ملفات خاصة

 
 
 

ختام اللحّام لـ"النهار":

زياد روح تشبه الوطن الجريح... لا أستطيع تصوّر موقف فيروز! (فيديو)

إسراء حسن - المصدر: "النهار"

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

"يجب أن يُصنع له تمثال، أو يُطلق اسمه على شارع، فهذا أقلّ ما يمكن تقديمه لزياد"

في لحظة وداع الموسيقار زياد الرحباني، لا تجد الممثلة القديرة ختام اللحام كلمات تُؤاسي وجعها. فالكبير الذي غاب، بالنسبة إليها، ليس مجرّد فنان استثنائي تعاونت معه، بل حالة نادرة يصعب تكرارها، وروح تشبه الوطن الجريح، صادقة، إنسانية، ورافضة للتزييف.

وفي اتصال هاتفي مع "النهار"، لم تُخفِ اللحام ألمها العميق، قائلة: "رحمه الله... لكن على الدولة أيضاً أن تكرّمه وتفعل شيئاً يخلّد ذكراه. يجب أن يُصنع له تمثال، أو يُطلق اسمه على شارع، فهذا أقلّ ما يمكن تقديمه لزياد، فهو محبوب الجميع، وليس فقط محبوبي أنا. إنها خسارة كبيرة للبنان وللعالم بأسره".

ترى اللحام في زياد شخصية استثنائية بكل المعايير، موضحة: "زياد حالة استثنائية، لا أظنّ أن الزمن سينجب شخصاً مثله. لقد أثّر في الشباب وفي الجميع، وكان سابقاً لعصره في كل شيء. كان إنساناً مثقفاً، مطّلعاً على كل ما يجري، ولم يكن هناك أمر تحدّث عنه ولم نرَه بوضوح".

ولا تنسى إنسانيته العميقة التي كانت ترافقه في كل لحظة: "كان يشعر بالناس، خصوصاً الطبقة الفقيرة. لكن المرض، تشمّع الكبد، أنهكه. ومما أعرفه وسمعته، أنه في الفترة الأخيرة رفض الخضوع لأي جراحة أو علاج لأنه كان قد تعب كثيراً".

وعن التعاون الفني الذي جمعها به مع الفنان جوزف صقر في "ليه عم تعمل هيك"، تستعيد اللحام هذه اللحظة كمن يفتح كنزاً دفيناً: "تعاوني معه كان محطة مهمة جداً في مسيرتي الفنية. أن أتعرف إلى هذا الإنسان عن قرب، كان ذلك مكسباً كبيراً لي. فهو إنسان لا يُنسى، أبداً لا يُنسى. وأنا شخصياً لا أصدق حتى الآن، لا أصدق... حتى حين نجلس معه، كانت الابتسامة لا تفارقه. رحمه الله".

وتتابع بتأثّر: "كلامه، حتى عندما يتحدث عن المعاناة، كان يمرّرها بأسلوب مذهل. لا يمكن لأحد أن يكون مثله، لا يأتي مثله. حين عملتُ معه في الاستوديو، كنا قد تعاونا، وجاءني عرض عمل يتعلق بسوريا. فقال لي مازحاً: آه، اذهبي للمجد، اتركينا، ستذهبين وتشتهرين. وضحكت، فقلت له: زياد، لقد عُرض عليّ دور تمثيلي. فقال لي: الله يوفقك، وهو يضحك".

وفي لحظة استذكار مؤلمة، تتوقف عند معاناة والدته السيدة فيروز، قائلة: "رحم الله زياد، فهي تألّمت مرتين: مرة حين فقدت ابنتها ليال، والآن... لا أستطيع أن أتصوّر حالها. وإذا كان الناس كلهم بهذا القدر من الحزن، فكيف تكون حال الأم؟".

وتختم حديثها بنداء يحمل وجع المحبة والإيمان بقيمة من رحل: "يجب أن تبقى ذكرى زياد حيّة، لأنه ربّى أجيالاً، ربّى أجيالاً وهو مدرسة... زياد مدرسة، رحمه الله".

 

####

 

زياد الرّحباني

رحل زياد ولكنّه باقٍ بإرثه وعبقريّته...

المصدرالنهار - *وليد حوراني

في أحد الأيّام، خلال إحدى رحلاتي إلى لبنان في السّبعينيّات من القرن الماضي، تسنّى لي أن أستمعَ إلى أعمالِ زياد الرّحباني على الرّاديو. وبينما كنتُ في بيروت، أُجريَتْ لي مقابلةٌ مع أَحَدِ المراسلين، ولم أستطعِ الانتظارَ للتّعبيرِ عن رأيي، فقلتُ له: "زياد الرّحباني عبقريٌّ لبنانيٌّ أصيلٌ". كان زياد في ذلك الوقتِ مُجَرَّدَ مراهقٍ، بينما كنتُ في منتصفِ العشرينيّاتِ من عمري. وحين قرأَ زياد ذلك في الصّحافةِ، أصرَّ على دعوتي لتناولِ الغداءِ، فقبلتُ الدّعوةَ بكلِّ سرورٍ، وكان ذلكَ اللّقاءُ بدايةَ صداقتِنا

لم أنسَ أبدًا، قبلَ سنواتٍ من ذلكَ، أثناءَ زيارةٍ قمتُ بها لوالِدَيّ زياد في يومٍ من أيّامِ الصّيفِ في قريةِ المحيدثة قرب بكفيّا، كيف قالَ والدُهُ عاصي مازحًا: "تعا شوف هالدّيّوث شو كاتب: رقصة الحشّاشين". كانت تلكَ قطعةً موسيقيّةً على البيانو ممتعةً للغاية. وكان زياد آنذاك في التّاسعةِ من عمره عندما أَلَّفَها!

لحسنِ حظّي، كان مقرُّ زياد الرّحباني في منطقةِ رأسِ بيروت الّتي أعرفُها جيدًا. في كلِّ رحلةٍ إلى لبنان، كان زياد يرحّبُ بزياراتي إلى شقّتِهِ وإلى الأستوديو الّذي سمّاه: "نوتا". كنتُ أحسدهُ على مهاراتِهِ الارتجاليّةِ في الجاز على البيانو وأُعجَبُ بمؤلّفاتِهِ الموسيقيّةِ البارعةِ. أحيانًا كان يعطيني أشرطةً لأعمالِهِ الحديثةِ.

في إحدى المناسباتِ، كنتُ في أستوديو زياد أعزفُ على البيانو بشكلٍ عشوائيٍّ عندما دخلَ فجأةً عازفُ إيقاعِ جاز أميركيٌّ شابٌّ، وبدأ يرافقني على الطّبلِ. أمّا زياد، "ذلك الدّيوث"، فكان يسجّلُ عزْفَنا سرًّا. وحين عزَفْنا اللّحنَ الأخيرَ، صرخ بلهجتهِ العامّيّةِ المميّزةِ: "عْطُونا وِحْدِة تانَية"! لم تتركْ كلماتُهُ المحفّزةُ الّتي سُمِعَتْ على الشّريط لي خيارًا. فعزفتُ واحدةً أخرى مع عازفِ الطّبلِ المرْتَجِلِ بينما ﭐستمرَّ زياد في التّسجيلِ. تلك الأيّامُ كانت أيّامَ "الدّيناصورات" لأجهزةِ الكاسيت. وها أنذا أحتفِظُ بذلك الشّريطِ كبؤبؤِ العينِ...

أثناءَ رحلةٍ أخرى إلى بيروت، عرضَ عليَّ زياد لحنًا تقليديًّا لباخ Bach كان قد أَلَّفَهُ. كتبَ نوتاتهِ وأعطاني إيّاه قائلًا: "خُذْ هذا اللّحنَ المُسمّى: «إلى باخ» وﭐنظُرْ ما يمكنُ أن تفعلَ بهِ".

حالَتْ جولاتي الموسيقيّةُ دون بذلِ الجهدِ المطلوبِ. وحين تسنّى لي ذلكَ، تناولتُ اللّحنَ بشَغَفٍ، وكتبتُ تأليفًا موسيقيًّا للبيانو مع مقدّمةٍ تشبهُ الأرغنَّ، ثم سكبتُ قلبي في ﭐبتكارٍ موسيقيٍّ طويلٍ قبلَ أن أضيفَ لمسةَ جازٍ بأسلوبِ "بوغي ووجي" boogie woogie. وفي زيارةٍ لاحقةٍ إلى لبنان، قدّمتُ العملَ لأوّلِ مرّةٍ في الجامعة الأميركيّةِ في بيروت. ولكن للأسف، لم يكن زياد موجودًا في لبنان وتاليًا لم يسمعْهُ. فسّجلتُهُ في ما بعدٍ على قرصٍ مُدمَج، لكنّني فقدْتُ الاتّصالَ بذلكَ "الدّيّوث" الّذي يعيشُ حياةَ ﭐبنِ بطّوطة.

وقد تشرّفتُ في أحَدِ الأيّامِ بمرافقةِ ريما الرّحباني أختِ زياد، إلى منزلِ والدتِها فيروز. فعزفْتُ لهما قطعتي الموسيقيّةَ على البيانو بعنوان: "إلى باخ وما بعده"، وبعنوان فرعيٍّ: "كورال وﭐبتكارٌ على لحنٍ لزياد الرّحباني". على الأقلّ سمعَتْ فيروز اللّحنَ. لكنّني لم أعرفْ ألبتَّةَ ما إذا كان زياد قد سمعَهُ، وهذا ما يؤلمني...

السّيّدة فيروز العزيزة،

بقلبٍ دامٍ، أرسل إليكم وإلى العائلة الكريمة أحرّ التّعازي والمواساة من شواطئ الولايات المتّحدة الأميركيّة البعيدة بمناسبة انتقال ابنكم زياد الّذي كان كنزًا للبنان وللعالم العربيّ. سأفتقده دائمًا.

رحل زياد ولكنّه باقٍ بإرثه وعبقريّته...

 

####

 

زياد الرحباني نحن منافقون

المصدرالنهار - احمد زريقة

رحل زياد، رحل العبقري، رحل النابغةوكل كلام الشعر واللغة لن تفي هذا الإنسان حقه سوى كلمة "إنسان".جموعٌ من السياسيين  يتهافتون لنعيه بعبارات رنانة تبكي العين والقلب، وفنانون يتسابقون بحروف مطرزة تجعلك مدهوشاً،

رحل زياد، رحل العبقري، رحل النابغة

وكل كلام الشعر واللغة لن تفي هذا الإنسان حقه سوى كلمة "إنسان".

جموعٌ من السياسيين  يتهافتون لنعيه بعبارات رنانة تبكي العين والقلب، وفنانون يتسابقون بحروف مطرزة تجعلك مدهوشاً،

وأبيات شعرية تظهر أمامك في كل منشورٍ ومنشور على صفحات التواصل وكأنك في سوق عكاظ

جميل وكل الكلام في حق هذا الفنان الوحيد الصادق قليل

ولكن يبقى السؤال الذي لا يغيب عن العقل مهما تغيب القلب بكلمات رنانة

أين كانت الدولة حين كان زياد على قيد الحياة، حين كان يريد فقط بلداً يستوعب إبداعه ليبقى به، بلداً لطالما هدد رياد بتركه بسبب الاوضاع السياسية والطائفية ولا ننكر المادية أيضاً، أين كانت الدولة حينما اضطر زياد أن يعزف بأماكن لا تليق بفنه لأنه يريد أن يستمر مادياً

زياد الذي يملك ألحاناً يقال عنها دائماً عبقرية ومدهشة. أين كان الفنانون الذين ينعون اليوم ويبكون حين كانوا يتسابقون على الألحان التافهة والكلمات الساقطة وألحان زياد موجودة على الرف؟ لماذا لم يتسابقوا لأخذ ألحانه وكلامه حين كان حياً؟

لا أذكر أحداً كان يذكره وغنى وتمنى أن يغني له، سوى شيرين عبد الوهاب، ولطيفة، ومايا دياب التي تعتبر أصدق من الذين يتكبرون على موهبتها….

 

####

 

آخر قهوة في "قهوة نخلة التنين"

المصدرالنهار - المحامي ربيع حنا طنوس

في زاويةٍ من ذاكرة لا تهدأ، وعلى طاولةٍ خشبية غطّاها الغبار، وُضعت آخر قهوةٍ في "قهوة نخلة التنين"… ولم يكن أحد يعرف انها الأخيرة. هناك حيث الكلمات كانت ترتشف مع رائحة البن، وحيث الضحك الموجوع كان طريق الناس في مقاومة السقوط، غابت قهوة زياد وغاب معها طيفه الذي يُشعل الجدل في رأس الوطن.

في زاويةٍ من ذاكرة لا تهدأ، وعلى طاولةٍ خشبية غطّاها الغبار، وُضعت آخر قهوةٍ في "قهوة نخلة التنين"… ولم يكن أحد يعرف انها الأخيرة. هناك حيث الكلمات كانت ترتشف مع رائحة البن، وحيث الضحك الموجوع كان طريق الناس في مقاومة السقوط، غابت قهوة زياد وغاب معها طيفه الذي يُشعل الجدل في رأس الوطن.

مات زياد، ليس كما يموت الآخرون، بل كما يغيب حارس حلم طويل. غاب من وحّد الناس على خشبةٍ، وأعاد تشكيل خرائط الوعي في مقهى. لم يكن نجماً عابراً بل كان حجر الرحى في معركة الثقافة، وكان الصوت الذي جمع التياسر والتيامن في نكتةٍ واحدة، في قهقهةٍ واحدة وفي وجع.

من "سهرية" تلك النشأة الليلية الحائرة إلى "بالنسبة لبكرا شو؟" حيث يختنق الوطن بأسئلته، زياد لم يكن يكتب بل كان ينقّب في أرواح الناس، يستخرج منها حقيقةً لا تليق بالشاشات  لكنها تليق بنا نحن، نحن الشعب الذي يُضحكه انهياره. في" فيلم أميركي طويل " لم تكن الكاميرا تلاحق الشخصيات بقدر ما كانت تفضح الواقع. اما "نزل السرور" فالمأساة لم  تحتاج إلى مأساة إضافية: كان يكفي أن تنطفئ الكهرباء لتبدأ الرواية
وفي "شي فاشل" حيث القهوة ليست مشروباً بل أرض معركةٍ، دخل زياد التاريخ من باب النكتة الجدية. هناك دار الحدث في مقهى ودار البلد فوق الطاولة، لم تكن القهوة زينة للمشهد بل كانت المشهد، وكانت الفكرة، وكانت الثورة الناعمة التي يُخاض بها الصراع الثقافي
.

زياد كان جامعاً وموّحداً. وحده صاغ حواراً حقيقياً بين المتناقضات، جعل الرفيق والشيخ يجلسان على الكرسي ذاته، في المسرح ذاته، يتلقيان الصفعة ذاتها. لم يكن يضحك على الناس، بل كان يُضحك الناس نيابة عنهم وبجرأتهم التي لم يملكوها. جمع في نصوصه الماركسية، الفقر، العائلة، السياسة، الوطن، المرأة، الحب، والله. فجعل من مسرحياته حكمةً على كل لسان يتداولها العابرون من دون ان يعرفوا انها مرآة وجوههم

من "بالنسبة لبكرا شو؟" حيث المواطن محاصر بالسؤال إلى "عودة الأسير" حيث لا عودة فعلية لأحد، الى "عياش" حين يُطلب المستحيل من الغائب، زياد حملنا في ذاكرة من مسرحٍ، وجعلنا نشعر أننا نعيش في مشهدٍ طويل لا تنتهي كآبته إلا بنكتةٍ تُنقذ ماء الوجه.

اليوم في آخر قهوة "في قهوة نخلة التنين" لم يبق على الطاولة سوى صمت آخر رشفة في فنجانه، لم تكن إلا سطراً ناقصاً في مشهدٍ لم يكتمل. من سيكتب الان الحوار… "الكهرباء… الصنايع"… من سيهاتف "عياش"؟ من سيصرخ في منتصف المسرح "مش رح ننتخب، مش لأنو معارضة، لأنو ما بدنا ننتخب؟".

الفراغ الذي تركه زياد ليس فراغاً فنياً فحسب، بل فكري جماعي، فراغ كالذي يحل في الأمكنة حين تغادرها الأرواح  التي كانت تعطيها معناها.

 ربما كانت القهوة الأخيرة إشارةً لا الى غيابه بل لانطفاء المساحة التي كانت تتحمل هذا القدر من الصدق. قهوة زياد لم تكن مشروباً، كانت موقفاً. كانت خشبة مسرح على هـيئة فنجان، وكانت البلاد كلّها تدور حول طاولته تنصت، وتسخر وتبكي

وها نحن اليوم، نجلس في صمتٍ يُشبه موسيقاه، ونقول كما قال هو ذات مرة: "إسمع يا رضا…".  مات اللي كان يضحّكنا ونحنا عم نبكي.

 

####

 

فيروز... من يُعزّيكي بزياد؟

المصدرالنهار - ريمي الحويك

"الموسيقيّي دقّوا وفَلّواوالعالم صاروا يقِلّواودايماً بالآخر... في آخر، في وقت فراقْ...بلا موسيقتنا الليلة حزينة،بلا غنّية... ليلي بيطول"...

"الموسيقيّي دقّوا وفَلّوا

والعالم صاروا يقِلّوا

ودايماً بالآخر... في آخر، 

في وقت فراقْ...

بلا موسيقتنا الليلة حزينة،

بلا غنّية... ليلي بيطول"...

رحل زياد الرحباني بلا ولا شي. هو القائل "وبحمِل صوتي وبمشي عطول"، ترك صوته، سخريته الذكيّة، صموده، غضبه، رقّته، وقسوته... وغادر أرضنا الفانية.

اليوم فقط، شعرنا بكمّ الصدق في أغانيه، اليوم فقط، كل كلماته تجلّت، سكنت فينا كما تسكن الصلاة في قلب العاجزين.

كم مرّ في خاطري حلم لقائه، في صباح بيروتيّ هادئ،

في مقهى على الرصيف، 

كنتُ أتمنّى أن يمرّ، 

يطلب قهوته من دون سكر، 

وأنظر إليه كأنّي أعرفه منذ وُلدت... ولم يحصل ذلك يوماً.

حين قرأت الخبر، لم أفكّر إلا بها، نُهاد حداد.

ليتني أستطيع معانقتها، أن أقول لها كما قالت لنا، "بتضلّك طفل صغير... كلّ ما تكبر بتصغر..."، أن أخبرها أنّنا صرنا كباراً في الوجع، وأنّ حزنها الليلة هو كأغانيها، يسكن في قلب كلّ العالم.

من يجرؤ أن يقول لك "الله يرحمه" وأنتِ التي أبقيتِ الله في قلوبنا بأغانيك؟

من يربّت على كتف جبل حين يتصدّع؟

كيف نرثي الذي كتب لك الألحان، وفصّلك من موسيقى لبنان ثوباً لا يشبه سواك؟

فمن يعزّيكي؟

نحن؟

نحن الذين لم نحفظ حتى اسم الحانة التي كتب فيها مجده؟

نحن الذين تفرّجنا على صمته وهو ينسحب من الضوء؟

نحن الذين لم نفهمه إلّا حين مات؟

فيروز، لا عزاء يُقال لك،

لأنّ الذي يُعزَّى اليوم، هو نحن.

نحن من سقط عنهم ظله وبقينا وحدنا في شمس الحداد.

فيروز،

أنتِ التي بكتكِ الشام دون أن تموتي،

وبكتكِ القدس وأنتِ واقفة،

كيف لا تبكيكِ بيروت الآن، وأنتِ تفقدين ذاك المجد المتمرّد، الموجع، الغاضب، الذي اسمه زياد؟

غاب زياد كليّاً عن الصورة،

تحوّل فجأة إلى مجرّد وسيلة توصلنا إلى فيروز، إلى الإنسانة، الأم، التي حملت لبنان في صوتها كما حملت زياد في رحمها.

الليلة، نحزن عليها كما نحزن عليه، نخاف عليها كما نخاف على آخر ما تبقّى في هذا الوطن من نور.

موت العبقريّ يهدّ الحال أكثر من موت أي قائد أو رئيس، فالرئيس يرحل ويأتي مَن يخلفه، أما زياد... فمن يخلف زياد؟ 

من يكتب عن قهر المواطن في طابور الخبز؟

من يضع صوت الفقير على خشبة المسرح؟ 

من يسخر من الجوع والخوف والانهيار ولا يفقد كرامته ولا ضميره؟

اليوم، صرنا نموت من الخوف.

خوف على من تبقّى،

خوف على فيروز،

خوف على لبنان الذي يخفّ وزنه كلما رحل واحد من كباره.

لبنان الموسيقى، لبنان الإبداع، لبنان الخيال، ذاك الذي لا يُدار من قصر، بل من صالة مسرح ومن شرفة بيت يطُلّ على الناس.

كان زياد عصبنا الحيّ،

جرأتنا حين نَجبن،

ذكاءنا حين نُغفل،

صوتنا حين نصمت.

كان الولد اللبنانيّ الذي قال ما لا يُقال، وحافظ على أن يكون حرّاً... ولو ثمن الحريّة هو العُزلة والوجع.

في "بالنسبة لبكرا شو" علّمنا أن نضحك ونحن نختنق.

في "كيفك إنت" علّمنا أن لا نعرف كيف نحبّ، لكن نحبّ رغماً عن كل شيء.

في "بما إنّو الوضع هيك" ضحك من ضحك، لكننا بكينا من خلف الضحكة.

وداعاً يا زياد،

غنّيناك ألف مرّة،

وسنغنّيك ألف مرّة بعد...

لكننا اليوم، نغنّيك والدمعة على طرف القلب.

فيروز، لا تبكِ، فدموعك ستقتلنا كلّنا.

زياد رحل،

لكنّه ترك لك ولنا عزاء واحداً.

أنّه كان ابنك.

وكفى.

 

####

 

بالنسبة لبكرا... شو؟

المصدرالنهار - ميريام السّباعي

سبعٌ وأربعون سنة مرّت على إطلاق زياد الرحباني سؤاله البسيط، العميق: "بالنسبة لبكرا... شو؟" سبعٌ وأربعون سنة، لم تكن كفيلة أن تمنحنا إجابة.تغيّرت الحكومات، تبدّلت الوجوه، تهدّمت مدن وبُنيت، لكن السؤال بقي كما هو، يُطاردنا كل صباح، يهمس في آذاننا كلما نظرنا نحو الغد. كأن الوطن كلّه عالقٌ في وقفة انتظار، وكأن الغد نفسه تردّد أن يأتي، لأنه لا يملك ما يقدّمه.

سبعٌ وأربعون سنة مرّت على إطلاق زياد الرحباني سؤاله البسيط، العميق: "بالنسبة لبكرا... شو؟" سبعٌ وأربعون سنة، لم تكن كفيلة أن تمنحنا إجابة.

تغيّرت الحكومات، تبدّلت الوجوه، تهدّمت مدن وبُنيت، لكن السؤال بقي كما هو، يُطاردنا كل صباح، يهمس في آذاننا كلما نظرنا نحو الغد. كأن الوطن كلّه عالقٌ في وقفة انتظار، وكأن الغد نفسه تردّد أن يأتي، لأنه لا يملك ما يقدّمه.

 وما من أحدٍ طرح هذا السؤال بصدقٍ وألمٍ مثل زياد الرحباني. زرعه في مسرحيته ندبة في قلب وطن، وسكبه على الخشبة حقيقة عارية، لا تحتاج إلى زينة ولا إلى شرح. ومع كل عامٍ مرّ، كان السؤال يشيخ، ولكن لا يشيخ وحده. رحل زياد عن الضوء، عن المسرح، عن الجدل اليومي، وترك خلفه سؤاله يتيماً، لا جواب يحنو عليه، ولا غد يُنصفه. رحل، من دون أن يسمع إجابة واحدة تُرضي القلب، أو تُطمئن العقل. كأن القدر نفسه اختار أن يبقى "بكرا" مجهولًا.

لكن، ماذا لو قررنا، عناداً، أن نفرح رغم المجهول وضبابية المستقبل؟ ماذا لو اخترنا الأمل رغم جروح الوطن المنهك؟ قد يبدو القرار بسيطًاً، أن نفرح، أن نتمسك بالنور، لكنه في الحقيقة القرار الأصعب. لأنّ السّؤال ليس هل نريد أن نفرح؟ بل، كيف نفرح؟ كيف نبتسم وسط الركام، ونزرع أملًا في أرضٍ تشكو العطش والخيانة؟ كيف لا نخون وعينا، وفي الوقت نفسه لا نسمح له أن يسحقنا؟ حين سُئل زياد الرحباني، كيف يمكن للإنسان أن يكون سعيداً؟ أجاب بمرارة لا تخلو من الصدق: "لما يكون بلا مخ."

ليست نكتة، بل تشخيص. كأن الفرح الحقيقي صار يتطلّب غياباً للعقل، أو على الأقل، صمتاً له. كلمات قصيرة لكنها تحمل غضباً ومرارة لا تخطئها العين. ففي زمن يَبتلعه العبث، وتُحتقر فيه العقول، يصبح الانفصال عن التفكير العميق، أو الغفلة الطوعية، أقصر الطرق للهروب من الألم. سعادة زياد ليست احتفالاً فارغاً، بل صرخة تشي بيأس، حيث العقل الذي يُفكّر، يتعب، ويتألم، ولا يجد مفراً سوى أن يغيب قليلاً ليشعر بالراحة. هذه الإجابة ليست مجرد تهكم، بل مرآة لوضع الإنسان اللبناني والعالمي، الذي يُرغم على مواجهة غدٍ مجهول، وأسئلة بلا أجوبة.

وكأنّنا نعيش في فيلم أميركي طويل، لا نهاية له، تتداخل فيه المشاهد بين الدمار والعبث، بين الألم والسخرية، حيث تتلاشى الحدود بين الحقيقة والخيال، ويصبح الغد مشهداً مجهولاً بلا سيناريو واضح.

فمن خلال هذه المسرحية، سعى زياد الرحباني إلى كشف هشاشة الحياة اليومية وتأثير الحروب على الإنسان والمجتمع، وإبراز الإحباط واليأس العميقين اللذين يعيشهما المواطنون في ظل الانقسامات والدمار، مُستخدماً السخرية والعبث أدوات نقدية تُمكن الجمهور من مواجهة الحقيقة الصعبة من دون هروب أو توهّم. في هذا الفيلم الذي لا ينتهي، لا يملك الإنسان سوى أن يختار بين الاستسلام للوجع أو الهروب إلى لحظات غفلة موقتة، تنقله بعيداً من ضغط العقل والوجدان. هنا، يتجلى الفرح ليس كحالة طبيعية أو نتيجة حتمية، بل كقرار عنيد، اختيار واعٍ للابتسام وسط الركام، للمقاومة عبر بسمة رغم كل الظروف.

وهكذا، يظل سؤال "بالنسبة لبكرا شو؟" مفتوحاً، يدفعنا لنختار كيف نواجه المجهول، إما بأن نغلق عقولنا ونهرب، وإما بأن نفتح قلوبنا للفرح رغم كل شيء، ونصنع من هذا القرار نوراً ينير ظلمة الفيلم الطويل الذي نعيشه.

أُسدل الستار على مسرح حياة زياد، بعد أن عزف لحن الموت الأخير، ذلك اللحن الذي ظلّ ينسجه بين الحروف والمواقف، بالكلمات والموسيقى، طوال عمره الفني. لم تكن حياة زياد مجرّد رحلة فنية، بل مسرحاً مفتوحاً على كل وجع، وساحةً تتصارع فيها الأسئلة واليقين، الضحكة والدمعة، الثورة واليأس. منذ بداياته، كان يطرح السؤال الكبير: "بالنسبة لبكرا شو؟"، ليس بحثًا عن إجابة بقدر ما كان كشفاً لواقع وطنٍ متروك للمجهول. وما كان غده المشرق إلا حلماً يسخر منه الحاضر، فتتوالى النكبات، ويزداد ضياع الإنسان في دوّامة لا تنتهي. فأدرك زياد، كما قال لاحقاً، أن "السعادة... لما تكون بلا مخ"، لا لأنها سعادة حقيقية، بل لأنها مهرب موقّت من التفكير، من الألم، من الوعي المفرط في وطنٍ صار فيه العقل عبئاً لا ميزة. ومع ذلك، لم يستسلم. بل اختار أن يُقاوم بالفرح، بالسخرية، بالمسرح. كان يعلم أن الضحك في وجه الخراب عمل بطولي، وأن الموسيقى التي لحّنها لفيروز، كانت محاولة لإنقاذ ما تبقّى من الحلم. في "رجعت الشتوية" كان يكتب برد الذاكرة، وفي "كيفك إنت؟" كان يفتّش عن الإنسان الذي فقد صوته في ضجيج الحرب.

زياد لم يكن فناناً فحسب، بل حالة. حالة وطن يئنّ، وشعب يتذكّر، ومدينة تمشي فوق الركام وتحلم، رغم كل شيء، بكوب قهوة ساخن، بأغنية ناعمة، بجملة تقول: "بعدنا طيبين... قولوا الله".

 

####

 

فيروز الأمّ... تتّشح بصمتها النبيل

ما أصعب أن يذبل الصوت في حلق فيروز!

شربل بكاسيني - المصدر: "النهار"

"أنا الأم الحزينة"، وصوت فيروز يصعد بنا إلى أعتاب السماوات، تُنشد للوجع المقدّس، ولدمع أمٍّ تراقب الدنيا تخذل ابنها. وخمارها الأسود يُغطّي رأسها، ومن نظّارتها السوداء ترى الأرض وقد استحالت رماداً. والصمت الأنيق يلفّ ذلك الوجه التسعينيّ الأبيض، وتعزيات الأرض استحالت مرارةً.

قبل ثلاثة وستّين عاماً، خرجت من بيروت إلى العالم أربعة أناشيد للحزن بصوت فيروز، محفورة على أسطوانة 45 لفّة باسم "الجمعة الحزينة". أنشدت الصبيّة مراثي آلام المسيح بأربعة عناوين، أوّلها "أنا الأمّ الحزينة" التي التصقت مذاك باسمها، وآخرها "يا شعبي وصحبي"، وبينهما "قامت مريم" و"طرق أورشليم". ومنذ صدور الأسطوانة عن "صوت الشرق"، صارت السيدة ملازمةً للجمعة العظيمة (أو جمعة الآلام)، وصار للحزن صوت، والحزن حزن الأم، واسمه فيروز.

كم من مرّة لامس صوتها جرح مريم! كم من مرّة وقفت فيروز على حافة غياب، على حافة وداع! ألم تكفِها فصول من التراجيديا حتى صار الوجع مرادفاً لها؟ أمس، شاهد العالم فيروز الأمّ تُشيّع ابنها. شاهدنا نهاد حداد، وقد التزمت وقارها الفيروزي واتّشحت بصمتها النبيل، تقف بخشوع الأم المكسورة.

وفيروز رنّمت حزن العذراء وانكسار قلبها على طريق الآلام في القدس، وسارت مع البابا بولس السادس في كانون الثاني/يناير 1964. و"أنا الأم الحزينة" صارت نشيدها. وأسطوانة الـ45 لفّة صارت أكبر، وضمّت عشر تراتيل، تنتهي بأهازيج الفرح والانتصار على الموت، علامة رجاء طبع المشهد الفيروزي. ومذاك صار إنشاد فيروز في الجمعة العظيمة تقليداً سنويّاً.

كنّا نسمعها تندب المصلوب، وكأنها تسبق الفقد. وها هي السيّدة التي ترنّمت بأوجاع الأمّ تقتبل كأس الموت مجدّداً، وزياد يرحل نحو أبيه وأخته. وزياد خالف صلاتها أن "يسمح لها أن تموت قبله"، ورحل وحيداً، مردّداً كلماته: "انتظريني وضلّك صلّي". وهي وقفت بوقارها وصمتها الأنيق، وسلّمت بالغياب.

ما أصعب أن يذبل الصوت في حلق فيروز! هي التي رنّمت الحزن صلاةً، صارت صلواتنا اليوم لها. ننحني أمام وجع الأم، أمام دمعة فيروز التي لم تشأ أن نراها. سلام عليها، على قلبها المعلّق بين الأرض والسماء، وعلى وجع الأمّ المقدّس، الذي صار نشيداً بصوتها، وصار صمتاً.

 

النهار اللبنانية في

28.07.2025

 
 
 
 
 

فيروز أرزة حزينة في وداع ابنها زياد الرحباني

برحيله جمع اللبنانيين على اختلافاتهم حول موهبته الجريئة

بيروتسوسن الأبطح

يوم حزين وثقيل على اللبنانيين الذين تجمهروا بالآلاف أمام مستشفى خوري منذ الصباح، لإلقاء نظرة الوداع على نعش زياد الرحباني. انتظروه حاملين لافتات ممهورة بعبارات مأخوذة من أغنياته: «بلا ولا شي... بحبك»، و«لأول مرة ما منكون سوا». وما إن أطلت السيارة السوداء التي حملت الجثمان حتى انهمرت الدموع، ونُثرت الزهور وحبّات الأرز، وصدحت الحناجر: «زياد، زياد، زياد». وعلت الأصوات تغني نشيده الشهير: «جاي مع الشعب المسكين، جاي تَأعرِف أرضي لمين، لمين عم بموتوا ولادي بأرض بلادي جوعانين».

الشعب المسكين، هذه المرة، كان يصطف على الطرقات، ينتظر مرور الموكب في شوارع منطقة الحمرا، التي سكنها زياد وأحبّها، وجلس في مقاهيها. ثم جال الجثمان في أنطلياس، حيث كان منزل العائلة. طوال الجولة، كان الأحبة يصطفّون في استقباله وهم يبكون، يصفّقون، ويبثّون أغنيات زياد، وصولاً إلى «كنيسة رقاد السيدة المحيدثة» في بكفيا بمنطقة المتن، لإقامة الصلوات وتلقي التعازي.

بعد وصول نعش زياد بقليل، وصلت والدته فيروز مع ابنتها المخرجة ريما الرحباني، في سيارة يقودها نائب رئيس مجلس النواب إلياس بوصعب، وبرفقته زوجته الفنانة جوليا بطرس.

تلك إطلالة للسيدة الكبيرة فيروز لن تُنسى: بغطاء أسود على الرأس، ونظّارة سوداء، ووجه متجهّم حزين. ما كان أحد يتمنّى أن تكون الإطلالة الأولى لفيروز، حبيبة الناس جميعاً، بعد غياب، في مناسبة على هذا القدر من المأساوية.

فيروز، الأم الثكلى، آثرت أن تدخل الكنيسة لتكون إلى جانب النعش هي وابنتها، من دون كاميرات. لحظات حميمة قليلة، قبل أن تعود وتلتحق بالعائلة الرحبانية في صالة تقبّل التعازي.

جمع كبير من المعزّين، من مختلف الأطياف السياسية: موسيقيون، مغنّون، ممثّلون، شعراء، إعلاميون. السيدة الأولى نعمت عون انتظرت وصول فيروز، وكانت أول المعزّين. ووصلت قبل الجميع الممثلة كارمن لبس، صديقة زياد التي عايشته 15 عاماً، وله في قلبها حبّ كبير، كذلك خالته هدى حداد.

توافد إلى العزاء رئيس الوزراء نواف سلام وزوجته سحر بعاصيري، ووزير الثقافة غسان سلامة، والرئيس الأسبق للجمهورية أمين الجميل وزوجته جويس، كما زوجة رئيس مجلس النواب رندة بري، كذلك إيلي صعب وولداه، وماجدة الرومي التي خرَّت على ركبتيها أمام فيروز، وراغب علامة، وهبة طوجي، وفنانون كثر.

مادونا قالت إن زياد كان بالنسبة لها صديق طفولة، وإنهما كانا مؤخراً يُحضّران معاً لتقديم مسرحية استعراضية، لكن العائق الأساسي دائماً بالنسبة لزياد هو الإنتاج. وهكذا طال الانتظار، ولم تُقدَّم المسرحية. أي خسارة؟! وأين هي المسرحية الآن؟

في هذه الكنيسة تحديداً، حيث سُجِّي زياد الرحباني جثة، كان قد قدّم قبل 41 سنة بالتمام سنة 1974، مسرحيته «سهرية» في الساحة الخارجية. أي مصادفة أن يكون يوم 28 يوليو (تموز) هو يوم تقديم المسرحية ويوم دفنه أيضاً؟

لعب مسرحيته هنا، من أجل أهالي المنطقة التي كانت مصيف بيت الرحباني، وبينهم الصغير زياد الذي ارتبط بعلاقة وطيدة مع السكان.

توالى توافد المعزّين، وكان الأكثر تأثيراً وصول الشاعر طلال حيدر، الذي بدا متعباً، برفقة الفنان مارسيل خليفة؛ رفيقي الدرب والشعر والأغنيات والنغم والمسرح.

بكى طلال حيدر، وأجهش أمام النعش، ولوّح بيده مودّعاً. لبنان كله يودّع حقبة كاملة بغياب زياد. ثمة من يقول إن الدنيا قد أظلمت، وذهب من احترف التحدث بلسان الناس، والبوح بما لم يُجيدوا التعبير عنه بأنفسهم.

مع بدء الصلاة، تقدّمت فيروز الصفوف، وجلست أمام النعش مع ابنتها ريما. وقال رئيس الحكومة نواف سلام إنه يقف بخشوع أمام الأم الحزينة والعائلة والأصدقاء، وإن لبنان كله شريك في هذا الحزن. ووصف الراحل بأنه «صرخة جيلنا الصادقة الملتزمة بقضايا الإنسان والوطن»، وبأنه «قال ما لم يجرؤ كثيرون على قوله».

كما أعلن أن رئيس الجمهورية جوزيف عون منح زياد الرحباني وسام الأرز الوطني من رتبة كوموندور، وتشرّف بتسليمه للعائلة.

وأصدرت لجنة «مهرجانات بعلبك الدولية» بياناً رأت فيه أن زياد «تربّى في بيت يشبه وطناً صغيراً من الفنّ، لكن زياد لم يكن يوماً مجرد امتداد للمدرسة الرحبانية، بل تمايز عنها ليصنع لغته الخاصة: مزيج من الموسيقى، والسياسة، والسخرية، والوجع».

ومن أهم ما ذكّر به البيان، أن زياد شهد صغيراً مشاركات والدته والرحابنة في مهرجانات بعلبك، ولحّن لها أولى أغنياتها التي غنّتها هناك وهو في السابعة عشرة.

من حينها «بدأت شراكة إنسانية وفنية فريدة بين أم وابنها، بين صوت وملحّن، شراكة نحتت ملامح الأغنية اللبنانية الحديثة. وفي الثمانينات والتسعينات، أبدعت فيروز من كلمات وألحان زياد: (كيفك إنتَ)، و(عودك رنّان)، و(إيه في أمل)، أعمال شكّلت انقلاباً فنياً وصوتاً حرّاً تجاوز المألوف، وجسّدت لقاء جيلين ووجعين».

وبخسارة زياد، تكون فيروز، الصامدة الصابرة، قد خسرت 3 من أفراد عائلتها: زوجها عاصي، وابنتها ليال، وأخيراً زياد الذي لم يكن ابناً فقط، بل كان البديل الفني الاستثنائي الذي لا مثيل له بعد غياب عاصي. وهو لم يُكمل جملة عاصي فقط، بل ابتدع لها طريقاً جديداً، وجعلها أكثر شباباً، أعاد لها الصبا والمرح والظرف في أغنيات تنبض بالفرح والحيوية والنكتة.

لبنان كله حزين، وخائف من هذا الفقد الموجع الذي يصعب تعويضه. وغضب البعض لأن حداداً رسمياً لم يُعلَن، والأعلام لم تُنكّس، ولأن زياد والإرث الرحباني الذي رفع اسم لبنان، يستحق من الدولة اهتماماً حقيقياً. لكن وزير الثقافة غسان سلامة، الذي قطع إجازته وعاد من باريس جالساً في مقصورة القبطان لأنه لم يجد مقعداً شاغراً، وأصرّ على حضور الجنازة بأي طريقة، قال: «لا يزايدنّ أحد عليّ في حب زياد».

وشرح سلامة أن حداداً رسمياً لم يُعلن سابقاً لرحيل أي فنان لبناني، وبالتالي لم تُتخذ مبادرة استثنائية هذه المرة. وعومل زياد كما كل الكبار الذين رحلوا. لكن الممثلة المسرحية حنان الحاج علي كتبت مستنكرة أن يحتكر الرسميون الحداد الرسمي، دون الفنانين والمبدعين، مذكرة أن زياد، على كل حال، لم يكن يحب هذه الطبقة، ولا طائفيّتها.

صديق زياد، الفنان خالد الهبر، لفت إلى أنه ترك لنا بعد رحيله ذخراً كبيراً: «المهم الآن ما سنفعله بهذا الإرث. لا أعتقد أن فناناً خلّف وراءه فناً بهذا الثراء». وحين سُئل وزير الثقافة عن تدابير الوزارة، قال إن تركة زياد الفنية هي ملك العائلة، وهي تقرر ما تفعل بها. «نحن حصلنا على هبة بمليون دولار، لرقمنة الإرث اللبناني، وسيكون أمراً جيداً أن نبدأ العمل بما تركه زياد، لحفظه وصيانته».

 

####

 

فيروز ولبنان يودّعان زياد الرحباني

تقبلت التعازي... ومحبو نجلها الراحل أنشدوا أغانيه

بيروتسوسن الأبطح

ودَّعت فيروز نجلها زياد الرحباني في يوم حزين وثقيل على اللبنانيين الذين تجمهروا بالآلاف أمام مستشفى خوري في بيروت منذ صباح أمس؛ لإلقاء نظرة الوداع على نعشه حاملين يافطات ممهورة بعبارات مأخوذة من أغنياته، في حين علت أصوات تغني نشيده الشهير: «جاي مع الشعب المسكين».

الشعب المسكين هذه المرة، كان ينتظر مرور الموكب في شوارع منطقة الحمرا، التي سكنها زياد وأحبّها، وفي أنطلياس، حيث كان منزل العائلة. كان الأحبة يصطفّون في استقباله وصولاً إلى «كنيسة رقاد السيدة المحيدثة» لإقامة الصلوات وتلقي التعازي.

بعد نعش زياد بقليل، وصلت فيروز مع ابنتها المخرجة ريما الرحباني في إطلالة لن تُنسى: غطاء أسود على الرأس، ونظّارة سوداء، ووجه متجهّم حزين. آثرت أن تدخل الكنيسة لتكون إلى جانب النعش هي وابنتها للحظات حميمة قليلة، قبل أن تعود وتلتحق بالعائلة الرحبانية في صالة تقبّل التعازي.

 

####

 

هل ترك زياد الرحباني وصية أخيرة حول إنتاجاته الفنية؟

أصدقاء يتذكرون أيامهم معه

بيروتفيفيان حداد

أخذ الأصدقاء المقربون من الراحل زياد الرحباني قراراً جماعياً بعدم الإدلاء بأي تصريحات إعلامية عن وفاته، فالتزموا الصمت التام تجاه هذا الموضوع ليستطيعوا توديعه على طريقتهم. فحزنهم الكبير على رحيل «المعلّم»، كما يسمّونه، أفقدهم القدرة على التعبير عن حزن عميق أصابهم. يتّفق أصدقاء الراحل على نقاط كثيرة حوله، وبينها ما يتعلّق بشخصيته وأخرى بمدرسته الفنية، ويذكرونه شخصاً شفافاً وصادقاً وجريئاً. وكذلك هو فنان لن يتكرر، كونه اتخذ من كتاباته وألحانه وسيلة لبناء بلد ومجتمع يشبهانه.

عبيدو باشا: «أتوقع تركه وصية أخيرة»

يُعدّ الكاتب والمسرحي عبيدو باشا من الأشخاص الذين ربطتهم علاقة وطيدة بالراحل زياد الرحباني. واكبه لفترات طويلة وتعاونا معاً في أكثر من مشروع فني، وبينها «حكايا»، وهو الألبوم الوحيد الخاص بالأطفال الذي وقّعه زياد في عام 1987.

وكان باشا من الأشخاص الذين رافقوا الرحباني في التمرينات على مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» بنسختها الثانية. فكان ينوي تقديمها بقالب جديد، إلا أن ظروف البلاد غير المستقرة يومها دفعته إلى إلغاء الفكرة.

ويروي عبيدو باشا لـ«الشرق الأوسط» نواحي من شخصية الفنان الراحل. «لقد عشنا معاً مرحلة زمنية كنا لا نفترق خلالها. ولكننا ابتعدنا في الفترة الأخيرة. فهو أُصيب بحالة اكتئاب حادة، وكان يفضّل البقاء وحيداً، وكانت صحته قد بدأت التراجع بشكل ملحوظ».

ويشير عبيدو باشا بأنه لمحه مرة من بعيد في أحد شوارع بيروت. «لم أجرؤ على إلقاء التحية عليه أو الاقتراب منه. كان بادياً عليه العياء والتعب الشديدَين بشكل ملحوظ».

ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «أعد زياد اليوم رحل إلى وادي النوم، تماماً كما طريق المقاتلين الرومان قبل أن يُحرقوا أحياء. فالشجعان لا يموتون. وزياد كان الفنان الوحيد الذي تجرّأ وقال الأمور بصراحة. فلم يتردد في اتخاذ مواقف قد تنعكس عليه بخسارات كبيرة».

ويرى باشا أن أعمال زياد الرحباني هي كناية عن مقترح لنظام اجتماعي جديد، رغب في إيصاله من خلال الكلمة والمسرحية والنغمة. «وكأنه كان يعبّر عن رفضه نظاماً اجتماعياً سائداً. فقدّم النموذج الأفضل البديل عنه من خلال أعماله الفنية».

ويشير عبيدو إلى أن زياد عاش معاناة كبيرة في طفولته. ويعود سببها إلى التوتر الدائم الدائر بين والده عاصي الرحباني ووالدته فيروز. «لم يكن ينادهما ببابا وماما بل بفيروز وعاصي». وهو ما يشير إلى نوع من المسافة تحضر بينه وبينهما. عانى من شجارات دائمة بينهما. واعترف زياد أكثر من مرة بذلك في أحاديثه الإعلامية. وعندما كان يقسو عاصي على فيروز كان زياد يوصلها إلى منزل الجيران، ليتسنى له الجلوس مع والده لترطيب الأجواء بينهما. كل ذلك أثّر من دون شك على زياد وانعكس سلباً على علاقاته العاطفية مع النساء. فلم ينجح في علاقته مع دلال كرم ولا مع غيرها. وعندما ألف أغنية «من مرا لمرا عم ترجع لورا» كان يصف نفسه بدقة.

ويختم عبيدو باشا متحدثاً عن وصية قد يكون تركها زياد قبل رحيله. ««أتمنى أن تبقى أعماله متاحة للجميع، وألّا تتدخل أي جهة رسمية في حصرها. وأعتقد أنه ترك وصية أخيرة تتعلق بمصير هذه الأعمال، وهناك أوراق قانونية أعدّها بهذا الخصوص. فمحاميته لازمته طوال السنوات العشرين الأخيرة، وأظن أنه رتّب كل شيء قانونياً لما بعد وفاته».

ريما نجيم: «لم يفهم أحد مشاعر المرأة مثل زياد الرحباني»

إثر إعلان نبأ وفاة زياد الرحباني كتبت الإعلامية ريما نجيم، عبر حسابها على «إنستغرام»: «كسرتلّي قلبي... كنّا تصالحنا قبل أن ترحل». وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» تروي نجيم ذكرياتها مع زياد الذي كانت تربطها به علاقة صداقة.

«القطيعة بيني وبينه وقعت بسبب عتبه عليّ. زياد كان عندما يعتب يصبح شخصاً قاسياً، يعاقب المعتوب بالحرمان من التواصل. حاولت مصالحته، ولكنه لم يشأ الردّ، ومنذ فترة انعزل عن الناس بسبب مرضه. وهو أصلاً من الأشخاص الذين يحبون الوحدة. هذه المرة جاءت عزلته نتيجة حالة صحية ونفسية حرجتَين».

تحضّر نجيم لبث حوار أجرته مع زياد الرحباني قبل سنوات عدّة. وعدت مستمعيها على إذاعة «صوت الغد» به. وهو -كما تذكر لـ«الشرق الأوسط»- كناية عن جلسة طويلة تحدثا فيها عن موضوعات مختلفة. «كنا يومها نتناول طعام الغداء في بلدة ضهور الشوير التي كان يحبها ويسكن في أحد منازلها. شاب الحوار ضجيج الصحون والملاعق. لم تكن يومها تقنية تنقيح الصوت متاحة كما اليوم بواسطة الذكاء الاصطناعي. وهو ما أخَّر ولادة هذا الحوار الشائق».

وتشير نجيم إلى أن زياد هو ربما الرجل الوحيد بعد الشاعر الراحل نزار قباني الذي تفهّم مشاعر المرأة إلى هذا الحدّ، فخاطب أنوثتها وأحاسيسها بشكل لافت. وكان يصنّف المرأة بـ«مفرد ومجوز»، ليفرّق بذلك بين المرأة الأنثى وتلك صاحبة الشخصية المشبعة بالرجولة. وعندما سألته إذا هو يفضّل المرأة الذكية أو الجميلة «أخذني إلى منحى آخر». وتشير نجيم إلى اعتراف زياد بفشله في علاقاته مع النساء. «أتمنى أن يكتشف الناس يوماً عمق زياد الفكري المتعلق بالنساء. فالجميع لم يكن يأخذ كلامه على محمل الجدّ في مسرحياته وأغانيه. وهو ما كان يزعجه، وحضّه على التوقف عن تقديم الأعمال المسرحية. فمن كتب (صديقي الله) وهو لا يزال طفلاً، لا بد أن يكون عبقرياً. ولكن هناك معاناة كبيرة عاشها، وحزناً عميقاً سكنه فولّد عنده هذا النبوغ».

تشير ريما نجيم إلى أنه شكا لها مرة عن علاقته بوالدته فقال لها: «تخيلي أن والدتي فيروز لم تحضّر لي يوماً ساندويتش لبنة». فانتقدته وقالت له: «يكفي أنها فيروز فلماذا تعتب؟»، فردّ: «يحق لي بذلك؛ لأنها في النهاية والدتي». وتتابع نجيم: «لقد كان يتوق للعيش في كنف عائلة عادية بين أجواء أب وأم طبيعيين».

طلال شتوي: «زياد لم يكن يحب التأليه»

يقول الإعلامي طلال شتوي راثياً صديقه زياد الرحباني: «رحل عن عمر 69 عاماً بعد صراعه مع الوطن». ويختصر بذلك معاناة الفنان الراحل مع ما يجري على أرض وطن ينزف. ويعدّ طلال من الأشخاص الذين تعرّفوا إلى زياد عن قرب. أجرى معه حوارات إعلامية عدّة. كما ألف كتاباً عنه بعنوان: «زمن زياد... قديش كان في ناس». جمع فيه حكايات عن أشخاص تقاطعت حياتهم مع حياة زياد. ويقول إنه اختارهم انطلاقاً من هذا المبدأ، مع أن بينهم من لم يتعرف إلى زياد قط. وعن ردّة فعل زياد على الكتاب حينها، يقول شتوي لـ«الشرق الأوسط»: «لم يكن يحب التأليه، وأن يكون بمثابة شخصية رمزية. خاف بداية من الكتاب؛ لأن محتواه يعطي الصورة التي يستحقّها. وشخصياته تتعاطى مع أحداث وأماكن وزمن عاشها زياد على صعيد السياسة والاقتصاد والصراعات المختلفة».

وعن علاقته بالفنان الراحل يتذكّر: «تعرّفت إليه في زمن الحرب اللبنانية. وكنا لا نقدّر أهمية الحياة وكأننا سنعيش إلى الأبد. اعتقدنا بأننا سننتصر على الحرب. ثم ما لبثنا مع تقدمنا في العمر أن أدركنا أن الحياة صعبة، وتسير بسرعة فائقة. اليوم أشعر بحسرة وحنين إلى تلك الفترات، لأنني أرى كيف يغادرها أشخاص أعرفهم الواحد تلو الآخر».

 

الشرق الأوسط في

28.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004