«صدق
الكلام» في لغة بلا قبيلة
زاهي سهلي
لدى سؤاله عن الجزء الأكثر تعقيداً في عملية تأليف أغنية،
أجاب زياد الرحباني بلا تردّد بأنّ الصعوبة الأكبر تتمثّل في كتابة الكلمات.
لدى سؤاله عن الجزء الأكثر تعقيداً في عملية تأليف أغنية،
أجاب زياد الرحباني بلا تردّد بأنّ الصعوبة الأكبر تتمثّل في كتابة الكلمات.
ذلك أن أكثر ما يحتاج وقتاً هو الكلام «لأنه محدّد». هذا ما
قاله في مقابلة تلفزيونية تعود لعام 2012. وفي وثائقي «من بعد هالعمر»
لاحقاً، غاص أكثر في الفكرة نفسها، معتبراً أنّ إيجاد كلمات للأغنية
«يُعذّب» أكثر من التلحين بسبب إشراك العقل في العمليّة، إذ «تُحاول أن
تظلّ طبيعياً وأنت تؤلف، لكن صعبان، وعكس بعضهما البعض».
قد يحار بعضهم في أن تأتي هذه التصريحات على لسان مبدع أتقن
فنّ التعبير باسم أجيال عاشت الحرب الأهلية وما قبلها وبعدها. الكتابة في
متناول الجميع والكلّ يكتب ويتحدّث ويُدلي بآرائه، ولكن الصعب هو إيجاد
الكلمات التي تعبّر بأسلوب بسيط ومفهوم، عن مشاعر الناس المعقّدة بدقة ومن
دون تكلّف أو مبالغة في غير محلها.
ومثلما أنّ الكلام يحمل موقفاً من القضايا، فإنّ الأسلوب
الذي يختاره المتحدث يُشكّل بحدّ ذاته موقفاً. في رفض الإنسان أن يلتزم
بالموروث على حساب صوته وكلماته، أبلغ صورة عن تحرره. كلمات الرحباني هي
صوت العقل والتفكّر، في مجتمع يستخدم الكلام لا لقول الحقيقة بل لتغليفها
بأكاذيب ومجاملات.
ابتعد الرحباني عن كلمات الأغنية السائدة، تلك المليئة
بالشخصيات المعلّبة والقوافي المكرّرة والمبالغات وحبّ الحبيب أكثر من
النفس. الشخصية المختلقة في أغنية الرحباني، واقعية جدّاً، متأرجحة
بمشاعرها و«مش أكيدة». طبيعيّة التعبير لديه وانسيابيّته، تتكثّفان بوضوح
في نصّ أغنية «كيفَك إنتَ» كأنّها سكريبت لحوار يومي عابر، مثلها مثل «ضاق
خلقي»
و«معرفتي فيك».
يظهر إتقانه لفنّ المفارقات
(satire)
وفهمه العميق لمجتمعه في «راجعة بإذن الله»، حين يُغنّي صديقه الراحل جوزيف
صقر مع مجموعة من «المرضى» داخل مستشفى للأمراض العصبية ولكن ببهجة شديدة
عن الحال الذي سينتقل حتماً إلى الأسوأ بسبب الخذلان الذي لم يترك للشعب
اللبناني سوى انتظار حلول السماء وسط عدمية محاولات الإصلاح.
وفي أغنية «شو هالإيام» الأشبه بنشيد اشتراكي خالد، يكشف
أنّ الجذور الحقيقية و«الأصلية» لمشكلات المجتمع هي في سرقة مجهود الناس من
قبل الطبقة المحتكِرة للثروة.
في هذه الأغنية بالتحديد، وجّه تحية إلى السيد درويش وأحمد
فؤاد نجم والشيخ إمام عبر السعلة (الكحة) في مطلع الأغنية ليؤكد انتماءه
على طريقته وتفرّده في آن، مستخدماً رومانسية مطلع «الحلوة دي» التي تعجن
عند الفجر لينقضها بنفيه صحة أنّ «الهوى غلاب»
(أو
«الحب ينتصر» على حد قول جيل
Z).
اختيار الرحباني للكلمات المباشرة والدقيقة سواء في أغانيه
أو حواراته، وابتعاده عن الشاعرية المصطنعة يعكسان التزامه بمبادئ ثابتة،
ويُعبّران بعمقٍ عن انتمائه إلى مجموعة من الناس على أسس فكرية لا روابط
دمٍ ولا صلات قبلية أو طائفية، حيث «الرفيق» الذي تتشارك معه الأفكار أقرب
إليك من شقيقك أو ابن عمّك الذي يحضّك المجتمع على التعاون معه ضدّ الغريب.
كفرد متحرّر من القبيلة، رفض الرحباني الكتابة المبنيّة على
إعادة صياغة الأفكار المتراكمة في الوعي من جراء الاستماع إلى المعجم
المحدود للأغنيات ونشرات الأخبار والمحللين الجيو-استراتيجيين. في مجتمع
رجعيّ، فإنّ تعبير الفرد عن أفكاره من دون أن تتسلّل إليها الأفكار العالقة
في وعيه، يُمثّل ذروة الحرية.
يرتاب الرحباني مثلاً، من الخطاب التقليدي للقادة السياسيين
والتجّار وأصحاب المصارف داعياً المجتمع إلى قراءة ما بين سطور خطاباتهم
لاكتشاف حقيقة مصالحهم، لعلّه بذلك قصد أنّهم كـ«عياش» الذي «يكذب، راقي،
وبيجنّن»، وهنا دعوة إضافية إلى التنبّه من أنّ كثرة الكلام وقلته تتشابهان
في محاولة المتحدث إخفاء الحقيقة إما بالصمت أو عبر عبارات مبهمة وفضفاضة
ومطوّلات إنشائية، بينما المطلوب «صدق الكلام».
في الوقت نفسه، لم يُصنّف الرحباني نفسه في فئة «المثقفين»
ودائماً ما تهكّم على محاولاتهم تعويض النقص وإبراز تفوّقهم العلمي (وعادةً
الطبقي) عبر استخدام كلمات «تزن نص كيلو». هؤلاء الذين يستخدمون، حتى الكرم
والتهذيب المبالغ فيهما من أجل إثبات تفوّقهم على الناس رغم ادعائهم بأنهم
«من الناس» ولا يزالون «عم يحكوا اليوم» وهُم بالطبع «غير اللي ماتوا».
يسخر الرحباني من الأغنية العربية في مقابلة «ملّا إنتَ» في
عام 1993 مع طلال شتوي، قائلاً إنها «لا تتحدث عن شيء يحصل فعلاً».
وبالنسبة إلى جيله والأجيال اللاحقة التي نشأت على أغانٍ
عربية لا تُشبه يومياتها، كان ضرورياً أن يلعب أحدٌ الدور الذي لعبه
الرحباني في زمن أصبح فيه «العربي ما بيفيد» وكلماتنا مشبّعة باللغات
الأخرى، ليُعصرن كلمات الأغنية اللبنانية عبر إيجاد مفردات تنطلق من الواقع
وتعكسه وتسهل ترجمتها إلى لغات أخرى ويُمكن فهمها من قبل شعوبٍ أخرى.
في إحدى إطلالاته، انتقد الرحباني الأسلوب الذي اتبعه بعضهم
في رثاء والده عاصي، ووصفه بأنه كان «موسيقياً حسّاساً وبيلقط عالطاير
ويلحّن هو وغافي». أما عند سؤاله عن الطريقة المثلى للتعريف بنفسه، فأجاب
الرحباني: «أنا زلمة شيوعي وبألّف موسيقى».
لذلك، في رحيل زياد الرحباني، يكفي أن نقول إنه أثّر في
ملايين الناس الذين أحبوه واحترموا عطاءاته الفنية وصراحته في تسمية الأمور
بأسمائها. فهو ليس نبياً أو قديساً، بل تكمن أهمية هذا الرجل بأنّ حب الناس
له لم يكن مصلحياً.
ورغم امتياز نشأته في عائلة فنية، إلا أنه تفرّد مبكراً في
مجتمع قبائلي عالق في الزمن والعادات البالية، فكان الفرد في مجتمع يُبدّي
رضى الأموات على راحة الأحياء. كان المتمسّك بالقواعد الدقيقة، وسط انعدام
المعايير في بلد اللاقانون واللاعدالة الاجتماعية وزيف الكلام.
قبل كونه ملحّناً وموسيقياً استثنائياً وموزّعاً مبدعاً،
كان زياد الرحباني فوق كلّ شيء شغّيلاً حقيقياً في اللغة والدلالة. كان
صادقاً في توزيع كلامه بدقّة، وهو ما بادله به الناس بحبٍّ عابر
للاصطفافات. علاقة حبّ يصعب التعبير عنها بكلمات بسيطة، مثلما يصعب استخدام
فعل «كان» بصيغة الماضي إلى جانب اسمه. |