ملفات خاصة

 
 
 

خمسون عاماً وهو يبحث عن بلاده المسروقة

علي النابلسي

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

في السادس والعشرين من تموز (يوليو)، توقف قلب زياد الرحباني الذي عاش عمره في لعبة يومية مع الموت

في السادس والعشرين من تموز (يوليو)، توقف قلب زياد الرحباني الذي عاش عمره في لعبة يومية مع الموت الذي لازمه منقلباً على «الخندق» الذي عاش فيه وانضباطية الحياة، متنقلاً بين يسار حد التطرف وايمان حد التصديق.

كان شيئاً خرافياً أن يولد من رحم الرحابنة عاصي ومنصور وفيروز فتى ممزقاً بالجدل ومستشكلاً بالحوار، فصديقه الله منذ الصغر. حمل ملامح فتى تجاوز رفاهية الطفولة الى عباءة الدراويش والمعذبين في الأرض.

هكذا يقف زياد كرجل متأهل من الفلسفة والاجتماع والنضال السياسي بتشعباته ومتأهل من الفن معاً من دون أفضلية غربية على عربية، وبعيداً عن دبلوماسية المصطلاحات. لم يكن لزياد هاجس من الجمع بين كل هؤلاء لتتكون بذلك شخصيته العبقرية.

في عام 1975، كان تاريخ بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وهو تاريخ انحياز زياد الفكري والسياسي، فأمسك بأجهزة الراديو في «صوت الشعب» ليتكشف طريقه الى الجنوب وسمائه المثقوبة بآلاف الصواريخ والطائرات، ومن هناك الى زهرة المدائن فلسطين.

إبان الحرب الاهلية، آمن زياد بالمعجزات من كل مكان من الله ومن الشعب وأبطال الشوارع من القوميين والجهاديين والعروبيين والشيوعيين لكنه كان يدرك أيضاً أنّ جميع معجزات الولايات المتحدة هي معجزات توراتية اسرائيلية و«فيلم أميركي طويل».

في مسرح زياد وقتذاك، كنا على موعد مع الحقيقة التي خاف اللبنانيون منها وكان مطلوباً منه أن يكون أكثر من ملحّن وممثل ومؤلف، أن يكون ملهماً ومنوراً ومؤثراً بجيل سار على ما سار عليه.

مذهل زياد في مسرحه، ففيه تاريخ من العصيان والتمرّد والخروج عن القانون والاعراف، والأعجب أنّك عندما تستمع اليه، يستطيع أن يأخذك ويحميك ويوحّدك ويوجّهك ويغسلك من غبار الطائفية ولو لساعة من الزمن.

بعد اتفاق الطائف، حاول بعضهم شراء مواقفه وضمه الى دولته عبثاً، فزياد في الأصل يبحث عن وطن وعن هوية قبل الدولة، لكنّه شكل لوحده حكومة ظل أو حكومة منفى وقدم للوطن المكسور عكازين... عكازاً من الموسيقى المتفردة وعكازاً من القلم الذي مرّ على «السفير» و«الأخبار».

بعد تحرير الجنوب عام 2000، أخذت الثورة بعداً آخر في فكره، ووضعته في حرب تموز 2006 بحالة استثنائية ومنحته لحظات من الحنين الى الانتصار. كان مستمتعاً ومنتشياً ومنفعلاً بلحظات الصدق التي لم تحدث في حياة الامة منذ بداية انحطاطها العربي.

لم يكن لزياد يد في سقوط فلسطين ولا سوريا ولا سقوط القومية ولا الماركسية ولا العروبة، لكنه ما استقال من همومه وآلامه وآماله وانبرى مدافعاً عن القضية حتى المنية.

خمسون عاماً وما يزيد وهو يبحث عن بلاده المسروقة... شكّل زياد الرحباني حزبه الخاص... حزب الذي يبحثون عن الحب والعدل والشعر والموسيقى وأنفسهم و... عن الله!

 

####

 

أعياد بيروت… تحية لزياد

الأخبار

فتتحت السهرة التي قدمها نيشان بتحية للفنان الراحل زياد الرحباني. ثم عُرضت لقطات من الحفلة التي قدّمها عام 2019 ضمن المهرجان نفسه.

اختتم أمس «مهرجان أعياد بيروت» فعالياته بحفلة فنية أحيتْها إليسا على «واجهة بيروت البحرية»، وقدمت خلالها مجموعة من أرشيفها الغنائي. تميز ختام المهرجان بأجواء استثنائية. إذ افتتحت السهرة التي قدمها نيشان بتحية للفنان الراحل زياد الرحباني. ثم عُرضت لقطات من الحفلة التي قدّمها عام 2019 ضمن المهرجان نفسه. كما تزيّن المسرح بصور زياد مرفقة بعبارة "وداعًا زياد الرحباني".

تحية من اليسا الى زياد

في هذا السياق، استهلّت إليسا حفلتها بكلمات مؤثرة لزياد، قبل أن تبدأ سهرتها التي تنوعت فيها الأغاني بين القديم والجديد. بدت المغنية اللبنانية في مزاج هادئ، وعبّرت عن حبها الكبير لبيروت، وقد تفاعل الجمهور معها على وقع أغنية «حبك متل بيروت». وقدّمت خلال السهرة باقة من أعمال الفنان والشاعر مروان خوري، من بينها أغنية «كل القصايد» التي لاقت تفاعلاً لافتاً.

كارول سماحة واليسا

ولم تقتصر الحفلة على أداء إليسا الفردي، إذ فاجأت الحضور بدعوة زميلتها كارول سماحة، التي كانت من بين الحاضرين، للصعود إلى المسرح ومشاركتها غناء «خدني معك» للفنانة الراحلة سلوى القطريب. لبت كارول الدعوة وسط تصفيق الجمهور، وتقاسمت معها أداء الأغنية. تميّز الحضور في السهرة بالتنوّع، حيث أشارت إليسا إلى وجود جمهور من إيران والعراق، إلى جانب الحضور اللبناني. يُذكر أن «مهرجان أعياد بيروت» كان قد افتُتح مطلع الشهر الحالي بحفلة أحيتها ماجدة الرومي، وتوالت بعدها سلسلة من الحفلات التي جمعت نجوماً من لبنان والعالم العربي.

 

####

 

عجيبة... زياد يوحّد الإعلام اللبناني

نزار نمر

تمامًا كما وحّد غيابه اللبنانيّين، وهو ما تجلّى علنًا في تشييعه يوم الإثنين، وحّد زياد الرحباني كذلك إعلامهم، بالاشتراك للمرّة الأخيرة مع والدته المفجوعة فيروز.

تمامًا كما وحّد غيابه اللبنانيّين، وهو ما تجلّى علنًا في تشييعه يوم الإثنين، وحّد زياد الرحباني كذلك إعلامهم، بالاشتراك للمرّة الأخيرة مع والدته المفجوعة فيروز. منذ السبت، استعادت وسائل إعلام كثيرة أعماله ومقابلاته وأعادت عرضها، كما على الشاشات كذلك على إذاعات الراديو، فبات «صوت الشعب» و«صوت لبنان» واحدًا. ومنذ صباح الإثنين الباكر، فُتح النقل المباشر على كلّ قناة لبنانية، من دون استثناء. وأخذت وسائل الإعلام على اختلافها المداخلات من المشاركين في التشييع منذ تجمّعهم خارج مستشفى خوري في الحمرا وبكائهم على الراحل بمختلف أجيالهم، فيما علت فوق رؤوسهم صورته على غلاف نُسخ ذاك اليوم من «الأخبار».

الإعلام يركّز على السيّدة فيروز

لاحقًا في بكفيّا، كان تركيز الإعلام على السيّدة فيروز وبُثّت موادّ مؤثّرة حولها وزياد، فيما انكبّت وسائل الإعلام على أخذ مقابلات من مختلف الفنّانين والمثقّفين والمشاهير، مهما كانوا قريبين من زياد أو بعيدين عنه. وأتت نشرات الأخبار مساءً لترثيه لليوم الثالث على التوالي، فشكّل الأولوية على كلّ ما عداه من أخبار، تمامًا كما لم يعد أحد يكترث لأيّ خبر غيره بعد رحيله.

بدأت مقدّمة «الجديد» بإيراد: «أنا الأمّ الحزينة، وما مَن يُعزّيها. هكذا انتهى مشوار فيروز مع زياد. بين يدَي الله جلست وحيدةً قرب البكر المسجّى»، مضيفةً: «ما عجز عنه زياد في حياته وحّده في موته، فاستحقّ وعن جدارة مكتسَبة بعد نضالٍ طويل وسام الأرز الوطني من رتبة كوماندور. جمع زياد لبنان في خندق واحد، تمامًا كاللحظة التي تمرّ بها البلاد».

مقدّمات نشرات الأخبار

أمّا في مقدّمة «المنار» فورد أنّه «ودّعنا ولا حاجة ليخبرنا عنه، فعند كلّ موقف وتحدٍّ واستحقاق له من البصمة ما يذكّرنا به، عازفاً على وتر أوجاع الوطن، ومُلحّنًا لدندنات آمال أهله، ومبدعاً لصورة طالما اجترحها من بين ركام الأفكار، وثائرًا عابرًا لكلّ المعالي والألقاب». وأكملت أنّه «من تحت العلم الذي أحَبّ – علم فلسطين – والقضية التي انتمى إليها كثائر عنيد، انتقل زياد من الحمرا الى بكفيا حيث الفراق الأخير، فدائماً «بالآخر في آخر»، كما عزف زياد بفلسفة الفنّ والكلام الهادف العميق».

وأوردت LBCI: «مات زياد، فمَن يستطيع أن يحصي كم من زياد وُلد اليوم في قلوب اللبنانيّين وعقولهم؟ بين إعلان الوفاة والمثوى الأخير، توزّعت أفئدة اللبنانيّين اليوم بين الأسطورة التي صار اسمها زياد، وبين الأيقونة التي اسمها فيروز. يوم رتّلت «أنا الأمّ الحزينة» هل كانت تدرك أنّها ستصل إلى هذا اليوم تنشد فيه الترتيلة بقلبها وليس بصوتها؟ هذا يوم تعلن فيه الكلمة استسلامها في حضرة الأسطورة والأيقونة. لن يقال أهمّ ممّا قاله زياد وأهمّ ممّا غنّت فيروز. ليس يوم حداد بل يوم صمت». وأضافت: «هذا هو الألم الكبير والوجع الأكبر: زياد لن يلحّن ولن يتحدّث ولن يكتب أغاني أو مسرحيات. وفيروز لن تغنّي، فأيّ فراغ سنعيش وليس مَن يملؤه؟ أليس مستحيلاً ملء فراغ زياد وفيروز؟ إنّه الاستسلام».

وورد في مقدّمة mtv أنّ اللبنانيّين يودّعون «جميعهم الراحل زياد الرحباني مدركين أنّه جمع ولم يفرّق مهما بعدت الأفكار»، وأنّه «الحاضر أبدًا، فمَن صنع هذا الكمّ من الذاكرة لا يموت». أمّا OTV فأوردت: «لساعات اليوم توقّف الزمن. وأمام الأمّ الحزينة فيروز في وداع ابنها زياد، انحنى كلّ لبنان خشوعًا في حضرة التاريخ. في وداع آخر العباقرة، انحبست كلّ الدموع واختنق كلّ الكلام إلّا كلام زياد».

 

####

 

لا شكرَ على حبّ

جاد نصرالله

إنه نص أناني. بأنا متضخّمة. عن معرفتي الشخصية بزياد الرحباني. ولمَ لا؟ لن أفوّت الفرصة لأتباهى بعلاقتي به.

إنه نص أناني. بأنا متضخّمة. عن معرفتي الشخصية بزياد الرحباني. ولمَ لا؟ لن أفوّت الفرصة لأتباهى بعلاقتي به. فلست إلّا فرداً من متلقّيه لأركّز في الكتابة على رأيي وتقييمي للفنان العبقري والموسيقي الذي سبق عصره والمفكر السياسي الرؤيوي... إلى آخر الألقاب المبتكرة التي أعطيت له، بقدر أقلّ من ذكر العلاقة الشخصية التي ربطتني به. كلا! سأتباهى بالحديث عنه «طالما» كان لي الحظ بصداقته ولو لمدّة وجيزة، وأمثّل أخبارها في مسرح التشبيح.

كان أن عهد بي رفيقه إبراهيم الأمين لمساعدته على طباعة مقاله اليومي في الجريدة بعد أن يخطّه بشكل غير مفهوم على قصاصات ورقية غير متناسقة جمعها كيفما اتّفق. جلست قربه مزهوّاً ومتوتّراً في الوقت نفسه لأنَّ جوزيف سماحة وإبراهيم يستعجلانني «وين صار هالمقال! بدنا نسكّر الصفحات».

لكن لزياد طقوسه الخاصة في إتقان ما يُنتجه عرفها كلّ من عمل معه. وهو يُملي عليَّ نصه بتأنٍّ، يحذف ويضيف إليه، فيعيد كتابته من جديد ولا ينسى سؤالي عن رأيي بعبارة ما فأصمت؛ «ما شكلها عجبتك!».

ولكن من أنا لأناقش صاحب القوى الخارقة الذي اتّخذته بطلاً عوضاً عن سوبرمان كسائر أترابي في زمن الحرب الأهلية. وفي اليقظة أحلم أنني أؤدّي معه عملاً جباراً كمثل روبن مع الرجل الوطواط: أفرغ أفكاره وأصفّها كلماتٍ على جهاز الكمبيوتر فأوّثقها للتاريخ.

حين اطمئنّ لي ووُجِد الوّدُ بيننا، صرت أذهب إلى الاستديو قرب مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. جلسات طويلة أحرق فيها سجائر الـMerit وشرب عصير التفاح المصنّع الذي أدمنه في تلك المدّة، فرافقه حتى في حفلاته قرب البيانو. سمح لي بالاقتراب منه ليس لشيء، إلّا لكرم مقيم فيه عرفه عنه كل من عايشه.

فراح يشرح لي عن الآلات الموسيقية وغرف التسجيل وأسمعني الأغنيات التي كان قد كتبها للمغنية التونسية لطيفة قبل حتى أن تصدر، وإلى اليوم أحتفظ بنسخة أولى أهداني إياها بكل تواضع كأغلى مقتنياتي؛ «اسمعها وخبرني رأيك». لم يبخل في الكلام عن أمور تقنية وتفاصيل كثيرة لم أحفظ منها شيئاً، فأنا لم أهتم إلّا أنني معه. زياد الرحباني يتوجّه لي بالحديث، أنا ولا أحد غيري في مكتبه، في طابق سفلي تحت الأرض.

لم يأتِ ذاك القرب بلا ثمن. فالخطأ ممنوع. وزياد من يحدّد المعيار. اتصل ليقرّعني على طريقة الأستاذ نور في مسرحية «شي فاشل» لأنني ارتأيت استبدال كلمة «طالما» بـ«كلّما» في إحدى مقالاته (في مبنى الكونكورد*).
«
إنت مين قلّك تغيّرها؟ ما هيك إنت** اختو للمعنى. هلق كيف بدّا تعود الناس تصدقنا
!».

في العام 2006، كانت مصداقية زياد الرحباني مسؤوليتي. بهذا الوضوح رماها في وجهي.

في سَيري البارحة وراءه إلى مثواه الأخير وبعد تسعة عشر عاماً، اتّضح كم بالغت في وهم صداقتي معه. انتبهت لحقيقة أننا عشيرة، كل من فيها يعرف زياد مثلي، حتى لو لم يلتقِ به. كان التشييع عفوياً. صحَّ فيه المكان وكل العناصر الأخرى. أحسب أنّني عرفته جيداً لأدّعي القول أنه تيقّن من حضور السيدة فيروز، والدته، لتجلس على مسافة قدم واحدة من الناس. من رفاقه وكل مَن أحبّه، حتى بعد موته.

هي هدية حُبّ أخيرة. فشكراً يا زياد.

 

####

 

نبيّ الأيّام العاديّة

خريستو المر

حين يُذكر اسم زياد الرحباني، يُستدعى صوتٌ مبدع، مستقل، ساخر، مثقّف، ومتمرّد. زياد لم يكن فنانًا عاديًا، بل ظاهرة ثقافية واجتماعية أعادت تعريف علاقة الفن بالسياسة، والضحك بالغضب، والمسرح بالمقاومة. هو نموذج نادر للفنان الذي لا يكتفي بعرض الواقع، بل يحرّض على تغييره.

بتفرّد وإبداع فنّي، أعاد زياد الرحباني تشكيل المشهد الموسيقي اللبناني، خارجًا من عباءة الغناء الرومانسي للأخوين رحباني، هو الذي اتّهمهما مرّة عن حقّ بخلق وطن غير واقعيّ ولا هو موجود في أغانيهما. أدخل زياد إلى الأغنية نبرة جديدة من النقد الاجتماعي والسياسي. المتذوّقون لفنّه، موسيقى وكلمات، يمكنهم أن يلمحوا وسطه وجهًا واحدًا فيها هو وجه الإنسان، ويمكنهم التمييز أيضًا بين بُعدَين: بُعد ماركسيّ نقديّ، وبُعد الخبرة الإنسانيّة الشخصيّة في تناقضاتها.

نرصد ملامح الوجه الماركسيّ في نقده للبنية الاقتصاديّة الاستغلاليّة في أغانٍ مثل «أنا مش كافر» أو «شو هالإيّام» اللتين شرح من خلالهما الاستغلال الطبقيّ واحتكار التجّار، وفضحَ نفاق المستغِلّين المتبرّعين بأموالهم للفقراء في وقت كان النفوس تُحضَّر للشراء\الخضوع من خلال التبرّعات في لبنان الثمانينيات.

أمّا وجه الخبرة الإنسانيّة الشخصيّة في تناقضاتها، وجه العلاقات الإنسانيّة لليوميّات العادية، ذاك الوجه الذي يبرز عنده بعيدًا كلّ البعد عن العظات الأخلاقيّة (وهو ما جعله مقبولًا في القلوب) فيمكن ملاحظته من خلال أغان مثل «خلّيك بالبيت» «كيفك إنتَ»، «صباح ومسا»، «شو بخاف»، و«أنا فزعانة»، التي تأخذ المشاعر المتناقضة الإنسانيّة على محمل الجدّ؛ ونلاحظه في أغان تعكس القلق الوجوديّ على المصير كما في أغنيته «إيه في أمل» التي حمَلت في طياتها قلقًا ووعيًا عميقًا بواقع متأزم لبلد يأكل نفسه ويضمحلّ.

هذا الوجه الإنسانيّ نلاحظه أيضًا في موسيقى تكاد تكون صرخات احتجاج كما في «أبو علي»، أو في مجرّد قصيدة للحزن كما في «تلّ الزعتر»، أو في حزن دائريّ لأناس يتخبّطون في حلقة من العنف العبثيّ وفي نفق بدا بلا نهاية كما في موسيقى يفوتني اسمها الآن.

عدا جمال كلماته وألحانه كانت أغانيه لفيروز ابنة عصرها، تحكي قصص الحبّ الواقعيّ كما نعيشها جميعًا، أي في أفراح وأحزان، والأهمّ التناقضات، ولذلك كانت تخاطب كلّ جيل في كلّ زمن. ملامسة فنّ زياد لكلّ جيل تأتي بالضبط من ملامسته للحياة الواقعيّة، التي يمتزج فيها الحلم بالجسد الملموس، أي بهذا التناقض الأبديّ بين وجودنا في هذا العالم البائس والجميل وبين امتداد أفكار القلب إلى الرؤى. بالطبع كان هذا كلّه متسربلًا جمالًا موسيقيًّا رائعًا والجمال هو الأساس في العمل الفنّي، فنحن لا نتعامل مع الموسيقى إلّا كحاملة للجمال أوّلًا.

أمّا من جهة المسرح، فبين يدي زياد تنقلب خشبة المسرح إلى مرآة للمجتمع، إلى مكان محاكمة سياسية واجتماعية لكل ما هو زائف ومنافق. شخصيّاته أناس مأزومون، مهمّشون، متمرّدون، منافقون. أمّا الضحك عنده فسلاح ضد النظام الطائفي، ضد الشعارات الفارغة، ضد التبعيّة الفكريّة والسياسيّة، ضدّ سحق البُنى السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة للإنسان. مسرحياته بابٌ للشك والأسئلة: من نحن؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ولماذا ما زلنا ننتظر؟ وهو لم يوفّر الثقافة السياسيّة للناس من نقده، ولعلّ ذلك ما كان وراء عدم الإعجاب بمسرحيّاته الأخيرة بعد الحرب والذي عبّر عنه عديدون.

رغم غيابه الموجع، ستبقى أعمال زياد حاضرة في الذاكرة الشعبية، في الوجدان العام، في احتجاجات الضمير. أجيالٌ كاملة تربّت على جمال فنّه، على صوته، على سخريته، على شجاعته في قول ما لا يُقال. لم يكن فنانًا للترف، بل فنانًا للضرورة؛ ضرورة أن نفكر، أن نشكّ، وأن نحلم واقعيًّا.

كما العباقرة، زياد الرحباني هو زياد الرحباني، نصفه بنفسه، لا يمكن حصره في قالب؛ هو مبدع، مثقّف، مفكّر، ثائر، وساخر. صوته كان ولا يزال مرآة للعالم العربيّ بأزماته وحلمه. ومع كل استماع إلى أحد ألبوماته أو إعادة عرض لإحدى مسرحياته، يعود سؤال زياد الأهم ليطرق الأذهان: «بالنسبة لبكرا... شو؟» كأنّه يُسائلنا ماذا تفعلون اليوم؟ إبداع زياد الرحباني أنّه قال الأشياء في العمق، قال الواقع الذي اختفى عن القابعين في شرنقاتهم، قال الضوء والحرّية خارج الشرنقات، قال الحقيقة، والحقيقة مقام الأنبياء؛ وهو كان نبيّ الحياة اليوميّة.

* كاتب وأستاذ جامعي

مسرحية "نزل السرور"، اعادة انتاج «محترف الميناء للمسرح» للمخرج جان رطل، مدينة الميناء، 1986

 

####

 

زمن لا يقبل الانتظار

جنى مداح

كنت قد بدأت بكتابة نصٍّ عن جورج عبدالله، أو الأصح أنني كنت أستقلّ الحافلة، حين وجَدتْ بعض التساؤلاتِ طريقها إلى رأسي. أي أنّني لم أكتب أي شيء على الإطلاق. فقط، وكالعادة، انتهيت من الكتابة في رأسي، ناسيةً أنّنا في زمن لا يقبل الانتظار.

على أيّة حال، توقفت عند جملةٍ تصف جورج بـ"الرجل العائد من الماضي". وجدتها عنوانًا جميلاً، لكن غير مكتمل، للمقال الذي دار في رأسي. تحديدًا لأنّه يطال علاقة المرء بالزمن، وعلاقة جورج على وجه الخصوص بالزمن. فنحن نتحدّث عن رجلٍ قضى أكثر من نصف عمره، الذي تجاوز السبعين اليوم، في مكانٍ واحد. ولك أن تتخيّل علاقة هذا الرجل بالوقت.

فتمامًا كما ترتبط كلمة "حرية" بهذا الرجل، يرتبط اسمه أيضًا بشكل مباشر بـ"الزمن"، والزمن بمفهومه العام، وليس فقط الزمن الذي أحبّ صاحب العبارة أن يشير إليه. ولهذا، وجدت العبارة ناقصة.

في مطار بيروت، رأيت وجهًا ترك الزمن بصمته عليه: شعرٌ شديد البياض، أشعث، كأيّ شيوعي من ذاك الزمان، يقول كلماتٍ بسيطةً، قليلة، صارخة، في مدينة لا تعرف البساطة، وبالتأكيد لا تعرف الوضوح. هذا المشهد حفر تناقضًا صارخًا بين ملامحه والمدينة التي وصل إليها. مدينة بلا زمن، تستعجل كل شيء، وتُرهقك بتكرار اللحظة، فيما هو، بكل ثقله الزمني، حضر دون استعجال، كأنّه رحل البارحة في زيارة قصيرةٍ إلى فرنسا.

كان التناقض ما دفعني إلى المطار، رغم أنني لم أكن أعي حدوده بعد. تساءلت: هل سيبدو جورج غريبًا عن هذا الزمن؟ هل سيصل مثقلاً بثقل زمن مضى؟ لكن المفارقة أن حضوره بدا، في لحظته تلك، أكثر التصاقًا بالزمن من أيٍّ منا. لا هو خارج الوقت، ولا هو ثقيل عليه، بل كأنّ الزمن عاد معه، لا العكس. لم يكن عائدًا من الماضي، بل بدا كأنّه يعيد ترتيب الحاضر.

في هذا التناقض وجدت تحديدًا ما كان ينقص ذاك العنوان الذي دار في ذهني ولم أكتبه بعد، لأن يومًا واحدًا لا يكفي ليقتل المرء أفكاره على الورق، ولأنّ رحيل زياد كان أسرع من التأمّل في عودة جورج. كان خبر العودة وخبر الرحيل متلاصقين:

العائد جورج إبراهيم عبدالله.

الراحل زياد الرحباني.

"جورج العائد من الماضي".

(وزياد، الراحل إليه؟)

لا أستطيع التوقف عن فصل الحدثين، لما تركه هذا التلاصق من شعورٍ مربكٍ داخلي، ولو أنّ لكلٍ منهما وقعًا مختلفًا.

أنا التي لم تعاصر زياد، ولا عاصرتُ جورج، وأحاول قدر المستطاع أن أبقى صادقة مع تجربتي وزماني، أجد هذا الأخير يتوقف مطوّلًا عند هذين الرجلين، وعلاقتهما الوثيقة بمفهوم الزمن، العام منه والشخصي.

بعضنا لا يقع في شراك الزمن، في حساباته الوهمية الخاصة. بعضنا يُشبه زمنه إلى حدٍّ لا يعود فيه الفرق واضحًا.

أجد أنه من اللطف، وربما من المفارقة الجميلة، رغم ثقل هذه الأعوام، أن يعود الماضي بهذا الشكل، قبل أن يرحل.

* صحافية

 

####

 

ماركسية معجونة بلحم بيروت: ماذا يحدث للفكرة في الغياب؟

علي إسماعيل

لم يكن زياد الرحباني فنانًا بالمعنى التقليدي، ولا مناضلًا بالشكل الكلاسيكي. كان، ببساطة جارحة، واحدًا من أولئك الذين يصعب تصنيفهم دون أن نخونهم. واليوم، إذ رحل، لم نفقد شخصًا فقط، بل فُتِح جرحٌ في الوعي، ارتجف فيه سؤال ظلّ يرافق تجربته لعقود: ماذا يحدث للفكرة، حين يغيب من يحملها؟

في الفلسفة الماركسية، لا وجود لفكرة خارج السياق المادي. والفرد ليس كائنًا متعاليًا على شروطه الطبقية والاجتماعية، بل نتاجها وجدليّتها. لكن في التجربة الثورية، يظهر دومًا أولئك الذين لا يكتفون بأن يكونوا "نتاجًا" للواقع، بل يسعون لأن يغيروه. زياد كان من هؤلاء، لا كمثقف عضوي تقليدي، بل كحالة متوترة بين الفن والوعي السياسي، بين الموسيقى والجدل الطبقي، بين "أبو الزوز" الشيوعي الذي يسخر من الحزب وينتقده، والماركسي الذي لا يكفّ عن البحث عن الطبقة العاملة حتى داخل البارات.

لم يكن زهدًا... بل مأساة وعي: أن تفهم كيف يعمل النظام،

أن ترى التناقضات، أن تضحك من الطائفة وتلعنها، ثم تصحو على أنك، شئت أم أبيت، لا تزال ابنها.

الفكرة لا تعيش خارج الجسد

الفكرة ليست خالدة، بل هشّة إن لم تجد من يُجسّدها. نُحب أن نطمئن أنفسنا بأن الأفكار لا تموت، لكن هذه رومانسية مريحة. في الحقيقة، الفكرة لا تعيش خارج الجسد. لا تُترجم إلا عبر العقل، والانفعال، واللغة، والسلوك. وهذا الجسد – جسد زياد – كان أداة الفكرة، ومختبرها، ومرآتها.

حين نتكلم عن "فكرة زياد"، لا نقصد برنامجًا سياسيًا،

بل مجموعة من القناعات والانحيازات والرؤى، عاشها الرجل كما تُعاش الجراح، لا كما تُحفظ في الأرشيف. وهنا تكمن خطورة موته: ليس لأنه أوقف موسيقى، بل لأنه أنهى تجربة فكرية/فنية/طبقية لا وريث لها.

التحرر في زمن السوق

كان زياد آخر الأصوات التي قاومت تحويل السياسة إلى سلعة، والفن إلى شعار فارغ. في زمن تُسوّق فيه القضايا عبر "براندات" وهاشتاغات، ظلّ هو مصرًّا على الخشونة، على التناقض، على اللا-احترافية أحيانًا. لأن الحرية الحقيقية – كما فهمها – لا يمكن أن تُحزم في منتج سهل الهضم. مسرحه كان خندقًا، أغنيته كانت بيانًا، وسخريته كانت احتجاجًا. لا يريد "جمهورًا"، بل ناسًا. لا يريد أن يُصفق له أحد، بل أن يفهمه أحد.

ماركس على خشبة مسرح

في تجربة زياد، اجتمع فكر ماركس، وسخرية بريخت، وعبث كافكا، ولهجة عامية متعبة. لم يكن مُبشّرًا بثورة، بل مدركًا أن أي تغيير لا يولد من الرغبات بل من الصراع والشروط المادية. لم ينتظر مدينة فاضلة، بل كشف هشاشة الواقع وقبحه، كما لو كان يضع مرآة أمام البنية العميقة للأشياء. كان يرى الانهيار اللبناني المزمن لا كحادثة طارئة، بل كمسار تاريخي محكوم بالتناقضات البنيوية، فيقرأه بعين الفيلسوف الذي يفكك المجتمع طبقة طبقة، ويحلل تناقضاته كما لو كان يرسم خريطة لقدر محتوم. كأنّ زياد، حين كان يتحدث عن الانهيار، لم يكن يروي نبوءة، بل يكشف قوانين صراعٍ اجتماعي كُتب في أعماق التاريخ قبل أن يظهر في السطح.

حين لا يتجدد الحامل... تموت الفكرة ببطء

الساحة خالية اليوم من أمثال زياد. لا لأن الناس أقل وعيًا، بل لأن المنظومة نجحت في كسر الحامل قبل الفكرة. مَن يحمل أفكارًا اليوم، إما يتنازل عنها تدريجيًا ليبقى، أو يعزلها في غرفة نائية كي لا يَسخر منه أحد.

وزياد؟ اختار أن يبقى، وأن يَسخر، وأن يُسخَر منه. أن يخسر، وأن لا يتنازل.

وداعًا زياد: لم تكن بطلًا، بل كنت الصدق حين يتجسّد. وداعًا أيها الكائن الذي لم يناسبه قالب. وداعًا أيها الرفيق الذي أحببناه رغم أنه لم يطلب حبًّا، بل فكرًا، ووعيًا، وقدرة على الانحياز لمن لا صوت لهم.

لقد رحلت، ولا أحد سيتقن المزج بين البزق والنقد الطبقي كما فعلت، ولا أحد سيقول "هيدا البلد ما بيمشي" بصوتك المتعب والساخر... ويصيب.

لكننا نَعِدُك – لا كشعار، بل كصراع – أن نبقي على جذوة الفكرة حيّة، أن لا ننسى أن الجسد إذا غاب، قد يورّث الفكرة... إن وُجد مَن يملك الجرأة ليحملها بصدق.

* باحث

 

####

 

تباركت العاصمة للمرة الأخيرة بجسده

علي عواد

لم يعلن أحد الحداد الرسمي على زياد الرحباني، لكننا حددنا عليه من دونهم. أغاظهم أنه ترك حياة الصالونات وسكن بين الناس، فردّوا له التحية يوم وداعه.

لم يعلن أحد الحداد الرسمي على زياد الرحباني، لكننا حددنا عليه من دونهم. أغاظهم أنه ترك حياة الصالونات وسكن بين الناس، فردّوا له التحية يوم وداعه.

أمام «مستشفى خوري» في الحمرا أمس، انتظرت الجموع خروج جثمانه، شباباً وكباراً، أدّوا طقوسهم على طريقتهم. مجموعات غنّت ألحانه في الشارع، كثيرون بكوا. حمل بعضهم الجريدة عالياً، وصرخوا بأقصى ما لديهم: «زياد».

بعد انتظار، ارتفع الهتاف مع اقتراب الجثمان. نثر الأرز والورد. فتاة مسحت الكوفية بعربة النعش. سادت الشارع حالة من التفاهم بين الحاضرين، أمر لا يمكن أن يحدث في لبنان إلا من أجل زياد.

فتاة مسحت الكوفية بعربة النعش

سار كثيرون خلف النعش في شارع الحمرا. بعضهم مالت رؤوسهم على كتف من يحبون، آخرون شدّوا على أيدي رفاقهم، ومنهم من لزموا الصمت، واكتفوا بتسجيل المشهد في عقولهم.

ظهر أبناء المدينة والموسيقى، أبناء زياد. اختلفوا في الشكل، لكن حركاتهم تشبه بعضها. تميّزوا بالهدوء والصخب معاً. هم من فهموا أن كل ما حاول فعله زياد أن يعيش ولو يوماً واحداً لائقاً في هذه المدينة التي تستمر في الأخذ والأخذ.

مع بعضهم، شكّلوا نواة لبنان المكوّنة من ألوان مختلفة، تتحول إلى نور ساطع ما إن تتحرك في بيروت.

اختارهم زياد في حياته، فاختاروه في لحظة وداعه. رفضوا أن يُختزل رحيله بعرض موسيقي على شاشة. أعادوه إلى بيته الأخير متوّجاً بالحب والتقدير، وباركوا العاصمة للمرة الأخيرة بجسده.

 

####

 

... وانهمرت الدموع أمام «مستشفى خوري»

زكية الديراني

تلخّص أغنية «سألوني الناس» للسيدة فيروز، التي ألّفها منصور الرحباني ولحّنها الراحل زياد الرحباني، مشاهد الفقد والوداع. تلك الأغنية كانت ثمرة تعاون بين فيروز وابنها الراحل

تلخّص أغنية «سألوني الناس» للسيدة فيروز، التي ألّفها منصور الرحباني ولحّنها الراحل زياد الرحباني، مشاهد الفقد والوداع. تلك الأغنية كانت ثمرة تعاون بين فيروز وابنها الراحل، شكّلت عنوان رحلة زياد الأخيرة التي انطلقت صباح أمس من أمام «مستشفى خوري» في الحمرا، ووصلت ظهراً إلى «كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة» في بكفيا .

هتف يحيا المصري: «زياد ما بموت، فلنصفّق لزياد»

على وقع «سألوني الناس»، تجمّع محبو زياد أمام المستشفى الذي احتضن جثمانه، وراحوا يدندنون الأغنية، مستحضرين صورة الأم الثكلى التي مشت في جنازة ابنها. كان يوم وداع زياد الرحباني صعباً، ومكلّلاً بالدموع والورود التي تناثرت على الجثمان.

وداع بلا بهرجة

الانتظار في العموم أمر مرهق، فكيف إذا كان انتظار خروج جثمان زياد من مدخل المستشفى؟ كان الوداع شعبياً وصادقاً، خالياً من الشخصيات السياسية والتصريحات المبتذلة وما يُسمّى بالنجوم.

فكيف يحضر هؤلاء عزاء الرحباني وهو من أشدّ منتقدي الفن الاستهلاكي؟ أيضاً، غابت الدولة عن وداع الرحباني، ما أثبت مجدداً غياب الأمل في السلطة السياسية الحاكمة.

تساءل بعضهم عن دور وزير الثقافة غسان سلامة الذي تقاعس عن أداء واجبه. وفيما أصدرت الحكومة اللبنانية قرار حداد على الملكة إليزابيث الثانية عام 2022، فإنها لم تأتِ على ذكر الرحباني.

كان وداع زياد يليق به ويشبهه بتواضعه وعفويته. امتلأ بالمشاعر الصادقة التي جمعت بين فقدان زياد الفنان في مرحلة حرجة يمرّ بها لبنان، وبين زياد الإنسان المعروف بتواضعه وأخلاقه. أظهر أصدقاء الرحباني حزنهم العفوي، وانهمرت الدموع، فيما وزِّعت الورود الحمراء وتميّزت التغطية الإعلامية بفتح الهواء مباشرة لنقل مشهد خروج الجثمان.

مشهد شعبي متنوع ومتضامن

كان الحضور يُشبه صورة الأعمال التي اشتهر بها الرحباني. حضور شعبي من مختلف المناطق والطوائف، من أصدقاء ومعجبين وجيران ومحبّي فنّه.

حضرت الكوفية الفلسطينية، رمز القضية الأولى التي لم يتخلَّ عنها زياد، وصورة المناضل جورج عبدالله. كذلك، استُحضر طيف السيد الشهيد حسن نصرالله على لسان الحضور الذي أجمع على أنّ هذه مرحلة فقدان لشخصيات لبنانية لن تتكرر. كما كان حاضراً الطبيب الفلسطيني والمناضل غسان أبو ستة، إلى جانب الأسيرة المحررة سهى بشارة.

كان الحضور أشبه بفرقة موسيقية تدندن أغاني زياد. يتسابق الجميع لاستحضار جملة من إحدى أغانيه لينطلق الباقون بالغناء: من «أنا مش كافر» إلى «تلفن عياش» وغيرهما، رددها الحضور وسط الشارع المؤدي إلى «الجامعة الأميركية». مصدر الصوت كان الدراجة النارية التي ركنها البيروتي يحيا المصري، واضعاً موسيقى زياد بصوت عال.

ثم راح يهتف: «زياد ما بموت، فلنصفّق لزياد». حضور حفظ ايفيهات زياد غيباً وتأثر بشخصيته وكاريكاتيراته التي حفرت مكانتها في الوعي الجمعي.

شارع الحمرا كان له مكانة خاصة في سيرة زياد. من هناك، بدأت رحلته الأخيرة التي انتهت في بكفيا، حيث جُمعت العائلة: والدته فيروز، شقيقته ريما، وأقاربه. كانت لحظة الوداع مؤثرة، وقد سلّطت الأضواء على الأم الثكلى التي ألقت نظرة الوداع الأخيرة على ابنها.

 

####

 

الكنيسة... مسرحيّته الأخيرة

مروة جردي

درجات الحرارة مرتفعة، والكنيسة تزدحم بنجوم ومشاهير يبحثون عن مقعد. النعش يرقد هادئاً، لا يبدو أنّ ما يجري يعنيه، فالجنازات تُقام للأحياء لا للموتى.

درجات الحرارة مرتفعة، والكنيسة تزدحم بنجوم ومشاهير يبحثون عن مقعد. النعش يرقد هادئاً، لا يبدو أنّ ما يجري يعنيه، فالجنازات تُقام للأحياء لا للموتى.

هل ثمّة نهاية تليق بزياد الرحباني أكثر من أن تُقام جنازته في الكنيسة، لا بوصفها «بيت الله»، بل بوصفها مسرحاً؟ هل يمكن تخيّل مشهد أخير لهذا الفنان المتمرّد، أكثر فوضويةً من هذا التجمّع الذي بدا كأنّه استُخرج من نصوصه المسرحية، ومن جمهوره الموزّع دائماً بين الغناء والاعتراض، بين الصلاة والشتيمة، بين البكاء والضحك؟

إذاً، هي الكنيسة. المسرح الأخير للفنان زياد الرحباني. مكانٌ مناسب للمسرح السياسي وللخصومة. أليست الخصوم تجتمع عند الله؟

درجات الحرارة مرتفعة، والكنيسة تزدحم بنجوم ومشاهير يبحثون عن مقعد. النعش يرقد هادئاً، لا يبدو أنّ ما يجري يعنيه. فالجنازات تُقام للأحياء، لا للموتى.

لكنّ زكريا القابع داخل زياد في «بالنسبة لبكرا شو»، لن يترك اللحظة تمرّ من دون «مانفيستو» جديد: «بدّك تعمل ثورة؟ بلّش من بيتك، من حالك». ويبدو أنّ الكنيسة أغرته للتنفيذ.

وبينما يحاول الرهبان بدء الصلاة، تبدأ مجموعة من رفاق زياد أو محبّيه بالغناء: «وتذكرت عيونك يا ليلى...». يتأفّف بعضهم: «هلّق وقت ليلى؟ مش سامعين الصلاة؟».

أليس هذا الحوار فالتاً من زياد؟ حسناً، إذا لم تصدّق، زاد عدد المنضمّين إلى فرقة الغناء. لكنّ الكنيسة لن تسمح بهذا العصيان، فرفعت صوت التراتيل، وانهزم الفنّ مرة جديدة أمام السلطة... أي سلطة. لكنّ زياد لن ييأس سريعاً.

يحاول أن يلملم عناصر مسرحيّته. يستفيد من حضور شخصيات تتزاحم للبكاء عليه. وهي تمثّل كل شيء وقف ضدّه. يضحك وبقول في سرّه «هيدا مش استديو.. هيدا كاريكاتور عن البلد». لكنه يحتاج إلى عنصر أقوى. عنصر يهزّ الكنيسة والرأي العام معاً. يدخل شبابٌ من بعلبك، يقتربون من النعش، يقرأون الفاتحة. تزداد الكتلة الإسلامية داخل الكنيسة، فيصرخ «منيحة».

في زاوية أخرى على أكتاف بعض الحضور، تستريح الكوفيات والأعلام الفلسطينية... «يبتسم». الآن، صارت الكنيسة تشبه مسرح زياد أكثر. كل مجانين مسرحية «فيلم أميركي طويل» اجتمعوا في مكان واحد: ليس المستشفى، بل الكنيسة. ولم ينقص إلا من يتقمّص شخصية نزار ليقول: «إذا إجا حدا لهون ورشنا».

في هذا المشهد، تندمج رموز زياد: الدين، الثورة، الطبقة، الجنون، السلطة. لم يعد الفرق واضحاً بين التمثيل والحقيقة. لم يعد أحد يعرف من بكاه صدقاً، ومن اختبأ خلف دمعة مدروسة. حتى أصدقاؤه الحقيقيون اختاروا الابتعاد عن النعش... جلسوا في الممرات الخلفية يراقبون ويعلّقون بسخرية: «قولكن لو كان هون، شو كان قال؟»، فيأتي الجواب كما يليق بزياد «شتيمة» لا تمرّ على الورق إن مرّت على الهواء. ربما قالها في إحدى مقابلاته.

تدقّ الأجراس. يجري التحضير لإخراج جسد زياد الرحباني من الكنيسة إلى التراب. يقترح أحدهم حمل النعش على الأكتاف. يفعلون.

وهنا يشعر زياد بالحاجة إلى عدم الإصغاء لما تقوله الكنيسة: «ليرقد هنا بسلام». يفعلها «رضا العنيد».

يزيح غطاء النعش، ويحصل على لحظة صمت بين ضجيجين. انتزع كلمته الأخيرة، ولحظة الرهبة التي أراد تركها، وأنزل الستار للمرة الأخيرة.

كما مرات كثيرة في «شي فاشل» وهو يتمتم «يا ريت فينا ننام، مش لنرتاح... بس لنهرب». وهكذا هرب زياد... من بلدٍ يمكن «صارت بلد».

لم تكن حياة زياد الرحباني مجرّد تجربة موسيقية أو مسرحية، بل كانت محاولة دؤوبة لكشف نفاق السلطة، الدينية والسياسية والاجتماعية، سواءً عبر النقد اللاذع أو الفكاهة السوداء.

موته، كما حياته، لا يُقرأ إلا ضمن هذا الإطار: زياد لم يكتب النهاية، بل صمّم مشهداً أخيراً يُختزل فيه كل ما حاربه.

لقد حوّل زياد «عن غير قصد» (فالعبقري غالباً لا يعرف بعبقريته) الكنيسة إلى مسرح، والجنازة إلى نقد... كأنه يقول لنا للمرة الأخيرة: لا تُصدّقوا المراسم.

في النهاية، لم يغادر زياد، بل أبقى الستارة نصف مفتوحة، تاركاً الجمهور أمام السؤال: من سيُكمل المسرحية؟

 

####

 

«صدق الكلام» في لغة بلا قبيلة

زاهي سهلي

لدى سؤاله عن الجزء الأكثر تعقيداً في عملية تأليف أغنية، أجاب زياد الرحباني بلا تردّد بأنّ الصعوبة الأكبر تتمثّل في كتابة الكلمات.

لدى سؤاله عن الجزء الأكثر تعقيداً في عملية تأليف أغنية، أجاب زياد الرحباني بلا تردّد بأنّ الصعوبة الأكبر تتمثّل في كتابة الكلمات.

ذلك أن أكثر ما يحتاج وقتاً هو الكلام «لأنه محدّد». هذا ما قاله في مقابلة تلفزيونية تعود لعام 2012. وفي وثائقي «من بعد هالعمر» لاحقاً، غاص أكثر في الفكرة نفسها، معتبراً أنّ إيجاد كلمات للأغنية «يُعذّب» أكثر من التلحين بسبب إشراك العقل في العمليّة، إذ «تُحاول أن تظلّ طبيعياً وأنت تؤلف، لكن صعبان، وعكس بعضهما البعض».

قد يحار بعضهم في أن تأتي هذه التصريحات على لسان مبدع أتقن فنّ التعبير باسم أجيال عاشت الحرب الأهلية وما قبلها وبعدها. الكتابة في متناول الجميع والكلّ يكتب ويتحدّث ويُدلي بآرائه، ولكن الصعب هو إيجاد الكلمات التي تعبّر بأسلوب بسيط ومفهوم، عن مشاعر الناس المعقّدة بدقة ومن دون تكلّف أو مبالغة في غير محلها.

ومثلما أنّ الكلام يحمل موقفاً من القضايا، فإنّ الأسلوب الذي يختاره المتحدث يُشكّل بحدّ ذاته موقفاً. في رفض الإنسان أن يلتزم بالموروث على حساب صوته وكلماته، أبلغ صورة عن تحرره. كلمات الرحباني هي صوت العقل والتفكّر، في مجتمع يستخدم الكلام لا لقول الحقيقة بل لتغليفها بأكاذيب ومجاملات.

ابتعد الرحباني عن كلمات الأغنية السائدة، تلك المليئة بالشخصيات المعلّبة والقوافي المكرّرة والمبالغات وحبّ الحبيب أكثر من النفس. الشخصية المختلقة في أغنية الرحباني، واقعية جدّاً، متأرجحة بمشاعرها و«مش أكيدة». طبيعيّة التعبير لديه وانسيابيّته، تتكثّفان بوضوح في نصّ أغنية «كيفَك إنتَ» كأنّها سكريبت لحوار يومي عابر، مثلها مثل «ضاق خلقي» و«معرفتي فيك».

يظهر إتقانه لفنّ المفارقات (satire) وفهمه العميق لمجتمعه في «راجعة بإذن الله»، حين يُغنّي صديقه الراحل جوزيف صقر مع مجموعة من «المرضى» داخل مستشفى للأمراض العصبية ولكن ببهجة شديدة عن الحال الذي سينتقل حتماً إلى الأسوأ بسبب الخذلان الذي لم يترك للشعب اللبناني سوى انتظار حلول السماء وسط عدمية محاولات الإصلاح.

وفي أغنية «شو هالإيام» الأشبه بنشيد اشتراكي خالد، يكشف أنّ الجذور الحقيقية و«الأصلية» لمشكلات المجتمع هي في سرقة مجهود الناس من قبل الطبقة المحتكِرة للثروة.

في هذه الأغنية بالتحديد، وجّه تحية إلى السيد درويش وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عبر السعلة (الكحة) في مطلع الأغنية ليؤكد انتماءه على طريقته وتفرّده في آن، مستخدماً رومانسية مطلع «الحلوة دي» التي تعجن عند الفجر لينقضها بنفيه صحة أنّ «الهوى غلاب» (أو «الحب ينتصر» على حد قول جيل Z).

اختيار الرحباني للكلمات المباشرة والدقيقة سواء في أغانيه أو حواراته، وابتعاده عن الشاعرية المصطنعة يعكسان التزامه بمبادئ ثابتة، ويُعبّران بعمقٍ عن انتمائه إلى مجموعة من الناس على أسس فكرية لا روابط دمٍ ولا صلات قبلية أو طائفية، حيث «الرفيق» الذي تتشارك معه الأفكار أقرب إليك من شقيقك أو ابن عمّك الذي يحضّك المجتمع على التعاون معه ضدّ الغريب.

كفرد متحرّر من القبيلة، رفض الرحباني الكتابة المبنيّة على إعادة صياغة الأفكار المتراكمة في الوعي من جراء الاستماع إلى المعجم المحدود للأغنيات ونشرات الأخبار والمحللين الجيو-استراتيجيين. في مجتمع رجعيّ، فإنّ تعبير الفرد عن أفكاره من دون أن تتسلّل إليها الأفكار العالقة في وعيه، يُمثّل ذروة الحرية.

يرتاب الرحباني مثلاً، من الخطاب التقليدي للقادة السياسيين والتجّار وأصحاب المصارف داعياً المجتمع إلى قراءة ما بين سطور خطاباتهم لاكتشاف حقيقة مصالحهم، لعلّه بذلك قصد أنّهم كـ«عياش» الذي «يكذب، راقي، وبيجنّن»، وهنا دعوة إضافية إلى التنبّه من أنّ كثرة الكلام وقلته تتشابهان في محاولة المتحدث إخفاء الحقيقة إما بالصمت أو عبر عبارات مبهمة وفضفاضة ومطوّلات إنشائية، بينما المطلوب «صدق الكلام».

في الوقت نفسه، لم يُصنّف الرحباني نفسه في فئة «المثقفين» ودائماً ما تهكّم على محاولاتهم تعويض النقص وإبراز تفوّقهم العلمي (وعادةً الطبقي) عبر استخدام كلمات «تزن نص كيلو». هؤلاء الذين يستخدمون، حتى الكرم والتهذيب المبالغ فيهما من أجل إثبات تفوّقهم على الناس رغم ادعائهم بأنهم «من الناس» ولا يزالون «عم يحكوا اليوم» وهُم بالطبع «غير اللي ماتوا».

يسخر الرحباني من الأغنية العربية في مقابلة «ملّا إنتَ» في عام 1993 مع طلال شتوي، قائلاً إنها «لا تتحدث عن شيء يحصل فعلاً».

وبالنسبة إلى جيله والأجيال اللاحقة التي نشأت على أغانٍ عربية لا تُشبه يومياتها، كان ضرورياً أن يلعب أحدٌ الدور الذي لعبه الرحباني في زمن أصبح فيه «العربي ما بيفيد» وكلماتنا مشبّعة باللغات الأخرى، ليُعصرن كلمات الأغنية اللبنانية عبر إيجاد مفردات تنطلق من الواقع وتعكسه وتسهل ترجمتها إلى لغات أخرى ويُمكن فهمها من قبل شعوبٍ أخرى.

في إحدى إطلالاته، انتقد الرحباني الأسلوب الذي اتبعه بعضهم في رثاء والده عاصي، ووصفه بأنه كان «موسيقياً حسّاساً وبيلقط عالطاير ويلحّن هو وغافي». أما عند سؤاله عن الطريقة المثلى للتعريف بنفسه، فأجاب الرحباني: «أنا زلمة شيوعي وبألّف موسيقى».

لذلك، في رحيل زياد الرحباني، يكفي أن نقول إنه أثّر في ملايين الناس الذين أحبوه واحترموا عطاءاته الفنية وصراحته في تسمية الأمور بأسمائها. فهو ليس نبياً أو قديساً، بل تكمن أهمية هذا الرجل بأنّ حب الناس له لم يكن مصلحياً.

ورغم امتياز نشأته في عائلة فنية، إلا أنه تفرّد مبكراً في مجتمع قبائلي عالق في الزمن والعادات البالية، فكان الفرد في مجتمع يُبدّي رضى الأموات على راحة الأحياء. كان المتمسّك بالقواعد الدقيقة، وسط انعدام المعايير في بلد اللاقانون واللاعدالة الاجتماعية وزيف الكلام.

قبل كونه ملحّناً وموسيقياً استثنائياً وموزّعاً مبدعاً، كان زياد الرحباني فوق كلّ شيء شغّيلاً حقيقياً في اللغة والدلالة. كان صادقاً في توزيع كلامه بدقّة، وهو ما بادله به الناس بحبٍّ عابر للاصطفافات. علاقة حبّ يصعب التعبير عنها بكلمات بسيطة، مثلما يصعب استخدام فعل «كان» بصيغة الماضي إلى جانب اسمه.

 

الأخبار اللبنانية في

29.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004