وداع رسمي وشعبي لزياد الرحباني
يخطف الأضواء من الاستحقاقات السياسية والأمنية
سعد الياس
بيروت-«القدس العربي»: لليوم الثاني على التوالي، خطف وداع
الفنان المبدع زياد الرحباني الأضواء من امام كل الاستحقاقات السياسية
والأمنية إذ فتحت القنوات التلفزيونية والاذاعية هواءها المباشر منذ الصباح
لمواكبة الوداع الكبير لأحد أعمدة الفن اللبناني والعربي الذي ودّعه
اللبنانيون على اختلاف انتماءاتهم السياسية والطائفية، وشاركوا والدته
السيدة فيروز حزنها العميق هي التي أطلّت متشحة بالسواد بعدما إحتجبت
لسنوات عن الظهور الاعلامي بإستثناء صورة وحيدة لدى استقبالها الرئيس
الفرنسي إيمانويل ماكرون غداة انفجار مرفأ بيروت.
وغصّت الطرقات في محيط مستشفى خوري في الحمراء بالحشود
الشعبية لوداع زياد الرحباني الذي جسّد هموم الناس وآمالهم بكلمة صادقة
ولحن لا يُنسى مبتعداً عن الأطر التقليدية، ليرسم لنفسه مساراً نقدياً
وفكرياً جريئاً، وقدّم التعازي في كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة بكفيا
رئيس الحكومة نواف سلام ممثلاً رئيس الجمهورية العماد جوزف عون ونائب رئيس
مجلس النواب الياس بو صعب ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه بري إضافة إلى
اللبنانية الأولى نعمت عون وعقيلة رئيس مجلس النواب رنده بري والرئيس أمين
الجميل ووزراء ونواب وفنانين وشخصيات سياسية وحزبية واعلامية وأفراد أسرة
الرحباني.
وألقى رئيس الحكومة كلمة في خلال مراسم الدفن جاء فيها:
“أتكلم حيث تختنق الكلمات. أقف بخشوع أمام الأم الحزينة، والعائلة،
والأصدقاء، ولبنان كله شريك في هذا الحزن الكبير. زياد المبدع العبقري،
كنتَ أيضًا صرخة جيلنا الصادقة، الملتزمة قضايا الإنسان والوطن. وقد قلتَ
ما لم يجرؤ الكثيرون منّا على قوله”. وأضاف “أما بالنسبة لـ “بكرا شو”،
فللأجيال القادمة، ستبقى يا زياد صوت الجمال والتمرد، وصوت الحق والحقيقة
حين يصير السكوت خيانة”.
وتابع رئيس الحكومة “أيها الأحبة، قرّر السيد رئيس
الجمهورية العماد جوزف عون منح الفقيد الغالي وسام الأرز الوطني من رتبة
كومندور، وقد كلّفني، فتشرّفت، أن أُسلّمه اليوم إلى العائلة الكريمة،
متقدمًا منها، باسم الرئيس وباسمي الشخصي، بأحرّ التعازي، سائلاً القدير أن
يتغمّده بواسع رحمته”.
أما المطران سلوان موسى الذي ترأس مراسم الدفن، فقال في
عظته “السيدة فيروز غادرها اليوم زياد، ولكن أولادك كثر وموجودون في كل
مكان ويستفيقون وينامون على صوتك الذي “يقدح” جبل الصوان، والله يبارك فيكم
آل الرحباني لأنكم جعلتم منا عائلة في الوطن”، معتبراً “أن زياد الرحباني
غيّر الواقع ولم يسمح بانكسارنا وهو مغوار عرف أن يذهب إلى الخطوط الامامية
في الدفاع عن الانسان”.
نقل جثمانه على وقع أغنياته
وبينما كان لبنان يودع أمس فنانه المسرحي والموسيقي الكبير
زياد الرحباني الذي توفي السبت عن 69 عاماً، تجمّعَ المئات من محبيه صباحا
أمام أحد مستشفيات بيروت لمواكبة نقل جثمانه إلى منطقة جبلية شمالي شرقيّ
بيروت تقام فيها مراسم دفنه بعد الظهر.
وتجمّع أكثر من ألف من محبي الرحباني أمام مستشفى “بي أم
جي” منذ ساعات الصباح الأولى بعدما تداعوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي
ومجموعات الدردشة.
وأحضر كثر من هؤلاء وروداً بيضاء وحمراء وباقات أزهار، وحمل
عدد منهم صوراً للرحباني كُتب على بعضها “بَلا وَلا شي…بحبّك”، في إشارة
إلى عنوان إحدى أغنياته. وراح الحاضرون يتبادلون التعازي فيما صدحت ألحان
الراحل وصوته عبر سيارات كانت تمر في الشارع، ثم تحلقت مجموعة من المشاركين
راحوا ينشدون أغنيات الراحل ومنها “لأول مرة ما منكون سوا”، باكورة ألحانه
لوالدته فيروز.
ولدى خروج السيارة المخصصة لنقل الجثمان من المستشفى
يتقدمها درّاج من الشرطة، علا التصفيق على وقع قرع أجراس كنيسة المنطقة،
وراح الحاضرون الذين أجهش كثر منهم بالبكاء ينثرون عليها الأزهار والأرُزّ،
ويطلقون الزغاريد، وكذلك فعل آخرون من على شرفات منازلهم في هذه المنطقة
التي كان الرحباني يسكن قريبا منها، واقام الاستديو الخاص به فيها، ويمضي
وقته في مقاهيها وحاناتها.
وطالب البعض بإخراج النعش من السيارة لتمكين المتجمعين من
إلقاء النظرة الأخيرة عليه وحمله والطواف به في المنطقة العزيزة على قلب
الراحل. وكرر متجمعون دعوات تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي في اليومين
الأخيرين بإعلان الحداد الوطني وتنكيس الأعلام اللبناني نظرا إلى مكانة
الراحل.
ومع أن المتجمعين كانوا متنوعين، غلَب حضور مؤيدي الأحزاب
اليسارية، إذ كان الرحباني، وهو الابن الأكبر للفنانة فيروز والملحّن عاصي
الرحباني، شيوعي الهوى. وقال الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب
إن زياد “فنان كبير ثائر حمل قضية الإنسانية (…) وكان يريد لبنان
ديموقراطياً علمانياً ولاطائفياً”. ورفع عدد من المشاركين العلم الفلسطيني،
ووضع آخرون على أكتافهم الكوفية، في تحية للراحل الذي كان مناصرا للقضية
الفلسطينية.
وحمل البعض ملصقا بتوقيع “أصدقاء المناضل جورج عبدالله”،
يجمع صورة الرحباني مع صورة هذا الناشط اللبناني المؤيد للفلسطينيين الذي
عاد الجمعة، في اليوم السابق لوفاة الفنان، إلى مسقط رأسه في شمال لبنان
الجمعة بعد أن أمضى أكثر من 40 عاما خلف القضبان في فرنسا لادانته بالتواطؤ
في اغتيال دبلوماسيين أميركي وإسرائيلي في ثمانينات القرن الماضي.
وقال الممثل المسرحي زياد عيتاني الذي كان مشاركا في التجمع
لوكالة فرانس برس “جئت لأنني اعتبر نفسي من جيل الزياديين (…) لقد ساهم
الرحباني في تشكيل ثورتنا وبناء وعينا السياسي وشخصيتنا. خسارة”. وأضاف
دامعا “أمي سمّتني على اسمه بعد إحدى مسرحياته”.
موسيقى ومسرح
واشتهر الرحباني بمسرحياته التي أنتجها خلال الحرب الأهلية
اللبنانية (1975-1990) وسخر فيها من واقع سياسي اجتماعي شديد التعقيد. ورغم
انتمائه السياسي المعلن، حظي بشعبية واسعة في كل فئات الشعب اللبناني. ومَن
لم يتسنَ له حضور هذه الأعمال في الشطر الغربي من بيروت، حيث كان زياد
يقيم، بسبب انقسام العاصمة اللبنانية حينها بين طَرَفَي النزاع، استمع إلى
تسجيلات لها على أشرطة كاسيت كانت منتشرة بكثافة، وكان سكان بيروت الشرقية
الموالون للمعسكر السياسي والعسكري المواجِه للأحزاب اليسارية، يحفظون نصوص
هذه المسرحيات عن ظهر قلب.
كان زياد الرحباني المولود في الأول من كانون الثاني/يناير
1956 كاتبا وملحنا وموسيقيا ومسرحيا، أضحك الجمهور كثيرا بنقد ساخر، لكنه
حاكى به الواقع اللبناني المرير من الانقسامات الطائفية والعصبيات
والتقاليد والإقطاع. وبدأ زياد الرحباني مسيرته الفنية مطلع سبعينات القرن
العشرين مع مسرحية “سهرية”، ولم ينج من انتقاداته فن والديه التقليدي
والفولكلوري.
وحصدت مسرحياته في السبعينات والثمانينات نجاحا كبيرا، وقد
اختصر فيها مشاكل المجتمع اللبناني وطوائفه التي كانت تغذّي آنذاك نار
الحرب الأهلية. لحّن أغنيات كثيرة، قسم كبير منها لوالدته فيروز، ولغيرها
من الفنانين الذين عملوا معه. وقد ساهم وفق خبراء في “تجديد فيروز وتطوير”
أعمالها لمواكبة الزمن اعتبارا من التسعينات.
وشكّل رحيل زياد الرحباني أحد أكثر المواضيع تداولا على
منصات التواصل الاجتماعي في لبنان والعالم العربي في اليومين الماضيين، إذ
نشر عشرات مشاهير الفن والثقافة والإعلام ومعهم آلاف المستخدمين الآخرين
رسائل رثوا فيها الفنان “العبقري”. كما جرى التداول على نطاق واسع بمقاطع
فيديو من أعماله ومقابلاته. |