سمعتُ زياد الرحبانى للمرة الأولى في حياتي في منتصف
التسعينيات، كنت في العاشرة من عمري. ثمة صوتان يتشاركان الغناء، سأعلم
لاحقًا أن الصوت الناعم هو صوت جوزيف صقر والصوت الأجش هو صوت زياد. حدث
ذلك عندما أتى أحد أصدقاء والدي إلى بيتنا ومعه شريط لزياد بعنوان "بما
إنو"، بدا الأمر شبيهًا بعمليات التهريب، فالإنترنت لم تكن موجوة فى مصر
حينها، والشريط – كنا نسميه هكذا فى ذلك الزمن -لم يكن متوفرًا هنا أيضًا.
دسسنا الشريط فى جهاز الكاسيت، كانت الأغاني غريبة على أذني، مختلفة عما
اعتدت سماعه، ضحكت كثيرًا لبعض الأغنيات وعلقت في ذهني جملة وحيدة وهى (بما
إنه العيشة سودا ومش بيضا، اجتمعنا وقررنا نسلق بيضة، شي مغذي، شي خفيف، شي
مطمئن، شي مخيف). لم أحفظ اسم المغني في ذلك الحين، لكن مع ظهور الإنترنت
ومع قليل من البحث وصلت إليه وسمعت المزيد من أغانيه.
فى العام 2004، سافر أبي إلى لبنان في زيارة سريعة، طلبت
منه قبيل سفره أن يأتيني ببعض من شرائط زياد الرحباني، ووعدني بذلك. وكغريب
يقضي بضعة أيام في بيروت، طلب والدي من إحدى صديقاته اللبنانيات أن تأتيه
بالشرائط المطلوبة، ثمة خطأ لغوي حدث في ذلك الحين، خطأ أشبه بمشكلة الألف
واللام في قرار 242 لمجلس الأمن، فبدلًا من أن تشتري الصديقة شرائط لزياد
الرحبانى، اشترت شرائط زياد الرحباني، أي كلها، أغانيه ومسرحياته، حفلاته
وبرامجه، كل شيء، وهو ما كلفها – وبالتالي كلف والدي المغلوب على أمره– ما
يزيد عن المئة دولار. قضيت شهورًا في استكشاف تلك التسجيلات المتنوعة، سمعت
الشرائط الغنائية وبعض المسرحيات مثل "فيلم أميركي طويل" و"شي فاشل" و=لكن
أكثر ما لفت نظري، شرائط الثلاثة التي ضمت حلقات برنامجه الإذاعي "العقل
زينة". غير أن الجملة ألتي تلح عليّ الآن ليست واحدة من أقواله الشهيرة في
البرنامَج، بل سؤاله الأشهر، "بالنسبة لبكرا شو؟"
"بالنسبة
لبكرا شو؟" لم يكن مجرد اسم لمسرحية كتبها وأخرجها وقدمها زياد الرحباني في
السبعينيات، لكنه سؤال ظل يلح على زياد ويطارده دومًا في كل وقت وكل زمن،
وربما سلب من صحته ومن نفسه الكثير، حتى بدا أن "بكرا" الظاهر في الأفق،
الغد الذي يلوح أمامنا، لم يعد يناسبه ويتوافق مع أفكاره وتصوراته، فخرج من
الصورة كلها، خرج بهدوء ومن دون ضجيج، وكأنه ترك العالم بإرادته، تركه
غاضبًا ومشيرًا له بإصبعه الأوسط، وربما ردد بصوته هو في هذه المرة:
" أنا
صار لازم ودّعكن .. وخبّركن عنّي".
***
لا أعلم ما الذي جذبني إلى زياد وأغانيه في أول مرة، هل هي
غرابة الكلمات أم تفرد الموسيقى أم ثورية الأفكار أم روح التمرد التي تجمع
كل هذا كما تتجلى في نبرات صوته المميزة. أظن أنني وبشكل فطري رأيت هذه
الروح المتمردة حتى أبهرتني، وبمرور السنين تبينتها بشكل أوضح، ولمست مدى
حريتها وثوريتها وقدرتها على المواجهة، فتمرد زياد لم يكن غنائيًا فحسب،
لقد تمرد على النظم السياسية، تمرد على الطائفية، وعلى طائفته نفسها، تمرد
على الدين، على الإرث العائلي، على موسيقى الرحبانية، على مظاهر الظلم
المستشري، على التقديس والتأليه، على منظومة التقاليد والأعراف، على الوسط
الغنائي ونجومه، على التفاهة، على العالم كله.
تلقفتني أغاني زياد بعد ذلك واحدة تلو الأخرى، في كل فترة
من حياتي أصير متيمًا بإحداها بشكل خاص إلى أن أنتقل لأخرى، بدأت الرحلة مع
"بلا ولا شي" في فترة المراهقة، حيث أحببت على أنغامها ورددتها في خيالي
لمحبوباتي، إلى أن شعرت أن انتشار الأغنية الكبير أدى إلى ابتذالها وإلى
استخدامها بشكل سطحي أجوف، فانتقلتُ إلى أغنية "أنا والله فكري هنّيك" في
فترة الغليان والغضب السياسي ما قبل ثورة يناير، وأعقبتها أغنية "شو
هالأيام اللي وصلنالها" في فترة 2011 و2012، إذ بدت كمانيفستو ثوري
اشتراكي، وأخيرًا غنينا جميعًا مع زياد "يا نور عينيا، رُحنا ضحية، ضحية
الحركة الثورية."
فى نهاية العقد الأول من الألفية، انتشرت أخبار عن حفلة
مزمع عقدها لفيروز في مصر، وقيل أن التذكرة ستساوي 500 جني، كان رقمّا
كبيرّا في ذلك الحين، فبدأت فى التخطيط لتدبير المبلغ، إلا أن الخبر خفت
واختفى من كل المواقع والأخبار، ولم تتم تلك الحفلة قط. لكن بعد شهور
قليلة، وتحديدًا فى شتاء 2010 تم الإعلان عن حفلة لزياد الرحباني في ساقية
الصاوي ضمن مهرجان القاهرة للجاز. لم أتردد للحظة وقررت أن أغتنم الفرصة
التي ربما لا تواتيني مرة أخرى، غير أن القدر كان كريمًا معي، وحضرت له حفة
أخرى بعد ثلاثة أعوام، يومها أحاط بالحفلة قدر من الجدل بسبب موقف زياد من
الصراع السوري، إلا أن غالبية جمهوره قررت أن تحضر الحفلة وتستمتع بموسيقاه
وأغانيه ومداخلاته بغض النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع رأي زياد فى هذا
الصدد. وكانت الحفلة أوسع هذه المرة، إذ أقيمت في حديقة الأزهر وبدا أن
مربعًا من ساحة ميدان التحرير قد انتقل إلى هناك لليلة تجمُّع أخيرة لرفاق
2011.
***
" يا
جماعة لازم خبّركن .. هالقصة عنِّي
أنا كل شي بقوله عم حسّه .. وعم يطلع منِّي"
بدأت موهبة زياد في البزوغ بشكل مبكر جدًا، فى سنين مراهقته
حيث لحن أغنية "سألوني الناس" لأمه فيروز ومن كلمات عمه منصور الرحباني وهو
في منتصف عقده الثاني، كانت الأغنية بمثابة رثاء لوالده الراحل عاصي
الرحباني، ثم توالت ألحانه ومن بعدها كلماته لأغنيات فيروز، إضافة إلى
كتاباته وألحانه لنفسه في مسرحياته وشرائطه الخاصة، وكذلك قطعه الموسيقية
الخالصة، سواء التي تنتمي للجاز أو لألوان أخرى، مع بعض التعاونات مع
مطربات أخريات بين حين وآخر.
امتزجت في وجدان زياد، موسيقى سيد درويش بموسيقى الرحبانية
وأنغام الجاز، حتى طوّر بصمته الخاصة وشكله المميز، واستطاع أن يوجد مكانًا
لنفسه، لزياد الرحباني. لم يصبح ظلًا لوالديه، لم يكن مجرد ابنًا لفيروز،
لم يقع في هذا الفخ، وصار كيانًا مستقلًا متفردًا. ورغم أنه ذاق النجومية
في تلك السن المبكرة، إلا أنه كان أنضج وأوعى من أن تخطفه أضواؤها، بل
طوعها لمصلحة فنه ولخدمة أفكاره.
تنوّع إنتاج زياد الفني بشكل لافت، بين ألحان شرقية وموسيقى
غربية، بين كلمات مغرقة في رومانسيتها أو أفكار رصينة عندما يكتب لفيروز،
وبين كلمات ساخرة ومتمردة عندما يكتب لنفسه أو لمسرحياته معبرًأ بها عن
سخطه على العالم وغضبه من الأوضاع المحيطة. أبدع زياد بأشكال متعددة وألوان
مختلفة، بدت كلها صادقة وحقيقية، تاركًا لنا إرثًا غنيًا ومتنوعًأ من الأمل
والتمرد والغضب والحب.
***
"ودايماً
بالآخر فيه آخر، فيه وقت فراقْ "
تحتشد
أغاني زياد بالتأمل فى مشاعر الفقد والاشتياق بداية من أولى أغنياته
"سألوني الناس" مرورًا بأغنيات "كيفك إنت" و"سلملي عليه" و"اشتقتلك" و"صبحي
الجيز" و"شو بخاف" وألبوم "إلى عاصي" وغيرها من الأغاني، أعتقد أن زياد كان
يخشى الوحدة والفقد بشكل خاص، ربما منذ فقد والده وكان لا يزال شاباً
يافعاً، وكذلك مشاعره تجاه رفاقه الحقيقيين أو الوهميين، مثل "صبحي الجيز"
و"أبو علي".
بخلاف الأغاني والمسرحيات و"العقل زينة"، أسرتني بشكل خاص
مقطوعات زياد الموسيقية مثل "وقمح" و"ميس الريم" و"أبو علي"، صدرت
المقطوعتان الأخيرتان في شريط واحد بنهاية السبعينيات تحت عنوان "أبو علي"،
وحكى أن "أبو علي" هو صديقه ورفيقه، كان معه فى البيت فى بيروت الغربية
عندما تعرضت المنطقة لقصف مبرح في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، يومها
غطتهما الأدخنة ومنعت عنهما الرؤية، إلا أن "أبو علي" استطاع أن يخرج من
البيت ويركب سيارته، لكن قبل أن يتحرك أصابه صاروخ أودى بحياته، هل هذه
القصة حقيقية أم أنها جزء من العمل الفني الإبداعي؟ لا يهم، المهم أن زياد
وثق هذه القصة في قطعة موسيقية تستطيع وأنت تسمعها أن ترى أبو علي وهو يفر،
وتخنقك الأدخنة التي تلفهما وينتابك القلق والتوتر والحزن والألم.
***
بكرا برجع بُوقَف معكُن
اذا مش بكرا الْـ بَعده أكيدْ
إنتوا احكوني وأنا بسمعكُن
حتّى لولا الصوت بعيدْ
لا يجوز اختصار زياد الرحباني في صورة المتمرد صاحب المواقف
السياسية الثورية، وكذلك لا يجوز اختصاره في موسيقاه وفنه وحدهما، فهو حالة
فريدة يمتزج فيها الشقان معا ويختلطان ليكوّنا نسيجًا واحدًا، فيتمرد في
الموسيقى ويغني في ثورة، ليُخرج لنا مزيجًا ساحرًا وخلابًا اسمه زياد
الرحباني. مزيج يصعب أن يولد ويوجد مثله الآن فى عالمنا العربي البائس،
ربما فى أزمان أخرى، غير زمننا الحزين.
وفي هذه اللحظة، لحظة الفراق، لحظة الهزيمة وقلة الحيلة،
لحظة تراجع الأمل والشعور بالخيبة، يتردد في ذهني سؤالان: "شو هاالأيام
اللي وصلنالها؟" و"بالنسبة لبكرا شو؟"
رحل
أبو الزوز بجسده عن عالمنا، ولكن موسيقاه وأغانيه المتمردة وإبداعه المتنوع
ستبقى لسنين وعقود، سيتردد صداها عبر الزمن، وستصير ملهمة لأجيال قادمة
ربما تكون أوفر حظًا وأعلى شأنًا.
***
بلا موسيقتنا الليلة حزينة
بلا غنّية ليلي بيطول
كل ليلة بغنّي بمدينة
وبحمل صوتي وبمشي عَ طول |