطريقة أخرى: رحيل زياد الرحباني، المفكِّر والفنان اللبناني من الطراز الرفيع، الذي غادرنا في 26 تموز/ يوليو 2025، عن عمرٍ ناهز 69 عاماً بعد صراعٍ مع المرض

لم يكن الرحيل خسارةً للبنان وحده، بل ضربةً للوجدان العربي الذي رأى في زياد صوتاً عبقرياً ومتمرّداً، عكست أعماله تناقضات الواقع السياسي والاجتماعي بجرأةٍ نادرة. غاب الرجل تاركاً فراغاً في المسرح والموسيقى والضمير الجمعي، لا على الضفّة اللبنانية فحسب، بل في سوريا الجريحة بالألم والجنازات التي لا تنتهي

كيف شكّل مسرح زياد الرحباني السياسي، وجدان جيلٍ من الشباب السوري وكأنه "مسرح ظلّ" للمسرح السياسي السوري المفقود؟ وأيّ أثرٍ تركه في الحركة المسرحية السورية التي عايشت القمع والثورة؟

زياد كما يراه السوريون… صوت الثورة والمرارة 

شكّلت أعمال الراحل الساخرة مثل "شي فاشل" و"فيلم أمريكي طويل" -التي صوّرت الحرب الأهلية اللبنانية في مستشفى للأمراض العقلية- كمادة للسوريين يحاولون فيها تعويض افتقادهم المسرح الحقيقي، غير المرتبط بأجهزة السلطة، لتتحوّل أعماله إلى "مسرح ظلّ" ثقافي، حفظ خلاله الشباب السوري (خاصةً الطلاب الجامعيين) نصوص مسرحياته عن ظهر قلب ووظفوها في حواراتهم اليومية

يلاحظ الطبيب السوري، "ميلاً لافتاً إلى السخرية الذاتية" لدى زياد الرحباني في ما يتعلّق بما يصفها بـ"تخبطاته" في الانتماءات السياسية المبكرة. هذه السخرية تكشف عن وعي ذاتي بتلك المرحلة من البحث والتجريب السياسي. في المقابل، يبرز التناقض بوضوح عندما يتعلّق الأمر بخياراته الموسيقية، التي "بدت أكثر ثباتاً ووضوحاً منذ البداية"

جعل زياد الموسيقى جسراً متجاوزاً تأثير النصّ المسرحي؛ فمزجُه الفريد بين الجاز والمقامات الشرقية في ألبوم "هدوء نسبي" وغيره، ألهم موسيقيي دمشق وحلب، ورأوا فيه نموذجاً للحداثة المتجذّرة دون تقليد أعمى

إلى ذلك كان تضامن الراحل العابر للحدود واضحاً في دفاعه الصريح عن القضية الفلسطينية وتصريحاته المؤثِّرة -"صبر الفلسطينيين سيُنهضهم كما في فيتنام"- أيقونةً للنضال والالتزام في وجدان الشباب السوري

شخصية "ملهمة" بين التمرّد والفرادة

في تحليل عميق لشخصية الفنان زياد الرحباني، يكشف الكاتب والطبيب النفسي السوري الدكتور رفيف المهنا، في حديثه إلى رصيف22، آليات تشكُّل هذه الشخصية الاستثنائية وإشكالياتها وتأثيرها على جيل واسع يعدّ المهنا نفسه منه.

 يتجاوز تأثير زياد، بحسب المهنا، حدود الفنّ ليصل إلى قلوب وعقول الشباب السوري وعموم جيله بشكل شامل. يشرح: "تأثير زياد كان شاملاً ولم يترك شاباً سورياً إلا وَلَمَسَه بطريقة ما". يتجلّى هذا التأثير في صور متعددة: أولاها الموسيقي الفذّ، فمنهم من رأى فيه "الموسيقي الفذّ البسيط صاحب الجملة الموسيقية التي تعطي الانطباع لكلّ مستمع أنه من صنعها".

 وآخرون رأوه الفيلسوف الساخر، فسمعوه "كفيلسوف سابق عصره، واهتموا بطريقته الساخرة بنكهة المرارة في وصف واقع عربي يتنفس بصعوبة". كذلك وجد كثير من الشباب فيه "ضالّتهم"، فكان بمثابة "المتحدث الرسمي باسم كل غريب ووحيد في بيئته وثقافته"، وساعدهم -دون نية- "على قبولهم غربتهم بأقلّ الخسائر".

كذلك، رآه فريق منهم "المُلهم المسرحي"، كونه "مسرحياً مجدداً وثرياً فتح الأبواب الواسعة للكثير من الشباب الحائر كمُلهم عبقري لا يتكرر"، بحسب الطبيب السوري، ويخلص إلى أنّ "زياد" "لمس الشباب السوري في قلوبهم وعقولهم وفكرهم وأحلامهم"، ما رفعه في نظرهم إلى "مستوى الظاهرة الإنسانية الفريدة".

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

"رشيد" المفرط في الصدق

وكطبيب نفسي، يربط المهنا بين شخصية زياد وبطولة مسرحيته الشهيرة "فيلم أمريكي طويل"، تحديداً شخصية "رشيد" التي عانت الفصام. يرى المهنا، أنّ شخصية رشيد "تنتمي في صدقها إلى أقصى درجات التطرّف الفكري"، فهي تقول الأشياء "بتمامها من دون أي حرف زائد". ويُعدُّ اختيار زياد لتجسيد هذه الشخصية تحديداً، بحسب المهنا، "أمراً مقصوداً"، إذ مثّل رشيد "ذلك الشخص المتعطش دائماً إلى مزيد من الصدق".

وهنا يقدّم الطبيب النفسي خلاصته القوية عن زياد الرحباني، واصفاً إياه بأنه شخصية وصل صدقها إلى حد التطرّف: "نعم يمكننا القول إن زياد مات بفرط الصدق في الحياة"، جملة يلخص بها المهنا مسيرة فنان جعل من تمرّده وصراحته المفرطة وإشكاليته أسساً لفرادة أثّرت بعمق في أجيال مختلفة.

تمرّد على التقليد

كان زياد الابن المتمرّد على تراث العائلة، فرفض البقاء أسيراً في مدرسة الأخوين رحباني، وقدّم موسيقى هجينةً تخلط الجاز مع التراث الشرقي، كما في أغنية "أنا مش كافر" التي سخرت من الانقسام الطائفي .

عن ذلك، يقول المهنا إنّ "زياد" الشاب المتمرّد "استفاد دون أدنى شك من كونه ابناً لعاصي الرحباني وفيروز"، لكنه أظهر للعالم تدريجياً "شخصيته المختلفة" جذرياً، شكلاً ومضموناً. ويرى المهنا أنّ "رفضه للهوية الرحبانية الحالمة الرومانسية كان عاملاً محورياً في صياغة شخصيته الواقعية المتفّردة"، وأنّ هذا الرفض أصبح سمةً أساسية. "تدرّب زياد على الاختلاف في بيت أبيه في السرّ والعلن، حتى صار رفضه للواقع جزءاً أساسياً من شخصيته الإشكالية المتفرّدة"، يردف المهنا متسائلاً: "هل فرادة زياد هي ما جعلت منه إشكالياً، أم أن إشكاليته هي من ساهم في صناعة فرادته وتطويرها؟".

"الآب السماويّ"… استراح في الـ69

حوّل الموسيقار الراحل فيروز إلى رمز معاصر كألبومات مثل"كيفك إنت" و"بعتلك"، أعادت تشكيل مسيرتها الغنائية بعيداً عن "النص الرحباني المقدس"، نحو واقعية أكثر عمقاً . هذا الإرث لم يحصره زياد في لبنان فجعله متعدّد الأصوات، وظهر ذلك جلياً في تعاونه مع فنانين من تونس (لطيفة) والجزائر (سامي حواط)، ما ساهم في أن يصبح تأثيره عابراً للهويات المحلية، ومنها السورية.

وفي وداع أخير وحزين، يقول الإعلامي والممثل المسرحي السوري أمجد طعمة، لرصيف22، بنداء ''فيق يا رفيق'' الذي يعصف في قلوب جيلٍ ربّاه زياد: "لا نراه أباً تقليديّاً بسلطة بطريركية، بل أقرب إلى صورة الآب السماوي، الذي أحبَّ فأعطى كل شيء دون حساب، حتى استراح في التاسعة والستين".

عَبَرَ زياد الحدود بين الشقيقتين لبنان وسوريا خفيةً، مختفياً في شرائط الكاسيت حين كان الكلام ثمنه باهظاً. أسّس زياد حزباً سرّياً بلا أيديولوجيا أو منطلقات نظرية، بلا قادة ولا خطط خمسية. حزبٌ دانت له الأرواح باسمه وحده، فما نطق به كان ''آمين''. وهكذا، على مدار عقود، تشكَّلت مسرحيات وموسيقى وشخصيات في المجتمع السوري تتحدث بلسانه وتقلّد فكره، حتى صار تأثيره تحدياً للبعض في نضجهم الفني وبناء هويتهم المستقلّة.

وقف زياد ضد الثورة السورية عام 2011، لأسباب متشابكة تعكس تناقضات عميقةً في مساره. فقد رأى في الانتفاضة السورية تحوّلاً نحو "ثورة تكفيريين" يهدّدون العلمانية والتنوع، عادّاً أنّ الإسلاميين سيسيطرون على مسارها ويحوّلونها إلى حركة أصولية.

حسب طعمة، فإنّ السيناريست السوري فؤاد حميرة، والموسيقار سمير كويفاتي، والفنان سميح شقير في كاسيت "زماني" عام 1998، وحتى تجربة الممثل محمد خير الجراح، في الغناء الساخر، جميعهم حملوا بصمة زياد الواضحة. بل "إننا في المسرح الجامعي وضعنا صورة الراحل على بروشور مسرحية 'الحق بالوصول' للدكتور وليد إخلاصي عام 1998 (صممه معدّ هذا التقرير)، اعترافاً صريحاً بتأثيره الذي لا يخجل المرء من الإقرار به، ببساطة لأنه التأثير الوحيد الذي لا حرج في الانتماء إليه"، يتابع طعمة.

ويشدّد طعمة: "كما فَرَدَ محمود درويش جناحي شعره على الوطن العربي فلم يترك مكاناً نستظلُّ فيه إلا تحت قصيدته، فعل زياد الرحباني في قلوب وعقول من عرفوه وأحبّوه. امتد تأثيره من الموسيقى والغناء إلى الصحافة والأداء المسرحي، ومن الإذاعة والتلفزيون إلى الأفكار والذاكرة الجمعية… ظلَّ صوته حاضراً في كل تفصيل فني، في ما مضى من أيام الوطن، وفي ما تبقى منه"، يختم طعمة.

الموقف "المزدوج" من الثورة السورية 

 وقف زياد ضد الثورة السورية عام 2011، لأسباب متشابكة تعكس تناقضات عميقةً في مساره. فقد رأى في الانتفاضة السورية تحوّلاً نحو "ثورة تكفيريين" يهدّدون العلمانية والتنوع، عادّاً أنّ الإسلاميين سيسيطرون على مسارها ويحوّلونها إلى حركة أصولية. وبرّر دعمه لنظام الأسد -برغم اعترافه بقمعه- كحاجز ضروري ضد "الفوضى" و"التطرف الديني"، متأثراً بخطاب محور الممانعة الذي يصوّر المعارضة كأداة للغرب والإسلام السياسي

انحاز زياد بوضوح إلى محور "إيران-حزب الله-سوريا"، مؤمناً بأنّ النظام ضروري لمواجهة "مؤامرة خارجية" تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ودافع عن التدخّل الروسي كخطوة "مشروعة". وهذا الموقف كشف تناقضاً جوهرياً في أيديولوجيته. فبينما عُرِف كـ"شيوعي" وهاجم القمع في أعماله الفنية (مثل مسرحية "وقمح")، برّر قمع نظام الأسد باسم "حماية الدولة" حتى أنه صرّح: "لو كنت مكان الأسد لفعلت ما يفعله". كما فضّل أولوية العدالة الاقتصادية على الحريات السياسية، ما جعله يتسامح مع أنظمة استبدادية تدّعي الاشتراكية

وساهمت علاقة زياد بالمؤسسة الثقافية السورية -كمشاركته في فعاليات "دمشق عاصمة الثقافة العربية" 2008- في تعزيز تحالفه مع النخب الموالية، خاصةً بعد تأييده حزب الله. وقد مثّل نموذجاً لليساري العربي المأزوم بين مبادئه وتعقيدات الصراع الطائفي، فاختار "أهون الشرّين"، وفق تصوّره. هذا الموقف أثار صدمة جمهوره السوري العريض الذي رأى في تمجيده بفنّه لرموز المقاومة، خيانةً لثورتهم

وبقي إرث زياد السياسي، والموسيقي، شاهدَين على أزمة المثقّف العربي بين الإبداع والواجب الأخلاقي.

صدمة الشارع السوري من موقف زياد لم يذهب أثرها ببساطة. الكاتب الصحافي الفلسطيني راشد عيسى حاول تفسير موقف زياد، دون مواربة، مشيراً في إحدى مقالاته إلى انحيازه إلى التيار الممانع ضد الاستقلاليين اللبنانيين، وتالياً وقفته العنيدة ضد "الربيع العربي"، ووقوفه مع نظام بشار الأسد، بل تفضيله مخابرات النظام على معارضيه، وحلمه بـ"نظام دكتاتوري كستالين"، وولعه بالاستماع إلى خطب حسن نصر الله، وتوريطه والدته فيروز، ذات مقابلة، بإفشاء "حبها للسيد"، قاصداً نصر الله.

إلى ذلك، يشرح رفيف المهنا هذا الموقف في محاولة لفكّ التباس موقف زياد المعروف من الثورة السورية، بالنظر إلى مسار حياته من بداية نشأته وحتى النضج، قائلاً: "زياد دخل معترك الحياة الحقيقية مبكراً جداً. بمجرد أن غادر كنف العائلة. هذه الانطلاقة المبكرة جعلته يبدو وكأنه في بحث دؤوب ومبكّر عن هويته، ليس فقط الموسيقية، بل أيضاً السياسية والاقتصادية، منذ خطواته الأولى في فضاء الاستقلال".

ويلاحظ الطبيب السوري، من خلال تتبعه مسيرة زياد الطويلة ولقاءاته الكثيرة، "ميلاً لافتاً للسخرية الذاتية" في ما يتعلّق بما يصفها بـ"تخبطاته" في الانتماءات السياسية المبكرة. هذه السخرية تكشف عن وعي ذاتي بتلك المرحلة من البحث والتجريب السياسي. في المقابل، يبرز التناقض بوضوح عندما يتعلق الأمر بخياراته الموسيقية، التي "بدت أكثر ثباتاً ووضوحاً منذ البداية"، مسلطةً الضوء على انقسام في مساريه الإبداعي والفكري.

يرى حسن أنه "حين يتعلّق الأمر بمكانة زياد الرحباني، لدى السوريين تحديداً، فإنه ليس كائناً يُقاس بالحب أو الكره وحدهما بل كقيمة إنسانية، فنية، ثقافية، وأخلاقية، تتجاوز الأذواق الشخصية والانفعالات اللحظية. من العبث اختزال حضوره وتجربته في آراء سطحية أو ساذجة. من الجدير أن نتجرّد من الأحكام المعّلبة"

الأهم في ما يطرحه المهنا، أنّ العقدَين الأخيرَين من حياة زياد كانا شاهدين على أنّ "بصيرته النافذة ورؤيته الثاقبة قادتاه إلى استقرار سياسي واضح. لم يكن هذا الخيار نتاج تجارب عشوائية، بل تشكّل بنضج متجذر من خبرة متراكمة ورصانة فكرية اكتسبها عبر السنين. بينما ظلت موسيقاه تنمو وتتطوّر بثقة لا تخطئها العين، دون تردّد يُذكر".

يستنتج المهنا مما سبق نقطةً جوهريةً لتفسير هذا المسار المزدوج، "كما نعزو جمال موسيقى زياد الساحر ومبتكراته إلى عبقرية خارقة فريدة، علينا أيضاً أن نعترف بأنّ طروحاته السياسية لم تكن بمنأى عن تأثير هذه العبقرية نفسها. تلك العبقرية التي منحته تلك النظرة الاستثنائية إلى المستقبل، نظرة تجمع بين العمق الفكري والبساطة في القراءة".

إلى ذلك، يرى المهنا أنّ موقف زياد المثير للجدل من ثورات الربيع العربي، بما فيها الثورة السورية، "لم يكن سوى حلقة في سلسلة رؤيوية طويلة، ونتاج طبيعي لقراءته للزمن والمصائر".

"عبقرية زياد لا تُمنح

"برغم كل شيء ظلّ زياد يُعدّ، على نطاق واسع، صوتاً للمهمّشين. لكن المؤلم هو غياب البديل لهذه العبقرية التي لا تتكرّر"، حسب ما يصف الكاتب السوري عصام حسن زياد في حديثه إلى رصيف22. يقول: "كثيرون حين يُسألون عن التفاح، يسرعون إلى وصف لونه: أخضر، أحمر، أصفر. وحين يُسألون عن الماء، يأتي جوابهم جاهزاً: بارد، ساخن، دافئ. كأنّ المعرفة صارت قائمةً على أوصافٍ سطحية تكتفي بالظاهر، ولا تمتد إلى الجوهر".

ويتابع حسن : "نعم، لون التفاح مهم، لكنه ليس كل شيء. طعمه، قيمته، وشجرةٌ بأكملها تمنحنا هذه الثمرة… كلها عناصر تزيد فهمنا، لا للتفاح وحده، بل للحياة". 

بهذا العمق، يؤكد حسن: "حين يتعلّق الأمر بمكانة زياد الرحباني، لدى السوريين تحديداً، فإنه ليس كائناً يُقاس بالحب أو الكره وحدهما بل كقيمة إنسانية، فنية، ثقافية، وأخلاقية، تتجاوز الأذواق الشخصية والانفعالات اللحظية. من العبث اختزال حضوره وتجربته في آراء سطحية أو ساذجة. من الجدير أن نتجرّد من الأحكام المعّلبة".

ويشدّد حسن على أنّ "عبقرية زياد لا تُمنح، بل تُشرق كالشمس. لا تختار من تهبُه دفئها، ولا تنتظر استحسان أحد. وحتى من يكره الشمس، لا يستطيع إنكار ضوئها عليه. لا مفرّ من نعمتها، ولا طائل من الجحود، فالظلّ نفسه شاهدٌ لا يكذب".

تقدير زياد للكفاءة السورية

في شهادةٍ لافتة، كشف السيناريست السوري رامي كوسا، على صفحته على فيسبوك، كيف تجلّى احترام زياد الرحباني للموسيقيين السوريين عبر مواقف عملية.

فحين سُئل زياد عن ناصيف زيتون، أجاب أولاً: "ما بعرفه"، لكنه صحّح نفسه فوراً بمجرد معرفة جنسيته قائلاً: "لأ، إذا سوري لازم نتعرّف عليه". ووفقاً لأصدقاء في المعهد العالي للموسيقى، والحديث أيضاً لكوسا، اعتمد زياد على كورال سوري بنسبة كبيرة في أعمال فيروز، ثقةً منه بجودة تدريب "أكاديمية دمشق" واجتهاد خرّيجيها

كذلك وفي عام 2018، طلبت مديرة أعمال زياد من كوسا البحث عن "عازف غيتار سوري يُتقن قراءة النوتة الموسيقية خلال 48 ساعةً فقط"، دون تفسير شرط الجنسية. وقع الاختيار على جورج مالك، الذي رافق زياد في حفلاته لاحقاً.

يختزل كوسا فلسفة زياد بالقول إنه "أحبَّ لبنان وغضب منه، وأحبّ سوريا وغضب لأجلها"، لافتاً إلى أنّ "الغضب يُسقطه التقادم، أمّا الحب فتحميه الموسيقى". وختم كوسا منشوره، بلسان السوريين جميعهم: "ونحنُ نحبّكَ يا رجل، بقدر ما أحببتنا، وبقدر ما وثقت بنا". 

زياد الذي لطالما حذّر من وحش الطائفية الذي ينزف اليوم دماً في جبال السويداء وشوارع اللاذقية، يبدو أنه كان سابقاً زمنه حين رسم بسخريته السوداء صورةً لأحقادٍ متجددةٍ، وكأنّ موسيقى "أنا مش كافر" تتردّد اليوم كندبٍ على الأرض

رحيل صمام الأمان "الفكري"

لم يكن رحيل زياد مجرد فجيعة فنية، بل زلزالٌ هزّ الوجدان الجمعي من السويداء إلى اللاذقية، ومن بيروت إلى دمشق. ففي سوريا، امتزج حزنٌ أشبه بفقد الأب الروحي مع صمتٍ رسميٍ ثقيل تجاه عزاء فيروز، فخلق جرحاً لا يندمل. يقول الصحافي السوري محمد عيد، إنّ "زياد" كان "مرآةً تكشف أقنعتنا، وكأنّ رحيله كشف أيضاً عن شرخٍ بين الناس وأنظمتهم".

أما الإعلامي السوري إياد ناصر، فيرى أننا "محكومون بإرث الرحابنة"، وهنا تكمن المفارقة: فبينما تستمرّ أقانيم العائلة (عاصي، فيروز، زياد) كـ"زوادة روحية"، يغيب اليوم من كان "الأمان الفكري" لجيلٍ يبحث عن ملاذٍ من انزياح الواقع.

زياد الذي لطالما حذّر من وحش الطائفية الذي ينزف اليوم دماً في جبال السويداء وشوارع اللاذقية، يبدو أنه كان سابقاً زمنه حين رسم بسخريته السوداء صورةً لأحقادٍ متجددةٍ، وكأنّ موسيقى "أنا مش كافر" تتردّد اليوم كندبٍ على أرضٍ بقيت كما هي. ويبقى الأمل أن يبقى رحيل زياد فجيعة العام الأخيرة… فما عادت قلوب السوريين واللبنانيين تحتمل وداعاً جديداً، أو مقتلةً جديدة.

 

موقع "رصيف 22" في

07.08.2025

 
 
 
 
 

استماع كويري… رسالة إلى زياد الرحباني

سنين نخلة

بعد مرور أسبوع على رحيل زياد الرحباني، أجدُ نفسي أستمع إلى أغانيه مراراً، تلك التي رافقتني وأنا أحاول أن أتنقّل في دروب الحبّ، والطبقيّة، والجندر. هذه الرسالة تكريمٌ من مُستمِع كويريّ، ترسِمُ خريطةَ الرحلةِ التي أخذتني فيها كلمات زياد من حانات بيروت إلى جسدي المُصغي في هذه اللحظة. أكتبُ إلى زياد، كما نكتبُ إلى ليلٍ غائب، لا لأُعرّف بكلماتهِ المعروفة، بل لأشهد كيف عَرّفت كَلِماتهُ بي.

"عَ المفرق

عزيزي زياد،

كنتُ أقود سيارتي الرينو المستعملة في آخِر شارع "بلس"، عندما لمحت عيني ظلّاً واقفاً عند مفترق "زعتر وزيت"، على بُعدِ أمتارٍ قليلةٍ من موضع التشييع، حيث وضعوك في سيارةٍ أُخرى أقلّتك من الأرض إلى السماء. فتبيَّن لي أنّ ذلك الظلَّ هو لليلى، زميلتي منذ أيام الدراسة. على الأرجح كانت تنتظر "سرفيس"، وبدا عليها الارتباكُ في الحرِّ الّلاهب. كانت كتفاها مُثقلتين بلوحاتٍ مطوية وموادّ فنيّة وحقائب قماشية، كما ترافق عادةً طلّاب الفنون والهندسة في الحرم السفلي.

هذه الرسالة تكريمٌ من مُستمِع كويريّ، ترسِمُ خريطةَ الرحلةِ التي أخذتني فيها كلمات زياد من حانات بيروت إلى جسدي المُصغي في هذه اللحظة. أكتبُ إلى زياد، كما نكتبُ إلى ليلٍ غائب، لا لأُعرّف بكلماتهِ المعروفة، بل لأشهد كيف عَرّفت كَلِماتهُ بي

–" لوين واصلة ديموزيل؟".

غالباً قلتُ شيئاً من هذا القبيل. لا أذكر ما قلته حرفياً، أتذكّر فقط وجهها المشرق عندما رأتني بعد عامَين، وعرضي عليها توصيلةً، فهزّت رأسها مبتسمةً عندما أدركت أنّني أقود سيارةً "مانيوال". لم تكن قيادة هذا النوع من السيارات شائعةً بين الفتيات آنذاك. لم أخبرها بأنّ محرّك السيارة يتوقّف فجأةً عند "الطلعات"، أو بأنني كنتُ أستعين حينها برِجالٍ غرباء لدفعها وإصلاح محرّكها، ولا بأنّ اعتمادي عليهم كان يهمس لي خِفيةً بأنني أفتقر إلى رجولةٍ لم يخطر لي يوماً أنني أشتهيها.

أصبحنا أصدقاء، وسكن كلٌّ منّا في قلب الآخر، وكانت هي أوّل مَن عرّفتني على أسطواناتك الخالدة، عزيزي زياد، في مشاويرنا اللاحقة. "قدّيش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس؟"...

"بلا ولا شي"

عزيزي زياد،

ما إن انتقلتُ من هدوءِ الشويفات إلى صخب بيروت في أثناء مواعدتي ليلى، حتى أصبحت أغانيكَ رفيقةَ أيّامي. كانت ليلى، كبصّارةٍ تعرف قعر فنجانها، تُجيدُ كلَّ زقاقٍ صغيرٍ في العاصمة وتتقِن تفاديَ الزحمة دون اللجوءِ إلى "لفّة العروس" أو Google Maps. من ناحيتي، باستثناء محلّ "Network" الذي كنت ألعب فيه Counter Strike مع أخي الصغير وأصدقائه، لم يحدث في ضاحيتي ما يُذكر حتى تلك اللحظة. "هلّأ على أكثر من صعيد، صار كثير… بس كل حادث إلو حديث".

عند وصولي إلى بيروت، انقلبَ كلُّ شيءٍ رأساً على عقب. فوجدتُ نفسي في قلب الحانات التي زيّنت جدرانها صور تشي غيفارا وأباريق العرق الباردة، والتعاونيات النسويّة التي وزّعت الواقيات مجاناً وسط ضحكات الأصدقاء، والمطاعم التي احتضنت لقاءات التنظيم السياسي، وجلسات البيوت حيث تبادل اليساريون الأطباق والآراء إلى ما بعد منتصف الليل، وحيث شاركتُ عاماً بعد عامٍ في التحضير للمظاهرات والمسيرات وحملات البلديات، متعلّماً من رفاقٍ بذلوا الجهد الأكبر. برغم تناقضات تلك المساحات، انغمستُ في النقاشات بشغف، أبحث عن موضع قدم لم أجده كاملاً. وكنت أرى الجميع، حقّاً الجميع، يستمعون إلى أغانيك. تردّد صدى "يا زمن الطائفية" و"لشو التغيير" في الحانات، ثم احتلَّ مكبّرات سياراتنا في رحلاتنا إلى الشواطئ. لفتت كلماتك انتباهي إلى الطائفية والطبقية التي تجاهلها بعض الأشخاص في مدرستي ومنزلي. وكما في كثيرٍ من البيوت، دُفِنَت ذكرى الحرب في زوايا الغرف تحت الغبار، ومع هذا نبشت أغانيك هياكل السلطة المحيطة بنا من جديد.

في هذا الإطار، وبينما كانت ليلى تبحث عن الجمال في بنية أعمال محمد الرواس الفنيّة، كنت أجِد الجمال فيها. "كنت موت بربّها يا زياد"… قالت لي بعد حين إنها كانت خلال أيام الدراسة تتسلّل مع صديقتها لتتفحّص أيّ قميص "لبَّقتُه" على أيّ جينز، غير أنني لم أكن أعرف كيف أُراوِغ دفء مشاعرها تجاهي. اندفقت مقاطع "بلا ولا شي" في أثناء الزحمة في طلعة نادي "الرياضي" حتى أصبحت الأغنية لنا وحدنا. ولكن ما أردت أن أحتمي بالظل، أردتُ من العالم أن يرانا عاشقتَين لا شقيقتَين. فحين قدّمتني لوالدها كواحدةٍ من أعزّ صديقاتها، تمنّيتُ لو كان بإمكاننا نَيل بركته.

ولذلك، اخترقني بيت واحد من قصائدك: "حبّيني وفكري شوي بلا جوقة إمّك، بيّك"، وتوأمه بيت آخر في أغنية "كيفك إنت": "هيدي إمّي، بتِعتل همّي منَّك إنتَ، ملّا إنتَ". وإن كانت بيننا وديان متفرّقة، بدا لي، يا زياد، أنك تفهم الخوف الذي نختبئ منه أمام أهلنا. كنت أتخيّل أمي، التي كان يُقلقها حكم العالم على رغباتي أكثر من رغباتي نفسها. وكنتُ ألتقط في كلماتك تلك الأكاذيب البريئة والحجج المقنعة التي كنا نحيكها لأهلنا وأهل الأحبّاء عند ردهم على الهاتف الأرضي. مع ليلى كان كلّ شيءٍ سهلاً: فقد احتضنتني أمّها، وعدّني أبوها صديقةً وفية. أما مع علياء، حبيبتي السابقة، فكانت أمّها، دون استئذان، تقتحم الغرفة وتنشر الفرشة بيننا، ثم تشمّ التوتر ككلبة صيدٍ ترصد أثر فريستها. وبين هذا وذاك، كان لنا عالمنا: شاركنا أصدقاؤنا بمشاريعهم الفنيّة، سواء كانت أفلاماً طلّابيةً، عروضاً مسرحيّةً، أو "بورتريهات" فوتوغرافيةً في "الرملة البيضاء". في حفلاتهم، كنا ببساطة "سنين وليلى"، بلا تبرير. لكن خارج تلك الدوائر الصغيرة، كانت الحكاية مختلفةً تماماً.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

ولم يكن الأهل وحدهم من نخشى حكمهم. كان هناك دائماً "الناس"، ذلك المفهوم الذي يتردّد في أغانيك كظلٍّ ثقيل. وبعد رحيلك، عدتُ إلى ألبوماتك وألحانك لأحاول فهمك وفهم معاني كلماتك، ووجدتُ انشغالك بـ"الناس" في كل مكان. في عبارتك عن المجتمع أجد معركتي الخاصة للانتماء في مجتمعٍ تبرز فيه العيون خلف كل "أباجور". يتجلّى ذلك في "عايشة وحدا بلاك"، في هؤلاء "أولاد الحارة" الذين يقررون كم امرأة يحتملها قلبٌ واحد، وفي "كيفك إنت" كهمٍّ صامتٍ يُسمّى "العيال والناس"، وفي "ع هدير البوسطة" مع "ركّاب تنورين" الذين تجالسهم في الباص متوهّماً أنّ "بالهم فاضٍ"، ثم في "عودك رنّان" حين جمعتَ الناسَ على صوت الوتر فامتلأت ساحة الرقص بأجسادهم برغم أنك واقفٌ على الهامش، تترجم فرحهم. كنتَ دائماً بينهم، تعزف مشاعرهم دون أن تلتحق بهم، تتأرجح بين الانتماء والنقد. وهي إحدى النبضات الكويريّة: أن تشعر بالعزلة في غرفةٍ مكتظّة.

وفي ثنايا كلماتك، ألمح شيئاً آخر أيضاً. أرى حركةً لا تستقرّ على حال، بين اتجاهاتٍ متقلّبة واهتزازاتٍ وعبوراتٍ تتكرّر: من الكميون الذي "طالع دغري وموزون"، إلى الليرة التي "بتقطع من هون لهونيك"، ومواسم الطائفية التي "بترجع من هون وهونيك"، والعاشق الذي إمّا "رق وحنون" أو "مايل عالغصون"، وذاك الذي "من مرا لمرا عم يرجع لورا"، وختاماً بـ"روّاد الأبجدية يللي قطعتو السبع بحور". كنتَ تتحدّث عن تحوّلاتِ المجتمع وتقلّباتِ السياسة والاقتصاد، لكنّك التقطتَ أيضاً التيّارَ المضادّ الذي نسبح فيه "نحن"، روّاد الدروب غير المرسومة؛ نحن من لا نسيرُ في خطٍّ مستقيم، بل نميلُ ونتبعثر ونعود، ونموتُ كي نُخلق من جديد، بحثاً عن أرضٍ نحيا بها ومعها

رُبّما لأنّنا كنّا في بدايات الطريق، لا نعلم وجهتنا بعد، وعلى رغم حبّنا وشبابنا، زرعت في رأسي موعداً لانتهاء علاقتي مع ليلى، فأفسدتها بيَديّ، لعلّي لم أصدّق يوماً أنّ بإمكاني البقاء معها "حتى النهاية". وعند مفترق دروبنا المشتركة، أحطتُ نفسي بأغانيك دعامةً لقلبي، وضممتُ بقاياه في فجرِ عشقٍ جديد.

"الحالة تعبانة"

عزيزي زياد،

بعد عامٍ من انفصالي عن ليلى، أهو عامٌ واحد؟ لست أذكر، فالذاكرةُ بيتٌ يُبدِّلُ أثاثَهُ كلما طرقنا بابَهُ. تعرفتُ إلى ثريّا التي سرقت قلبي بفَساتينِها الفضفاضةِ المرقَّعةِ بألوانٍ زاهيةٍ، وبحُبِّها العتيقِ لأسطواناتِ جوني ميتشل الفينيلِيّةِ، حتى وجدتُ نفسي أغرسُ ممتلكاتي في زوايا بيتِها، نصوغُ معاً مأوى يُشبِهُنا. كانت ليالينا مليئةً بالطبخ المشترك والنبيذ والألعاب وعزف الغيتار، وأصدقائنا الذين ملأوا البيت بالدفء والنكات. كنتُ أخطو بحذر نحو رشدٍ يزدادُ وقعُهُ، وإن ظننتُ نفسي راشداً منذ زمنٍ. بدأت المسؤولياتُ تتوالدُ في صدري، ولأول مرّةٍ عشتُ مع حبيبةٍ بعيداً عن عائلتي وخارجَ مهاجعِ الجامعة. هناكَ أدركتُ "الحالةَ" في عباراتِك كما تُعاشُ ولا تُسمَعُ.

حين قلت "إنتِ غنّية يا ليلى ونحنا دراويش"، وتبعتَها بـِ"ولا في بهالحبّ مصاري"، ثم ختمتَ بمرارتك: "إنتِ بوادي ونحنا بوادي"، كنتُ أسمعُ هذه العباراتِ بأُذُنٍ كويريّةٍ وترانسيّة تستبدلُ الليرة بشعورِ النقص: لستُ المرأةَ التي تحسبني إيّاها حبيبتي، ولا الرجل الذي أحمله في داخلي بعد

كنتُ أُدَرِّسُ دروساً خصوصيةً بالكادِ تسدّ الإيجار، محظوظاً بمنحةٍ جامعية أتاحت لي المعرفة واللغات ووقتاً للحب والتفكير والاستماع إلى أغانيك. بينما كانت هي تمتطي السفرَ من قارةٍ إلى أخرى، تلقي مئةً وخمسين دولاراً على كفّ الصيّاد إكراميّةً لشراء "أويسترز" طازجٍ في الأشرفيّة، وتقودني إلى غداءٍ لا يسعُ جيبي إلا نصف ثمنه. ثمّ من وحي اللحظة تطلبُ سجادةً مصممةً من الولايات المتحدة كونها الوحيدة التي تليق بالطابعِ العصريِّ للبيت. يا زياد، عندما كتَبتَ "الأرض عنا بلا سجادة" وهي "معوَّدة تمشي على الريش"، "كان خاطر على بالك إنّو في ناس بيوصّلهُن هالرّيش بالبريد الدّولي؟"...

أصابني شيءٌ من الضيق المالي الذي صوّرته حين قلت "إنتِ غنيّة يا ليلى ونحنا دراويش"، وتبعتَها بـِ"ولا في بهالحبّ مصاري"، ثم ختمتَ بمرارتك: "إنتِ بوادي ونحنا بوادي". كنتُ أسمعُ هذه العباراتِ بأُذُنٍ كويريّةٍ وترانسيّة تستبدلُ الليرة بشعورِ النقص: لستُ المرأةَ التي تحسبني إيّاها حبيبتي، ولا الرجلَ الذي أحمله في داخلي بعد، ولا أملك ما يكفي من النقود لبناء هذه العلاقة أصلاً. واليوم أدركُ أنّ أغانيك ليست عن المال فحسب، بل هي لقطات للحبّ مثقلة بعبء الإعالة؛ ذلك العبء الذي علّقه المجتمع على كتف الرجل، وهو أحد مصادر الإحساس بالنقص الذي سكن جسدي. ومع قناعتي بأنّ الزواج فخّ ومؤسّسة فاسدة، أغراني حلم الحياة العادية، ذلك الحلم المزروع فينا منذ الطفولة. حملتُ ثقل دور الرجل المُعيل دون أن أدركه. وكنت كلّما أخفقتُ في أداء هذا الدور، ازداد النقص رسوخاً في جسدي، فأتمدّدُ بعد العناق كرسالة حب بُترت قبل أن تُختَم.

وما إن خرجْتُ من ضيق غرفتنا إلى صخب الشارع، حتى وجدتُكَ تكشفُ الثقلَ نفسه على رؤوس الأشهاد. ربطتَ بأغانيك همَّ الإعالةِ بالمساحةِ العامّة، وأنا أقرأُ في ذلك أنّ الضغطَ على الرجل لإثبات قدرته الماليّة، وجه آخر لقمع النساء، والرجال، وجميعِ الأجسادِ والهويّاتِ غير النمطية. سخرتَ من إصرارِ المجتمعِ على تلميعِ صورةِ الأسرةِ النوويّةِ الكاملة؛ ثم غنّيتَ "بما إنو كل شي نظيف... لفّ حصيرة وشنجل مرتَك، روح افرِشْهن عالحشيش"، كأنّما يُطلَبُ من الرجل أن يفرشَ عائلته على العشب كبسط البائع منتجاته على الرصيف.

إذا كان ضغط "الصورةِ الأسريّةِ الكاملة" خانقاً، يا زياد، فتخيَّل العبءَ الذي أثقلني: لم يعترف المجتمع بعلاقتي مع ثريّا، ورؤية الناس لنا كامرأتين معاً أيقظت فيّ شعوراً قارصاً لم أعرفه بعد. فأنا أتحرّك في هوامش هذا المسرح، أعيشُ ظلَّ الستارة التي هززتها بأغنياتك. ولو تفلّت من "الناس" الكَرَمُ للحظة، واعترفوا بي رجلاً، لما كنتُ إلّا رجلاً يدوخ رأسه أمام فاتورة "الأويسترز"، بعد أن لوّحتْ بها حبيبته أمام صيّاد الأشرفيّة… هكذا التقت كويريّتي بنقدك: الرأسمالية والذكوريّة قفصان من المعدن نفسه، وما بين قضبانهما نحاولُ أن نُحبّ.

"خلّي إيدك عالهويّة"

عزيزي زياد،

وفيما أتهيّأ لإعادة تهجئة اسمي ومؤشّر جنسي في بلد أجنبي، حيث يغطّي التأمين الصحي ما نناضل لأجله في بلادنا، ولا يتوقّف تغيير الأوراق على مزاج المختار أو نفاد الحبر في الدوائر الرسميّة، أتأمّلُ لبرهة في التواء كلماتك. كم من مرّةٍ غيّرتُ وجهي لِحُب امرأة؟ بدّلتُ المدنَ والعشّاق، وتقلّبتُ بين هويّةٍ وأخرى، حتى ما عدتُ أعرفُ اسمي. واليوم، لا يزالُ صوتُك يدوزنُ ذاكرتي، وفي دوّامةِ تغييري، يعيدُني الحزنُ على رحيلك إلى كلّ زقاقٍ وبيتٍ ومساءٍ علّمتَني حُبّه.

وأنا أستقبلُ شَوارِبي الأفنديّة، أُحدّقُ في المرآة مُودّعاً صورةً من نفسي لم تعد موجودةً، وأذكّر نفسي وكلّ من عرفني بأنّني لستُ أعبُر، ولا أتحوّل، ولا أبتعد كثيراً. بل أُقلّبُ أوراقي وأنسجتي، كمن يعيد ترتيب بيته، كي أتمكّن من البقاء بينهم.

وإذ بكلماتك تتردّد فجأةً في أذني، كما لو أنني أسمعها للمرّة الأولى. تعود إليّ وصيّتُك: "خلّي إيدك عالهويّة وشدّ عليها قد ما فيك"، وصرختُك تتوسّلُ إليهم لأن "يحلّوا عن اسمك وحروفه"، فأتمسّكُ بهما كما يتمسّك المرءُ بجذورٍ توشك أن تتوارى تحت التراب. وإن كنتَ تتهكّم في كلماتك على هوس هذا المجتمع بالهويّات الطائفيّة وسؤال "ابن مين إنت؟"، فإني اليوم أسمع فيها صدى مختلفاً، صدى يتعلّق بانتمائي إلى ذاكرتي وأرضي، ولغتي، وجسدي؛ كما أعرفها الآن، وكما عرفتها من قبل.

وتزورني جملتُكَ الآفِقة في أغنية "لشو التغيير" حيث تؤكّد: "المستقبل مثل الماضي والحاضر هوّي إنت". ربما أردتَ بها أن تسخرَ سخريةً لاذعةً من جمودٍ سياسيٍّ لا يتزحزح، لكنّني أرجو أن تسمحَ لي بتبنّيها على طريقتي، كمرآةٍ تعكسُ انفتاحي على التغيير، دون أن تمحوَ أثرَ مَن كُنت.

"معلومات مش أكيدة"

عزيزي زياد،

كما وَجدَتني ليلى على مفرق شارع "بلس"، افترقنا في الحمرا، قرب مقهى يونس. وبعد يومين من خلافنا الأخير، لم أجد ما أتمسّك به سوى باقة ورد. تَشبّثتُ بها، وقدت السيارة نحو منزلها، أحملُ رغبتي في الاعتذار وشرح موقفي. لكن، قبل أن أصل، سبقتني الحقيقة على لسانِ صديقة: كانت قد غادرت المدينةَ إلى حضنٍ مألوفٍ. وحينها فقط أدركتُ أنّ قلبي تأخّر؛ لم أصل إليها لأمنحها فرصةَ الاختيار: أن تحفظ الباقة، أو أن ترميَها. أغنيتك "معلومات مش أكيدة" أنقذتني يومها، وواصلت إنقاذي في الأشهر التالية عندما بكيتُ عند صديقتي من أيام الجامعة، ياسمين، ابنة إحدى أوائل النساء اللواتي قدّمن التعازي لوالدتك في كنيسة بكفيا.

يا زياد، قد لا تكونُ كتبتَ عن امرأتين تكتشفان الحُبّ كلغة جديدة، وقد لا تكونُ كتبتَ عن جسدٍ تتجاور فيه الأزرار والعرى دون أن تلتقي. لكن وجدتَ لي، برغم كلّ ذلك، مكاناً بين سطورك

أحد عشر سنةً مرّت على فراقي وليلى. أراها اليوم في صور زفافها على إنستغرام. تزوّجت رجلاً يبدو لطيفاً. يبدوان سعيدَين، كما يليق بهما.

كنتُ أبحث عن نفسي في صوتك. في بيت "ما بفهم الشعور، مش بإيدي"، منحتَ كلماتنا صدىً أوسع: عن حبٍّ لا اسم له، ولا تعريف، ولا يقين، ولا ضمير، ولا اختيار؛ ومع هذا كلّه، تركتَ له متّسعاً فيك. كأنّك تقول: حبّنا موجود، حتى لو لم يفهموه. وعندما غنّيتَ عن الوداعات التي لا تكتمل، لمستَ شيئاً فينا: "نحن" الذين لا ننتهي حين ننتهي، بل نعيد رسم الحدود مع كل لقاء وفراق. قد لا تكونُ كتبتَ عن امرأتين تكتشفان الحُبّ كلغة جديدة، وقد لا تكونُ كتبتَ عن جسدٍ تتجاور فيه الأزرار والعرى دون أن تلتقي. لكن وجدتَ لي، برغم كلّ ذلك، مكاناً بين سطورك.

طوال هذه السنين، ظننتُ أنّني أستمعُ إليك. اتّضحَ أَنّك أنتَ مَن كان يُصغي إلينا جميعاً.

لهذا السبب، بكاكَ الملايين في العالم كلّه، كما يُبكى الأخ أو الصديق: من اللحّام الذي حدّثك عن الثورة إلى أكبر السياسيين الذين انتقدتهم في أغانيك.

لهذا السبب، رافقك التصفيق في تشييعك كأنّه صلاة.

لأنّهم، ببساطة، وجدوا أنفسهم في أعمالك؛ لأنّك قطعت نفسَك إلى آلاف القطع، لترسم بها لوحةً تجمعنا جميعاً.

ومن هذا المنطلق، أعلم أنّ رحيلك ليس أكيداً، لأنّكَ ما زلت حيّاً في قلوبِنا وذكرياتنا وأسطواناتنا.

شكراً على كلّ ما تركتَهُ لنا من ذاتِكَ، وكلّ ما ضَمَمتَهُ منّا إليك.

"خلينا نشوفك قريباً"،

كاسَك

*ساهم في تحرير هذا النص هدى آني.

 

موقع "رصيف 22" في

08.08.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني، أو كيف نكتب روايتنا الوطنية؟

عصام  س. الشمالي

يمكن تعريف الرواية الوطنية على أنها بناء سردي تصوغه جماعة سياسية بهدف تشكيل هوية جماعية وترسيخ ذاكرة تاريخية مشتركة.

يمكن تعريف الرواية الوطنية على أنها بناء سردي تصوغه جماعة سياسية بهدف تشكيل هوية جماعية وترسيخ ذاكرة تاريخية مشتركة.

وغالباً ما تتكوّن هذه الرواية من أحداث بطولية، وشخصيات رمزية، وقيم تأسيسية، فتكتسب بُعداً أسطورياً يُسهم في إضفاء شرعية على شعور الانتماء الوطني. لكن الرواية الوطنية ليست كياناً ثابتاً، بل هي بطبيعتها متحولة: يعاد تشكيلها تبعاً للديناميات السياسية، والتحولات الاجتماعية، والتحديات الثقافية الخاصة بكل حقبة زمنية.

في لبنان، تبقى الرواية الوطنية موضع نزاع، بل ويمكن القول إنها غير موجودة بشكل موحّد. هذا التفتّت يعود إلى تعددية الذاكرات الطائفية، الناتجة من تاريخ مثقل بالحروب الأهلية، والاحتلالات الأجنبية، والتجاذبات الطائفية.

في ظل غياب توافق تاريخي مشترك، تقوم كل جماعة بصياغة روايتها الخاصة، وتنتج بذلك سرديات مضادة، غالباً ما تكون متناقضة. هذا التعايش بين روايات مفككة يمنع نشوء مخيال وطني مشترك قادر على تجاوز الانتماءات الهوياتية الضيقة. وهكذا، يجد لبنان نفسه محروماً من سردية جامعة تُعدّ ضرورية لبناء ذاكرة جماعية، ولتجسيد فكرة الوطن نفسها.

من المشروع التفكير بأن فكر زياد الرحباني وأعماله قد تشكّل قوة توليدية، قادرة على إعادة مساءلة، بل وإعادة تأسيس، مفهوم الانتماء الوطني بحد ذاته.

يصوغ شكلاً من الانتماء الكامن، المتنافر، الهشّ،

ولكن الحيّ بعمق

من دون كلل، يواصل زياد مساءلة المستقبل، وتمكّن بأسلوبه الفريد من طرح الأسئلة الجوهرية بنبرة تجمع بين سخرية ثاقبة وحنان مشوب بالغضب المكبوت.

تُظهر أعماله تعددية صوتية حساسة، يعبرها الشكّ، والفكاهة، وتجارب الحياة اليومية، فتولد منها لغة هجينة تتأرجح بين الثقافة الشعبية والفكر النقدي. إنها لغة تؤسس لقواعد نحوية وطنية مقلوبة: لا رسمية، لا نُخبوية، ولا شعبوية، بل متجذّرة في توتر الواقع. تُعلي هذه القواعد من شأن الإخفاقات، والخيبات، والسخرية، لا بوصفها شوائب، بل كمواد تأسيسية لذاكرة جماعية بديلة.

اللغة التي يستعملها (العربية العامّية، والفرنسية والإنكليزية المقلوبة) هي لغة لبنان المتردد، ولكن المفعم برغبة عميقة في القول، في الحلم، وفي الاعتراض.

يصوغ زياد شكلاً من الانتماء الكامن، المتنافر، الهشّ، ولكن الحيّ بعمق. في عالمه، لا تُفرض الوطنية ولا تُؤلّه، بل تُرتّق، وتُبحث، وتُغنّى، بصوت جماعي متعدد. تتحول بذلك إلى تجربة مشتركة، لا تُكتمل، وتُعاد صياغتها باستمرار.

عبر مسرحه، موسيقاه، وحتى صمته، ينبعث شوقٌ إلى أفق مواطني أفقي، وحنينٌ إلى وطنٍ يصعب العثور عليه، وغضبٌ رقيق لمن يحبّ من دون أوهام. تبدو أعماله، في هذا السياق، كجَزّ (jazz) سياسي: مرتجل، مجسّد، ومتجذر في الشارع .

في لبنان، لا يمكن للرواية الوطنية أن تنشأ على شكل سردية موحّدة، منغلقة على ذاتها. بل قد تولد من مخيال جماعي قيد التشكل: نقدي، عاطفي، وصراعي.

رواية تتبنّى التناقضات التي تكوِّن التاريخ اللبناني، وتمنح للقطائع قيمتها بوصفها لحظات كاشفة، وتجعل من السخرية أداة وعي ومقاومة. أمام انهيار الخطاب السياسي التقليدي، تقدّم هذه الرواية بديلاً متواضعاً ومكانياً، تحمله أصوات هشّة ولكنها ثابتة، لأناس لا يزالون، رغم كل شيء، يؤمنون بانتماء ممكن .

لم يعد الهدف أن نقول: «هذا هو لبنان»، وكأننا نُعرّف جوهراً ثابتاً، بل أن نقول: «هذا ما عشناه، ما شعرنا به، ما أنشدناه... وما لا نزال نجرؤ على أن نحلم به».

بهذا المعنى، يكون النشيد الوطني تركيبة مفتوحة، تنبع من أصوات الحياة اليومية، من شظايا اللغة، ومن أصداء العاطفة. ربما، ولو مؤقتاً، يمكننا أن نتبنّى أغنية «قوم فوت نام» كاستعارة لهذا الانتظار المليء، ريثما نرسم، من تناغمات العادي واليومي، سردية على مقاس الإنسان: نشازها جزء منها، هشاشتها قوتها، وصدقها قدرتها على احتواء تعقيد التجربة اللبنانية بكل أطيافها.

 

####

 

«جادة» زياد الرحباني... هل أنت جاد، يا ريّس؟

بول مخلوف

فور انتهاء جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت يوم الثلاثاء الماضي بغية مناقشة (وحسم) قرار نزع سلاح «حزب الله»، خرج وزير الإعلام بول مرقص وأعلن بحماسةٍ عن القرار الحكوميّ الجديد: «نزع» اسم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عن «الجادة» التي حملت اسمه

فور انتهاء جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت يوم الثلاثاء الماضي بغية مناقشة (وحسم) قرار نزع سلاح «حزب الله»، خرج وزير الإعلام بول مرقص وأعلن بحماسةٍ عن القرار الحكوميّ الجديد: «نزع» اسم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عن «الجادة» التي حملت اسمه ليحلّ اسم زياد الرحباني مكانه. هكذا، صار للرحباني «جادّة» تحمل اسمه... على طريق المطار. «هل أنت جاد، يا ريّس؟».

حكومة نواف سلام، هي بالفعل، حكومة عصرية. نواف سلام هو بحد ذاته عصريّ؛ الرجل يذهب إلى «البيال» لحضور حفلة «دي. دجاي» رودج والمطرب الحلاني، «يُصغي» إلى «صوت» الجيل الجديد مثل «التريو» النيابي التغييري ميشال الدويهي وإبراهيم منيمنة ومارك ضو، يعيّن مستشارين إعلاميين يكرهون الأسد، وينتظر كل سنة «معرض الكتاب» ليطّلع على نتاج الشعراء الشباب وعلى أحوال «السرد» اللبناني وشؤونه.

ووزراء حكومة سلام لا يقلّون «عصرية» عنه، وإلا لما اختارهم وزراءً يا صاح. بول مرقص واحد من الوزراء العصريين. هذا وزير عصريّ جداً؛ تراه يقف في المطار ينتظر مواطنين إماراتيين سياحاً حتى يستقبلهم في «بلدهم الثاني»، هل في وسع «العصريّ» غير عشق الإمارات؟

يتحدث بشكل عصري عن حرية الصحافة في لبنان رغم أنه لا يفعل شيئاً في هذا الصدد، كما إنّ «عصريته» قادته للقيام بما يشبه «القطيعة» مع «إرث» عريق عرفته وزارة الإعلام طويلاً. هو عصري راديكالي، مع القطيعة لا الامتداد.

فقد اعتادت وزارة الإعلام تقديم واجب العزاء: عند رحيل أي إنسان ذي «مكانة» سياسية أم اجتماعية (ليس ثقافية، لا «تحزن» الدولة على رحيل المثقفين)، كان «تلفزيون لبنان»- القناة الرسمية للدولة- يفتح الهواء للموسيقى الكلاسيكية كتعبير عن الحداد. لم يحدث هذا الأمر مع رحيل زياد الرحباني. «تلفزيون لبنان»، تلفزيون «الدولة»، من يشاهده أصلاً؟

هذا يُعَد من الأدبيات «الخشبية»، والوزير، وزيرنا، عصريّ! ثم من منّا يسمع الكلاسيك؟ ألم ينتقد زياد الرحباني نفسه التعاطي الساذج مع الموسيقى الكلاسيكية حين تتحوّل إلى «خلفية» حزينة لمناسباتٍ مثل الجنازة؟ لكن ما الضير لو وضعت موسيقى زياد على مدى نهار كامل على «تلفزيون لبنان»؟

ما المانع لو أعاد «التلفزيون» بث حفلات الرحباني (كالحفلة التي أقامها في معرض «رشيد كرامي» والتي اعتاد «تلفزيون لبنان» بثها) ونشر مقابلات إعلامية أجرتها معه هذه القناة، أليس من واجب وزارة الإعلام أن «تُعلِم» أي أن «تُخبِر» مواطنيها بفقيدنا الراحل؟

سارع بول مرقص بعيد انتهاء جلسة مجلس الوزراء للإفصاح عن القرار الحكوميّ الذي جاء بمثابة «هدية» للبنانيين كما اعتادت الحكومات اللبنانية السابقة فعله دوماً. وما دامت حكومة سلام عصرية، فإن عصريتها تفرض عليها التحلّي بكرمٍ باذخ، وهذا ما حدَث.

يعني عصفورين بحجر، في منطقٍ اشتغل على النحو التالي: لقد «راح الأسد»، ألم يحن وقت التخلص من اسمه على هذه «الجادة»؟

هاك الحلّ! لقد مات زياد، فلنغيّر الأسماء ونقول إننا كرّمنا ابن فيروز. هكذا، اعتبر كارهو «البعث» أنّ حكومتهم حققت انتصاراً مدوّياً من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ «عشاق» الرحباني سيفرحون بهذا القرار، و«بلاها بقى» حملة (حفلة) الإمضاء العريضة التي حملت مطلب تسمية أحد شوارع الحمرا باسم زياد الرحباني، اتركوا الحمرا لتجارها.

من حافظ الأسد إلى زياد الرحباني

إذن، أعلن بول مرقص عن قرار حكومة سلام العصرية الذي نصّ على «تعديل» اسم «جادة» حافظ الأسد لتغدو «جادة» زياد الرحباني.

و«جادة» حافظ الأسد وجدت كـ«هدية» من قبل الحكومة اللبنانية، أو بالأحرى «العهد» اللبناني ممثلاً بالرؤساء الثلاثة، لنظام «البعث» ورئيسه.

قرر رفيق الحريري عام 1998 الاحتفاء بالرئيس السوري وتكريمه، بالمختصر لأخذ رضاه، وبرعاية رئيس الجمهورية آنذاك (السيادي) الياس الهراوي، تم «تخليد» الأسد بـ«جادة» حملت اسمه على طريق المطار. القصة كلها لا تشبه زياد الرحباني بشيء.

هذه «الترويكا»: الحريري، حافظ الأسد، المطار، في جهةٍ، وزياد الرحباني في الجهة المقابلة. رفيق الحريري «ما غيره»، اختار أن يكرم حافظ الأسد بـ«جادة» تحمل اسم الأخير على طريق المطار؛ المطار المسمّى بـ«مطار رفيق الحريري الدولي». الآن، باتت تلك «الجادة» التي قرر الحريري تسميتها بحافظ الأسد تيمناً به، تحمل اسم زياد الرحباني.

وفي وفرة الأسماء هنا، يبدو اسم زياد الرحباني شاذاً كما لو أنه ممنوع من الصرف، هو الذي دائماً ما كان «خارجاً» على هذه «القاعدة». وأليس هذا ما ميّز الرحباني مرحلة ما بعد اتفاق الطائف؟

أنه لم «يُعرَب»، ولم «يصرَف» عندما كان كل من رفيق وحافظ على قيد الحياة، يتباهيان بمطارات وجادات ودول تحمل أسماءهما؟

عهد أشبه بـ«عجقة سير عالفاضي»

لم يكن ينقص تلك الخطوة التي أقرتها الحكومة العصرية سوى حضور «الشيخ الدعفوس»، أي خلف الحبتور، لتدشين «الجادة» وقصّ قالب حلوى جلبوه «ديليفري» من مطعم «بيبرُم» وبجانبه بول مرقص. وكونها سيرة وانفتحت، فإن واحدنا يتساءل: ألم يكن من الأجدى لو أزيل اسم هذه «الجادة» بعد خروج «البعث» من لبنان عام 2005، خصوصاً أن معظم رجال ونساء «العهد» الحاليين كانوا من صقور ثورة أربعطعش آذار؟

طيب، لماذا بقيت بعد رحيل بشار الأسد؟ الظاهر أنّ هذه «الجادة» كانت في طيّ النسيان، وموت الرحباني المزلزل وإصرار محبّيه على احتفاء «الدولة» به قد أيقظا «وجودها». هذا بالعامية اللبنانية يدعى: «تمريك» سياسي.

إنه أيضاً زج زياد الرحباني في خانة سياسية لم يرفضها فقط إنما جلبت له الاشمئزاز والمرض. ثم ما علاقة زياد الرحباني بالمطار؟

المطار في «وادي» والرحباني في «وادي»، إنها المسافة البعيدة نفسها التي تفصل الاسمين عن بعضهما؛ حافظ الأسد وزياد الرحباني الذي حضر بعد «تعديل».

زياد الرحباني المخرّب صار «مُعدِلاً»، هو الذي رفض الهجرة ومغادرة لبنان في أحلك الظروف وفي أيام «القتل العادي» باتت ذكراه «مخلّدة» على طريق المطار.

وهكذا، كما يقول زياد أبو عبسي في مسرحية «شي فاشل»: «عجقة سير عالفاضي»؛ إنها حكومة عصرية مثل «عجقة سير عالفاضي».

ثمة مصروف هائل للوقود وللوقت وبلا فائدة. شيء أشبه بهذا العهد، مهرجانات واستعراضات، وانتظار السياح على المطار، وما من حدثٍ حقيقيّ إلا القصف والموت وظلّ الأموات الثقيل.

شوارع تحمل اسم المستعمِر

لم تصدر الحكومة بياناً رسمياً واحداً عندما خرج جورج عبدلله من سجنه الفرنسي. بقي وزير الإعلام صامتاً، من دون أن يدلي بأي تعليق حول عودة جورج عبدلله إلى لبنان.

لم يخطر في بال الحكومة العصرية أن تسمّي شارعاً باسم جورج عبدلله، أن تزيل، أو «تعدّل» مثلاً شارع «سبيرز» أو شارع «غورو» ليصير مثلاً شارع جورج عبدلله.

فالأخير بالنسبة إلى الحكومة العصرية مثل «تلفزيون لبنان»، مثل زياد الرحباني، شخصية «خشبية»، فالمعجم الذي يضم مصطلحات مثل «مقاومة» و«مناهضة الغرب» لهو كالأناجيل المنحولة، مرفوض وغير معترف به، فالناطقون بلغته هم على الضد من «لبنان الجديد» الذي وصفه الرحباني بـ«لحم بعجين».

لذلك، سيبقى مثلاً شارع «أميركا» في بيروت، وسيبقى شارع «جان دارك» أيضاً، سيأخذ الغرب نصيبه من شوارعنا، وزياد الرحباني الذي أمضى حياته في شارع «بليس» وجواره، سيحضر اسمه على بعد أميالٍ عنه، تفصله مساحة ثقافية وسياسية واقتصادية شاسعة عنها؛ هي «جادة» بعيدة كثيراً عنه، وهو بعيد كثيراً عنها، وهذا يحتاج إلى محو وليس إلى تعديل.

 

الأخبار اللبنانية في

08.08.2025

 
 
 
 
 

أَعطِنا يا ربّ أَن نستاهلها

كيف تحوّلت فيروز إلى أيقونة؟

هنري زغيب - المصدر: "النهار"

الكاهنةُ الصامتة التي ودَّعت ابنَها بِـهَيبَة العرَّافة الـمَهيبة في أَزمنةِ الميثولوجيا الإِغريقية...

الأُمُّ التي جلسَت إِلى نعش ابنها بأَلمٍ كَتومِ رهيبٍ لا تعادلُه إِلَّا جبهةُ قمم الجبال تقاومُ أَصعبَ العواصف الهائجة وأَعتاها، ثم تنكسر العواصف وتبقى مرفوعةَ الهَيبةِ قممُ الجبال...

السيدةُ التي، كما آلاف المواكب بعد اليوم، لن تدخُل لبنان من مطاره إِلَّا بمرورها في الجادَّة الكبرى التي تفتتح لبنان حاملةً اسم العبقري الخالد زياد الرحباني...

هذه الظاهرةُ الفريدةُ التي بدأَتْ مغنِّيةً في كورس الإِذاعة اللبنانية، وأَصبحَت فنانةً واعدةً، ثم نجمةَ "المملكة الرحبانية" فدنيا لبنان، ساطعةً إِلى كل العالم حتى باتت منذ أَكثرَ من نصف قرن أَيقونة لبنان في العالَم...

هذه الخالدةُ، وهي بعدُ بيننا، يقالُ فيها ويُكتَبُ ما لا يُحَدُّ، فـ"لا تتعب الأَشعار ولا تتعب الريشة"...

منذ صدَحَ صوتُها ذاتَ ليلةٍ مباركةٍ من 1957 على أَدراج بعلبك، أَشرقَتْ شمسٌ لبنانيةٌ من سُكون الأَعمدة والهياكل.  
صوتُها الذي يأْتيك من كلّ مكان حتى يُحَيِّرك كيف تستقبله
...

الصوتُ الذي ينسيك معه أَنك أَنت، كي لا تفوتك لحظة من انسكابه...

الصوتُ الذي ظلَّ ينضحُ شعرًا حتى بات يُمنَّاهُ لقصائدهم جميعُ الشعراء...

هذا الصوتُ، في عصرنا وكلِّ عصرٍ سيأْتي، عنوانٌ آخر للبنان.

من الأَوطان مَا يمكن تعريفُها بِاسْمٍ واحدٍ، أَو ربما بأَكثر. نحن؟ نختصر. نقول: "لبنان" فيجيبُ السامع: "يعني لبنان فيروز"!

منذ إِطلالتها الأُولى، قبل أَكثرَ من ثلاثة أَرباع القرن (1947)، بدأَت "مُتَوَّجَةً بالمجد" كما قال لي منصور الرحباني في أُولى جلساتي إِليه لوضْع كتابي "طريق النحل - في رحاب الأَخوين رحباني". وأَكمَلَ: "إِضافةً إِلى جمالِ صوتها الفريد وموهبتِها الخارقة، هي ظاهرةٌ لن تـتكرَّر: صوتُها مميَّز، إِطلاقةُ صوتها ممـيَّـزة، وكلُّ ما جاء في هذا الصوت، من خوارقَ ومما خلْفَ صوتِها من صَقْلٍ وتجارب، جعل منه رمزًا من رموز هذا العصر. تأَثَّر به الناس، حتى الشعراءُ في لبنان والعالم العربي، لأَنه لم يكُن مجرَّد صوتٍ وحسب".

منذ الـمَطالع هتَف سعيد عقل: "هذه سفيرتُـنا إِلى النجوم"، وباحَ نزار قباني: "قصيدتي بصوتها اكتسَت حُلَّةً أُخرى من الشعر".

الصبيَّةُ الخجولُ التي سمعَها حليم الرومي ذات يومٍ في الإِذاعة اللبنانية واستدعاها ذاتَ يومٍ آخرَ إِلى مكتبه وكان فيه شابٌّ ناحلٌ ساهمُ العينين، ليقول لها: "يا بنتي، أُعرِّفُكِ بالعازف والملحِّن عاصي الرحباني، تدرَّبي معه وسيعطيكِ من أَلحانه"، هل كانت تَحدُسُ إِلى أَين هذا العبقريُّ الفذُّ سيوصِلُ صوتَها الفذَّ وموهبتَها الخارقة؟

ويكتمل سعدُ القدَر يومَ تزوَّجت نهاد حداد (فيروز) بعاصي الرحباني (23 كانون الثاني 1955).. يقول منصور: "جاءَت فيروز ذاتُ الحضورِ الآسِر والصوتِ المفرد، فانضمَّت إِلينا. أَصبحنا ثلاثة. وراح صوتُها يخترقُ الحواجز العاطفية، ويُرَسِّب في لاوعي سامعيه الأَفكارَ التي يحملُها".

صوتها... هو الذي تَشربُهُ روحُك قبل أَن يتقطَّر في سمعك. فهو ليس مجرَّد "صوت يغنِّي"، لأَننا، حين نقول "فيروز"، لا نقتصر على الصوت وحسْب. نقول "فيروز" لنعني خمسًا من الصفات نادرًا ما تنْجمع في موهبة.

1.  الصوت: ويكفي أَنه أَلْهَمَ شعرًا كبارَ شعراء العصر.

2. الإِحساس: وهو ساطع لديها حين تؤَدِّي أُغنيةً أَو مشهدًا مسرحيًّا. ومشاهدو مسرحية "پترا" في عمَّان (قصر المؤْتمرات - صيف 1977) يذكُرون كيف أَنها، كمَلِكة "پترا"، حين علِمَت بأَن الجنود الرومان خطَفوا ابنتَها الصغيرة الأَميرة پترا، وراحت تغنّي لها: "يا عصفورة الجنوب، يا زغيرِه، اغفريلي"، انهمرَت دمعتُها، وكانت تأْتزر بمنديلٍ ذي حبة لؤْلؤ، فبدا كأَنَّ على وجهها لؤْلؤَتين: أُولى على جبينها، والأُخرى على خدِّها.

3. اللفظ السليم ومخارج الحروف: خصوصًا في الفُصحى، وهي أَتقنَتْ اللفظ منذ مطالعها إِذ درَّبها محمد فليفل (مكتشفُها الأَول) على التجويد القرآني، فأَجادَتْه وبات لفْظُها في غناء القصائد تامًّا ممتازًا فلا تَلْحَن. ومن إِتقانها اللفظَ السليم، ضبطَت مخارج الحروف بالصيغة السليمة.

4. المضمون: لم يقتصر صوتُها على غناء قصائدَ وأَلحان، بل حمَل صوتُها، غناءً ومسرحًا، قيَمًا فكرية وحضارية وجمالية ووطنية جعل منها أَوسمة خالدة في الوجدان الشعبي والذاكرة الجماعية.

5. الأَداء: هنا نعبُر من الإِحساس في أَداء أَغانيها إِلى حضورها المسرحي ("الآسِر"، بتعبير منصور الرحباني) ما جعلَها تُؤَدِّي أَدوارَها المسرحية في إِدهاشِ أَكثر الممثِّلات احترافًا على المسرح أَو أَمام الكاميرا. فهي أَدَّت دور "الملكة زنوبيا" و"ملكة پترا" ببراعة ما أَدَّت بيَّاعة البندورة في "الشخص"، أَو "غربة" ابنة مدلج الثائرة في "جبال الصوَّان"، أَو "هالة" البنت البريئة الآتية إِلى "عيد الوجّ التاني" في "هالة والملك"، أَو الصبيَّة "عطر الليل" رسولة الأَمير إِلى شعب لبنان في مسرحية "فخر الدين".

هذه الفرادة في الصوت والحضور، هي التي جعلتْها تحمل الإِرث الرحباني وتُوصلُه إِلى آخر الدنيا، وهو ما لم يكن ممكنًا أَن يُعطى سواها بتلك المسؤُولية الرَسولية العليا.

أَعطِنا، يا رب، أَن نستاهل فيروز.

 

####

 

جنازات النجوم: طقوس شعبية لتقديس الأيقونة

هبة ياسين - المصدرالقاهرة - "النهار"

رغم حداثة جنازة زياد الرحباني، فإنها حملت صدقية الماضي، ومثلت حالة مختلفة لأسباب عدة، أولها امتداده الراسخ في عائلة الرحباني التي تتمتع بقداسة لدى الجمهور

في شباط (فبراير) 1975، غمر طوفان من البشر شوارع القاهرة، قُدرت أعدادهم بـ 4 ملايين شخص، احتشدوا لوداع أم كلثوم في مشهد مهيب. أما جنازة عبد الحليم حافظ، فسادها صراخ جماعي وحالات إغماء، وحالات انتحار بين معجباته أبرزهن فتاة تدعى أميمة (21 عاماً) ألقت بنفسها من مسكن "العندليب" أثناء العزاء، فالحزن عليه لم يكن تقليدياً، بل تجسيد للهوس بأبلغ صورة.

وفي أيلول (سبتمبر) 1997اتشحت عاصمة الضباب لندن بالسواد خلال تشييع الأميرة ديانا، إذ ودّعها نصف مليون شخص، بينما تابع مراسم جنازتها نحو 2.5 مليار حول العالم بحزن عميق. وفي بيروت عام 2014، تحولت جنازة صباح من مراسم تشييع إلى احتفاء بإرثها، بين شدو أغانيها وزغاريد مودعيها، فكانت أشبه بموكب زفاف وليس دفناً. وأخيراً، حظى زياد الرحباني بوداع حاشد ومؤثر، وامتد الحزن من بيروت إلى كل العواصم العربية، ولاسيما منها القاهرة.

الجنازة: ساحة للتقديس الشعبي

لا تمثل تلك الجنازات مجرد مراسم وداع، بل هي مشاهد تفيض بالمشاعر، كاشفةً عن قيمة الفقيد في الوجدان العام، تتدفق خلالها جموع المشيعين ويضيق المكان على سعته، وتعج الشرفات والنوافذ بالمودعين، وتختلط الطقوس الشعبية بالنحيب. كل تلك اللقطات الجنائزية تمثل دليلاً على "المكانة" التي بلغها الشخص الشهير في الوجدان الشعبي، ومؤشراً إلى مدى الهوس بأولئك المشاهير، ما قد يمنحهم سلطة رمزية لم يحظ بها رجال السياسة أو الدين، ولا تغدو الجنازة نهاية بل لحظة تتويج، وتحولهم إلى "أيقونة".

ويرى الصحافي والناقد سيد محمود أن ظاهرة الهوس بالنجوم طبيعية، وقال لـ "النهار": "تلك المشاهد هي تعبير عن الارتباط بالفنان وليست قياساً لقيمته. فعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وزياد الرحباني يمثلون حالات استثنائية. فهم فنانون ذوو شعبية كبيرة، حظيوا بإجماع مختلف الطبقات والفئات وإعجابها". 

واعتبر أن زياد الرحباني هو "استثناءً في لبنان؛ لأنه شكل نقطة إجماع التفت حولها كل القوى السياسية المتصارعة والمتناقضة، إذ امتلك خطاباً ثورياً، وكان يسارياً داعماً لحزب الله، ولم ينتم إلى اليمين الديني، فحظي بالإجماع والقيمة الاستثنائية لتعبيره عن "مواقف" وليس عن "مصالح"، وقد يختلف الناس أو يتفقوا مع مواقفه، لكن يظل يقينهم الراسخ أنه لا يتبنى موقفاً من أجل مكسب شخصي بل انطلاقاً من اقتناعات". 

وأضاف أن ذلك ينطبق أيضاً على فنانين آخرين مثل أم كلثوم وعبد الحليم وأحمد زكي وسعاد حسني، فهم شخصيات مهمة وخلافية، لكن الجمهور يؤمن بأن كل ما اتخذوه من مواقف جاء تعبيراً عن نداء ذاتي، لذلك مع لحظات موتهم، يتجاوز الجمهور الخلاف ويتضامن مع الشخص، لأنهم يمثلون ذكرى جميلة، فالناس تذهب لتُشيع ذكرياتها، ولحظات الارتباط مع هذا النجم".  ورأى أن النجوم أكثر حظاً، لإنهم يظلون مخلدين ونستطيع رؤيتهم عبر أعمالهم، وبالتالي يكون غيابهم لحظة موقتة، على عكس البشر العاديين الذين لا يتركون منجزاً.

ما الذي نبحث عنه في الأيقونة؟

الشهرة ليست كافية وحدها لصناعة الأيقونة أو خلق هالة القداسة، فالنجومية قد تتحقق بالمصادفة أو بفعل الموهبة أو بالتريند في الوقت الراهن، لكن الوصول إلى الحالة الأيقونية له أسباب أخرى، فهي مرحلة تصير فيها الشخصية العامة حالة رمزية تتجاوز أعمالها، فتغدو معبرة عن حقبة أو قضية أو إحساس جمعي بالانتماء، وتتحول إلى ضمير أو بطل جماهيري. أو تساهم أعمالها في تشكيل الوعي أو تغيير أجيال. فمثلًا، مثّلت أم كلثوم للجمهور الصوت الذي صاحبهم في لحظات الأمل واليأس والحب والانكسار والانتصار والهزيمة، وكانت رمزاً للعزة والكرامة، خصوصاً بعد هزيمة حزيران-يونيو 67. إذ لم تغن لتُطرب بل لتضمد جروح النكسة، وخصصت عوائد حفلاتها حول العالم من أجل المجهود الحربي وإعادة بناء الجيش، فكانت صوتاً للوطن يوقظ روح التحدي في وقت الانكسار.  وهناك زياد الرحباني الذي حل رمزاً متمرداً وساخراً في بلد أنهكته الحروب والصراعات والطائفية، فتجاوزها بمبادئه ومواقفه التي لا تُساوم ولا تُشترى

لذا، قد يأتي الهوس بالمشاهير أحيانا تعويضاً عن غياب رموز قوية في المجتمع، سواء في السياسة أم في الدين أم حتى في الحياة الخاصة، أو كحنين إلى مجد مفقود وحزن على زمن فائت وذكريات شكلت جزءاً من هوية الجمهور، أو مواقف جريئة لم نجرؤ على اتخاذها وآراء لم نستطع التعبير عنها، وتمتزج مع ارتباطنا بفنه أو منجزه وتصبح جزءاً من حياتنا اليومية. لذلك، عندما يموت، تذهب معه قطعة من ذواتنا التي تعلقت به، ويصبح موته فاجعة شخصية، وهي حالة تعبر عن تعطّش لنموذج "البطل الشعبي"، أو "القديس"، الذي يمثل الأمل.

الأيقونة في زمن "السوشال ميديا

في العصر الحديث، تلعب مواقع التواصل الاجتماعي دوراً في تضخيم "الهالة" حول بعض الشخصيات العامة، يتذكر  سيد محمود أنه شارك كصحافي في جنازتي سعاد حسني وأحمد زكي، حيث كان الحزن حقيقياً وليس مصطنعاً، ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، أخذت هذه الصورة الأيقونية شكلا سلبياً، فهناك أشخاص لا علاقة لهم بالنجم يبدون تأثراً رغبة في الظهور أمام الكاميرا من أجل الشهرة والتراند، وبعضهم تحول إلى مجرد "ألتراس"، بينما الجمهور في الماضي كان يتضامن مع ذكرياته.

ورغم حداثة جنازة زياد الرحباني، فإنها حملت صدقية الماضي، ومثلت حالة مختلفة لأسباب عدة، أولها امتداده الراسخ في عائلة الرحباني التي تتمتع بقداسة لدى الجمهور، كما صنع وجود فيروز هذه الحالة الأيقونية، فالجمهور ذهب لتعزيتها. إضافة إلى أن جماهير زياد (خارج لبنان) اعتبرته بمثابة صديق امتلكت ذكرى شخصية معه عبر أعماله، حتى لو لم تلتقه يوماً، ورفيق حياتها اليومية بمواقفه وأغانيه

 

النهار اللبنانية في

08.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004