ملفات خاصة

 
 
 

زياد الرحباني وفيروز..

قصة فنية وإنسانية بصوت وطن

خالد محمود

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

تبقى العلاقة بين زياد الرحبانى (الذى رحل عن عالمنا صباح اليوم) ووالدته السيدة فيروز، علاقة فنية وإنسانية عميقة وثرية أثمرت عن أعمال ذات قيمة عالية فى تاريخ الموسيقى العربية.

فى بيت الموسيقى وُلد الحلم.. كان أحد بيوت أنطلياس القديمة، حيث كان البيانو قطعة أثاث ضرورية مثل الطاولة، نشأ زياد الرحبانى بين النوتات والصوت الساحر لوالدته، السيدة فيروز. والمسرحيات والحكايات المغنّاة.

كان الطفل زياد الرحبانى يجلس تحت البيانو، يسترق السمع لصوت أمه وهى تتمرّن على أغنية جديدة كتبها عاصى ولحّنها منصور. لم يكن يدرى أن هذا الصوت، الذى كان يملأ البيت دفئًا وهيبة، سيكون يومًا هو نفسه مادته الأولى، ومسرحه الأوسع، وربما تحدّيه الأكبر.

لم يكن بيتًا عاديًا، بل كان مصنعًا للأحلام، حيث كان الأخوان رحبانى يكتبان القصائد المغنّاة، وكانت فيروز تحوّلها إلى خلود.

قلبه الصغير كان يسأل أسئلة أكبر من عمره: لماذا يُغنّى الوطن بهذه البساطة؟ لماذا لا نسمع عن التعب، عن القلق، عن الشوارع المكسورة؟ كان يشعر أن الأغنية الرحبانية – رغم جمالها – تهرب أحيانًا من الواقع.

حين كبر، لم يكن زياد مجرد نجل فيروز، بل صار صوتًا مختلفًا فى قلب الضجيج. موسيقى متمرّد، يكتب عن الخيبات، عن السياسة، عن الحصار، عن الفقر، وعن الحب بكل تعقيداته. لكن المفارقة الأجمل كانت أن فيروز، بصوتها النقى السماوى، قرّرت أن تغنّى هذا الوجع الذى كتبه ابنها.

بدأ التعاون الفنى بين فيروز وابنها زياد فى ألبوم «وحدن» عام 1979، يومها كانت الحرب الأهلية تمزّق بيروت، وزياد كان يكتب موسيقاه من قلب المعاناة، لا من الشرفة الرحبانية.

كانت الأغانى تُشبه المكان والزمان: حزينة، صادقة، وموجعة. غنّت فيروز كلمات وألحان ابنها، وكأنها تمنحه صوتها ليقول ما يريد، بلغتها هى.

غنّت فيروز «عودك رنان» و«وحدن»، وغنّت بصوتها الحنون صرخته الصامتة. توالت الأعمال، وكان أبرزها ألبوم «كيفك إنت؟» فى التسعينيات، حيث قدّم زياد لفيروز ألحانًا مفعمة بالصدق والواقعية. أغنيات مثل «كيفك إنت»، و«أنا عندى حنين»، و«بكتب اسمك يا حبيبى»، مزجت بين البساطة والعمق، وبين الحنين والأسى.

فى العلاقة بينهما، لم تكن فيروز فقط «الأم»، بل كانت أيضًا «الصوت»، بينما كان زياد ليس فقط «الابن»، بل «الكاتب والموسيقى والمخرج»، الذى يُعيد تشكيل صورة فيروز لجيل جديد، دون أن يُفقدها وقارها أو سحرها. كان يُجرّب، يُغامر، أحيانًا يُبالغ، لكنها كانت تثق به. كانت تؤمن أن فى صوته غضبًا نقيّا، يشبه غضبها الداخلى الذى لم تعبّر عنه علنًا يومًا.

لكن هذه القصة لم تكن دومًا ناعمة. مرّت بتوترات، بخلافات عائلية وفنية. الصحف كتبت عن قطيعة، عن ابتعاد، عن جفاء، لكنه، فى كل مقابلة، لم ينكر فضلها، ولم يتوقف عن احترام مكانتها، حتى وإن اختلف معها.

ومع ذلك، يبقى صوت فيروز فى أعمال زياد بمثابة الذاكرة المقدّسة. ويمثّل زياد فى حياة فيروز الابن الذى اختار دربًا مختلفًا، لكنه ظل ابن البيت، ابن القلب، وابن الصوت الذى حمله فى قلبه طوال حياته.

إنها قصة أم وابن، لكن أيضًا قصة وطن وصوت، موسيقى وسؤال، تقليد وتمرد. قصة بدأت فى بيت موسيقى صغير، وامتدت إلى مسارح العالم، وتركت خلفها أعمالًا لا تنسى، تنبض بالحقيقة، وتُثبت أن الفن حين يكون عائليًا، يكون أكثر صدقًا، وأكثر وجعًا.

«عو دك رنان»، «وحدن»، «كيفك إنت؟»، «أنا عندى حنين»، «ولا كيف»

كلها كانت ثمار هذا التحالف العائلى الفنى، حيث الأم كانت الأيقونة، والابن هو المخرج الموسيقى لهذا الصوت الخالد.

«الاحتكاك بين الحنان والاحتجاج»

لم تكن العلاقة بينهما دومًا سهلة. فنية كانت أم عائلية، العلاقة بين فيروز وزياد مرّت بمراحل شد وجذب. الخلافات لم تكن فقط حول الألحان أو الأسلوب، بل أحيانًا حول نظرة كلٍّ منهما للعالم. ورغم هذا، لم ينقطع خيط الاحترام بينهما.

زياد، رغم تمرّده، كان يضع صوت أمه فوق الجميع، بينما كانت فيروز تُقدّر صدقه الفنى، حتى وإن بدا قاسيًا أو متطرفًا أحيانًا.

أمّ وابن.. أم وطن وصوت وموسيقى ورسالة؟

العلاقة بين فيروز وزياد لم تكن فقط أمومة وقرابة، بل كانت قصة صوت وكتابة، موسيقى ورسالة. من خلالها عبّر زياد عن جيله، ومن خلالها تجددت فيروز فى أعين الشباب، لا كأيقونة ماضية فقط، بل كصوت لا يزال حيّا، ومتجددًا، ومتصلًا بالحاضر.

 حين يصبح الفن حكاية بيت

قصة زياد وفيروز هى قصة نادرة فى الفن العربى. جمعت بين الحنان والاحتجاج، وبين الخيال الرحبانى والواقع العنيف. وما نتج عنها ليس مجرد أغانٍ، بل وثيقة عاطفية وزمنية تختصر حال لبنان، وتحكى حكاية الفن حين يكون من لحم ودم.

 

الشروق المصرية في

28.07.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني لأول مرة.. «ما منكون سوا»

غيث التل

ليس غريباً أن يكون فناناً متفرداً، ومختلفاً، لا يشبه غيره، ولا يشبهه غيره، فهو ابن الفنان الكبير عاصي الرحباني، وأيقونة الغناء العربي الفنانة فيروز، التي لا يشيخ فنها، ويعايش كل الأزمان والعصور.

تشرَّب زياد الرحباني الفن منذ نعومة أظافره، وفي مرحلة الشباب قدّم لوالدته لحن أغنيتها الخالدة «سألوني الناس»، ولم يكن قد تجاوز الـ17 من عمره، وكانت انطلاقته الحقيقية نحو عالم مليء بالتناقضات.

إلى جانب الفن، كان زياد سياسياً بارزاً، وعُرف بكونه كاتباً مرموقاً، وشاعراً مختلفاً؛ لذلك كان زياد رجلاً استثنائياً لا شبيه له.

أعمال لا تُنسى:

ترك زياد الرحباني خلفه إرثاً لا يُمحى من ذاكرة المستمع العربي، عكس من خلاله حياته وأفكاره وتوجهاته، فلم يكن الرحباني يقدّم أعماله تجارياً أو بهدف الانتشار، بل للتعبير عن ذاته وقناعاته، فألحانه ما زالت تنتقل من جيل إلى جيل، وعلى وجه الخصوص تلك التي قدّمها للعالم بصوت والدته فيروز، سواء من كلماته أو ألحانه، ومن أشهرها: (كيفك إنت، وعودك رنان، والبوسطة، وسلّمي عليه).

كما قدّم زياد بنفسه عدداً من الأعمال الغنائية، مثل: (أنا مش كافر، وبما إنو، وبلا ولا شي، وعايشة وحدي بلاك، وشو هالأيام، ومونودوز).

ولكونه ابن أحد عمالقة المسرح العربي، فقد جمع زياد بين المسرح والتلحين والموسيقى، ولم يبخل بموهبته على أيٍّ منها، فقدّم مسرحيات ساخرة تُعد من أشهر ما عُرض في المسرح العربي، منها: (فيلم أميركي طويل، وشي فاشل، ونزل السرور، ولولا فسحة الأمل، وبخصوص الكرامة والشعب العنيد، وبالنسبة لبكرا شو).

زياد.. وفيروز:

رغم تعاونهما الفني اللافت، وإكمال كلٍّ منهما للآخر كتابة وغناءً ولحناً، فقد ظلت علاقة زياد بوالدته فيروز غامضة، ولم يُكشف عن تفاصيلها، ووُصفت دائماً بـ«المتأرجحة»، حتى بدأت الحكايات والأساطير تُنسج حولها، ومنها ما رواه بنفسه عن قصة أغنية «كيفك إنت»، التي تقول: إن زياد سافر، وتزوّج دون علم والدته، والتقاها صدفة خلال إجازة له في بيروت، وسألته: «كيفك إنت، قال عم بيقولوا صار عندك ولاد، كنت مفكّرتك برّات البلاد».. وأن هذه الكلمات هي ما قالته له فيروز، فاستوحى منها زياد أغنيتهما الشهيرة.

زياد.. والحرب:

أثّرت الحرب بطبيعتها على حياة زياد، وبنى فيها فوضويته التي عُرف بها، وجرأته التي فاقت الحدود، فلم يخجل يوماً من البوح برأيه في أحد، وساهمت ظروف حياته فيها في تشكيل حياته السياسية. وفي الأوقات التي انشغل اللبنانيون فيها بالحرب ونكساتها وويلاتها، كان زياد يبني إمبراطورتيه في الفن والمسرح والنصوص التي يقدّمها للعالم من أعماق قلبه وتجاربه ووجعه، فتظهر جمالاً لا يُضاهيه جمال.

الوفاة:

كان السبت، الموافق 26 يوليو 2025، يوماً حزيناً في تاريخ الموسيقى العربية، ففيه افتقد كلّ متذوّق مرهف الإحساس، وعاشق للفن الأصيل أحد أعمدته، الذي توفي عن عمر يقارب الـ69 عاماً. في هذا اليوم حزن الجميع، من وافق زياد، أو خالفه الرأي والفكر، فقد فرض نفسه طوال حياته علَماً واسماً لامعاً، لا يختلف على عبقريته أحد.

وقد شُيّع جثمان الرحباني بحضور والدته فيروز، وشقيقته ريما الرحباني، اليوم الإثنين 28-7-2025، وآلاف المحبّين والمودّعين، الذين حملوا باقات الأزهار البيضاء والحمراء، وغنّوا بعضاً من كلماته وألحانه، كان من أبرزها أغنية «لأول مرة ما منكون سوا»، التي غنّتها فيروز، وكانت واحدة من روائع اجتماعها بابنها الراحل.

 

زهرة الخليج الإماراتية في

28.07.2025

 
 
 
 
 

ابن الجوهرتين فيروز وعاصي.. زياد الرحباني:

"دايمًا بالآخر في وقت فراقمحدث 28 تموز 2025

زياد بركات

خاص موقع التلفزيون العربي

صباح السبت الماضي، التاسعة صباحًا، توفي عن 69 عامًا الموسيقار اللبناني زياد الرحباني، الابن الأكبر لعاصي الرحباني والسيدة نهاد وديع حدّاد، شقيق هالي وريما

وفور وفاة الرجل النحيل، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في حياته، قالت إدارة مستشفى فؤاد خوري في الحمرا وسط بيروت، إنه تم إبلاغ عائلته بالخبر، بينما أفاد الطب الشرعي أن الوفاة كانت طبيعية، وحصلت بعد توقف عضلة القلب، بعد 15 يومًا قضاها آخر عباقرة سلالة الرحباني، في المستشفى لمعاناته من مرض تليّف الكبد.  

لقد أغمض عينيه إلى الأبد

من يبلغ السيدة فيروز فلا يكسر قلب الأم التي تقف خلف النافذة وتحدّق في غروب حياتها، ولا يتسبّب بالفزع للفراشات التي تطير حولها في الحياة والأغاني وتحضنها؟ 

على الأغلب،، قامت ريما (ابنتها) بذلك.

ليس ثمة ما هو شاق على النفس من أن يموت الأبناء قبل الآباء والأمهات. أن تنتظر الأم جثة ابنها وتودّعه إلى القبر لا أن تنتظره عائدًا من مدرسته طفلًا أو عمله شابًا، أو تقف خلف النافذة وهي تنظر إليه يخرج من سيارته ليدّق جرس البيت في زيارتها.

ولدت السيدة فيروز باسم نهاد وديع حدّاد عام 1935، ومنذ خمسينيات القرن الماضي أصبح لها اسمان: واحد للشهرة "فيروز"، وآخر للعائلة "نهاد". 

وظل الأخير اسمها الحقيقي الذي يعرفه به أبناؤها، خزانة ذكرياتهم وذكرياتها، لا تُفتَح للعامة من الناس بل لهم ومن أجلهم، ومن ذلك توقيعها به على ما يخصهم، والأسوأ بالنسبة لها أن يُستخدم في بيانات النعي العائلية، ومنها نعي ابنها الأكبر زياد.

ابن العبقريين: فيروز وعاصي

أنجبته عام 1956 وهي في الحادية والثلاثين من عمرها، بعد نحو ست سنوات من زواجها من الموسيقار اللبناني الكبير عاصي الرحباني، كما أنجبت هالي عام 1958 (يعاني منذ ولادته من الإعاقة) وليال 1960 (توفيت عام 1988) وريما عام 1965

كان هؤلاء هم هاجس المرأة النحيلة، قليلة الكلام والظهور، نهاد وديع حدّاد التي كانت تظهر  على المسرح باسم آخر (فيروز)، وتبدو كأنها هبطت إليه من السماء، ذلك أن الاستعارات متغطرسة وباطشة القوة، ألم يُوصف صوتها بالملائكي؟ مذ ذاك لم تعد فيروز تشبه الآخرين، لك أن تتخيّلها بأجنحة إذا شئت

لكنها عندما تُسدل الستارة على المسرح، حين ينتهي تسجيل الأغاني، تعود إليهم (الأبناء) وإلى نهاد (اسمها الأصلي)، كأنما نقلات موسيقية ينتقل فيها اللحن من حياة إلى أخرى، من شعور إلى آخر، داخل الأغنية نفسها التي هي فيروز، ومن يكون غيرها؟ 

موت زياد يعيد فيروز إلى نهاد

يأخذها موت زياد من فيروز ويعيدها إلى نهاد، وما إن انتشر الخبر حتى بدأ سيل من التعازي: آلاف المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تنعي "العبقرية الموسيقية" لزياد. تسرد تاريخه الفني. إنجازاته وآراءه السياسية، وعلاقته بحزب الله وموقفه من الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، بل وعلاقاته الشخصية، ونوادره، ومن بين التعليقات ثمة من كان يذهب مباشرة إلى الأم: نهاد وديع حدّاد (فيروز).

كثيرون بحثوا عنها في مواقع التواصل الاجتماعي ليعرفوا وقع وفاة ابنها عليها، فلم يعدموا صفحات تحمل اسمها على "إكس" أو "فيسبوك"، فنقلوا عنها وحزنوا أكثر من أجلها.

وهؤلاء كانوا يبحثون عن "فيروز" لا "نهاد" التي يبدو أنها اعتصمت بالصمت الحزين. أما فيروز التي عثروا عليها في مواقع التواصل الاجتماعي فعبّرت ولكن بما يليق بالفنانة الكبيرة رغم أن الصفحة التي تحمل اسمها ليست لها

في أحد المنشورات المنسوبة إليها تكتب: دايما بالآخر.. في الآخر، في وقت فراق، وهو مقطع من إحدى أغنياتها، وأُرفق المنشور بصورة لها تظهر فيه بشال أسود على رأسها وبنظّارة سوداء، برفقة ابنها زياد الذي يظهر بذقن حليقة وشعور مقصوص بعناية على غير عادته.

وفي منشور آخر تكتب: "أنا الأم الحزينة، وما من يُعزّيها".

وفي ثالث: "لأول مرة ما منكون سوا"، مع صورة قديمة لهما بالأسود والأبيض تظهر فيه فيروز أصغر في السن تجلس في ستوديو التسجيل بينما يقف زياد إلى جانبها وهو ينظر إليها.

يكتب ريكاردو كرم ما يمكن اعتباره بيانًا جماعيًا باسم من انصرف تفكيرهم نحو نهاد وديع حداد (فيروز) الأم فور انتشار خبر وفاة ابنها الأكبر. يكتب قائلًا

ماذا نقول لسيدة الغناء العربي؟ لسيدة لبنان؟ 

ماذا نقول لفيروز الأم؟ لأم تبلغ التسعين وهي تودّع ابنها بعد أن كانت قد دفنت ابنتها وهي في السابعة والعشرين؟

هل نقول لها البقاء لله؟ هل تكفي تعازينا الحارّة؟

أي عزاء يوازي أن يموت الصوت الذي كان صدى لروحها؟

 لا كلمات تكفي. لا موسيقى تواسي. لا صوت يعبّر

كل ما يمكننا أن نفعله هو أن ننحني أمام وجعها ونصمت.

ولد زياد الرحباني في يناير/كانون الثاني 1956، لأبوين يتمتعان بموهبة موسيقية وغنائية فريدة، فالأب عاصي الرحباني أحد أكبر المجدّدين في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، والأم فيروز واحدة من أعظم ظاهرتين غنائيتين في تاريخ الشرق الأوسط بأسره في القرن العشرين، الثانية هي أم كلثوم.

والحال هذه لم يكن مستغربًا أن تكون الموسيقى جزءًا من حياة الطفل زياد الذي كبر بين الموسيقى وبروفات الأغاني والمسرحيات.

نزعات أوديبية وابتعاد عن البيت

لكنّ اللافت أنه كان يبتعد كلما تقدّم من السن عن الأب مقتربًا من الأم، في نزعات أوديبية متواصلة وعنيدة تُوّجت بأن يصبح الابن هو معيد إنتاج والدته الفنانة الكبيرة برؤيته هو وبما يكرّس وجوده هو، في مقابل ما تركه الأب من إرث موسيقى عظيم شكّل خلاله ما عُرف من فيروز منذ خمسينيات القرن الماضي، ودفعها إلى صدارة المشهد الغنائي العربي دفعة واحدة وخلال سنوات قليلة.

كانت رحلة الابن زياد في الحياة تُقاس بابتعاده عن البيت، وتحديدًا عن سطوة الأب وصورته.

في بدايات شبابه ترك بيت العائلة وسكن في بيروت الغربية لا الشرقية التي كانت عائلته تسكن فيها، والتي كانت تُصنّف خلال الحرب الأهلية في لبنان بمعقل التيار المسيحي

انتمى إلى الحزب الشيوعي، وفي آخر سنوات حياته اقترب كثيرًا من حزب الله، لكن تمرده هذا لم يكن سوى تجلّ لمحاولاته التي لم تتوقف لقتل الأب، ومن المفارقة أن يكون الفشل مصير مساعيه هذه، ففي نهاية المطاف كان الحزب الشيوعي أبًا وكذلك حزب الله.  

ولم يكن مستغربًا أن يكون إنتاجه الإبداعي الأول في الشعر، بديوانه "صديقي الله" الذي صدر عام 1971، وتعود قصائده إلى عامي 1967 و1968، أي عندما كان في الثانية عشر من عمره

وإذا صح أن كل إله أب، فإن التودّد إليه عن طريق الصداقة، لم يستمر طويلًا في حياة زياد الرحباني الذي سرعان ما بدأ مساعية لوراثة أبيه بل قتله رمزيًا والحلول مكانه، فبينما كان زياد في السابعة عشرة من عمره، تعرّض عاصي لنزيف في الدماغ خلال عمله على مسريحة المحطة عام 1973

سألوني الناس عنك.. يا حبيبي

آنذاك لعبت الصدفة دورها الحاسم في رحلة الابن لوراثة الأب، فقد كان زياد قد أنهى لحنًا كان يعتزم تقديمه للمطرب مروان محفوظ، وعندما سمع اللحن عمه منصور قرر أن يمنحه لفيروز بكلمات من تأليف، وهو ما حدث في أغنية "سألوني الناس" التي تعتبر أول أغنية يلحنها زياد لوالدته، والتي اعتبرت في حينة تحية من فيروز لزوجها عاصي

بعد تجربته هذه التي تميّزت بالنضج الفني وكشفت موهبته الفذة، بدأ تعاونه من حين إلى آخر مع والدته، ومن الأغاني التي لحنها زياد "عودك رنّان" و"وحدن بيبقوا"  و"يا جبل الشيخ" و"ع هدير البوسطة" و"حبيتك تنسيت النوم" و"حبّو بعضهن"، بالإضافة الى تلحين المقدمة الموسيقية الشهيرة لمسرحية "ميس الريم". 

وكانت تلك الأغاني تنتمي إلى التيار الرحباني العريض الذي وسمه عاصي الرحباني بأسلوبه وروحه، ولم تحدث القطيعة فعليًا مع هذا التيار إلا في تسعينيات القرن الماضي، عام 1991، عندما طرحت فيروز ألبومها "كيفك أنت" الذي ضم عددًا من الأغاني التي لحّنها زياد بأسلوب جديد شكّل صدمة كبيرة في صفوف معجبيها.

اتسمت أغنيات ذلك الألبوم وفي الإغاني اللاحقة الأخرى التي لحنها لها، بتنويع موسيقى أكبر، وبكلمات غادرت ملائكية عالم فيروز السابق واقتربت كثيرًا من الشارع والإنسان البسيط العادي والطبقات العاملة.

ولم تعد هذه الكلمات تُعنى بالموسيقى العَروضية بل بالمشاعر التي قد تجد تعبيراتها بجمل قصيرة تبدو للوهلة الأولى مفكّكة، وعلى سخرية ومجانية عُرفت بهما أعمال زياد الأخرى، وخاصة المسرحية.

وخلال مسيرته الفنية قدم زياد عددا من المسرحيات الساخرة من كل شيء، من الحرب الأهلية والنقسام الطائفي إلى هواجس اللبناني العادي ومعاناته اليومية من الغلاء والفساد.

ومن هذه المسرحيات "سهرية" عام 1973، و"نزل السرور" عام 1974 و"بالنسبة لبكرا شو؟" عام 1978 و"فيلم أمريكي طويل" عام 1980 و"شي فاشل" عام 1983، و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد" عام 1993 و"لولا فسحة الأمل" عام 1994.

عُرف زياد بتعدد حقوله الفنية، فقد كان كاتبًا وملحنًا وموسيقيًا ومسرحيًا، ومزج في موسيقاه بين الموسيقى الشرقية والجاز والموسيقى الكلاسيكية.

كتب المقالات ايضًا في صحيفة "الأخبار" اللبنانية التابعة لحزب الله، وشارك بأداء عدد من الأغنيات، ومنها "بلا ولا شي بحبك" و"أنا مش كافر بس الجوع كافر"، و"مربى الدلال ربوكي وتعذبوا فيكي يا دلال" التي كتبها لزوجته السابقة دلال كرم. .كما عرفت مسيرته تقديمه برامج إذاعية مثل "بعدنا طيبين قول الله" مع المخرج جان شمعون.

إجماع نادر على رثاء الرحباني

شكًلت وفاة زياد الرحباني عامل إجماع في بلاد تمزّقها الانقسامات الطائفية والسياسية، فقد نعاه كامل الطيف السياسي اللبناني، من رئيس البلاد إلى الحزب الشيوعي اللبناني.

وقال الرئيس اللبناني جوزاف عون في رثائه:

زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة، وأكثر. كان ضميرًا حيًا، وصوتًا متمردًا على الظلم، ومرآة صادقة للمعذبين والمهمشين، حيث كان يكتب وجع الناس، ويعزف على أوتار الحقيقة، من دون مواربة.

وكتب رئيس الوزراء نواف سلام قائلًا:

بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانًا مبدعًا استثنائيًا وصوتًا حرًا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة. زياد جسّد التزامًا عميقًا بقضايا الإنسان والوطن. من على خشبة المسرح، وفي الموسيقى والكلمة، قال زياد ما لم يجرؤ كثيرون على قوله، ولامس آمال اللبنانيين وآلامهم على مدى عقود.

كما نعاه رئيس مجلس النواب نبيه بري في بيان قال فيه:

لبنان من دون زياد.. اللحن حزين والكلمات مكسورة الخاطر، والستارة السوداء تسدل على فصل رحباني إنساني ثقافي وفني ووطني لا يموت".

كما نعاه حزب الله في بيان صدر عن العلاقات الإعلامية قال فيه: "جسّد الراحل الكبير، من خلال فنه ومواقفه، نموذجًا للفن الهادف في خدمة الوطن والإنسان. وسيبقى زياد الرحباني بإرثه الذي خلّده منارة أملٍ للأجيال القادمة، تنهل من نبع فنه وفكره لتبني وطنًا ‏حرًا مقاومًا

أما الحزب الشيوعي اللبناني فنعاه قائلًا  إنه "لم يتردًد لحظة في الإعلان باعتزاز وفخر عن معتقداته الماركسية واليسارية والإنسانية، مع الحرص الواعي على جعل روح هذه المعتقدات تعبر وتسبح وتنبض في فضاء مسرحياته وموسيقاه وأغانيه

فوبيا الثورات.. وتأييد الأسد

من الناحية السياسية، تمثلت في زياد إشكالية اليسار العربي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وغياب القضايا المركزية القديمة التي كان يتبناها ويدافع عنها.

وجاءت ثورات الربيع العربي عام 2011 لتعمّق أزمات هذا اليسار الذي توجس من الحركات الشعبية الضخمة التي أسقطت بعض الأنظمة في المنطقة، ورأى أنها مرتبطة بالغرب على شاكلة الثورة البرتقالية في أوكرانيا.

وزادت إشكالية هذا اليسار تأزمًا في اعتباره المقاومة ضد إسرائيل معيارًا وحيدًا في الحكم على الدول والأشخاص، وكان زياد من هؤلاء فقد رأى في ثورات الربيع العربي مصدرًا لفوضى جذرية لا يُعرف إلى أين تأخذ المنطقة

وانسحب هذا على موقفه من نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.

وعندما سألته صحيفة "المصري اليوم" المصرية عام 2013 ما إذا كان نظام بشار الأسد قاتلًا؟ أجاب "طبعا قاتل،، لأنه مسؤول عن دولته"، وتساءل باستهجان عن رد فعل أي دولة أوروبية لو نشأت فيها أوضاع أمنية شبيهة بما حدث في الدول العربية

وفي تلك المقابلة قال زياد إنه "لا يؤمن بأن حكم البعث جيد، لكن لو تعرّضتَ اليوم أمنيًا لحرب سترى أنه من حقك (كنظام) الدفاع عن وجودك "لآخر تكّة"، على حد تعبيره

بشّار "الصامد الكبير"

أما في المقابلة التي أجرتها معه قناة "المنار" التابعة لحزب الله في يوليو/ تموز 2018 فوصف زياد الرئيس السوري المخلوع بـ"الصامد الكبير"، وقال إنه فوجىء بقدرته على الصمود وإدارة البلاد في مواجهة "الحرب الكونية" التي شُنت على سورية

ويفسر دفاعه عن الأسد أيضًا علاقته الوثيقة مع حزب الله وأمينه العام حسن الله، إلى درجة انه أصبح أحد كتّاب صحيفة "الأخبار" التابعة للحزب

وتسبّب دفاعه عن الأسد وعلاقته بحزب الله بردود بشرخ عميق في صورته لدى قطاع كبير من جمهوره في المنطقة العربية، كما تسبّب بقطيعة مع والدته الفنانة فيروز استمر نحو ثلاث سنوات.

فقد أعلن زياد في عام 2013 في مقابلة صحافية أن والدته فيروز معجبة بالأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ما اُضطر شقيقته ريما التي تدير أعمالها إلى إصدار بيان تنفي فيه ما صرح به شقيقها، مؤكدة أنه لا يعبّر عن الفنانة الكبيرة

كان لا بد أن يعود الابن الذي ابتعد كثيرًا عن البيت إلى أمه، فتصالحا عام 2018، وربما منذ ذلك الوقت، وقبله بكثير، وهي تنظر من النافذة وتراه عائدًا إليها، أو مغادرًا بيتها وهو يلوّح مبتعدًا.

وها هو يغادر مرة واحدة وإلى الأبد.  

وداعًا زياد الرحباني.

 

قناة التلفزيون العربي في

28.07.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني لعاصي ومنصور: "لكم لبنانكم ولي لبناني"

جان الفغالي

مَن مِن اللبنانيين ليست له "ذكريات" مع زياد الرحباني؟

أبناء جيله عايشوا معه مسرحية "نزل السرور" التي تنبأ فيها بانفجار الحرب اللبنانية عام 1975. ثم تابعوا معه استمرار الحرب وتوسعها، فكانت مسرحية "فيلم أميركي طويل". ثم مسرحية "شي فاشل" التي تجسِّد مراحل وعقبات إنتاج المسرحيات في لبنان.

جيله، والأجيال التي تلت، واكب زياد الرحباني في برامجه الإذاعية ولا سيما منها "العقل زينة".

كانت "كاسيتات" زياد، (وكنا في زمن "الكاسيتات")، في كل بيت وفي كل سيارة، وكانت إحدى الإذاعات تعتمد على بث مسرحياته ومقابلاته للترويج لمضاعفة مستمعيها، بالإضافة إلى كونها كانت تلتقي معه التزامًا وعقيدةً وخطًا حزبيًا "أمميًا".

زياد الرحباني لم يكن مجرد موسيقي أو مسرحي أو مؤلف فني بل كان سياسيًا بامتياز وعقائديًا بامتياز.

يناقش في فكر لينين كأنه أبرز وأبرع "المؤدلَجين" اليساريين.

يصعب أن تتجمَّع هذه الميزات في شخصٍ واحد، لكنها تجمَّعت في زياد، كان فنانًا حتى النخاع، وحزبيًا عقائديًا حتى النخاع.

والظاهرة الثانية في زياد الرحباني أن كلَّ أعماله لاقت رواجًا، بمعنى أنه ليس عنده لحنٌ أو أغنية أو مسرحية أو برنامج إذاعي أو مقابلة إذاعية أو تلفزيونية لم يكن موفقًا فيها.

وهو من القلائل الذين لم يبدِّلوا قناعاتهم السياسية، وكان شرسًا في الدفاع عن هذه القناعات، وغالبًا ما كلفته هذه القناعات في السياسة.

يُروى أن والدته السيدة فيروز كانت في ضيافة زوجة الرئيس حافظ الأسد، أنيسة، إلى الغداء، وكان الرئيس الأسد معجبًا بصوت فيروز، وكانت "إذاعةدمشق" تبث كل صباح، ولمدة ساعة أغاني لفيروز، وأثناء الغداء انضم الأسد إلى المائدة، في الحديث أسرَّت فيروز إليه أن ابنها لديه مسرحيات ساخرة لا يوفِّر فيها أحدًا، (وكانت تقصد أنه كان ينتقد القوات السورية في بيروت)، أدرك الأسد رسالة فيروز وأعطى التعليمات بعدم المس بزياد مهما انتقد.

الإشكالية الفنية بين عاصي ومنصور وبين زياد، هي في النظرة إلى لبنان، "لكلّ لبنانه"، لبنان عاصي ومنصور "جبال الصوان" و"أيام فخر الدين"، ولبنان زياد "بالنسبة لبكرا شو؟"، لم يكن مقتنعًا بـ "لبنان" عاصي ومنصور، ولعل أعمق ما جسّد عدم الاقتناع هو الحوار الذي دار في مسرحية "شي فاشل" عن "الشروال والجرَّة والدلعونا"، كان هذا الحوار تصويبًا مباشرًا على لبنان الذي حاول الرحبانيان تجسيده والذي كان أولى ضحايا الحرب.

كان لكلّ سرديته، عاصي ومنصور تمسكا بلبنانهما حتى الرمق الأخير، وكذلك فعل زياد، وللمفارقة، وعلى رغم التناقض الحاد، لم ينقسم اللبنانيون بين "اللبنانَيْن" بل اعطوا لكلِّ "لبنان" حقَّه، وجدا في "لبنان" عاصي ومنصور النوستالجيا، وفي "لبنان" زياد ما لا يجب أن يكون، تجميع الانتقادات التي وجهها، يكفي لإصلاح البلد إذا ما سحِبَت منه الشوائب التي ركَّز عليها زياد.

في المحصِّلة، لم ينتصر أيٌّ من "اللبنانَيْن" وانتهت مباراة الأب والعم مع الابن بالتعادل السلبي: "لكم لبنانكم ولي لبناني".

نقلاً عن "نداء الوطن"

 

العربية نت السعودية في

28.07.2025

 
 
 
 
 

كيف ودّعنا زياد الرحباني ونحن نُفتّش في أرشيفنا العاطفي؟

يمنه فواز

نعدّ خساراتنا في هذا البلد واحدةً تلو الأخرى، ونشهد عليها بمرارة. رحيل زياد الرحباني ليس مجرّد خسارة، بل نكبة تُضاف إلى سجل نكبات هذا البلد.

لم يكن زياد حاضراً في السنوات الأخيرة، لكنه لم يكن غائباً أيضاً. كان وجوده طمأنينةً، حلماً نتمسّك به، وتواطؤاً هادئاً على واقع نعرفه جيداً. كان الشخص الذي يمنح كثيرين إحساساً بأنّ هناك من يمكن الوثوق به، فهو لم يخذلنا حين شرح لنا واقع لبنان، حاضره ومستقبله، بلا تنظير أو تعقيد، بل بسخرية ممتنعة لا تقول كل شيء، لكنها توصل كل شيء.

نحن اليائسين في لبنان من واقع هذا البلد ومستقبله، لم نكن نحتاج إلى خسارة إضافية. خسارة زياد الرحباني، هي من الخسارات التي لا تُعوّض. وزياد لا يُعوّض

"صار لي 20 سنة عم إمزح… بس عن جدّ!"؛ هكذا لخّص زياد فنّه وحقيقته. هكذا لخّص لنا واقعاً مريراً عاشه أهلنا ونحن معاً، ولطالما ردّدنا: "كبيرة المزحة هاي".

نحن اليائسين في لبنان من واقع هذا البلد ومستقبله، لم نكن نحتاج إلى خسارة إضافية. خسارة زياد هي من الخسارات التي لا تُعوّض. زياد لا يُعوّض.

وحكاية زياد ليست مجرد أسطورة لجيل أو جيلين، بل حالة لا تموت وإن رحل. فقد كان ولا يزال وسيبقى طريقةً لفهم لبنان كما هو.

فهناك لبنان المغلّف الذي يرويه الصحافيون والكتّاب والمؤرّخون، وهناك لبنان الرحابنة، الكذبة الحُلم، وهناك لبنان زياد، لبنان المرير الحلو

وقد لخّص لنا زياد ذلك بجملة جوهرية في مسرحيته "بالنسبة لبكرا شو؟": "بقولوا بكرا حلو… بس اليوم؟ اليوم شو؟". وهكذا، نحن مستمرّون على درب أهلنا في انتظار بكرا "الحلو".

هنا قوّة زياد: كلماته، تحليله، وصفه… لم يتغير طوال هذه السنوات، كأنّه وضع لنا قاموساً للعيش في لبنان وفهمه. بلا تنميق، وبلا تزييف، ودون ترقيع، وبكثير من الواقعية المؤلمة، أتى ليقول لنا: اصحوا من لبنان الرحابنة، من لبنان الحُلم. هذا هو لبنان… لبنان كما هو: بجماله وبشاعته، بضعفه وقوّته، بحقيقته العارية، وبفلسفة السهل الممتنع.

في مقابلة نادرة قال: "أنا ما عم بهزّ نسيج المجتمع… عم فرجيه على مرايته". وهذا تماماً ما فعله طوال حياته. كفاكم وهماً. هو صفع تاريخ عائلته وصفعنا معها، لكنه أراد أن ينير لنا الطريق، وهو الطريق الذي ما زلنا ننتظر أن نرى نوره في آخر النفق.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

فزياد لطالما شكّل حجراً أساسياً في وعي كل شابّ وصبية ي/ تريد الانطلاق في عالم التمرّد والثورة والسياسة أو حتى مجرد العبث مع الحياة.

كان للجميع، يفهمه الجميع ولا يفهمه أحد، ولكن لا يمكن للفكرة إلا أن تصل. صنع لغةً متاحةً للجميع. قدّمها بلغة البسطاء إلى النخبة، فصنع جمهوراً شاملاً من النخبة والعامة معاً. ومثل موسيقاه التي لم يحتكرها، ولم يمنعها عن أحد، حتى حين كتب ولحّن لفيروز، بقي حاضراً مع الجميع.

أعطى زياد من فكره، من نغمته، ومن كلمته، دون تصنيفات، ولا تعالٍ. كسَر الأرستقراطية الفنية، وفجّر معنا فنّاً حقيقياً تخطّى الشكل التقليدي.

زياد الرحباني، ابن فيروز الأيقونة، ابن عاصي الرحباني، ليس أزمةً تمرّ، ولا حالة قابلة للنسيان. هو حالة استثنائية ترحل الآن.

عند سماعي خبر وفاة زياد، كان أول شعور راودني هو القلق، والخوف. كأنّ شيئاً عزيزاً يُسحب منّا. أردت أن أتمسّك بإرثه أكثر، أن أسمع موسيقاه، أن أستمع إلى أغانيه كلها،الجميلة والعادية، أن أحضر مسرحياته كلها، وأن أدعو الكثير من الأصدقاء. كأنني خفت أن يُخبّئه معه في مدفنه، ولو أنه لطالما شاركه معنا بسخاء.

أتذكّر حين أخبرتني والدتي أنها بكت بحرقة حين توفّي عبد الحليم حافظ، حتى أنها أقفلت الباب على نفسها لأيام. استغربت حينها... اليوم، فهمت شعورها. لم أعلم أنّ غياب أيقونة فنية، شخصية عامة، سيُبكيني كما يُبكي فقدان شخص عزيز

نحزن عليه جماعياً، باختلافاتنا وتناقضاتنا. زياد كان يشبهنا… ولا يشبهنا. كان قريباً… وبعيداً. نبكيه جميعنا: من غرق في فنّه، ومن لم يعرفه يوماً، من صادقه، ومن تمنّى أن يصادقه، من التقاه، ومن اكتفى بصوته وكتاباته.

وهنا، لا يمكنني إلا أن أتذكّر حين أخبرتني والدتي أنها بكت بحرقة حين توفّي عبد الحليم حافظ، حتى أنها أقفلت الباب على نفسها لأيام. استغربت حينها... اليوم، فهمت شعورها. لم أعلم أنّ غياب أيقونة فنية، شخصية عامة، سيُبكيني كما يُبكي فقدان شخص عزيز.

هذه المرّة، لحنّا له نحن هدوءه الأبدي… لا هدوءه النسبي. أدقّ وصف لهذه الخسارة، أرسله لي صديق عزيز، قائلاً: "انطوى بوفاة زياد فصل آخر من تاريخ بيروت". 

أما أنا، فأقول: هذا الفصل انكسارٌ لا نقوى عليه في زمن الخسارات.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

 

موقع "رصيف 22" في

28.07.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني… العطب الجميل في أرواحنا

يوسف القدرة - لبنان - فلسطين

زياد لم يكن مغنّياً، ولا ملحناً فحسب. زياد كان "غرفةً". نعم، غرفة كاملة عشنا فيها نحن الذين وُلدنا في آخر خراب القرن العشرين، وربما أول خراب الحادي والعشرين.

زياد ليس صوتاً في الراديو. كان شقّةً كاملةً في رؤوسنا. فيها موقد صغير، سجائر كثيرة، مقعد وحيد فيه انحناءة رجل متعب. شباك نصف مفتوح يطلّ على شارع لم يعد يمرّ به أحد، وآلة تسجيل فيها شريط قديم يقول: "بعرف إنك عَ اليمين، بس أنا قلبي عاليسار".

نحن جيل ما بعد الهزيمة ومحاولة الانتفاضة من داخل الوعي المرتجف، الذين وُلدنا في ظلّ أشباه جمهوريات وأرض محتلة، تربّينا على نثار من ذائقة. لم نرَ الحرب تلك، لكننا سمعناها في حنجرة فيروز. أما زياد، فقد سلخ تلك الحنجرة النقية، وركّبها على جسد يرتجف من السهر والكحول والشك.

قال لنا ببساطة: "اسمعوا، ليس كل شيء جميلاً. حتى الجمال، مريب!".

كنا نسمع فيروز في الصباح، وهي تقول: "زهرة المدائن"، ثم يجيء الليل، ونسمع زياد يقول: "شو عملتلي بالبيت؟".

البيت هو بيتنا. و"شو عملتلي؟" هي صرختنا.

نحن جيل ما بعد الهزيمة ومحاولة الانتفاضة من داخل الوعي المرتجف، الذين وُلدنا في ظلّ أشباه جمهوريات وأرض محتلة، تربّينا على نثار من ذائقة. لم نرَ الحرب تلك، لكننا سمعناها في حنجرة فيروز. أما زياد، فقد سلخ تلك الحنجرة النقية، وركّبها على جسد يرتجف من السهر والكحول والشك.

زياد ابن بيتٍ موسيقيّ مقدّس. لكنه سرق مفاتيح المعبد، وعاد إلينا بوردة ذابلة، وقال: خذوها، هذه الحقيقة.

وردة، لكنها وردة من ورق.

كان يقول: مش ضروري كل شي يلمع! وكانت ألحانه تقول الشيء ذاته. بيانو كسلان، كمنجة تمشي حافيةً على بلاط بارد، وجملة موسيقية تتعثر مثل من يمشي على درج وهو سكران.

ولم تكن المسألة فقط موسيقى. كان يسرد. كانت أغانيه قصصاً. أحياناً فيها شخصية واحدة تتكلم مع نفسها، أو مع أحد لا يردّ، أو مع جدار.

لم تكن المسألة فقط موسيقى. كان يسرد. كانت أغانيه قصصاً. أحياناً فيها شخصية واحدة تتكلم مع نفسها، أو مع أحد لا يردّ، أو مع جدار.

تماماً كما نفعل نحن، في ليالي العزلة الطويلة، حين نجلس على حافة السرير ونقول: "عم فكّر أعمل شي… بس شو؟!".

يحب الشباب زياد لأنّهم يشعرون أنه يشبههم، وأنه لا يضحك عليهم.

نحن الجيل الذي سمع من آبائه خطابات القومية، والوحدة، والتحرير، ثم وجد نفسه في عمل بلا معنى، في غرفة بلا شباك، وفي بلدٍ نصفه سجن ونصفه منفى. جاء زياد وقال: نعم، هذه هي الحقيقة، وأنا أيضاً مثلكم.

في "شو بخاف"، يقول: "مش ناوي أتغيّر، مش ناوي أتحسّن".

ونحن صدّقناه. وأحببناه أكثر لأنه لا يريد التحسّن!

زياد لا يعطيك وصفةً. لا يدّعي الحكمة. لا يمسك بيدك ويقودك إلى النور. إنه يجلس بجانبك في الظلمة، ويفتح علبة البيرة ويشعل السيجارة!

في حفلة بعلبك، يقول زياد بين الأغاني:

"ما بدّي أحكي سياسة... بس خلّوني أحكي".

ويضحك الناس.

ثم يتكلم كصديق لديه غضب خفيف، ساخر، يمضغه بأسنانه مثل لبان قديم.

هذا هو زياد. يعرف أنّ العالم خربان، لكنه لا يصرخ. يهمس فقط!

وهمسه كان أبلغ من صراخ كثيرين.

أما الشعر… فليس شعراً بالمعنى المتداول، إنما كلام مطحون بالحياة.

"أنا مش كافر، بس الجوع كافر، والذلّ كافر، والمرض كافر".

كل كلمة فيها شظيّة.

نسمعه، فنشعر أنّ أحدهم قال أخيراً ما كنا نخجل من أن نقوله، أو لا نعرف كيف.

نحن الجيل الذي سمع من آبائه خطابات القومية، والوحدة، والتحرير، ثم وجد نفسه في عمل بلا معنى، في غرفة بلا شباك، وفي بلدٍ نصفه سجن ونصفه منفى. جاء زياد وقال: نعم، هذه هي الحقيقة، وأنا أيضاً مثلكم.

أغانٍ مثل "بالنسبة لبكرا شو؟"، أو "اسمع يا رضا"، هي في حقيقتها مشاهد من مسرحية، أو صفحات من يوميات مكتوبة على هوامش دفتر مدرسة قديم.

في "بما إنّو"، يقول:

"بما إنو اللي صار صار،

ما بقا شي ينقال.

بلا ما نتذكر مبارح،

خلينا ننسى اللي جايي!".

كم مرةً تمنينا أن نقول ذلك، ولم نعرف كيف؟

أو ربما قلناه، لكن دون بيانو.

زياد قدّم لنا ما هو "مش مريح"، لكن حقيقي.

نحن الذين مللنا الأغاني المعلّبة، والكلام المجازف بالفرح الزائف، وجدنا فيه ملاذاً.

صوته لا يطربك، ولكنه يوقظك.

كأنّك تنام على حجر، ثم يجيء زياد ليقول: "قوم، في شي غلط".

ولا يشرح لك أين الغلط، بل يتركك تتقلب في فراشك.

حين نسمع زياد، نعود إلى أماكن لا نعرفها، لكنها تشبه بيت الجدّة.

تفوح منها رائحة المازوت والزعتر، وتخرج منها أصوات خفيفة:

ضحكة، صراخ، نقاش سياسي عقيم، بكاء مراهقة خلف الباب.

هو ليس موسيقياً فحسب. إنه مؤرّخ عائلي. كتب ذاكرة بيتٍ عربيّ، على وشك الانهيار.

الذين يحبّون "زياد"، غالباً ما يبدون غريبين في محيطهم.

لأنهم لا يحبّون الموسيقى من أجل الرقص، إنها وصفة من أجل البقاء، من أجل ترميم الروح!

أغاني زياد لا تشغّلها في فرح، بل حين تنكسر.

حين تمشي وحدك تحت المطر، وتقول في قلبك:

"ليش كل شي هيك؟"...

فيجيبك زياد من السماعة:

"مش قادر أقنع حالي، إنّو خلصت الحكاية".

حين نسمع زياد، نعود إلى أماكن لا نعرفها، لكنها تشبه بيت الجدّة. تفوح منها رائحة المازوت والزعتر، وتخرج منها أصوات خفيفة: ضحكة، صراخ، نقاش سياسي عقيم، بكاء مراهقة خلف الباب. هو ليس موسيقياً فحسب. إنه مؤرّخ عائلي. كتب ذاكرة بيتٍ عربيّ، على وشك الانهيار.

زياد سيبقى حيّاً. لكننا نشعر أنه توقف في مكان ما من التسعينيات.

ربما تعب، أو ملّ، أو رأى أننا لا نستحق أكثر.

لكنه ترك لنا ما يكفي.

أغانٍ تشبه مرايا مكسورةً، نرى فيها أنفسنا بالتشويش الضروري.

فنحن لا نحب الحقيقة الصافية المدعاة. نحبّ الحقيقة المعطوبة، كما هي!

والحقيقة المعطوبة، كانت دائماً لحناً من زياد.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

 

موقع "رصيف 22" في

29.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004