على قاعدة «اللهمّ اضرب الظالم بالظالم»
عبد الغني طليس
كان بحثُ جلسةِ الحكومة في القصر الجمهوري يدور حول تحديد
جدول زمني طلبه مثلّث أميركا - إسرائيل - السعودية لـ«نَزْع» سلاح المقاومة.
كان بحثُ جلسةِ الحكومة في القصر الجمهوري يدور حول تحديد
جدول زمني طلبه مثلّث أميركا - إسرائيل - السعودية لـ«نَزْع» سلاح المقاومة.
وبعد جدل مرير، وربما خطير، قرّرت الحكومة «نَزع» اسم
الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، عن جادة/ أوتوستراد المطار، وإلصاق اسم
زياد الرحباني مكانه. «قال شو؟»، تكريماً لعطاءات زياد الفنية.
لا بدّ من أنها اخترقَتكم في الصميم قاعدة «العروبة
الجديدة» التي تجمع مسلمين ومسيحيين في لبنان، وتقول: «اللهمّ اضرب
الظالمين بالظالمين، وأَخْرِجْنا من بينهم سالمين»، فضربتم زياد الرحباني
(الظالم عندكم بآرائه) بحافظ الأسد (الظالم عندكم عسكرياً وسياسياً)،
معتقدين أنكم ستخرجون سالمين من فِعْلتِكُم المُشينة!
بعدين... لو سمّيتُم جادة حافظ الأسد، مثلاً، بِاسْم جادة
الشحرورة صباح، فأكثر ما كان سيقال إنه قرار ملغوم وثأري لناحية الأسد،
وطبيعي لناحية صباح. فصباح صورة عن لبنان والحياة الجميلة رغم بؤس واقعها،
وصباح لا علاقة لها بالمرّة، لا بالأسد الأول ولا بالأسد الثاني، لا
بالجميل ولا بالمحارَبة، والضجيج لن يتخذ بُعداً يوظّف في سياسة «الحضن
العربي» المسيطرة على القرار الداخلي اللبناني، حتى في أسماء الشوارع.
لكنّكم أصبحتُم مكشوفين، وعبارة عن آذان تُنَفِّذ ما تؤمرون به، وعميان
تحتاجون إلى يد تأخذكم وتأتي بكم... وكلّه بوعد المساعدة المادية التي لن
تأتي، وإذا أتت فليس قبل أن يُمسَح بلبنان الأرض! سجّلوها عندكم!
زياد الرحباني يستحقّ أن يُسمّى جيلان لبنانيان باسمه،
انطلاقاً من تأثير هذا الرجل على لغة أكثر الشباب منذ السبعينيات إلى اليوم.
غير أن هذا شيء، وقرار الحكومة الفاشل شيء آخَر، باعتباره
قراراً لم ينتبه إلى مضمون علاقة بيت الرحباني الفنية الشخصية العالية
بحافظ أو ببشار الأسد، ولا بالمكانة غير المسبوقة التي للعائلة الرحبانية
في سوريا كلّها، شعب سوريا، قبل تغيُّر الواقع هناك رأساً على عقِب،
وعَقِباً على رأس!
فمَن لم يعرف أيّ نوع من العاطفة والصداقة الشخصية التي
كانت بين الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، والأخَوين عاصي ومنصور الرحباني
وفيروز، والعائلة ككل، معذور في أن يخلط السياسة والحقد على عَمَاهما، وأن
يرقص حتى الشماتة، في تجديدٍ لعادةِ نبش القبور، وقد استُحضِرَت بعد ألف
سنة، لتغدو موضة.
الجاهل معذور حقاً بإصداره قرارَ تسمية جادة حافظ الأسد/
أوتوستراد المطار، باسم جادة زياد الرحباني، وبإيجاد مناسبة لدى الآخرين
لقَدْح الأسد وذَمّه.
غير أن أغرب الغرائب هو «تناولُ» الأسد من كتّاب كانت
مرجعية زعمائهم السياسية لسنوات طوال، في دمشق الأسد الأول والثاني، ويمكن
القول إن دمشق صنعتهم، و«شَقْشَلَت» بهم زمناً، مع الإشارة المُلزِمة إلى
أن إطلاق اسم حافظ الأسد على جادة مطار رفيق الحريري، كان أصلاً أكبر عملية
تزلّف وتملّق ورشوة ضخمة للأسد، يوم كانت الرّشى تتطاير في البلد.
والبحث في ذلك يكشف زمن الخاضعين طوعاً من «اللبنانيين» غير
المعروف لهم رأس من كعب. ما لَنا وللأسماء، فهي واضحة، ولم ألجأ إلى هذه
الملاحظة العارية إلّا للتذكير الذي قيل إنه ينفع «المؤمنين».
حافظ الأسد صعلوك! حافظ الأسد بطَل! حافظ الأسد باني سوريا
الحديثة! حافظ الأسد هادم سوريا على رؤوس أهلها!… دعوا كل ذلك واعلموا ماذا
فعل حافظ وبشار الأسد مع الأخوين عاصي ومنصور، ومع فيروز، وزياد ابن العاصي
والفيروز.
كان حضور الأخوين وفيروز في معرض دمشق الدولي من أواخر
الستينيات حتى... البارحة، أساسياً، بأوامر مباشرة وصريحة من حافظ وبشار
الأسد.
وفي المعرض أنشدَت فيروز، على مدى ثلاثة عقود، أجمل الروائع
الشعرية والموسيقية والغنائية عن دمشق والشام، من دون أن تُضَمَّن أي أغنية
إشارةٌ إلى اسم الأسد، لا تصريحاً ولا تلميحاً على العادة الرحبانية
المعروفة بالغناء للبلاد العربية لا للحكام ولا للأشخاص.
«الحضن
العربي» الوحيد للرحباني وفيروز كان سوريا، وقتَ كانت «الأحضان» الأخرى، ما
معها خبر! وأكرّر برعاية رئاسية من الأسدين.
ثانياً: عام 1972 أُصيب عاصي الرحباني بانفجار صعب جداً في
الدماغ، ولم تكن ماديات عاصي ومنصور وفيروز مرتاحة كما ينبغي لمواجهة معضلة
صحية كهذه، فضلاً عن غياب الدولة اللبنانية بالكامل عن هذا الحَدَث العنيف،
فأرسل حافظ الأسد كبير ضباطه في القصر الجمهوري إلى بيروت (للتذكير: عام
1972) وسلّم منصور وفيروز مبلغ 75 ألف ليرة لبنانية لإجراء الجراحات
اللازمة لعاصي، وإكمال العلاج في الخارج إذا استدعى الأمر. وعملاً
بالمبادلة الأخلاقية، قدّم الرحباني وفيروز رَيع سنة 1973 / بعد حرب تشرين،
في معرض دمشق، إلى عائلات الشهداء والجرحى السوريين في تلك الحرب.
واستمرّت العلاقة الرحبانية - الأسدية في أوجها، لم تتلوّث
لا بالسياسة ولا بالمصلحة، بل اتسمَت بالمَونة، تحديداً في بعض المراجعات
التي كانت العائلة الرحبانية «تتدخّل» فيها لإطلاق محتجزين مظلومين عند
السوريين، بعد دخولهم لبنان.
ومن هذه الحالات التدخّل لـ«تحرير» زياد الرحباني من
مضايقات إبان المرحلة الأولى من وجود «قوات الردع» في لبنان، وكان برنامجه
في «إذاعة لبنان» شاهداً على موقفه المُناهض لدخول السوريين، والدخول
السوري يومها (لتذكير «المؤمنين» الذي تكاثروا اليوم!) تمّ تحت شعار «حماية
المسيحيين»، بطلب من «الجبهة اللبنانية»، فتعرّضت أحزاب «الحركة الوطنية»
وأشخاصها، ومنهم زياد الإذاعي، حينذاك، للضغط أو السجون.
وبقي معرض دمشق الدولي منبراً رحبانياً بامتياز، وآخر
الأعمال كان إعادة عرض غنائية «صحّ النوم»، قبل سنوات قليلة.
ولم يؤثّر موقف زياد «الرافض» أو «الراضي» سياسياً، على
العلاقة بين الأخوين وفيروز من جهة، ونظام حافظ الأسد، أو بشّار من جهة
ثانية، ذلك بأن تلك العلاقة المتينة كانت مفصولة عن كل ما هو غير فني.
حتى جاءت الثورة السورية ضدّ بشار الأسد والتي كان لزياد
رأي «آخَر» في دوافعها وحيثياتها ومآلاتها، ودافع عن وجهة نظَره علناً،
كعادته، لا بدعم الديكتاتورية كما يُروّج عنه، بل بالحفاظ على وحدة سوريا
ضد الخراب الذي كان واضحاً أنه آتٍ. قلتُ لن أغرق في السياسة، فهي في لبنان
وحْل ونفايات ممزوجة بطائفية تشبه «العنقاء» الخرفانة الولّادة من الرماد!
نَزْعُ اسم حافظ الأسد (واليوم النّزع ماشي، مش هيك؟) عن
جادة أوتوستراد المطار، ومحاولة تركيب اسم زياد الرحباني مكانه، يضربان كل
الماضي الفني والشخصي المتلألئ الذي جمع بين العائلة الرحبانية، ونظامَيْ
حافظ وبشار الأسد، وكذلك يضربان المواقف السورية من الفنانين اللبنانيين
الكُثر الآخَرين (على رأسهم وديع الصافي)، بالإضافة إلى الفنانين السوريين
الذين وقف حافظ وبشار الأسد إلى جانبهم، في أواخر أيامهم، مع تكرار غياب
الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها عن الفنون اللبنانية وأهلها!
الآن قامت الدولة اللبنانية من غيبوبتها (إلى غبائها؟)
فاختارت اسم حافظ الأسد، بالذات، من بين كل أسماء الشوارع والأوتوسترادات
اللقيطة في البلد، لتنزَعه وتثبّت مكانه اسم زياد الرحباني… مع كل ما سبق
ذكره من التعاون الكريم الحكيم بين العائلة الرحبانية وحافظ وبشار الأسد،
ورغماً عن كل الروائع الفنية والحفلات المذهلة التي كانت للعائلة في دمشق،
وأثمرَت شِعراً وموسيقى وحباً لا يوصف!
الرؤية إلى هذا الأمر الوجداني والإنساني لا تتمّ من خلال
خُرم الإبرة السياسي الضيق والمحتقن، بل من خلال تاريخ شخصي وعملي مُشرّف.
صحيح أن السياسة، خصوصاً اللبنانية، معدومة من الأخلاق
والعِرفان، لكنها تصبح في لحظات الانتهازية المكشوفة أقرب إلى دكان نخاسة
جاحظ العينين، كالعاهرات!
شوارع كثيرة في لبنان... ما شاء الله، وبعضها حضَن زياد
الرحباني حيّاً ونَشِطاً ومُعافًى ومريضاً وفقيراً وميتاً. فهل ضاقت
«الدنيا» اللبنانية («حديقة حيوانات مباحة برّاً وبحراً وجوّاً» على قَولة
الشاعر أنسي الحاج ذات يوم كان فيه إذلال إسرائيلي للبنان) على زياد حتى
حُشِر بديلاً في جادّة لاسم «صاحبها» فضل عميم على عائلته وعليه؟ وهل يقبل
زياد هذه الرعونة، لو سُئل؟ وهل سُئل الورَثة؟
يقال: «ما دخلت السياسة شيئاً إلّا أفسدَته». وقراركم
«البريء» هذا «مدروس» سياسياً بفظاظة، ورائحة طلَب رضى البعيد والقريب تفوح
منه. فلا الذي رحّب به (القرار) التفت إلى «ما وراءه» إنسانياً، ولا الذي
اعترض عليه التفت إلى ما هو أبعد من السياسة!
لسنا مضطرّين إلى استخدام الكلمة ذاتها التي استخدمها زياد
حين سُئل عن …هذه «الجمهورية»!
إن أول ما ينبغي أن «تنزعَه» دولتنا العَلِيّة من مواقفها
وتصرفاتها، وخلفياتها الفكرية إذا وُجِدَت، هو اعتماد السياسات الصبيانية
في قضايا مصيرية، أو ذات بُعد ثقافي. العب في الحقل «السياسي» كيفما تريد،
فالسياسة حمّالةُ أوجه، لا ضمير فيها ولا وجدان. أما الثقافة فلها اعتبارات
أُخرى يتعيّن تقديرها.
ومن حقّنا سؤال وزير الثقافة غسان سلامة، المنتمي بخلفيته
إلى الثقافة و«فنونها» الإبداعية، كما نعلم، ما هو رأيه في ما جرى؟ وهل
طُلِب رأيه أم لا؟ وبماذا أجاب عن الفكرة المُفترَض أنه مُلِمّ بتفاصيل
المَعنيّين بها؟ |