ابن الجوهرتين فيروز وعاصي.. زياد الرحباني:
"دايمًا بالآخر في وقت فراق" محدث
28 تموز 2025
زياد بركات
خاص موقع التلفزيون العربي
صباح السبت الماضي، التاسعة صباحًا، توفي عن 69 عامًا
الموسيقار اللبناني زياد
الرحباني،
الابن الأكبر لعاصي الرحباني والسيدة نهاد وديع حدّاد، شقيق هالي وريما.
وفور وفاة الرجل النحيل، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في
حياته، قالت إدارة مستشفى فؤاد خوري في الحمرا وسط بيروت، إنه تم إبلاغ
عائلته بالخبر، بينما أفاد الطب الشرعي أن الوفاة كانت طبيعية، وحصلت بعد
توقف عضلة القلب، بعد 15 يومًا قضاها آخر عباقرة سلالة الرحباني، في
المستشفى لمعاناته من مرض تليّف الكبد.
لقد أغمض عينيه إلى الأبد.
من يبلغ السيدة فيروز فلا
يكسر قلب الأم التي تقف خلف النافذة وتحدّق في غروب حياتها، ولا يتسبّب
بالفزع للفراشات التي تطير حولها في الحياة والأغاني وتحضنها؟
على الأغلب،، قامت ريما (ابنتها) بذلك.
ليس ثمة ما هو شاق على النفس من أن يموت الأبناء قبل الآباء
والأمهات. أن تنتظر الأم جثة ابنها وتودّعه إلى القبر لا أن تنتظره عائدًا
من مدرسته طفلًا أو عمله شابًا، أو تقف خلف النافذة وهي تنظر إليه يخرج من
سيارته ليدّق جرس البيت في زيارتها.
ولدت السيدة فيروز باسم نهاد وديع حدّاد عام 1935، ومنذ
خمسينيات القرن الماضي أصبح لها اسمان: واحد للشهرة "فيروز"، وآخر للعائلة
"نهاد".
وظل الأخير اسمها الحقيقي الذي يعرفه به أبناؤها، خزانة
ذكرياتهم وذكرياتها، لا تُفتَح للعامة من الناس بل لهم ومن أجلهم، ومن ذلك
توقيعها به على ما يخصهم، والأسوأ بالنسبة لها أن يُستخدم في بيانات النعي
العائلية، ومنها نعي ابنها الأكبر زياد.
ابن العبقريين: فيروز وعاصي
أنجبته عام 1956 وهي في الحادية والثلاثين من عمرها، بعد
نحو ست سنوات من زواجها من الموسيقار اللبناني الكبير عاصي
الرحباني،
كما أنجبت هالي عام 1958 (يعاني منذ ولادته من الإعاقة) وليال 1960 (توفيت
عام 1988) وريما عام 1965.
كان هؤلاء هم هاجس المرأة النحيلة، قليلة الكلام والظهور،
نهاد وديع حدّاد التي كانت تظهر على المسرح باسم آخر (فيروز)، وتبدو كأنها
هبطت إليه من السماء، ذلك أن الاستعارات متغطرسة وباطشة القوة، ألم يُوصف
صوتها بالملائكي؟ مذ ذاك لم تعد فيروز تشبه الآخرين، لك أن تتخيّلها بأجنحة
إذا شئت.
لكنها عندما تُسدل الستارة على المسرح، حين ينتهي تسجيل
الأغاني، تعود إليهم (الأبناء) وإلى نهاد (اسمها الأصلي)، كأنما نقلات
موسيقية ينتقل فيها اللحن من حياة إلى أخرى، من شعور إلى آخر، داخل الأغنية
نفسها التي هي فيروز، ومن يكون غيرها؟
موت زياد يعيد فيروز إلى نهاد
يأخذها موت زياد من فيروز ويعيدها إلى نهاد، وما إن انتشر
الخبر حتى بدأ سيل من التعازي: آلاف المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي
تنعي "العبقرية الموسيقية" لزياد. تسرد تاريخه الفني. إنجازاته وآراءه
السياسية، وعلاقته بحزب الله وموقفه من الرئيس السوري المخلوع بشار
الأسد،
بل وعلاقاته الشخصية، ونوادره، ومن بين التعليقات ثمة من كان يذهب مباشرة
إلى الأم: نهاد وديع حدّاد (فيروز).
كثيرون بحثوا عنها في مواقع التواصل الاجتماعي ليعرفوا وقع
وفاة ابنها عليها، فلم يعدموا صفحات تحمل اسمها على "إكس" أو "فيسبوك"،
فنقلوا عنها وحزنوا أكثر من أجلها.
وهؤلاء كانوا يبحثون عن "فيروز" لا "نهاد" التي يبدو أنها
اعتصمت بالصمت الحزين. أما فيروز التي عثروا عليها في مواقع التواصل
الاجتماعي فعبّرت ولكن بما يليق بالفنانة الكبيرة رغم أن الصفحة التي تحمل
اسمها ليست لها.
في أحد المنشورات المنسوبة إليها تكتب: دايما بالآخر.. في
الآخر، في وقت فراق، وهو مقطع من إحدى أغنياتها، وأُرفق المنشور بصورة لها
تظهر فيه بشال أسود على رأسها وبنظّارة سوداء، برفقة ابنها زياد الذي يظهر
بذقن حليقة وشعور مقصوص بعناية على غير عادته.
وفي منشور آخر تكتب: "أنا الأم الحزينة، وما من يُعزّيها".
وفي ثالث: "لأول مرة ما منكون سوا"، مع صورة قديمة لهما
بالأسود والأبيض تظهر فيه فيروز أصغر في السن تجلس في ستوديو التسجيل بينما
يقف زياد إلى جانبها وهو ينظر إليها.
يكتب ريكاردو كرم ما يمكن اعتباره بيانًا جماعيًا باسم من
انصرف تفكيرهم نحو نهاد وديع حداد (فيروز) الأم فور انتشار خبر وفاة ابنها
الأكبر. يكتب قائلًا:
ماذا نقول لسيدة الغناء العربي؟ لسيدة لبنان؟
ماذا نقول لفيروز الأم؟ لأم تبلغ التسعين وهي تودّع ابنها
بعد أن كانت قد دفنت ابنتها وهي في السابعة والعشرين؟
هل نقول لها البقاء لله؟ هل تكفي تعازينا الحارّة؟
أي عزاء يوازي أن يموت الصوت الذي كان صدى لروحها؟
لا
كلمات تكفي. لا موسيقى تواسي. لا صوت يعبّر.
كل ما يمكننا أن نفعله هو أن ننحني أمام وجعها ونصمت.
ولد زياد الرحباني في يناير/كانون الثاني 1956، لأبوين
يتمتعان بموهبة موسيقية وغنائية فريدة، فالأب عاصي الرحباني أحد أكبر
المجدّدين في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، والأم فيروز واحدة من أعظم
ظاهرتين غنائيتين في تاريخ الشرق الأوسط بأسره في القرن العشرين، الثانية
هي أم
كلثوم.
والحال هذه لم يكن مستغربًا أن تكون الموسيقى جزءًا من حياة
الطفل زياد الذي كبر بين الموسيقى وبروفات الأغاني والمسرحيات.
نزعات أوديبية وابتعاد عن البيت
لكنّ اللافت أنه كان يبتعد كلما تقدّم من السن عن الأب
مقتربًا من الأم، في نزعات أوديبية متواصلة وعنيدة تُوّجت بأن يصبح الابن
هو معيد إنتاج والدته الفنانة الكبيرة برؤيته هو وبما يكرّس وجوده هو، في
مقابل ما تركه الأب من إرث موسيقى عظيم شكّل خلاله ما عُرف من فيروز منذ
خمسينيات القرن الماضي، ودفعها إلى صدارة المشهد الغنائي العربي دفعة واحدة
وخلال سنوات قليلة.
كانت رحلة الابن زياد في الحياة تُقاس بابتعاده عن البيت،
وتحديدًا عن سطوة الأب وصورته.
في بدايات شبابه ترك بيت العائلة وسكن في بيروت الغربية لا
الشرقية التي كانت عائلته تسكن فيها، والتي كانت تُصنّف خلال الحرب الأهلية
في لبنان بمعقل التيار المسيحي.
انتمى إلى الحزب الشيوعي، وفي آخر سنوات حياته اقترب كثيرًا
من حزب
الله،
لكن تمرده هذا لم يكن سوى تجلّ لمحاولاته التي لم تتوقف لقتل الأب، ومن
المفارقة أن يكون الفشل مصير مساعيه هذه، ففي نهاية المطاف كان الحزب
الشيوعي أبًا وكذلك حزب الله.
ولم يكن مستغربًا أن يكون إنتاجه الإبداعي الأول في الشعر،
بديوانه "صديقي الله" الذي صدر عام 1971، وتعود قصائده إلى عامي 1967
و1968، أي عندما كان في الثانية عشر من عمره.
وإذا صح أن كل إله أب، فإن التودّد إليه عن طريق الصداقة،
لم يستمر طويلًا في حياة زياد الرحباني الذي سرعان ما بدأ مساعية لوراثة
أبيه بل قتله رمزيًا والحلول مكانه، فبينما كان زياد في السابعة عشرة من
عمره، تعرّض عاصي لنزيف في الدماغ خلال عمله على مسريحة المحطة عام 1973.
سألوني الناس عنك.. يا حبيبي
آنذاك لعبت الصدفة دورها الحاسم في رحلة الابن لوراثة الأب،
فقد كان زياد قد أنهى لحنًا كان يعتزم تقديمه للمطرب مروان محفوظ، وعندما
سمع اللحن عمه منصور قرر أن يمنحه لفيروز بكلمات من تأليف، وهو ما حدث في
أغنية "سألوني الناس" التي تعتبر أول أغنية يلحنها زياد لوالدته، والتي
اعتبرت في حينة تحية من فيروز لزوجها عاصي.
بعد تجربته هذه التي تميّزت بالنضج الفني وكشفت موهبته
الفذة، بدأ تعاونه من حين إلى آخر مع والدته، ومن الأغاني التي لحنها زياد
"عودك رنّان" و"وحدن بيبقوا" و"يا جبل الشيخ" و"ع هدير البوسطة" و"حبيتك
تنسيت النوم" و"حبّو بعضهن"، بالإضافة الى تلحين المقدمة الموسيقية الشهيرة
لمسرحية "ميس الريم".
وكانت تلك الأغاني تنتمي إلى التيار الرحباني العريض الذي
وسمه عاصي الرحباني بأسلوبه وروحه، ولم تحدث القطيعة فعليًا مع هذا التيار
إلا في تسعينيات القرن الماضي، عام 1991، عندما طرحت فيروز ألبومها "كيفك
أنت" الذي ضم عددًا من الأغاني التي لحّنها زياد بأسلوب جديد شكّل صدمة
كبيرة في صفوف معجبيها.
اتسمت أغنيات ذلك الألبوم وفي الإغاني اللاحقة الأخرى التي
لحنها لها، بتنويع موسيقى أكبر، وبكلمات غادرت ملائكية عالم فيروز السابق
واقتربت كثيرًا من الشارع والإنسان البسيط العادي والطبقات العاملة.
ولم تعد هذه الكلمات تُعنى بالموسيقى العَروضية بل بالمشاعر
التي قد تجد تعبيراتها بجمل قصيرة تبدو للوهلة الأولى مفكّكة، وعلى سخرية
ومجانية عُرفت بهما أعمال زياد الأخرى، وخاصة المسرحية.
وخلال مسيرته الفنية قدم زياد عددا من المسرحيات الساخرة من
كل شيء، من الحرب الأهلية والنقسام الطائفي إلى هواجس اللبناني العادي
ومعاناته اليومية من الغلاء والفساد.
ومن هذه المسرحيات "سهرية" عام 1973، و"نزل السرور" عام
1974 و"بالنسبة لبكرا شو؟" عام 1978 و"فيلم أمريكي طويل" عام 1980 و"شي
فاشل" عام 1983، و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد" عام 1993 و"لولا فسحة
الأمل" عام 1994.
عُرف زياد بتعدد حقوله الفنية، فقد كان كاتبًا وملحنًا
وموسيقيًا ومسرحيًا، ومزج في موسيقاه بين الموسيقى الشرقية والجاز
والموسيقى الكلاسيكية.
كتب المقالات ايضًا في صحيفة "الأخبار" اللبنانية التابعة
لحزب الله، وشارك بأداء عدد من الأغنيات، ومنها "بلا ولا شي بحبك" و"أنا مش
كافر بس الجوع كافر"، و"مربى الدلال ربوكي وتعذبوا فيكي يا دلال" التي
كتبها لزوجته السابقة دلال كرم. .كما عرفت مسيرته تقديمه برامج إذاعية مثل
"بعدنا طيبين قول الله" مع المخرج جان شمعون.
إجماع نادر على رثاء الرحباني
شكًلت وفاة زياد الرحباني عامل إجماع في بلاد تمزّقها
الانقسامات الطائفية والسياسية، فقد نعاه كامل الطيف السياسي اللبناني، من
رئيس البلاد إلى الحزب الشيوعي اللبناني.
وقال الرئيس اللبناني جوزاف
عون في
رثائه:
زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية
متكاملة، وأكثر. كان ضميرًا حيًا، وصوتًا متمردًا على الظلم، ومرآة صادقة
للمعذبين والمهمشين، حيث كان يكتب وجع الناس، ويعزف على أوتار الحقيقة، من
دون مواربة.
وكتب رئيس الوزراء نواف
سلام قائلًا:
بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانًا مبدعًا استثنائيًا
وصوتًا حرًا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة. زياد جسّد التزامًا عميقًا
بقضايا الإنسان والوطن. من على خشبة المسرح، وفي الموسيقى والكلمة، قال
زياد ما لم يجرؤ كثيرون على قوله، ولامس آمال اللبنانيين وآلامهم على مدى
عقود.
كما نعاه رئيس مجلس النواب نبيه
بري في
بيان قال فيه:
لبنان من دون زياد.. اللحن حزين والكلمات مكسورة الخاطر،
والستارة السوداء تسدل على فصل رحباني إنساني ثقافي وفني ووطني لا يموت".
كما نعاه حزب الله في بيان صدر عن العلاقات الإعلامية قال
فيه: "جسّد الراحل الكبير، من خلال فنه ومواقفه، نموذجًا للفن الهادف في
خدمة الوطن والإنسان. وسيبقى زياد الرحباني بإرثه الذي خلّده منارة أملٍ
للأجيال القادمة، تنهل من نبع فنه وفكره لتبني وطنًا حرًا مقاومًا.
أما الحزب الشيوعي اللبناني فنعاه قائلًا إنه "لم يتردًد
لحظة في الإعلان باعتزاز وفخر عن معتقداته الماركسية واليسارية والإنسانية،
مع الحرص الواعي على جعل روح هذه المعتقدات تعبر وتسبح وتنبض في فضاء
مسرحياته وموسيقاه وأغانيه.
فوبيا الثورات.. وتأييد الأسد
من الناحية السياسية، تمثلت في زياد إشكالية اليسار العربي
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وغياب القضايا المركزية القديمة التي كان
يتبناها ويدافع عنها.
وجاءت ثورات الربيع العربي عام 2011 لتعمّق أزمات هذا
اليسار الذي توجس من الحركات الشعبية الضخمة التي أسقطت بعض الأنظمة في
المنطقة، ورأى أنها مرتبطة بالغرب على شاكلة الثورة البرتقالية في أوكرانيا.
وزادت إشكالية هذا اليسار تأزمًا في اعتباره المقاومة ضد
إسرائيل معيارًا وحيدًا في الحكم على الدول والأشخاص، وكان زياد من هؤلاء
فقد رأى في ثورات الربيع العربي مصدرًا لفوضى جذرية لا يُعرف إلى أين تأخذ
المنطقة.
وانسحب هذا على موقفه من نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.
وعندما سألته صحيفة "المصري اليوم" المصرية عام 2013 ما إذا
كان نظام بشار الأسد قاتلًا؟ أجاب "طبعا قاتل،، لأنه مسؤول عن دولته"،
وتساءل باستهجان عن رد فعل أي دولة أوروبية لو نشأت فيها أوضاع أمنية شبيهة
بما حدث في الدول العربية.
وفي تلك المقابلة قال زياد إنه "لا يؤمن بأن حكم البعث جيد،
لكن لو تعرّضتَ اليوم أمنيًا لحرب سترى أنه من حقك (كنظام) الدفاع عن وجودك
"لآخر تكّة"، على حد تعبيره.
بشّار "الصامد الكبير"
أما في المقابلة التي أجرتها معه قناة "المنار" التابعة
لحزب الله في يوليو/ تموز 2018 فوصف زياد الرئيس السوري المخلوع بـ"الصامد
الكبير"، وقال إنه فوجىء بقدرته على الصمود وإدارة البلاد في مواجهة "الحرب
الكونية" التي شُنت على سورية.
ويفسر دفاعه عن الأسد أيضًا علاقته الوثيقة مع حزب الله
وأمينه العام حسن الله، إلى درجة انه أصبح أحد كتّاب صحيفة "الأخبار"
التابعة للحزب
وتسبّب دفاعه عن الأسد وعلاقته بحزب الله بردود بشرخ عميق
في صورته لدى قطاع كبير من جمهوره في المنطقة العربية، كما تسبّب بقطيعة مع
والدته الفنانة فيروز استمر نحو ثلاث سنوات.
فقد أعلن زياد في عام 2013 في مقابلة صحافية أن والدته
فيروز معجبة بالأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ما اُضطر شقيقته ريما
التي تدير أعمالها إلى إصدار بيان تنفي فيه ما صرح به شقيقها، مؤكدة أنه لا
يعبّر عن الفنانة الكبيرة.
كان لا بد أن يعود الابن الذي ابتعد كثيرًا عن البيت إلى
أمه، فتصالحا عام 2018، وربما منذ ذلك الوقت، وقبله بكثير، وهي تنظر من
النافذة وتراه عائدًا إليها، أو مغادرًا بيتها وهو يلوّح مبتعدًا.
وها هو يغادر مرة واحدة وإلى الأبد.
وداعًا زياد الرحباني. |