ملفات خاصة

 
 
 

زياد و انا .... كل هذا الحزن

محمد الروبي

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

منذ أن رحل زياد الرحباني قبل أسبوع، أو قل عشرة أيام – ما عدت أعدّ الأيام – وأنا غارق حتى أذنيّ في عوالمه.

كل اكتشاف يقودني إلى اكتشاف آخر، وكل دهشة تفتح لي بابًا إلى دهشة أعمق.

كأن موته حرّر في طاقة الإصغاء التي كنت أؤجلها.

كأنني الآن فقط مستعد لسماعه، بجدّ، وبكامل وعي.

وسط هذا الغرق، وسط الحزن الذي لم يمنع محبيه من الابتسام كلما مرّ صوتُه أو عبارة من مسرحياته، فكرت أن أكتب.

لا رثاء. ولا تحليل موسيقي.

بل شيئًا يشبه الاعتراف...

عن علاقتي بزياد الذي لم أسعد يومًا بلقائه وجهًا لوجه،

 و أوقن أنه لم يسمع عني أبدًا.

ومع ذلك، كان بيني وبينه خيطٌ طويلٌ من الأسرار المشتركة.

كأن صوته كان يعرفني.

كأن جملته الساخرة كانت تقول لي: "ما تخاف، مش لوحدك".

كأن موسيقاه تُربّت على ظهري في الغرفة المعتمة، وتهمس: "ما تفقدش الإيمان".

عرفت زياد في البداية كما عرفه كثيرون من جيلي: ملحقًا بصوت فيروز.

هو ابنها، مؤلف موسيقى أو موزّع، يقف هناك في الظلّ الهادئ.

في البداية، أعجبتُ به كما يُعجب أحدُنا بحسّ النكتة الذكي، وباللهجة البيروتية المحببة، وبلقطاته التي تسخر من السلطة والدين والتقاليد.

ثم مرّ وقتٌ طويل قبل أن أُدرك أن زياد لا يسخر إلا لأنه موجوع، ولا يهاجم إلا لأنه خائف، ولا يعزف إلا لأنه يريد أن ينجو.

كنت أظنه عقلًا ساخرًا، فتبين لي أنه قلبٌ متعب.

الذي لا يُقال كثيرًا عن زياد، أنه كان وحيدًا.

وأن تلك "العصابية" في صوته وضحكه، كانت تخفي شعورًا كثيفًا بالغربة.

غربة في بلده، في بيته، في طبقة مثقفة كان جزءًا منها ويحتقرها، في وجدان عامّ لا يريد أن يسمع إلا ما يطمئنه.

ولعل هذه الوحدة هي ما جعلت كثيرين يشعرون أنه "منهم"، حتى دون أن يعرفوه.

و أنا من هؤلاء.

أعدتُ الاستماع لموسيقاه فوجدت أنني لم أكن أعرفها.

شاهدت مسرحياته،- المتاحة على اليوتيوب - فإذا بي أسمع جُملًا لم أنتبه لها من قبل.

كأن زياد لا يعطيك روحه كلها في اللقاء الأول، بل يُراكمها معك، كلما كبرت يوما زادك شغفا

لا أعرف إن كنتُ أكتب هذا النص لأرثي – مرة أخرى - زياد، أم لأطلب منه أن ينتظرني قليلًا...

فلا أزال ألاحقه في أعماله، أحاول أن أسمعه كما يجب.

ولا أزال أتعلّم منه: كيف يُقاوم الإنسان بالخفة، وكيف يهرب إلى الفن لا فرارًا بل مقاومة.

ولا أزال أحاول – بعد فوات الأوان – أن أقول له: "أنا سمعتك... اسمعني أنت".

 

صوت العرب الأردنية في

07.08.2025

 
 
 
 
 

«اليسار» و«اليمين» في حياة وممات زياد الرحباني

علي نصار

قال الرجل للشابة التي تحمل الميكروفون إنّ «زياد جمع اليمين واليسار في لبنان». صوّب عينيه على الكاميرا فوق كتف المصور وهو يلهج بأمور متعددة خارجة عن «المناسبة».

قال الرجل للشابة التي تحمل الميكروفون إنّ «زياد جمع اليمين واليسار في لبنان». صوّب عينيه على الكاميرا فوق كتف المصور وهو يلهج بأمور متعددة خارجة عن «المناسبة».

قبل انطلاق الجنازة بقليل، من «مستشفى خوري» صعوداً إلى شارع الحمراء، ظهر علم الحزب الشيوعي عند طرف الحشد الجنائزي، كأن رافعه متردد أو ينتظر أمراً ما.

ولم يكن هذا «التسييس» لزياد الرحباني غريباً. جاء «الرفيق ح» بمسرحيتي زياد الرحباني، في أواخر عام 1975. كنا نستمع إلى حوار وأغاني «سهرية» و«نزل السرور»، في «حصوننا المسلحة» التي زرعناها على طريق صيدا القديمة بين الشياح وعين الرمانة لكي تسترنا من نيران الحرب الأهلية.

لم أكن القاصر الوحيد، بين جمهرة «المقاتلين» و«المقاتلات»، الذين كانوا «يسهرون» حول «المسجّلة» تدور بكاسيت الرحباني الجديد.

تداول هذه المنتجات الثقافية «الطازجة» في الشياح، آنذاك، كان محدوداً، سواء بيننا في «حزب العمل الاشتراكي العربي»، أو لدى «المجموعات الحزبية» الأخرى.

وإقبالنا على «استهلاكها» كان ينمّ عن بساطة أو «مدرسية أفكارنا» بشأن «التسييس الثقافي» للجمهور، عبر «الأغنية السياسية» و«المسرح الملتزم»، «السينما التقدمية» و«الأدب الواقعي»، إذ تتعزز «الثقافة النقدية» و«تدفع عملية التغيير الثوري» في المجتمع.

في طريقنا إلى «تغيير النظام الرأسمالي الطائفي»، اتسع «الريبرتوار الثوري» لكاسيت الشيخ إمام وصديقه أحمد فؤاد نجم.

وصارا في متناولنا بفضل «الرفيق ح. ما غيره»، مع أنه سيختار تغيير مستقبله إلى «حمار يحمل أسفاراً». بعد ولوجه «متاهة الصحافة البترولية»، «طق فيه، شرش الحياء» الاجتماعي ـ السياسي، الذي شحن بـ «المثالية الثورية» نفوس مقاتلي وقادة المجموعات الوطنية المنتشرين بين متاريس ودشم وتحصينات «خط التماس» اللعين.

كان «تسييساً» خالياً من أي «ماركة حزبية» يمكن أن تعلق على زياد الرحباني. بيد أن منسوب «تسييس» أغاني «نزل السرور»، ارتفع بُعد «حدث» عسكري ـ سياسي ميّز «تاريخ الحرب الأهلية» في الشياح عامي 1975 ـ 1976.

إذ نجحنا في اجتياز «خطّ التماس»، وتمكّنا من «تحرير» حي صغير في طرف عين الرمانة، اشتهر باسم «الثغرة»، بعدما كان تحت سيطرة ميليشيا «حزب الكتائب الفاشي» ، عميل «إسرائيل» (السابق).

كان الحفاظ على هذا «الانتصار» الميداني، الذي كلفنا عدداً من القتلى والجرحى، يستدعي تثبيت نقاط حراسة واستطلاع دائمين في «الثغرة»، عجزت قوانا البشرية عن تغطيتها. فاستعنا بـ«الرفاق في المحور الثوري»، وهذه قصة أخرى، وانتشر بجوار «مواقعنا» مقاتلو «الحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية»، الذين نفذوا «عملية بنك أوف أميركا» في «شارع المصارف»، قبل سنتين من اندلاع الحرب.

في مقابلات وتصريحات زياد الرحباني، طوال السنوات التالية، لم يعرض «روايته»، عن تأثير «عملية» المصرف الأميركي، على شعوره وموقفه ونظرته إلى المجال السياسي العام.

لم يسترجع هو، ولا الذين قابلوه، تفاصيل هذا التأثير وماذا غيّر في وعيه السياسي، حتى بنى «نزل السرور»، الذي «أقمنا» فيه، مع نزلائه وحواراتهم وأغانيهم وموسيقاهم «المدينية» الجديدة. لقد انغرزت أغاني «النزل»، وبالأخص أغنية «يا نور عينيا» و«جايي مع الشعب المسكين» في كياننا الاجتماعي الهش، آنذاك، وتسللت إلى نسغ «تصوراتنا السياسية» الغاضبة والناقمة على «النظام الرجعي» اللبناني وأربابه.

هذا السؤال لم يخطر بالبال إلا بعدما قرأت النعي، فقد لاحظت أن زياد من عمرنا تقريباً، ولا بد أن مهندس «النزل»، الذي دك في أساساته عملية «بنك أوف أميركا»، لا بد أنه قد انجرف، أسوة بكل الجيل، مع التيار الوطني والقومي إلى ميادين التغيير الاجتماعي ـ السياسي.

كان علي شعيب قائد «عملية البنك» بطلاً في الشياح. بطلاً لا يمكن المجاهرة بتأييده. وكان أسلوبه في «العمل الثوري» محل جدل ونقاش. في «مكتبتنا الثورية»، غرقنا في قراءة «حرب العصابات في المدن» للمناضل البرازيلي كارلوس ماريغيللا، و«حرب العصابات، الطريق إلى القدس، تجربة عز الدين القسام» للمناضل اللبناني شوقي خير الله، وسوى ذلك من مراجع «الثقافة العسكرية»، لـ «مواطنين» يقتربون من «جحيم» الحرب الأهلية.

أما من جهة زياد، فربما كان مفجوعاً أو معجباً بعملية علي شعيب ورفاقه وبأهدافها. المهم، أنّ أغنية «جايي مع الشعب المسكين»، كانت، أو أننا وجدنا فيها، بيانَ انحيازٍ سياسيٍّ صارمٍ إلى صف المواطنين المساكين الجوعى. وقصة الجوع في الشياح يمكن أن تحكى في مقام آخر. وقد نجح زياد وكان فتى صغيراً، في «توشية النزل» بدماء عليّ التي سفحتها «الفرقة 16»، صوناً لـ«حزب المصارف» اللصوصي، الذي استغل طمع (بعض) المواطنين بالعوائد الربوية ليسرق «جنى أعمارهم» بعد نحو نصف قرن من «مقتلة أوف أميركا».

كنت في طريقي إلى أحد الأبنية في «الثغرة» برفقة شاب من «الحركة الثورية»، لتنفيذ «مهمة» قبل شروق الشمس، حين التقينا بإبراهيم حطيط أحد قادة «الحركة». كان حطيط، وهو من رفاق علي شعيب البارزين، قد جلب مكبّرات صوت ضخمة حملها إلى «الثغرة» مع مقاتل آخر، وأخبرني بأن هذه «إذاعة ثورية» سوف تخاطب «الجماهير الشعبية» في عين الرمانة. كانت أغاني «نزل السرور» تفصل بين الخطب المذاعة الشفهية والمكتوبة.

هكذا أراد مدير الإذاعة أن يجعل «نزل السرور» وسيلة «تسييس أو تثوير للجماهير» لكي نمنع خروجها من جبهة «الصراع الطبقي» إلى جبهة «الصراع الطائفي».

لقد توقفت الإذاعة في الأيام التالية. لكن مكان زياد الرحباني في تنظيمات اليسار الماركسي الوطني وجمهوره بين المواطنين، أصبح واضحاً، لنا. قبيل شهور من توقف الحرب الأهلية، بقينا ننتظر الحلقات الإذاعية لبرنامج «بعدنا طيبين قولوا الله» الذي قدمه زياد من «إذاعة لبنان» مع المخرج الراحل جان شمعون، واستمرا به، حتى بعد يومين من دخول «قوات الردع العربية» إلى بيروت والضاحية وإزالة «خط التماس» في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1976.

في بقية دهرنا، الذي شهدنا فيه تفكك اليسار الماركسي الوطني وتدحرج قوانا نزولاً، كان زياد يتقدم صعوداً حتى أصبح أيقونة ثقافية وفنية وطنية. وكنا قد تحولنا إلى سميعة موسيقى وأغاني زياد الرحباني وإلى مرتادي مسرحه بانضباط، ومتابعي مقابلاته و«بياناته».

لقد صار زياد، بحسب «معايير» إدوارد سعيد، مثقفاً عضوياً في وقت مبكر من حياته المهنية ـ الاجتماعية ـ السياسية.

لقد تدرج في هذه الصيرورة. من يذكر بيانه ذا الكلمات العشر أو أقل الذي نشره في جريدة «السفير» في ذروة «حرب القوى الطائفية» في بيروت؟

كان «مزموعاً». كان في وسعه الهروب من جحيم تلك الحرب والفرار إلى الخارج، ليصبح فناناً للجمهور اللبناني والعربي المغترب أسوة بأحدهم الذي عربش على الأغنية الوطنية والفن الملتزم قبل أن ينهزم، ويستضاف «مطرباً عزيزاً» في أحد البلاطات الملكية.

وربما استضافه «أهل البلاط» لامتناعه عن تسجيل معزوفة أو أغنية إكراماً للدماء التي روت حرية وكرامة الوطن والمواطنين في حرب 2006 وفي حروب 2024.

من حق الرجل الواقف بجانبي في الجنازة أن «يسيّس» المسيرة الحزينة قبل أن مشينا بزياد إلى مثواه الأخير، وكان أرأف بميتنا من شلة الانتهازيين والفاجرين الذين تجهزوا للاستغلال السياسي لجنازة زياد الرحباني، كذاك الحسود الذي اختار الحديث عن الحياة الشخصية للفقيد أو الذي قرر الكتابة عن «اختلافه» معه، أو تلك التي وصلت بالأسود مع الكاميرا لتصوّر «فجيعتها» قرب الجثمان وتنشرها. كان رفع «علم الشيوعي» في الجنازة ثم فتح مجلس عزاء بوفاته، أحدث وربما آخر «تسييس حزبي» لزياد الرحباني، المثقف العضوي الملتزم صف «الشعب». لقد كان عضواً في «الحزب الشيوعي».

في المؤتمر الـ82، ورد في الأرشيف الصحافي، «أنّ الشيوعي زياد الرحباني تسلل من الباب السفلي الملاصق لخشبة المسرح. وبقي في الظل» حيث كان ينعقد المؤتمر. ولكن هل بقي عضواً في الحزب؟

ألم يتركه بعدما انتقل هذا الحزب اليساري العتيق إلى صف الليبراليين، وتمسك بموقفه الضعيف من طليعة المقاومة الوطنية: «حزب الله».

هل يمكن لـ«الشيوعي» أن ينتفع من «تسييس» جنازة زياد في شارع الحمراء؟ هذا سؤال برسم القوى اليسارية كافة، وكذلك، اليمين اللبناني الذي حقد عليه إلى حد أن (العميل «الإسرائيلي » السابق) سمير جعجع، تمنى في يوم الجنازة لو كان زياد في صفّ «قواته»!

غالبية الظن أن زياد قد ردّ بالنفي القاطع على هذا السؤال، حين قاد الأوركسترا والكورال في عزف وغناء أوبريت «هذا السيد، هذا حفيد محمّد، هذا نشيد عليّ، هذا بشائر عيسى، هذا نصر الله».

* مدير موقع «الحقول»

 

####

 

جادّة تشبه مسرحيات زياد

نزار نمر

من المفترض أنّ كلّ اللبنانيّين سمعوا بقرار السلطة تغيير اسم «جادّة حافظ الأسد» إلى «جادّة زياد الرحباني»، مع ما رافقها من حفلة آراء وآراء مضادّة وأخرى هجينة، كلّها أرادت وضع كرزتها الخاصّة على قالب الحلوى.

من المفترض أنّ كلّ اللبنانيّين سمعوا بقرار السلطة تغيير اسم «جادّة حافظ الأسد» إلى «جادّة زياد الرحباني»، مع ما رافقها من حفلة آراء وآراء مضادّة وأخرى هجينة، كلّها أرادت وضع كرزتها الخاصّة على قالب الحلوى.

ولكن لنأخذ خطوة إلى الوراء، ونحاول تخيّل ماذا كان سيكون عليه موقف الراحل. ولئن بات الكلام بلسانه، خصوصاً بعد رحيله، ممجوجاً، إلّا أنّنا نحن الذين شكّل زياد وعينا وكأنّنا تلاميذه، يمكننا على الأقلّ عصر أفكارنا للوصول إلى أقرب فرضية. وإن لم تكن الفرضية صائبة فهذا على الأقلّ موقفنا.

أوّلاً، قد يرى الراحل كلّ فكرة تسمية الشوارع والجادات نسبةً لأشخاص، أيًّا كانوا، مثيرةً للسخرية من أساسها، ولا تعدو كونها تكحيلاً لمسائل أكثر أهمّية، لا تبدأ من حال هذه الشوارع ولا تنتهي بأحوال سكّانها. كما أنّ تواضعه كان سيجعل الفكرة تزعجه في صميمه.

ثانياً، قد يسخر من متاهة الصلاحيّات في بيروقراطية الموز، بحيث تكون الصلاحيّات والامتيازات دائماً نضال أركان السلطة الذي لا يعلو عليه شاغل للبال، ولو على حساب مناصريهم وسائر المجتمع.

فلنضع جانباً هذه المتاهة؛ في ظلّ الإصرار على إطلاق التسمية، لماذا لم تحصل في شارع الحمرا، في المكان الذي عاش وأحبّ، وهو ما طالبت به حملة أطلقها بعض محبّيه؟ وإن لم يكن الشارع بنفسه، لمَ ليس أحد متفرّعاته أو الشوارع الأخرى في منطقة الحمرا أو أيّ مكان غير الجادة البعيدة التي نالها، فيكون على الأقلّ ضمن بيروت الإدارية؟

ثالثاً، أشعلت التسمية جدالاً يشبه مسرحيّات زياد. فهذا يحتفل ليس لأنّه يحبّ زياداً، بل لأنّه يكره حافظ الأسد. وذاك ينتقد لا لأنّه يكره زياداً، بل لأنّه يعتبر الأسد من شهداء المقاومة، وكأنّ زياداً لم يكن مقاوماً. واحدة فرحة لأنّها تحبّ زياداً. وأخرى تنتحب لأنّها تتوق إلى «سوريا الأسد».

وهناك الأخير الذي لا يمانع، لكن يشير إلى أولوية السلطة «قبع» اسم حافظ الأسد قبل كلّ ما هنالك من أسماء مستعمِرين غربيّين غرباء تجتاح شوارع بيروت منذ عقود.

الراحل ميّز بين التدخّل السوري في الشؤون اللبنانية ودعم سوريا للمقاومة في وقت كان مَن يدّعون اليوم معارضة نظام الأسد يداً بيد مع هذا النظام، بل كانوا يداً برقبة. لذا، قد لا يحبّذ استغلال اسمه في البازار السياسي، ولا لصقه بهذا أو بذاك.

رابعاً، تستغلّ السلطة اسم زياد الرحباني لاستثماره شعبيّاً، ليس لتغطية فشلها وأدائها المثير للاشمئزاز فحسب، بل كذلك بعد تقصيرها في تكريم الراحل، رغم بعض الشكليّات التي لا بدّ منها، ولولا ذلك لما قدّمتها. والخلاصة أنّها «بدل ما تكحّلها، عميتها».

لكنّ الراحل قد لا يأبه لكلّ ما تفعله هذه السلطة من الأساس، هي التي ظلمته طوال حياته كما ظلمت «الشعب العنيد».

هي حفلة «أشياء فاشلة»، خشبتها بيروت الكبرى، التي تمنّى الرحباني في برنامجه «العقل زينة» لو أنّها «بتستحي ع كُبرا». ربّما لا حاجة لنا لتخيّل ردّة فعله المفترضة. ربّما كان سيكتفي بالصمت بعدما سبق وأفرغ كلّ ما في جعبته، وما علينا سوى «البحبشة» بالأرشيف.

سنختار للمناسبة كلمات أغنية «بهنّيك»، موجّهة إلى الجميع في هذه الحالة: «أنا والله فكري هنّيك، يعني وهنّي أهلك فيك، ع النظافة بالمواقف، ع المواقف بالسياسة، وعلى كلّ شي اسمه تكتيك».

 

####

 

على قاعدة «اللهمّ اضرب الظالم بالظالم»

عبد الغني طليس

كان بحثُ جلسةِ الحكومة في القصر الجمهوري يدور حول تحديد جدول زمني طلبه مثلّث أميركا - إسرائيل - السعودية لـ«نَزْع» سلاح المقاومة.

كان بحثُ جلسةِ الحكومة في القصر الجمهوري يدور حول تحديد جدول زمني طلبه مثلّث أميركا - إسرائيل - السعودية لـ«نَزْع» سلاح المقاومة.

وبعد جدل مرير، وربما خطير، قرّرت الحكومة «نَزع» اسم الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، عن جادة/ أوتوستراد المطار، وإلصاق اسم زياد الرحباني مكانه. «قال شو؟»، تكريماً لعطاءات زياد الفنية.

لا بدّ من أنها اخترقَتكم في الصميم قاعدة «العروبة الجديدة» التي تجمع مسلمين ومسيحيين في لبنان، وتقول: «اللهمّ اضرب الظالمين بالظالمين، وأَخْرِجْنا من بينهم سالمين»، فضربتم زياد الرحباني (الظالم عندكم بآرائه) بحافظ الأسد (الظالم عندكم عسكرياً وسياسياً)، معتقدين أنكم ستخرجون سالمين من فِعْلتِكُم المُشينة!

بعدين... لو سمّيتُم جادة حافظ الأسد، مثلاً، بِاسْم جادة الشحرورة صباح، فأكثر ما كان سيقال إنه قرار ملغوم وثأري لناحية الأسد، وطبيعي لناحية صباح. فصباح صورة عن لبنان والحياة الجميلة رغم بؤس واقعها، وصباح لا علاقة لها بالمرّة، لا بالأسد الأول ولا بالأسد الثاني، لا بالجميل ولا بالمحارَبة، والضجيج لن يتخذ بُعداً يوظّف في سياسة «الحضن العربي» المسيطرة على القرار الداخلي اللبناني، حتى في أسماء الشوارع. لكنّكم أصبحتُم مكشوفين، وعبارة عن آذان تُنَفِّذ ما تؤمرون به، وعميان تحتاجون إلى يد تأخذكم وتأتي بكم... وكلّه بوعد المساعدة المادية التي لن تأتي، وإذا أتت فليس قبل أن يُمسَح بلبنان الأرض! سجّلوها عندكم!

زياد الرحباني يستحقّ أن يُسمّى جيلان لبنانيان باسمه، انطلاقاً من تأثير هذا الرجل على لغة أكثر الشباب منذ السبعينيات إلى اليوم.

غير أن هذا شيء، وقرار الحكومة الفاشل شيء آخَر، باعتباره قراراً لم ينتبه إلى مضمون علاقة بيت الرحباني الفنية الشخصية العالية بحافظ أو ببشار الأسد، ولا بالمكانة غير المسبوقة التي للعائلة الرحبانية في سوريا كلّها، شعب سوريا، قبل تغيُّر الواقع هناك رأساً على عقِب، وعَقِباً على رأس!

فمَن لم يعرف أيّ نوع من العاطفة والصداقة الشخصية التي كانت بين الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، والأخَوين عاصي ومنصور الرحباني وفيروز، والعائلة ككل، معذور في أن يخلط السياسة والحقد على عَمَاهما، وأن يرقص حتى الشماتة، في تجديدٍ لعادةِ نبش القبور، وقد استُحضِرَت بعد ألف سنة، لتغدو موضة.

الجاهل معذور حقاً بإصداره قرارَ تسمية جادة حافظ الأسد/ أوتوستراد المطار، باسم جادة زياد الرحباني، وبإيجاد مناسبة لدى الآخرين لقَدْح الأسد وذَمّه.

غير أن أغرب الغرائب هو «تناولُ» الأسد من كتّاب كانت مرجعية زعمائهم السياسية لسنوات طوال، في دمشق الأسد الأول والثاني، ويمكن القول إن دمشق صنعتهم، و«شَقْشَلَت» بهم زمناً، مع الإشارة المُلزِمة إلى أن إطلاق اسم حافظ الأسد على جادة مطار رفيق الحريري، كان أصلاً أكبر عملية تزلّف وتملّق ورشوة ضخمة للأسد، يوم كانت الرّشى تتطاير في البلد.

والبحث في ذلك يكشف زمن الخاضعين طوعاً من «اللبنانيين» غير المعروف لهم رأس من كعب. ما لَنا وللأسماء، فهي واضحة، ولم ألجأ إلى هذه الملاحظة العارية إلّا للتذكير الذي قيل إنه ينفع «المؤمنين».

حافظ الأسد صعلوك! حافظ الأسد بطَل! حافظ الأسد باني سوريا الحديثة! حافظ الأسد هادم سوريا على رؤوس أهلها!… دعوا كل ذلك واعلموا ماذا فعل حافظ وبشار الأسد مع الأخوين عاصي ومنصور، ومع فيروز، وزياد ابن العاصي والفيروز.

كان حضور الأخوين وفيروز في معرض دمشق الدولي من أواخر الستينيات حتى... البارحة، أساسياً، بأوامر مباشرة وصريحة من حافظ وبشار الأسد.

وفي المعرض أنشدَت فيروز، على مدى ثلاثة عقود، أجمل الروائع الشعرية والموسيقية والغنائية عن دمشق والشام، من دون أن تُضَمَّن أي أغنية إشارةٌ إلى اسم الأسد، لا تصريحاً ولا تلميحاً على العادة الرحبانية المعروفة بالغناء للبلاد العربية لا للحكام ولا للأشخاص.

«الحضن العربي» الوحيد للرحباني وفيروز كان سوريا، وقتَ كانت «الأحضان» الأخرى، ما معها خبر! وأكرّر برعاية رئاسية من الأسدين.

ثانياً: عام 1972 أُصيب عاصي الرحباني بانفجار صعب جداً في الدماغ، ولم تكن ماديات عاصي ومنصور وفيروز مرتاحة كما ينبغي لمواجهة معضلة صحية كهذه، فضلاً عن غياب الدولة اللبنانية بالكامل عن هذا الحَدَث العنيف، فأرسل حافظ الأسد كبير ضباطه في القصر الجمهوري إلى بيروت (للتذكير: عام 1972) وسلّم منصور وفيروز مبلغ 75 ألف ليرة لبنانية لإجراء الجراحات اللازمة لعاصي، وإكمال العلاج في الخارج إذا استدعى الأمر. وعملاً بالمبادلة الأخلاقية، قدّم الرحباني وفيروز رَيع سنة 1973 / بعد حرب تشرين، في معرض دمشق، إلى عائلات الشهداء والجرحى السوريين في تلك الحرب.

واستمرّت العلاقة الرحبانية - الأسدية في أوجها، لم تتلوّث لا بالسياسة ولا بالمصلحة، بل اتسمَت بالمَونة، تحديداً في بعض المراجعات التي كانت العائلة الرحبانية «تتدخّل» فيها لإطلاق محتجزين مظلومين عند السوريين، بعد دخولهم لبنان.

ومن هذه الحالات التدخّل لـ«تحرير» زياد الرحباني من مضايقات إبان المرحلة الأولى من وجود «قوات الردع» في لبنان، وكان برنامجه في «إذاعة لبنان» شاهداً على موقفه المُناهض لدخول السوريين، والدخول السوري يومها (لتذكير «المؤمنين» الذي تكاثروا اليوم!) تمّ تحت شعار «حماية المسيحيين»، بطلب من «الجبهة اللبنانية»، فتعرّضت أحزاب «الحركة الوطنية» وأشخاصها، ومنهم زياد الإذاعي، حينذاك، للضغط أو السجون.

وبقي معرض دمشق الدولي منبراً رحبانياً بامتياز، وآخر الأعمال كان إعادة عرض غنائية «صحّ النوم»، قبل سنوات قليلة.

ولم يؤثّر موقف زياد «الرافض» أو «الراضي» سياسياً، على العلاقة بين الأخوين وفيروز من جهة، ونظام حافظ الأسد، أو بشّار من جهة ثانية، ذلك بأن تلك العلاقة المتينة كانت مفصولة عن كل ما هو غير فني.

حتى جاءت الثورة السورية ضدّ بشار الأسد والتي كان لزياد رأي «آخَر» في دوافعها وحيثياتها ومآلاتها، ودافع عن وجهة نظَره علناً، كعادته، لا بدعم الديكتاتورية كما يُروّج عنه، بل بالحفاظ على وحدة سوريا ضد الخراب الذي كان واضحاً أنه آتٍ. قلتُ لن أغرق في السياسة، فهي في لبنان وحْل ونفايات ممزوجة بطائفية تشبه «العنقاء» الخرفانة الولّادة من الرماد!

نَزْعُ اسم حافظ الأسد (واليوم النّزع ماشي، مش هيك؟) عن جادة أوتوستراد المطار، ومحاولة تركيب اسم زياد الرحباني مكانه، يضربان كل الماضي الفني والشخصي المتلألئ الذي جمع بين العائلة الرحبانية، ونظامَيْ حافظ وبشار الأسد، وكذلك يضربان المواقف السورية من الفنانين اللبنانيين الكُثر الآخَرين (على رأسهم وديع الصافي)، بالإضافة إلى الفنانين السوريين الذين وقف حافظ وبشار الأسد إلى جانبهم، في أواخر أيامهم، مع تكرار غياب الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها عن الفنون اللبنانية وأهلها!

الآن قامت الدولة اللبنانية من غيبوبتها (إلى غبائها؟) فاختارت اسم حافظ الأسد، بالذات، من بين كل أسماء الشوارع والأوتوسترادات اللقيطة في البلد، لتنزَعه وتثبّت مكانه اسم زياد الرحباني… مع كل ما سبق ذكره من التعاون الكريم الحكيم بين العائلة الرحبانية وحافظ وبشار الأسد، ورغماً عن كل الروائع الفنية والحفلات المذهلة التي كانت للعائلة في دمشق، وأثمرَت شِعراً وموسيقى وحباً لا يوصف!

الرؤية إلى هذا الأمر الوجداني والإنساني لا تتمّ من خلال خُرم الإبرة السياسي الضيق والمحتقن، بل من خلال تاريخ شخصي وعملي مُشرّف.

صحيح أن السياسة، خصوصاً اللبنانية، معدومة من الأخلاق والعِرفان، لكنها تصبح في لحظات الانتهازية المكشوفة أقرب إلى دكان نخاسة جاحظ العينين، كالعاهرات!

شوارع كثيرة في لبنان... ما شاء الله، وبعضها حضَن زياد الرحباني حيّاً ونَشِطاً ومُعافًى ومريضاً وفقيراً وميتاً. فهل ضاقت «الدنيا» اللبنانية («حديقة حيوانات مباحة برّاً وبحراً وجوّاً» على قَولة الشاعر أنسي الحاج ذات يوم كان فيه إذلال إسرائيلي للبنان) على زياد حتى حُشِر بديلاً في جادّة لاسم «صاحبها» فضل عميم على عائلته وعليه؟ وهل يقبل زياد هذه الرعونة، لو سُئل؟ وهل سُئل الورَثة؟

يقال: «ما دخلت السياسة شيئاً إلّا أفسدَته». وقراركم «البريء» هذا «مدروس» سياسياً بفظاظة، ورائحة طلَب رضى البعيد والقريب تفوح منه. فلا الذي رحّب به (القرار) التفت إلى «ما وراءه» إنسانياً، ولا الذي اعترض عليه التفت إلى ما هو أبعد من السياسة!

لسنا مضطرّين إلى استخدام الكلمة ذاتها التي استخدمها زياد حين سُئل عن …هذه «الجمهورية»!

إن أول ما ينبغي أن «تنزعَه» دولتنا العَلِيّة من مواقفها وتصرفاتها، وخلفياتها الفكرية إذا وُجِدَت، هو اعتماد السياسات الصبيانية في قضايا مصيرية، أو ذات بُعد ثقافي. العب في الحقل «السياسي» كيفما تريد، فالسياسة حمّالةُ أوجه، لا ضمير فيها ولا وجدان. أما الثقافة فلها اعتبارات أُخرى يتعيّن تقديرها.

ومن حقّنا سؤال وزير الثقافة غسان سلامة، المنتمي بخلفيته إلى الثقافة و«فنونها» الإبداعية، كما نعلم، ما هو رأيه في ما جرى؟ وهل طُلِب رأيه أم لا؟ وبماذا أجاب عن الفكرة المُفترَض أنه مُلِمّ بتفاصيل المَعنيّين بها؟

 

####

 

تكريم مسموم لزياد الرحباني

ندى أيوب

أن تتّخذ الحكومة اللبنانية قراراً بإزالة اسم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عن جادّة السفارة الكويتية قد يكون مفهوماً بعد التغيّرات التي شهدتها سوريا أخيراً.

أن تتّخذ الحكومة اللبنانية قراراً بإزالة اسم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عن جادّة السفارة الكويتية قد يكون مفهوماً بعد التغيّرات التي شهدتها سوريا أخيراً.

أمّا أن تستبدل الحكومة اسم الأسد باسم الموسيقي الراحل زياد الرحباني فهو اقتناص فرصة المطالبة الشعبية بتكريم زياد، واستغلال وفاته سياسياً بما يخدم تحوّلات المرحلة. وهو ما حوّل قرار «التكريم» الكاذب إلى تشويه للذكرى، استكمالاً للاستعراض الذي بدأه رئيس الحكومة نواف سلام يوم دفن زياد، عندما وقف يلتقط الصور فوق تابوت الراحل.

تشكّلت حكومة سلام بداية شهر شباط الفائت، وكان نظام الأسد في سوريا قد سقط. على مرّ الأشهر الستة - وحتى من قبلها منذ انتخاب جوزيف عون رئيساً – كثرت المواقف والقرارات الدالّة على أنّ لبنان دخل مرحلةً جديدة تستدعي القطع مع كل المرحلة السابقة، بما يتماشى ومقتضيات التحوّلات السياسية الكبرى في لبنان والإقليم.

والقطع هذا يستدعي التخلّص من رموز المرحلة المُراد نفض اليد منها، وعلى رأس هؤلاء حافظ الأسد الذي رغب رئيسا الجمهورية والحكومة الراحلان الياس الهراوي ورفيق الحريري بتكريمه في التسعينيات، حين كانت السلطة السياسية برمّتها تنام في أحضان الأسد ونظامه، ما عدا قلّة قليلة لم تزحف نحو الشام آنذاك.

وكان لزياد الرحباني موقفه الواضح من رفض التبعية السياسية لسوريا وتحكّم الأسد في كل شاردة وواردة في الشؤون اللبنانية. ولأننا لسنا معنيين بالدفاع عن بقاء اسم حافظ الأسد بل نحن معنيون برفض استغلال زياد، فإن السؤال المُفترض أن تجيب حكومة سلام عنه: ما الذي منعها من اتّخاذ قرار إزالة اسم الأسد عن المسلّة المنصوبة في جادّة السفارة الكويتية في الأشهر الماضية، إن كانت فعلاً تريد ذلك؟

بـ«ضربة غبي» عربشت الحكومة على ظهر الرحباني لتصفية حساب مع آل الأسد

قبل أيام من انعقاد جلسة الحكومة أول من أمس، أطلق عادل جبر وأنطوان قسطنطين وإبراهيم شحرور، حملةً لإضافة اسم زياد الرحباني على اسم شارع الحمرا ليصبح «الحمرا - شارع زياد الرحباني».

تفاعل كثر مع المبادرة التي تأتي في سياقٍ طبيعي يربط بين زياد والحمرا، حيث عاش ومات، وحيث عمِلَ وكتب وألّف الموسيقى، وأحيا لياليها عزفاً وسهراً، وكتب فيها وعنها. وارتاد مقاهيها وحاناتها.

الحمرا التي انتمى إليها البعض حباً بزياد، وانطلاقاً من ارتباطه بها، والتي سكنت وجدانه وسكنها، من الطبيعي أن تحتضن اسمه وتخلّد ذكراه لتتخطّى الشوارع مجرّد كونها حجارةً وأرصفةً بل ذاكرة حيّة ومرايا لوجدان المدينة.

اقتنص سلام ووزراؤه الفرصة، وقرّروا تكريم زياد بإنزال اسمه مكان اسم حافظ الأسد في استغلال سافلٍ للمناسبة. فالحكومة تخيّلت أنها بيّضت صفحتها بعدما امتنعت عن إعلان الحداد الوطني إثر وفاة الراحل العظيم. وأرادت القول/ ها أنا أكرّمه. وبـ«ضربة غبي» عربشت على ظهر زياد الرحباني واستغلّته سياسياً لتصفية حسابٍ مع آل الأسد.

أخذت حكومة سلام في الاعتبار ما يعنيها، وما يفيدها، من دون احترام الرابط التاريخي والوجداني بين زياد والحمرا. وإن كان تغيير اسم الشارع الرئيسي للحمرا أمراً قابلاً للنقاش، لجهة عدم اختزال تاريخ الحمرا بزياد الرحباني، لكن ما لا يمكن القفز عنه هو ذكر الحمرا عند الحديث عن تخليد ذكرى زياد.

كان يمكن للحكومة - إن كانت صادقة – اختيار أي شارعٍ آخر في الحمرا مثل شارع المكحول الذي لم يفارقه، أو الشارع الذي كان يسكنه.

والخيارات عديدة إن توسّع البحث في شوارع الحمرا المُسمّاة بأسماء رجالات الانتداب، إلا إذا كان المسّ بالاستعمار الغربي يحتاج إلى جرأة لا يملكها سلام ووزراؤه، فكان المخرج الأدهى مسلّة السفارة الكويتية.

هذه الخطوة تفتح الباب على سؤال آخر، هل ستتعسّف الحكومة في المرحلة المقبلة، في تخطّي صلاحياتها والسطو على صلاحيات البلديات، على مستوى حقّها في تسمية الشوارع ضمن نطاقها الجغرافي، لمآرب سياسية؟

 

####

 

هذا عيب كبير يا أصالة!

عبد الغني طليس

إمّا أن نجوم الغناء وبقية الفنون، لديهم عقل، ويستعملونه، خلال مقابلاتهم تحديداً، فلا يتجاوزون المنطق، ولا يخرّبون على أنفسِهم، ولا يركُلون جمهورهم «النايم على وْدانُه»، وإمّا أنهم بلا عقل رادع، ولا انتباه قاطع

إمّا أن نجوم الغناء وبقية الفنون، لديهم عقل، ويستعملونه، خلال مقابلاتهم تحديداً، فلا يتجاوزون المنطق، ولا يخرّبون على أنفسِهم، ولا يركُلون جمهورهم «النايم على وْدانُه»، وإمّا أنهم بلا عقل رادع، ولا انتباه قاطع، فيشطحون باتجاه تأليه الذات، وتعظيم الأنا، وتبخير مواهبهم الخاصة كأنها مُنزَلة من سابع سماء.

تقول المغنّية أصالة: «أنا عايشة متـوحّدة مع نفسي. ما بحب غير أغنياتي، ولا بحب حدَا أكتر مني، ولا بسمع حدَا بالعالم قد ما بسمع صولا» (أي أصالة). وتكمل في إحساس من الشوفينية: «بِنْطِرِبْلي كتير (أطرَب لنفسي) وبنبسِط كتير وقت بسمعني» (أي أشعر بالسعادة عندما أسمع أغنياتي بصوتي)!

عمْداً، «فسّرتُ» معنى بعض الجُمل، لكي يتوضّح للجمهور العربي الذي لا يعرف معنى بعض الكلمات الشامية، ما هي حقيقة هذا النوع من المشاعر «العدوانية» من أصالة تجاه ذاتها… قبل أي أحد آخَر.

هذا شعور كذّاب، يخالجُ بعض الفنانين أحياناً قليلة، خصوصاً فور الانتهاء من العمل الفني الذي بين أيديهم (ككلمات أغنية أو لحن أو ألبوم أو مسرحية...) إذا كان العمل جميلاً. لكنّه شعور لا يدوم إلا حفنةَ أيام. إطلاقاً، لا يدوم، ولا يتحوّل إلى فكرة ثابتة.

أما إذا «دامَ» و«دامَ» وسمَح الفنان لنفسه أن يُعلن «دَوَامَهُ» ويتباهى به، فالمعنى الواضح هو أنّه نرجسي، مُعجب بصورته على الماء، وحتى الصورة على الماء لا تدوم كما هي، بل تتغير حسب التموّجات.

لست أدري ما دوافع هذا الكلام التقديسيّ الأرعن الناتج من «هَبَل» عميق بالذات وما يصدر عنها؟ «هَبَل» موضوعي وأخلاقي، يعيش صاحبُهُ في برج عاجي بناه لصوته، ولم يعد في حاجة إلى ميزان يَزِن عبره ما يجري. بل يصبح في حاجة إلى مَن «يدفشُه» ويُلقيه أرضاً ليستفيق من الإعجاب بما يفعلُه. صاحبُ هذه الأفكار الرّخوة، يمارس السُّكْرَ الإيحائي الشخصي، لإثبات حضوره، وكاريزماه، وتأثيره.

سُكْرٌ هو دفاع عن الذات أكثر من أي دافع آخَر، وعلمُ النفس يقول إنه ناجمٌ عن أفكار سلبية تضرب الفنان في مرحلة من العمر، بأنه يتراجع أو ينحسر بريقُه أو يتهدّد موقعه، فيلجأ إلى الدفاع الاستباقي الذي لا على بال الجمهور ولا على خاطره.

هذا عيب كبير يا أصالة. عيب بحقك كبني آدم، وبحق صوتك، وبحق محبّيك، ومادة للنقد السلبي، بل للقدح والذمّ في ما تقولين وتفعلين. ولا نطلب منك التواضع، فالتواضع عندك هو... هذا الإحساس الفوقي التافه. التواضع يعرف أهله ويعرفونه بامتياز!

وبصراحة أكبر: إن جراحات التجميل في الوجه التي «تُعيد» بعض النجوم إلى «صِباهُم»، باتت تؤثر بفظاظة على آرائهم بأنفسِهم، فيتوهّمون بالفعل أنهم عادوا شباباً وحتى مراهقين. وكما «عادت» وجوههم سنوات إلى الخلف مع إضافات «جمالية» صِناعية على أشكالهم، يعتبرون أن أوتار حناجرهم «عادت» هي الأُخرى إلى قديم واقعها... مع حبة مِسْك! والواقع هو غير ذلك تماماً.

كلامك، يا أصالة، دليل اتهام ضدّك، ويشبه مَقولَة «كاد المُريب أن يقول خذوني»!

مَرّة سألتُ صديقي عاصي الرحباني، كيف تنظر بعد هذا العمر الطويل، إلى تاريخ مسرحياتك وأعمالك الفنية وإبداعاتك الكبرى أنت ومنصور؟ أجابني: «كل مسرحية كنا نكتبها ونلحنها ونوزعها ونجسّدها على الخشبة، تصبح ليلة الافتتاح «شرشوحة»! سألته بتعجّب: لماذا؟ فقال: «كنا نشعر أن كل ما نفعله، بعد تنفيذه على المسرح، يأتي أقَل مما نريد، وليس على مستوى ما كنا نحلم ونفكّر ونعمل عليه... فنعود أنا ومنصور للبحث عن الأفضل».

هذا عاصي الرحباني، مش أصالة! وهكذا صُنعت الأعجوبة الرحبانية مع فيروز. فيروز، مش أصالة!وأعتذر سلفاً، إليك وإلى قرّاء مقالتي هذه، من ذِكْر الحقيقة العِلمية التالية التي تحدّث عنها فرويد.

يقول فرويد: «العمل الفني بين يديّ صاحبه يشبه العمليّة الجنسية بين شخصين، فخلال الجنس تكون المشاعر والأفكار والأعصاب متوثّبة ومُستنفرة، وفيها جمَالات كثيرة، ولكن كل ذلك ينتهي بحصول النشوة… فتنتهي تلك الحالة، ليبدأ البحث عن شيء آخَر في العلاقة ذاتها.

لا النوم على حرير ما جرَى وتكراره آليّاً»، فالفنون متطلّبة، وطالبُها لا يشبع، فإذا شبِعَ واقتنعَ، ولم يهتمّ بالآخَر الشريك (يُفتَرَض في حالتك هو الجمهور والنجوم مثلك) فبات يعتبر نفسَه مكتفياً بذاته (حسب تصريحك) غاب عنه الإبداع، وانتقل إلى الغزل... بالذكريات!

وهذا فرويد، مش عبد الغني طليس!

فيا صُولا، يا روحي ويا عَيني، ويا ذات الصوت الذي امتدحناه مرات وانتقدناه مرّات بناءً على ما قدّمْتِهِ إيجاباً وسلباً من الأغاني، لا تلعبي مع نفسك لعبة الإعجاب الفضفاض المُهيمِن بالذات البشرية الضعيفة، كي لا تصبحي مَضحَكةَ مَن هم أقل منك بكثير، فكيف إذا كانوا أهمّ منك بكثير. إنها فِتنة نفسية شخصية تتحرك بعوامل الخوف من المستقبل، وتؤدي بصاحبِها إلى الهلاك المحتّم، هذا إذا كان موهوباً، ولكنْ لا يعرف حجمَه، ويريد أن يدلّ الناس الذين ليسوا في حاجة إلى مَن يدلّهم، إلى موقعه «الموهوم». فِتنة، والفِتنة نائمة، لعنَ الله مَن أيقظَها في النفس الإنسانية، وفي المجتمع، وحتى في العلاقة مع الله!

فهل انتقل إليكِ يا أصالة، أسلوب تفكير «زعماء» العرب الذين يكرّسون مبدأ «أنا... و لا أحَد غيري»، ويتصرّفون بِوَحْيه؟

وهل كلامكِ الفارغ هذا عن «تباديع» صوتك وأغانيك، اليوم بالذات، هو ردٌّ متأخّر على زياد الرحباني الذي انشغَل أخيراً العالَم العربي، بوفاته، عبر استعراض إرْثه الفني الكبير، حين قال عنك ساخراً مُتهكّماً: «صوتها بيقُصّ خبز»؟ أم أنه ردٌّ على نتائج إحصاء عربي أخير تفوّق فيه عدد جمهور أغنية الشامي على عدد جمهور أغنيتك؟

ما يَهُمنا، وربما لا تهتمين به أنتِ، هو ألّا «تَقُصّي» بمقَصّ جنون العظمة، عُمرَك، وشُهرَتك، عبر تصاريح تَقُصُّ مسمار العقل وترميه في سلّة المُهمَلات!

هل أصالة وَحْدَها تعتقد بهذه الترّهات عن صوتها ونجوميتها، دوناً عن نجوم آخرين؟ قطعاً لا، فهناك الكثُر. غير أن بعض الآخرين من النجوم، لا يتجرّأون على الخوض فيه. الخوضُ فيه يتطلّب انفلاتاً تاماً عن الواقع، وإطلاق المشاعر (والأفكار!) على عواهنها، والضرب عرض الحائط بكل «الفرامل» التي لم توجد عن عبث.

فإذا ضحِكت عليهم عيونهم الخادعة وصوّرت لهم اليابس أخضرَ، والحجر شَجرةً، والثريا بين اليدين، فليس معنى ذلك أنّهم يرون صحيحاً. الخطأ بل الخطيئة تكمن في العيون التي في الوجه، وتلك التي في العقل وهذه أفعل. فإذا افتقدها النجم، أو أي إنسان، سيغدو فوراً... أصالة!


بيروت غير متحمّسة لـ «صولا»

يشير بعض المصادر إلى احتمال تأجيل حفلة أصالة نصري، المقررة في 16 آب الحالي في «فوروم دو بيروت»، بسبب ضعف الإقبال على شراء التذاكر. ولم تتخذ بعد شركتا GMH وTMG، المنظّمتان للحفلة، قرار الإلغاء، على أن يصدر الموقف النهائي قريباً. يُذكر أن حفلة أصالة كانت قد تأجّلت في الصيف الماضي بسبب الحرب التي شنّها العدو الإسرائيلي على لبنان.

 

الأخبار اللبنانية في

07.08.2025

 
 
 
 
 

زياد... الراحل عن الحياة والحيّ في قلوبنا

المصدرالنهار -  ندى أشرف رمزي – مصر

عشرة أيام منذ رحيل زياد الرحباني، ولا يزال الألم في قلوب محبيه هو ذات الألم، لا الغصّة تختفي ولا الدمع يجفّ

عشرة أيام منذ رحيل زياد الرحباني، ولا يزال الألم في قلوب محبيه هو ذات الألم، لا الغصّة تختفي ولا الدمع يجفّ، فما انفَكَّت الأغنيات تُصاحبني منذ بداية يومي وحتى نهايته، ومقاطع لقاءاته التليفزيونية تتصدر مشاهداتي على مواقع التواصل الاجتماعي-حتى وإن كانت مُكَرَّرة- وصوته الأجشّ لا يبرح أُذنيّ مهما حاولت طمسه أو حَجْب صداه بأصواتٍ أخرى. ما زلتُ أذكُر ما حدث في اليوم الخامس عقب وفاته، حين ظننتُ أنني قد استنفدت كل ما اختزنته مُقلَتَيّ مِن عَبَراتٍ، إلى أن هزمني صوته القادم مِن بعيد في بروفة أغنية "كيفك أنت"، لأشعر آنذاك بشوكة تخترق حَلقي وعينيّ، فتكسوهما سحابة كثيفة مِن الدَمْع حالَت في لحظةٍ ما دون رؤيتي أثناء القيادة، وهو ما أثار دهشتي للغاية، بل ربما وجدته مدعاة لتأمُّل هذه الحالة العجيبة التي لم تتمَلَّكني فحسب، بل تغلغلت في داخلي، فقد أكون تأثرت لرحيل فنانين كُثُرٍ مِن قَبْل، وربما بكيتُ بعضهم أيضًا، ولكن مع زياد، كان هناك شيء مختلف... مُختَلِف لدرجة بَدَت مُفاجِئة حتى بالنسبة إليّ، وكأنه بِقَدْرِ ما كان استثنائيًا ولا يُشبِه أحدًا؛ كان من المنطقي -بل والبديهي- أن يكون الحزن لرحيله أيضًا ذا طابع خاص، حزن كبير وعميق يليق بعظمته كإنسان، قبل أن يكون فناناً ذا بصمة خاصة، سيظلّ أثرها مطبوعًا بذاكرة ووِجدان أجيال وأجيال.

أحببتُ زياد بذات الطريقة التي أحببتُ بها بليغ حمدي. يبدأ الأمر بسماعي لأغنية يعلق لحنها بأذنيّ، ولا يغادرها لأيام، وتلمس كلماتها وَتَرًا حَسّاسًا أو جُرحًا غائرًا في داخلي، فأبحث عن صانع هذا الإبداع الفريد، لأجده زياد. في كل مرة كان زياد، ذلك الأمر الذي جعل دائرة البحث تتسع شيئًا فشيئًا، لتشمل أغنياته الشخصية وسائر ألحانه؛ لذا لم يَكُن حبي له وتقديري لفنه وشخصه، على حد سواء، وليد لحظة تأثُّر لرحيل مُبدِع كبير أو فنان شهير، بل كان نَتاج سنواتٍ طويلةٍ مِن الوَصْل والتعلُّق بأعماله، التي لطالما كانت مؤنِسَتي في ليالي الأرق ومشاعر الحب الأولى وكسرة القلب، والانهزام والتمرُّد والتحليق أحياناً؛ وكأنه بات بمرور الوقت -ودون أن يدري- شاهِدًا على مراحل حياتي كافة، يؤرّخها بألحانه، ويصف ما يختلج في ثنايا قلبي مِن مشاعر مضطربة ومتناقضة بكلماته التي كثيرًا ما كانت تُفاجئني بتفسير ما عجزتُ أنا عن فهمه عن نفسي.

أكثر ما آلمني، عقب رحيل زياد الرحباني، أنني لم أتمكَّن من تشييع جثمانه كما فعل سائر مُحبّيه. لم أقف بينهم لأودعه بينما أنا أغني معهم "سألوني الناس عنك يا حبيبي"، أو أُلقي الورود على نعشه مثلهم. لم ألتقِ به أو أحضر له ولو حفلًا واحدًا. كان حضوره على رأس قائمة أمنياتي، ولم يَعُد بإمكاني أن أنتظر لحنًا جديدًا مِن تأليفه، كما حدث مع ألبوم "إيه في أمل"، الذي ظللتُ أستمع إليه دون غيره عقب صدوره لثلاثة أشهر متواصلة.

كنتُ أتمنى لو استطعتُ أن أتحدث إليه، لو أذاقني من سخريته اللاذعة أو خاض معي نقاشًا جادًا ذات يومٍ، لو أخبرته أنه كان دومًا حاضِرًا بفنه رغم الغياب، وأنني كنتُ أتمنى لو صرنا صديقين، نتبادل الأحاديث والمزاح أحيانًا، ونستعين معًا بالفن على ملء تجاويف الروح و فَتح طاقة نور تُضيء المناطق المُظلِمة في داخلنا، وتبعث الأُنس في أكثرها وحشةً. ولكن مع الأسف لن يحدث أيٌ مِن ذلك، ففي حَضرة الموت، تُصبِح الأمنيات بمثابة نُصُبٍ ثابتٍ أمام أعيننا، ليُذَكِّرنا دومًا بحُلمٍ بعيدٍ لقى حتفه على عتبات الواقع، وعقد آمال انفرطت حَبّاته واحدة تلو الأخرى، لتسقُط أمام شاهد رخامي وتتبعثر وسط حفنة تراب.

جعلني رحيل زياد الرحباني أُدرِك أن أكثر ما يؤلمني بشأن الموت ليس الغياب نفسه بِقَدْر الحسم فيه، وأن يكون الرحيل قاطِعًا كسيفٍ، فما مِن رادٍ لضربته، ولا سبيلٍ لوَصْل ما قطعه، فلا يَعود هناك أمل في مواعيد مُنَظَّمة أو صُدَف مُحتَمَلة، لا أحاديث تُستَأنَف مِن حيث توقَّفَت ولا مكالمات هاتفية تُبَدِّد الخصام مع أول "ألو"، فلا الندم يُشَكِّل فارِقًا، ولا كلمات الحب والتقدير التي أتت متأخرة تغيّر شيئًا، ثم نجد أنفسنا آنذاك نتمنى لو يصل الغالون الذين رحلوا عن عالمنا... وربما هو ذات السبب الذي جعلني بعدما كنتُ أوَدّ زيارة بيروت لعلّي أُصادف زياد الرحباني في أحد مقاهي شارع الحمرا التي اعتاد أن يتردد عليها، أرغب أكثر الآن في الذهاب إليها، لعلّي ألتقيه عند قبره، حيث يرقد الجسد وتحوم الروح، لأرى طيفه وأتلَمَّس أثره في الأزقة والمقاهي وشرفات المنازل التي سيظل صدى ألحانه ينبعث من أرجائها، مثلما سيبقى هو حيًا في قلوبنا، وإن مرَّ على رحيله عشرة عقود، لا عشرة أيام فقط

 

النهار اللبنانية في

07.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004