ملفات خاصة

 
 
 

كاسيت زياد الرحباني مُهَرّباً إلى القاهرة

أحمد عبد المنعم رمضان

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

سمعتُ زياد الرحبانى للمرة الأولى في حياتي في منتصف التسعينيات، كنت في العاشرة من عمري. ثمة صوتان يتشاركان الغناء، سأعلم لاحقًا أن الصوت الناعم هو صوت جوزيف صقر والصوت الأجش هو صوت زياد. حدث ذلك عندما أتى أحد أصدقاء والدي إلى بيتنا ومعه شريط لزياد بعنوان "بما إنو"، بدا الأمر شبيهًا بعمليات التهريب، فالإنترنت لم تكن موجوة فى مصر حينها، والشريط – كنا نسميه هكذا فى ذلك الزمن -لم يكن متوفرًا هنا أيضًا. دسسنا الشريط فى جهاز الكاسيت، كانت الأغاني غريبة على أذني، مختلفة عما اعتدت سماعه، ضحكت كثيرًا لبعض الأغنيات وعلقت في ذهني جملة وحيدة وهى (بما إنه العيشة سودا ومش بيضا، اجتمعنا وقررنا نسلق بيضة، شي مغذي، شي خفيف، شي مطمئن، شي مخيف). لم أحفظ اسم المغني في ذلك الحين، لكن مع ظهور الإنترنت ومع قليل من البحث وصلت إليه وسمعت المزيد من أغانيه.

فى العام 2004، سافر أبي إلى لبنان في زيارة سريعة، طلبت منه قبيل سفره أن يأتيني ببعض من شرائط زياد الرحباني، ووعدني بذلك. وكغريب يقضي بضعة أيام في بيروت، طلب والدي من إحدى صديقاته اللبنانيات أن تأتيه بالشرائط المطلوبة، ثمة خطأ لغوي حدث في ذلك الحين، خطأ أشبه بمشكلة الألف واللام في قرار 242 لمجلس الأمن، فبدلًا من أن تشتري الصديقة شرائط لزياد الرحبانى، اشترت شرائط زياد الرحباني، أي كلها، أغانيه ومسرحياته، حفلاته وبرامجه، كل شيء، وهو ما كلفها – وبالتالي كلف والدي المغلوب على أمره– ما يزيد عن المئة دولار. قضيت شهورًا في استكشاف تلك التسجيلات المتنوعة، سمعت الشرائط الغنائية وبعض المسرحيات مثل "فيلم أميركي طويل" و"شي فاشل" و=لكن أكثر ما لفت نظري، شرائط الثلاثة التي ضمت حلقات برنامجه الإذاعي "العقل زينة". غير أن الجملة ألتي تلح عليّ الآن ليست واحدة من أقواله الشهيرة في البرنامَج، بل سؤاله الأشهر، "بالنسبة لبكرا شو؟"

"بالنسبة لبكرا شو؟" لم يكن مجرد اسم لمسرحية كتبها وأخرجها وقدمها زياد الرحباني في السبعينيات، لكنه سؤال ظل يلح على زياد ويطارده دومًا في كل وقت وكل زمن، وربما سلب من صحته ومن نفسه الكثير، حتى بدا أن "بكرا" الظاهر في الأفق، الغد الذي يلوح أمامنا، لم يعد يناسبه ويتوافق مع أفكاره وتصوراته، فخرج من الصورة كلها، خرج بهدوء ومن دون ضجيج، وكأنه ترك العالم بإرادته، تركه غاضبًا ومشيرًا له بإصبعه الأوسط، وربما ردد بصوته هو في هذه المرة:

أنا صار لازم ودّعكن .. وخبّركن عنّي".

***

لا أعلم ما الذي جذبني إلى زياد وأغانيه في أول مرة، هل هي غرابة الكلمات أم تفرد الموسيقى أم ثورية الأفكار أم روح التمرد التي تجمع كل هذا كما تتجلى في نبرات صوته المميزة. أظن أنني وبشكل فطري رأيت هذه الروح المتمردة حتى أبهرتني، وبمرور السنين تبينتها بشكل أوضح، ولمست مدى حريتها وثوريتها وقدرتها على المواجهة، فتمرد زياد لم يكن غنائيًا فحسب، لقد تمرد على النظم السياسية، تمرد على الطائفية، وعلى طائفته نفسها، تمرد على الدين، على الإرث العائلي، على موسيقى الرحبانية، على مظاهر الظلم المستشري، على التقديس والتأليه، على منظومة التقاليد والأعراف، على الوسط الغنائي ونجومه، على التفاهة، على العالم كله.

تلقفتني أغاني زياد بعد ذلك واحدة تلو الأخرى، في كل فترة من حياتي أصير متيمًا بإحداها بشكل خاص إلى أن أنتقل لأخرى، بدأت الرحلة مع "بلا ولا شي" في فترة المراهقة، حيث أحببت على أنغامها ورددتها في خيالي لمحبوباتي، إلى أن شعرت أن انتشار الأغنية الكبير أدى إلى ابتذالها وإلى استخدامها بشكل سطحي أجوف، فانتقلتُ إلى أغنية "أنا والله فكري هنّيك" في فترة الغليان والغضب السياسي ما قبل ثورة يناير، وأعقبتها أغنية "شو هالأيام اللي وصلنالها" في فترة 2011 و2012، إذ بدت كمانيفستو ثوري اشتراكي، وأخيرًا غنينا جميعًا مع زياد "يا نور عينيا، رُحنا ضحية، ضحية الحركة الثورية."

فى نهاية العقد الأول من الألفية، انتشرت أخبار عن حفلة مزمع عقدها لفيروز في مصر، وقيل أن التذكرة ستساوي 500 جني، كان رقمّا كبيرّا في ذلك الحين، فبدأت فى التخطيط لتدبير المبلغ، إلا أن الخبر خفت واختفى من كل المواقع والأخبار، ولم تتم تلك الحفلة قط. لكن بعد شهور قليلة، وتحديدًا فى شتاء 2010 تم الإعلان عن حفلة لزياد الرحباني في ساقية الصاوي ضمن مهرجان القاهرة للجاز. لم أتردد للحظة وقررت أن أغتنم الفرصة التي ربما لا تواتيني مرة أخرى، غير أن القدر كان كريمًا معي، وحضرت له حفة أخرى بعد ثلاثة أعوام، يومها أحاط بالحفلة قدر من الجدل بسبب موقف زياد من الصراع السوري، إلا أن غالبية جمهوره قررت أن تحضر الحفلة وتستمتع بموسيقاه وأغانيه ومداخلاته بغض النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع رأي زياد فى هذا الصدد. وكانت الحفلة أوسع هذه المرة، إذ أقيمت في حديقة الأزهر وبدا أن مربعًا من ساحة ميدان التحرير قد انتقل إلى هناك لليلة تجمُّع أخيرة لرفاق 2011.

***

يا جماعة لازم خبّركن .. هالقصة عنِّي

أنا كل شي بقوله عم حسّه .. وعم يطلع منِّي"

بدأت موهبة زياد في البزوغ بشكل مبكر جدًا، فى سنين مراهقته حيث لحن أغنية "سألوني الناس" لأمه فيروز ومن كلمات عمه منصور الرحباني وهو في منتصف عقده الثاني، كانت الأغنية بمثابة رثاء لوالده الراحل عاصي الرحباني، ثم توالت ألحانه ومن بعدها كلماته لأغنيات فيروز، إضافة إلى كتاباته وألحانه لنفسه في مسرحياته وشرائطه الخاصة، وكذلك قطعه الموسيقية الخالصة، سواء التي تنتمي للجاز أو لألوان أخرى، مع بعض التعاونات مع مطربات أخريات بين حين وآخر.

امتزجت في وجدان زياد، موسيقى سيد درويش بموسيقى الرحبانية وأنغام الجاز، حتى طوّر بصمته الخاصة وشكله المميز، واستطاع أن يوجد مكانًا لنفسه، لزياد الرحباني. لم يصبح ظلًا لوالديه، لم يكن مجرد ابنًا لفيروز، لم يقع في هذا الفخ، وصار كيانًا مستقلًا متفردًا. ورغم أنه ذاق النجومية في تلك السن المبكرة، إلا أنه كان أنضج وأوعى من أن تخطفه أضواؤها، بل طوعها لمصلحة فنه ولخدمة أفكاره. 

تنوّع إنتاج زياد الفني بشكل لافت، بين ألحان شرقية وموسيقى غربية، بين كلمات مغرقة في رومانسيتها أو أفكار رصينة عندما يكتب لفيروز، وبين كلمات ساخرة ومتمردة عندما يكتب لنفسه أو لمسرحياته معبرًأ بها عن سخطه على العالم وغضبه من الأوضاع المحيطة. أبدع زياد بأشكال متعددة وألوان مختلفة، بدت كلها صادقة وحقيقية، تاركًا لنا إرثًا غنيًا ومتنوعًأ من الأمل والتمرد والغضب والحب.

***

"ودايماً بالآخر فيه آخر، فيه وقت فراقْ "

 تحتشد أغاني زياد بالتأمل فى مشاعر الفقد والاشتياق بداية من أولى أغنياته "سألوني الناس" مرورًا بأغنيات "كيفك إنت" و"سلملي عليه" و"اشتقتلك" و"صبحي الجيز" و"شو بخاف" وألبوم "إلى عاصي" وغيرها من الأغاني، أعتقد أن زياد كان يخشى الوحدة والفقد بشكل خاص، ربما منذ فقد والده وكان لا يزال شاباً يافعاً، وكذلك مشاعره تجاه رفاقه الحقيقيين أو الوهميين، مثل "صبحي الجيز" و"أبو علي".

بخلاف الأغاني والمسرحيات و"العقل زينة"، أسرتني بشكل خاص مقطوعات زياد الموسيقية مثل "وقمح" و"ميس الريم" و"أبو علي"، صدرت المقطوعتان الأخيرتان في شريط واحد بنهاية السبعينيات تحت عنوان "أبو علي"، وحكى أن "أبو علي" هو صديقه ورفيقه، كان معه فى البيت فى بيروت الغربية عندما تعرضت المنطقة لقصف مبرح في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، يومها غطتهما الأدخنة ومنعت عنهما الرؤية، إلا أن "أبو علي" استطاع أن يخرج من البيت ويركب سيارته، لكن قبل أن يتحرك أصابه صاروخ أودى بحياته، هل هذه القصة حقيقية أم أنها جزء من العمل الفني الإبداعي؟ لا يهم، المهم أن زياد وثق هذه القصة في قطعة موسيقية تستطيع وأنت تسمعها أن ترى أبو علي وهو يفر، وتخنقك الأدخنة التي تلفهما وينتابك القلق والتوتر والحزن والألم.

***

بكرا برجع بُوقَف معكُن

اذا مش بكرا الْـ بَعده أكيدْ

إنتوا احكوني وأنا بسمعكُن

حتّى لولا الصوت بعيدْ

لا يجوز اختصار زياد الرحباني في صورة المتمرد صاحب المواقف السياسية الثورية، وكذلك لا يجوز اختصاره في موسيقاه وفنه وحدهما، فهو حالة فريدة يمتزج فيها الشقان معا ويختلطان ليكوّنا نسيجًا واحدًا، فيتمرد في الموسيقى ويغني في ثورة، ليُخرج لنا مزيجًا ساحرًا وخلابًا اسمه زياد الرحباني. مزيج يصعب أن يولد ويوجد مثله الآن فى عالمنا العربي البائس، ربما فى أزمان أخرى، غير زمننا الحزين.

وفي هذه اللحظة، لحظة الفراق، لحظة الهزيمة وقلة الحيلة، لحظة تراجع الأمل والشعور بالخيبة، يتردد في ذهني سؤالان: "شو هاالأيام اللي وصلنالها؟" و"بالنسبة لبكرا شو؟"

 رحل أبو الزوز بجسده عن عالمنا، ولكن موسيقاه وأغانيه المتمردة وإبداعه المتنوع ستبقى لسنين وعقود، سيتردد صداها عبر الزمن، وستصير ملهمة لأجيال قادمة ربما تكون أوفر حظًا وأعلى شأنًا.

***

بلا موسيقتنا الليلة حزينة

بلا غنّية ليلي بيطول

كل ليلة بغنّي بمدينة

وبحمل صوتي وبمشي عَ طول

 

####

 

زياد الرحباني...في الحرب وما بعدها

فواز طرابلسي

بهذه اللغة والألحان، حمل بنات وأبناء لبنانيي ما بعد الحرب براءتهم، ومضوا إلى 17 تشرين 2019 (الصورة من مسرحية "شي فاشل")

على مدى نصف قرن، انطلق زياد الرحباني في مسيرته الفنية من نتاج الرحابنة وفيروز، ليبتدع أسلوبه المميز وشخصيته المستقلة بما هو موسيقي عبقري ومسرحي عميق الموهبة وناقد اجتماعي وسياسي ملهَم وملهِم. 

افتتح مرحلة جديدة من حياته وفكره وفنّه عندما انتقل من منزل الأهل في انطلياس الى بيروت الغربية مطلع العام 1976، في احتجاج صارخ على حصار ميليشيات "الجبهة اللبنانية" لمخيم تل الزعتر وإعلاناً لتضامنه مع المقاومة الفلسطينية ومشروع اليسار والحركة الوطنية في نظام ديموقراطي علماني واجتماعي. بدأ مع صديقه السينمائي جان شمعون في برنامج يومي بعنوان "بعدنا طيبين، قول الله" في الإذاعة اللبنانية، وكان بمثابة نشرة اخبار بديلة من منظار نقدي ساخر ذي حساسية مفرطة لوجع الناس واحلام الشباب في التغيير عبّر في الآن ذاته عن قلق الناس وخوفها وسؤالها المحموم عن لقمة الخبز والأمن في كل صباح. توقف البرنامج عندما احتلت "قوات الردع العربية" مبنى الإذاعة فيما زياد وجان يصدحان بالغناء متحدّين القفلة المأسوية لـ"حرب السنتين": "اختلط الحابل بالنابل/سوريا تبعت لك ردع/ ومصر تبعت فلافل!"

على مدى نصف دزينة من المسرحيات نجح زياد الرحباني في أن يصوّر التحولات المتسارعة لرسملة المجتمع اللبناني المتسارعة، وصولاً إلى انفجار الحرب، وتابع اطوارها، من منظور يساري إنساني نقدي معارض للتمييز والظلم الاجتماعيين. وكانت السخرية عنده الواسطة الأمثل لكشف المفارقات وتنفير التناقضات الاجتماعية في تلك اللحظة التاريخية المميزة. لم يكن نتاج زياد الرحباني الفني إسهامًا يساريا متألقًا في الثقافة اللبنانية والعربية والثقافة الشعبية فحسب، بل كان التعبير الأنجح عن الواقع المتحوّل ومخزونه المحتمل من أي خطاب سياسي. 

مسرحية “نزل السرور” (1974) استشرافية تروي قصة مجموعة ثوريين رومنطيقيين يرضخون لِقَيم المجتمع التجاري الذي أرادوا تغييره. داخل "بار" في المدينة تحكي "بالنسبة لبكرة شو” (1977) عن مجتمع ممزق بين وعود "الأعجوبة" الاقتصادية الرأسمالية والقيم الاجتماعية التقليدية، حيث يصطدم الحب الزوجي مع شبق الارتقاء الاجتماعي، والمصلحة المادية مع الكرامة الشخصية. يدخل لبنان الحرب في "فيلم اميركي طويل" (1980)  من خلال مصحّ للأمراض العقلية لستَ تدري فيه مَن العاقل ومَن المجنون، بين انفلات غرائز المرضى والقمع الماضوي الأعمى الذي يفرضه المعالجون "الأصحاء" من أطباء وممرضين. ومن زمان الطائفية/طائفية في المسرحية هذه الشقلبة اللامعة للسرد الهوياتي النرجسي: "المحمودات مَسيحيّي شي؟/-طبعا، لا/ -اذا ليش بدنا نحبّن؟" معادلة أنجبت منوعات عنصرية نرجسية متضخمة بعد الحرب على مقام “بيشبهونا/ما بيشبهونا".

وتروي "شي فاشل" (1983) مغامرات مسرحي عاجز عن إخراج مسرحية على غرار قرية الرحابنة الأهل - ذات الغريب والكنز والأعجوبة. هي عبث المحاولة لبناء السلام بواسطة ايديولوجيا فولكلورية ماضوية هي ذاتها من مسببات الحرب. وتختم "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993) تلك السلسلة في نقض لأغنية فيروز "بحبك يا لبنان" التي تمجد "لبنان الكرامة والشعب العنيد" المنتصر على الانقسام والحرب. هي مجموعة مشاهد عن عودة لبنانيين إلى العصر الحجري، يعيشون في جوار أكلة لحوم البشر، على الاطعمة المعلّبة (المهربة وفاقدة الصلاحية) ويتناوبون على محاورة كومبيوتر عجائبي، كأنه يحمل برنامج ذكاء اصطناعي، عن معانٍ وترجمات لمفردات ومصطلحات واستعارات وحِكم بلدية لبنانية. ولا تلبث إحدى الاستعارات ان تتحول إلى حقيقة عندما الأرض تنشق وتبتلعهم! 

كتب جوزيف سماحة العام 1993 عن اللبنانيين المنقسمين بين رفيق الحريري بالغ التفاؤل، وزياد الرحباني، بالغ الخيبة والتشاؤم. بالفعل تحول زياد وفنه إلى رمز للمشروع المضاد لإعادة الإعمار. لكنه في ما يتعدّى التشاؤم والتفاؤل، واصل الابتكار والتجريب في موسيقى لا حدود لها، من وحي الناس وللناس، وإذا أغانيه ومسرحياته قد شكلت لغة الحال الجديدة. بواسطتها تعرّف جيل ما بعد الحرب بعضه إلى بعض، فيما تجاوز خطوط التماسّ. تداولوا كلمة "رفيق"، بما يتعدّي معناها الحزبي. اكتشفوا الجنوب و"جمّول". استمتعوا بالجاز الشرقي ورقصوا على الطرب المخبّل في "عُودك رنّان". ومن أحاديث المقاهي نقل زياد منوعات جديدة من الغزل ("بحبك بلا ولا شي" و"مش فارقة معاي")، ومن الحساسية المميزة تجاه حقوق المرأة وتحررها. لكنها لغة تقول في الآن ذاته هشاشة العلاقات البشرية لجيل يعلن بلامبالاة مُكابِرة، بحثه المأسوي عن الصدق والانتماء لوطن شلّعه اقتتال الأخوة، ولشعب تملك وحدته القدرة العجيبة على أن "تفرد" على الدوام. وبهذه اللغة وتلك الألحان حمل العديد من بنات وأبناء لبنانيي ما بعد الحرب براءتهم ومضوا إلى 17 تشرين 2019.

والأهم أنه في الذروة من كل هذا الابتكار الموسيقي، أعاد الينا الملحّن زياد الرحباني تألق فيروز في أغانٍ جديدة

هذا هو بعض من النتاج المتفرّد الذي يتركه لنا العبقري المشاغب زياد الرحباني، وذلك هو حجم الخسائر بفقده.

وبعد، 

تضخمت الأموال المسحوبة من جيوب الناس واللازم ترجع لجيوب الناس.

والفيلم الأميركي الطويل يمرّ بعرض جديد في غزة ولا حاجة للتفصيل.

أودّعك، يا رفيق زياد، على أمل… لأنه بَعد… في أمل. 

باقٍ بفنّك وشخصك. وفيروز الأم الحزينة، لها شعب كامل يعزّيها بِك ويتعزّى بها.

(*) النص عن الفايسبوك

 

####

 

أن نفهم زياد في سوريا...لا أن نُدينه

نوار جبور

صعد نجم زياد الرحباني منذ أواسط سبعينات القرن العشرين، بوصفه امتدادًا لعائلة ذات رمزية كبرى في الخيال العربي، كانت سيرته تصل إلى السوريين لا فقط كإبن فيروز وعاصي الرحباني، بل كحالة جديدة تُنسب إلى إرثٍ لا يشبهه تمامًا. تلقّاه السوريون بسرعة كـسليل، لكن زياد بدا وكأنه يريد أن يُبطل شرعيته الوراثية منذ اللحظة الأولى. أراد أن يُجرّد نفسه من سلطة النسب، ومن طائفته، ومن مساحات التلقي الجاهزة. الشرعية التي أرادها لنفسه لم تكن فنية فقط، بل شرعية تفكك الانتماء التقليدي، تسكن في الهامش بدلاً من المركز، في الكسر لا في النقاء، وفي الغضب لا في التمجيد.

لقد ظهر زياد، مبكرًا، كعلامة لا تكتمل، كما لو أنه ينسف بنفسه قابليته لأن يكون "مؤلفًا نقيًا". فالمؤلف النقي، بحسب الخيال الثقافي السائد، هو من يأتي من فراغ، لا من نسب. أما هو، فكان يرث أكثر مما يحتمل: إرثًا عائليًا فنيًا، طائفيًا، قوميًا، شعبيًا، ووجدانيًا. وبدلاً من جعل هذا الإرث منصة، حوّله ساحة صراعكان زياد، في أغانيه ومسرحه ولغته، يُمارس الحِداد باكرًا: الحِداد على لبنان الذي تمزّق، على أبيه الذي غاب، على عائلته التي تصدعت، على الفكرة القومية التي ذبلت، وعلى الأحلام التي كبر عليها. وكأن كل ظهور له هو مرثية مؤجلة، لأجيال كانت تبحث عن صوتها ووجدت فيه انعكاس جرحها.

وصل زياد إلى سوريا في التسعينيات. قبلها، كانت الثمانينيات مظلمة، والنظام الأسدي يُغلف البلاد وذوقها العام، حتى كاسيت للشيخ إمام كان يتم تبادلهُ سراً. قُمع ما كان ثورياً وما كان ضداً للدين والمجتمع... الشيخ إمام، ومارسيل خليفة،... كان زياد يأتي من بعيد، زياد الذي كان في فنه قريباً لوعي نهاية الثمانينيات، النقد ضداً للتأليه، الشتيمة والعار والاكتئاب والمجانين عوضاً عن ممارسات جمالية صنعها الرحابنة. من دون أن يدرك تمامًا، صنع زياد فنًا ساخرًا ونقديًا خاصاً به.. ثم أنه كان يصنع شيئاً عرفهُ السوريون بعد الثمانينيات، عري العنف وسقوط الأيديولوجيا تلقفه فن زياد بأنسنة راديكالية، إذ كانت تجرِبة اليسار في لبنان وسوريا تصدم بالطائفية والعنف، فكان الفن وعريها الحاد بشخصيات "فيلم أميركي طويل" و"بالنسبة لبكرا شو" صدمة نظرية. المرأة والمجانين والطبقة المثقفة، كلهم زجهم زياد في مسرح سخريته اللاذعة. ما قام به زياد أنه فكك الجمالية الرحبانية، أشعر مستمعيها بخللها وعدم واقعيتها، ونزع الزخرفة ليضع النُدبة والجرح، مصورًا المجتمع وطبقاته وفئاته وكأنهم بلا حماية، ليجعل كل متلقٍّ يعيش اغترابًا: هل أنا ذلك المجروح، أو المجنون أو الكاذب؟ هل أنا مُفكر ماركسي حزبي يساري؟ كل شخصياته دارت في هذا الفلك، وهو  كتب من دون ان يشعر، لزمن سقوط الفكرة وموت المعنى، خصوصاً حينما جعل الشخصية تصرخ أو تدخل في حوار يكون سؤالها "بالنسبة لبكرا شو؟"، كيف يُثقل الموضوعي إنساناً معذباً بذاته وغارقاً في تناقضاته. الحرب الأهلية التي عاشها زياد، عاشها معه السوريون خفية.

كان زياد بالنسبة للسوريين ورطة أجيال وُلدت بعد التسعينيات، وجيل المعتقلين في الثمانينيات والناجين منهم، كان حاداً في أعماله التي انتقلت إليهم، والتي لم يكن النظام يفضلها كثيراً، لا شخصية العاهرة، ولا شخصية الطائفي المريض، ولا المفكر المعتقل، ولا حتى آراؤه كانت تعجبه. بدأ زياد يظهر عند الشبان والمترجمين والمثقفين كشاب متمرد، قال لهذا الجيل إن أفكاركم ذات ذائقة تقليدية، وبنى شكلاً جديداً للتلقي يجعل الجمهور متورطاً في قول شيء، في الضحك، أو حتى في الحيرة. وصل زياد إلى سوريا ضداً لمارسيل خليفة مثلاً، إنه لا يقف من موقع المنتصر ولا الآمل، ولا أي موقع يكون فيه لخطاب مسرحياته موقعاً لسلطة. موقع اللاسلطة سيظهر، ونظام صوتي ومرئي بشخصيات مهمشة لغويًا واجتماعيًا، وبثورة ضد الطوائف والطبقة وضد الحب. ثم إنه صنع الشتيمة في المسرح وفي الأغنية، فانتشر مثل الطاعون لأنه قالنا على خشبة، قال مثقفينا ومجانينا وهم يشتمون وهم يملكون عبر التسجيل واقعًا شاتمًا بالضد من أخلاقية السلطة في سوريا.

زياد في سوريا كان ضداً للطقس اليومي القومي الأخلاقي الزائف، وضداً لكل نشيد وشعار. مستمع زياد، السوري، كان يداعب تعطيل الطقس والسياسة، وتشويش الوعي، لدرجة أن زياد حوّل الإنسان السوري آنذاك إلى حائرٍ محاصرٍ بتلفاز رسمي رديء، وأعمال فنية محدودة وموجّهة، وسلطة طبقية حادّة، كان زياد كفيلاً بتخريبها. تبنّته الطبقة الوسطى والمسحوقة بشدّة، لأنه امتلك الشتيمة والحقيقة وتكلّم باسمها. جمهور زياد في سوريا كان "هامشيًا": مترجمون، طلاب، منفيون داخليًا، لا يمتلكون صوتًا علنيًا، فوجدوا في زياد سيمياء بديلة تُشبههم: ناقصة، غاضبة، غير مُصنّفة. ما فعله زياد في سوريا أنه أفسد طقس التلقّي، خرّب وحدة الذائقة، وخلق صدمة أنثروبولوجية جعلت السوري يُدرك فجأة أنه جزء من مسرحية لا تُشبهه، وأن الشخصيات المجنونة على الخشبة ربما كانت تتحدّث عنه.

وصول زياد إلى سوريا كان تراجيديًا أيضًا، لأنه يحمل معنى لقيمة الخفاء، في ظل ذائقة تُصاغ من فوق، وهوية ثقافية مؤطّرة بمفاهيم الأخلاق القومية والبطولة المتخيّلة، كطقس عبور مقلوب وزاحف. لم يأتِ من بوابة المؤسسة ولا عبر السلطة الثقافية، بل عبر الكاسيت والنسخ والتهريب ودوائر الطلاب الجامعيين والمثقفين. من فضاء الشرعية اللبنانية في المسارح التي وصل إليها زياد، إلى الفضاء المسروق. ولانتقاله هذا مراحل وأطوار: زياد المنفصل المتمرد، وتمرده على الفن الرحباني وقدسيته، ثم العتبة التي قطعها في عقل السوري وشعوره، ليس بوصفه فنًا بل خرقًا وفضيحة، ثم الاندماج معه طوال أكثر من 25 سنة. وهذا ما سنراه كدهشة مسكوبة على شفاه الجميع: من المسرحيين إلى الممثلين والمخرجين السوريين، والناس العاديين. كلهم يحبون زياد ويريدون الكتابة مثله. لقد عاش طقس العبور الخفي، ثم تسيد الشفاه والأفكار السورية. أيمن رضا وياسر العظمة سيذكرانه، وسيقلدانه أحيانًا.

لقد قادت أعمال زياد، ما كان سيسمّيه النظام عملًا غير أخلاقي أو غير جيد، إلى مطلب سوري حقيقي من أجل التوتر، والتوقّع، والصدمة. ولم يكن ذلك فقط، بل جعل الجمهور يفرّغ مكبوتاته بذكاء، ومن دون إحساس بالذنب. وزياد كان مضحكًا للسوريين لأنه كان يقول عنهم ما لا يقولونه، ثم لأنه كان يلعب على المسرح، ويلعب بهم. لقد أتاح زياد لكل أُذُن تسمعه حقًا مساحة للعب، والسخرية، وإنتاجها. ثم إنه تساوى معهم؛ فلقد أكّد أن الخذلان شيء يمكن أن يعيشوه، وأن الفشل فضيلة فنية، ولم يطلب منهم أبدًا أن ينتصروا، أو يموتوا، أو يضحّوا، بل إن كل شيء معطوب، وأن هذا لا يحتاج للندم، بل للضحك الحزين. لم يكن لأحد، مثل زياد، أن يقول للسوريين إن هناك متعة جمالية في الخذلان. زياد لم يؤسّس مدرسة، وهذا ما لم يفهمه الكثير من محاولي تقليده؛ لقد كان ضد المؤسسة، وضد المدرسة، بل ينفر منهما لسبب رئيسي: لأنه كان ضدّ الطهارة الفنية، ولأن الدراما والسينما لا تُشبِه – بحسبه – إذا لم تقدّم خيانة للعالم وتصوّره كما لو أنه شيء مفهوم ومُتماسك.

كان زياد في التسعينيات أيضًا قيمة، قيمة متبدّلة، هوية مضافة للمثقف السوري، وللشاب الذي يبدأ حياته، ويفكّر، ويقرأ. كانت صورة زياد تُعلق في البيوت والغرف؛ كثير من صوره كانت تُقصّ من جريدة "السفير" أو "الحياة" أو "النهار" إن وصلت الصحف ولم يمنعها النظام. هناك صورة له من إحدى مسرحياته انتشرت بين السوريين، ثم اخترق الفضاء العام مع عصر الصورة المطبوعة، وسكن المقاهي والأماكن العامة، حتى بعض المكتبات وضع له صورًا. كان مستمعو زياد نخبة، لكن نخبة هشّة وغير مثقفة بشكل تقليدي؛ لقد حاول النظام أن يجعل حضوره محدودًا في الانتشار، لكنه أدرك أن اليساريين والقوميين يحبونه، وأن غالبية معتقليه من الشبان في أواخر التسعينيات وما بعد الألفين يتمسّكون برمزيته. ظنّ النظام أن وقوف زياد مع حزب الله، مثلًا، سيفرّغه من رمزيّته كمضاد للسلطة، ولم يعرضه علنًا على التلفاز الرسمي، لكنه علم أن صورته تسلّلت بوصفها أيقونة مقموعة رمزيًا، لكنها حاضرة وبقوّة. كان زياد يُقاد إلى الفضاء العام بوصفه فعل مقاومة ناعمة، حيث كانت صورته تُجاور صورة الزعيم، لا كمنافسة بل كإرباك. وزياد حين دخل المقهى والمكتبة، صارت الأمكنة السورية شبكة رمزية، وانتماءً غير مُعلن ضد السلطة وتفاهتها وذائقتها، وكان هو نموذجًا معرفيًا غير طائفي، وغير سلطوي، وشعاراته قليلة.

ما أن وصل زياد إلى دمشق في العام 2008، خلال احتفاليتها كعاصمة الثقافة العربية، حتى أتمّ صلحًا مع شباب أحبوه منذ زمن. كان صلحًا غير مُعلن، واعترافًا متبادلًا ومدهشًا. لقد شاهده من كان يراه أسطورةً بعيدة، بعيدة من المسرح، بعيدة من الجغرافيا، بعيدة من الشاشة. لم يعد منفيًا، بل أصبح معترفًا به، حيًا أمامهم. كانت تلك لحظة تحوّل حارّة في عقول السوريين، وفي ذاكرة المحبة نفسها. وزياد نفسه ذُهل من كمّ المحبة التي وجدها، ومن سنوات الانتظار الطويلة التي لم يكن يعرف أنها كانت تحدث على الطرف الآخر من الحدود.

ذهب كثير من السوريين ليشاهدوه، لا ليصفّقوا فقط، بل ليشكروه، خفيةً وصراحةً. ليقولوا له: لقد كنا معك. حضور زياد في المسرح السوري كشف أن غيابه نفسه كان قيمة، وأن انعدام حضوره كان بمثابة موقف، فلما حضر، غنّى الأغاني نفسها، أغانيه التي حفظوها وكرروها وكتبوها في دفاترهم وقلوبهم. أغانيه السردية، "إني الفقير" و"الناس" و"اسمع يا رضا"، أغاني الموقف والحدث، والألحان التي ما زالت مذهلة.

زياد، بأغانيه، لم يخترق الذائقة، بل الوعي نفسه. الوعي الذي حاول النظام السوري أن يفرض عليه ذائقة جاهزة. لكن زياد قدّم فنًا ملتزمًا، وفي الوقت ذاته مشوّشًا، مفككًا، ساخرًا، وهنا تمامًا حصل التحوّل: أصبح زياد ثقافة، وأصبح معنى، وأصبح تجربة متأنسنة لا تُختزل في التصنيف السياسي أو الفني. ثم أن زياد وصل إلى سوريا بذاكرة السوريين المختلطة، لم يكن موضوعًا للفهم بل كـ"حدث يُفهم". لقد سكن وجدانهم من دون أن يُشرح، وشكّل حالة عصيّة على التحليل النمطي.

وهناك شيء تلقّفه العقل الجمعي السوري والعربي عمومًا: أن زياد بدأ متمردًا على الأم، على فيروز، وعلى الآباء الرحابنة، ثم أعاد اختراع فيروز داخل نصه ولحنه. لم يلغِها، بل أنسنها. أدخلها في الشارع، في الحب، في الشك، في السؤال. لم تعد فيروز مع زياد رمزًا للقداسة والنقاء فقط، بل تحوّلت إلى كائن يُحب ويُخذل ويغنّي للواقع، وليس فقط للمعنى السامي في الشعر، أو الأغاني المركبة بلغة صعبة على أجيال جديدة، ولا شعر الرومانسية العربية.. وبهذا التمرّد على الميراث الرحباني، لم يهدمه، بل اخترقه. كسر التوارث القيمي المغلق، وبات صوت فيروز، من خلاله، يدخل كل بيت كنقاش وتجربة إنسانية، لا كدعاء. لقد أخرج فيروز من "المذبح"، وأنزلها من "المسرح الطاهر"، لتصبح صوتًا حيًا بين الناس. الناس الذين أحبّوه، أحبوه لأنه لم يكن مؤديًا سياسيًا، ولا شاعرًا غنائيًا، بل كان يغني العادي والمخذول والمضطرب، ويحوّل ذلك كله إلى لحن جميل ذكي، يُشبههم أكثر مما يُشبه "الخطاب".

سيفقد زياد كل قيمته المتراكبة سورياً، ويخرج من طيات الاستماع السوري حينما صمت على جرائم الأسد. أصبح غريباً ومنزوعًا من يومياتنا، ومسرحياته لم تعد تُتبادل كما كانت من قبل. الهجوم عليه ثقافيًا بدأ يزداد، واكتشف كثيرون مواقفه السياسية المريعة أحيانًا. كان زياد في التسعينيات يُريد من أولئك الذين علّمهم الواقع والثورة أن يقتنعوا بأي حكم عسكري، وأن الحرية شيء لا يُستحق، وأن من يقف في وجهها هم "الحكماء". بقي زياد يملك شيئاً من قلب الجميع، لأنه سرد طويل لشخصية تمردت وتيقّظت واحتضنت وقالت. ثم أنه ابن فيروز التي تشكّلت في الوعي السوري كأم وكتاريخ. لكن ما لم يكن عادلاً في حق زياد، أنه قتل نفسه بنفسه؛ فقد تحوّل من فنان متمرد إلى كاهن سلطوي، تبنّى خطابًا استبداديًا باسم الواقعية، وانهار رأس ماله الرمزي مع انكشاف موقفه الرمادي من الأسدبل أسّس، من دون أن يدري، لما سمّاه إدوارد سعيد "تحييد الذاكرة"، فخان الذاكرة التي ساهم هو نفسه في صنعها، وتخلى عن أي مواجهة أخلاقية ممكنة. لقد وضع ثقافته وذاته على محك نقد قاسٍ، وكان يواجهه بجلافة لا تشبه إلا مثقفي الأنظمة الشمولية، لا مثقفي المقاومة.

وفي النهاية، يبقى سؤال عادل ومُلِحّ في السياق السوريهل غش زياد السوريين؟

الجواب المنصف ربما يكون: نعم.

كثيرًا ما كان زياد السوري وهمًا جميلًا، أو قشرة لثقافة لم تكن قائمة حقًا، بل مجرد متعة ذكية مغلفة بالخذلان.

 

####

 

أسامة حلاق: منديل العيون لزياد

المدن - ثقافة

لزياد
منديل العيون لزياد

وقمر ٌ من قلب من يموت

معانقاً مدينة من شموع في ضباب

قرر زياد الرحيل، أراد الرحيل قبل أن يتغلب عليه المرض، قرر أن تكون هذه اعتكافته الأخيرة.

لم أكن ـأتوقع أن يصعقني الخبر لهذا الحد.

منذ البارحة وانا أعيش كل ما مررت به مع زياد من العام 1976 إلى العام 1983، منذ قررت كتابة هذه الكلمات عن تجربتي مع زياد وعن شراكتنا الإنسانية والفنية لثماني سنوات، بما فيها من مر حلو، تأزمت نفسياً، خصوصاً عند مراجعتي للزمن الذي يسميه البعض بالجميل. طبعاً كان جميلاً عندما كنت أغنى على العزف الجميل لزياد على البيانو، تحت القصف الشقيق أو الأخوي في السبعينيات، في ظلمات ليل بيروت الطويل، على تهاويد أصوات زياد وجان شمعون في برنامج بعدنا طيبين قول الله، أو في زمن الاجتياح الإسرائيلي سنه 1982.

بدأت مسيرتنا في الإذاعة اللبنانية العام 1976، بأغنيه "لبيروت" من كلمات المرحوم جوزيف حرب، ذاك الوجه الأبوي الثاني لزياد، ومن أجمل ما عزفه زياد على البيانو ومن غنائي. ولحقها العديد من الأعمال التي رأت النور، وتلك التي بقيت في الأدراج.

كان فارق العمر بيننا 3 سنوات، إذ كان عمري حينها 16 عاماً وكان في عامه الـ19، ولا أنسي ممازحته لي: "مظبوط أنا أكبر منك بتلات سنين بس انت أطول مني بتلات أمتار". لطالما اعتبرت زياد أخاً كبيراً، وربما لفقداني أخاً كان يحمل الإسم نفسه صِلة.

لربما سمع المصلّون على روحه الجميلة في كنيسه انطلياس، قداساً، ترانيم أو تراتيل من تلك التي لحنها في تلك الفترة، لكافة الطقوس والكنائس في لبنان، عائداً بذلك إلى الجذور الموسيقية لوالده وعمه في بداياتهم في الموسيقى البيزنطيّة والروحانيّة الأرثوذكسيّة.

وداعاً لأروع موسيقي عرفه لبنان، والذي رسم الفرح والبهجة على مباسم أجيال، لكن الحياة لم تنصفه.
أخلص التعازي لأمه السيدة فيروز، لأخته ريما، لأخيه هلي ولعائله الرحباني الكبيرة
.

رحم الله زياد الصديق الصدوق، صاحب الرؤية الثاقبة على زمننا، المخلص لأفكاره في الدفاع عن الفقراء والمستضعفين.

الأغنيات التي تعاون فيها زياد وأسامة حلاق:

اغنيه لبيروت

غناء اسامه حلاق

كلمات جوزيف حرب

عزف بيانو زياد الرحباني

اقتباس وترتيب موسيقي لزياد الرحباني

لكونشيرتو دي آرانخويث من الحان خواكين رودريغو

تم التسجيل في اذاعه لبنان في العام 1976

أغنيه بيروت حبيبتي

كلمات نزار قباني

الحان اسامه حلاق

عزف بيانو زياد الرحباني

تم التسجيل في إذاعه لبنان العام 1980

أغنيه للطعنات

كلمات محمد علي شمس الدين

الحان وغناء اسامه حلاق

التوزيع الموسيقي وقياده الاوركسترا إحسان المنذر

عزف بيانو زياد الرحباني

تم التسجيل في استديو بيباس بيروت العام 1981 

أغنية زهرة التبغ

الحان وغناء أسامه حلاق

كلمات جوزيف حرب

عزف بيانو زياد الرحباني

التوزيع الموسيقي وقيادة الاوركسترا زياد الرحباني

تم التسجيل في استديو بيباس بيروت العام 1981

أغنيه الغجري المعلّب

كلمات محمد الماغوط

ألحان أسامه حلاق

غناء أسامه حلاق وفرقه النورس

ألتوزيع الموسيقي وقيادة الأوركسترا إحسان المنذر

عزف بيانو زياد الرحباني

رسوم ريمون عاصم

تم ألتسجيل في استديو بيباس بيروت العام 1981

نشيد القرى

غناء أسامه حلاق وفرقه النورس

الحان أسامه حلاق

كلمات للشاعر قبلان مكرزل

التوزيع الموسيقي وقياده الأوركسترا زياد الرحباني

رسوم ريمون عاصم 

تم التسجيل في استديو بيباس بيروت العام 1981

موسيقى زهرة التبغ 

الحان اسامه حلاق

عزف بيانو زياد الرحباني

التوزيع الموسيقي وقياده الاوركسترا زياد الرحباني

تم التسجيل في استديو بيباس بيروت العام 1981 

فيلم الانتفاضة

للمخرج قيس الزبيدي

الحان وغناء أسامه حلاق

عزف غيتار أسامه حلاق

عزف غيتار منفرد أديب شمص

عزف غيتار بلال بليق

عزف فلوت عماد الشامي

رسوم ريمون عاصم

تم التسجيل في بيروت العام 1978

 

####

 

//ملف// زياد الرحباني...تركنا على الأرض وراح

المدن - ثقافة

مات زياد الرحباني "أيقونة الشباب اللبناني"، الصوت المتمرد. كثر صدموا بالخبر، ذهلوا، صمتوا، ثم انتحبوا.. أبَوا أن يصدقوا "الخبر العاجل"، قالوا "معلومات مش أكيدة"، لكن الخبر كان "معلومات أكيدة" عنوان ألبوم لطيفة التونسية الذي لحنه زياد. عدم تصديق الخبر بديهي، فغالباً ما يكون موت النجوم الأساطير موضع شك، الشخصيات الراسخة في الوجدان، يصبح رحيلها من الأمور الصعبة والقاسية، ويتحول نوعاً من قصص درامية وحتى تراجيدية. والموت في هذا الزمن الخاوي والرديء في لبنان، كأنه قناع لموت عام، لموت الأشياء والمعاني والتفاصيل. "تركني على الأرض وراح" قال الفنان خالد الهبر، و"في وقت فراق"، إذا ما استعرنا الأغنية الفيروزية.

زياد الرحباني: في وقت فراق (محمد حجيري) السبت 2025/07/26

معجم زياد الرحباني: لغة ضد اللغة ومُتخيَّل الشباب والتمرّد (محمد حجيري) السبت 2025/07/26

فيروز تودّع ابنها والرؤساء يعزون.. رحل زياد الرحباني(المدن - ميديا) السبت 2025/07/26

شربل داغر: مع زياد الرحباني حين نسي اسم أمّه (المدن - ثقافة) السبت 2025/07/26

زياد السياسي.. بين "القوات اللبنانية" و"حزب الله" (نور الهاشم) الأحد 2025/07/27

بعد سخريته من الحرية: زياد الرحباني شوّه ذاته في مرايا السوريين (علي سفر) الأحد 2025/07/27

الموسيقار الذي "تفبرك" في مصر.. حينما تمنى زياد التلحين للشيخ إمام (أشرف غريب) الأحد 2025/07/27

مرافقو زياد الرحباني يروون حكاياهم معه في الغناء والتمثيل والحياة (هيام بنوت) الأحد 2025/07/27

زياد الرحباني: فيلسوف السخرية ومرآة الواقع (سيمون كشر) الأحد 2025/07/27

زياد عاصي الرحبانيّ: موت العبقريّ الأخير (أسعد قطّان) الأحد 2025/07/27

أن نفهم زياد في سوريا...لا أن نُدينه (نوار جبور) الاثنين 2025/07/28

كاسيت زياد الرحباني مُهَرّباً إلى القاهرة (أحمد عبد المنعم رمضان) الإثنين 2025/07/28

بالفيديو: الأم الحزينة في مأتم زياد...من حَضَر لمواساة فيروز؟(ميديا المدن) الإثنين 2025/07/28

 

المدن الإلكترونية في

28.07.2025

 
 
 
 
 

لبنان يودّع زياد الرحباني.. إلى المحطّة الأخيرة

بيروت/ ريتا الجمّال

ودّع لبنان، اليوم الاثنين، الفنان زياد الرحباني بمأتم أقيم في كنيسة رقاد السيدة في بلدة المحيدثة - بكفيا شمال شرق بيروت، بحضور حشد من الأصدقاء والمحبين والشخصيات الفنية والسياسية والثقافية والإعلامية، ومشاركة رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام ممثّلاً الرئيس جوزاف عون. قلّد سلام باسم رئيس الجمهورية الرحباني وسام الأرز برتبة كوماندور، وهو أرفع وسام في الجمهورية اللبنانية.

وعلى الخطّ الأمامي في الكنيسة، مع بدء مراسم الدفن، جلست السيدة فيروز إلى جانب ابنتها ريما وشقيقتها هدى حداد، وهي تنظر إلى الجثمان مغطية رأسها بدانتيل أسود اللون، مرتدية نظارتها السوداء، محاولةً إخفاء دموعها، فكانت تسارع إلى مسحها بمنديل لم يفارق يدها منذ الصباح.

وصلت السيدة فيروز نحو الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الكنيسة برفقة نائب رئيس البرلمان إلياس بو صعب وزوجته الفنانة جوليا بطرس، إذ جلست في صالون المعزين مع ابنتها وشقيقتها وأبناء منصور وإلياس الرحباني وأفراد العائلة، إلى جانب الممثلة كارمن لبس، رفيقة زياد الرحباني، التي كانت من أول الواصلين.

وعلى الرغم من عدم إعلان الدولة اللبنانية اليوم حداداً رسمياً، غصّ صالون الكنيسة بالوفود التي توالت لتقديم واجب التعازي برحيل زياد، وتوجه بعضهم نحو السيدة فيروز وانحنوا معزّيين إياها برحيل شخصية استثنائية بالنسبة إليهم.

وانتهت مراسم العزاء في الكنيسة، ليُحمل نعش الرحباني مغادراً الكنيسة، متّجهاً إلى محطّته الأخيرة في مدافن العائلة.

وعبّر المشاركون في وداع زياد عن حزنهم الكبير لرحيل شخصية استثنائية كانت بالنسبة إليهم الرفيق، والصديق، والمعلّم، والملهم، وحامل القضايا الوطنية والقومية والاجتماعية.

وقال الأمين العام للحزب الشيوعي حنا غريب لـ"العربي الجديد" إن زياد الرحباني هو علم من أعلام لبنان ورمز من رموزه ومركز اعتزاز وفخر لكل لبناني وعربي وأممي، "وقد ربط قضيته الوطنية بقضيته الوطنية القومية وقضية فلسطين وقضية الإنسانية وتحررها، وتحرر الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة من الاستعمار والاستغلال والفقر والظلم، كبر لأن قضيته كانت كبيرة". وأضاف: "هذه النوعية من المبدعين والعباقرة الذين تحدوا المشكلة الكبيرة أتوا كباراً ويرحلون كباراً". 

من جهته، قال جورج وديع الصافي لـ"العربي الجديد": "زياد كبير ابن كبار، خسرناه بالجسد لكننا ربحنا أعماله التي لا تموت. كنا نأمل إعلان الحداد الرسمي على وفاته، لكن يبدو أن المعنيين لا يقدّرون الكبار مثل زياد الرحباني".

وقال الاعلامي نيشان ديرهاروتيونيان: "أتينا إلى بكفيا كي نقف إلى جانب عائلة زياد والسيدة فيروز. هذا عزاء مشترك لكل اللبنانيين برحيل المبدع العبقري زياد الرحباني. الاسم يكفي والكنية ستبقى لصيقة بالوطن. كلما قلنا لبنان نقول وطن فيروز وطن عاصي، وطن منصور وإلياس، وزياد الرحباني".

أما الممثل حسين قاووق فقال لـ"العربي الجديد": "نأمل ألا يخسر الجيل الجديد زياد الرحباني، ويبقى مواكباً له ولموسيقاه وأعماله مدى العمر".

ومع انتهاء مراسم الدفن، حمل المشاركون نعش زياد الرحباني إلى السيارة على وقع تصفيق المعزين، الذي استمر أكثر من دقيقتين دفعة واحدة، وترداد أغانيه، ملقين عليه تحية الوداع الأخيرة، بدموع انهمرت على وجوههم.

وقال رئيس مجلس الوزراء نواف سلام: "أتكلّم حيث تختنق الكلمات. أقف بخشوع أمام الأم الحزينة، والعائلة، والأصدقاء.. ولبنان كله شريك في هذا الحزن الكبير. زياد المبدع العبقري، كنتَ أيضاً صرخة جيلنا الصادقة، الملتزمة قضايا الإنسان والوطن. وقد قلتَ ما لم يجرؤ الكثيرون منّا على قوله. أما "بالنسبة لـبكرا شو" فللأجيال القادمة، ستبقى يا زياد، صوت الجمال والتمرّد، وصوت الحق والحقيقة حين يصير السكوت خيانة".

 

العربي الجديد اللندنية في

28.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004