زياد الرحباني.. الفن يناضل من أجل الحرية
نجلاء محفوظ
الانحياز للحرية وللفقراء وحقهم في العيش بكرامة وعزة
اختيار يمتع صاحبه دومًا بالحياة الحقيقة ويمنحه حياة تستمر ما بقيت الحياة
بعد موت جسده..
نجح زياد الرحباني في اختياره الغناء للوطن ولمقاومة كل من
الاحتلال الإسرائيلي وللغزو الثقافي واعتزازه بهويته العربية ورفع صوته
عاليًا ضد الفساد في وطنه، وتعرية التناقضات لبعض السياسيين بسخرية لاذعة
وبكلمات لا تخرج عن التهذيب؛ وإن كانت كالسهام التي كان يجيد تصويبها ليس
في كلمات أغانيه ومسرحياته، فقط، بل أيضًا في مقابلاته التليفزيونية
القليلة..
سأله مذيع: ما شعورك ونحن البلد الذي بلا رأس؟
رد كيف لدينا الكثير من “الرقص” ثم سأل المذيع: انس أننا في
بث مباشر وقل هل لاحظت أي فارق؟ وأكد أن الحكومة الانتقالية تجتمع وتعمل
تصدر قرارات أكثر من الحكومات العادية..
سألوه يومًا: هل السيدة فيروز مع المقاومة.
رد على الفور: لو لم تكن معها لم أكن أستطيع التلحين لها،
هي تعرف ذلك.
كان مبدعًا بدرجة إنسان؛ قال: حاول أن تبتسم للناس؛ هذا لن
يكلفك كهرباء أو بطارية ولا بنزين أو مازوت، لن تزيد شيئًا على مصاريفك.
أحلام ومخاوف
كان مسرحه ينبض بالحياة وامتزج بهموم اللبنانيين ونقل
أحاسيسهم وأحلامهم ومخاوفهم واعتراضاتهم على كثير من الحياة السياسية
والاجتماعية في لبنان، وبرع في استخدام الكلمات العادية التي يقولها الناس
في أغانيه ومسرحياته.
ومن يستمع إليها يشعر بأنه أضاف إليها الجديد بعد أن منحها
الحيوية ومزجها بصدق وواقعية وهو القائل: الإنسان متى عرف الحقائق سقط عن
سرير الأحلام، وهذا لا يعني الدعوة للانهزامية فهو القائل أيضا:
قلت لهم
ألا تسكرون الأبواب
العاصفة هنا عند المفرق
وقالوا:
على مر الأيام تعودت الأبواب
وسوف تتسكر وحدها عندما ترى العاصفة
قلت: ألا تسكرونها أنتم بأيديكم القوية
يستنهض زياد الهمم فيقول في وعي عميق بالنفس البشرية وكيف
تصنع هزائمها بأيديها:
لا يعود شيء يخيف
إن صرناه
رفض الخداع
برع زياد في المسرح السياسي وقدم الكوميديا السوداء
وأدان بشدة خداع الناس باسم الدين ودعوتهم لقبول حياة بائسة
فقال:
أنا مش كافر بس الجوع كافر
أنا مش كافر بس المرض كافر
أنا مش كافر بس الفقر كافر
والذل كافر
أنا مش كافر
لكن شو بعملك إذا اجتمعوا فيّي
كل الإشيا الكافرين
أنا مش كافر بس البلد كافر
أنا مقبور ببيتي ومش قادر هاجر
وعم تاكل لي اللقمة بتمي
وأكلك قدامك يا عمي
وإذا بكفر بتقل لي كافر
“بوتيك”
الطائفية
في المسرح السياسي يعد زياد امتدادًا لمسرح الأخوين رحباني
وليس تقليدًا لهما فلديه بصمته الخاصة ويذكرنا بمسرحية “الشخص” للأخوين
رحباني عام 1968 فيها يسأل الشخص وهو مسؤول مهم هل الرحمة أفضل أم العدل؟
يرد عليه أحد الأتباع: الرحمة لأن العدل سيقول لك ليش جيوبك
منفوخين.
رفض زياد الرحباني مثل كل الوطنيين في كل زمان ومكان
الطائفية وحذر من توابعها الكارثية، وندد بها في جرأة وألح على فضح صورها
وتأجيجها للخلافات بين مكونات الوطن لتحقيق الزعامات والمكاسب المادية.
قال زياد:
يا زمان الطائفية
طائفية وطائفيك
خلي ايدك ع الهوية وشد عليها قد ما فيك
شوف الليرة ما أحلاها
بتقطع من هون ل هونيك
ويا زمان الطائفية
كل واحد فاتح بوتيك
الغد الجميل
كان عبقريًا؛ فكتب قصيدة وهو في الثانية عشرة من العمر ولحن
لأمه السيدة فيروز وهو في السابعة عشرة، وامتلك الوعي السياسي والحس الوطني.
حذر زياد من “الحيلة” التي يلجأ إليها سياسيون بزرع الأحلام
الوردية في غد أفضل “وتخدير” الناس، وجعلهم ينتظرونه وغالبا لا يأتي هذا
الغد الجميل، جسد في مسرحيته “بالنسبة لبكره شو؟ هذا المعنى حيث عانى
اللبنانيون من الإنهاك بعد الحرب الأهلية اللبنانية.
وعبر عن أوجاع الصابرين المنهكين وهتف: يقولون غدًا سيكون
أفضل؛ فماذا عن اليوم.
جسد زياد المثقف والمبدع الذي يُخلص للناس ولا يسعى للفوز
بالمكاسب المادية أو المناصب على حساب الشعب
جاي مع الشعب المسكين
جاي تعرف أرضي لمين
لمين عم بموتوا ولادي بأرض بلادي جوعانين
ويقول
سنين بقينا بلا نوم
قررنا نوعا اليوم
يا بلادي لا تلومينا
صرنا برات اللوم
من أجمل ما كتبه زياد الرحباني
كيف أْفهِمك
يا عصفور قفصنا
إنني أنا غير أهلي
لا أحب أن أقتني
لا أقفاصًا ولا عصافير
شتائم وحقد
غاص زياد الرحباني بفكره في الواقع السياسي والاجتماعي ولم
ينعزل في برج عاجي مثل بعض المبدعين، ولم يغلق أبواب إبداعه على القليل
وانفتح وقرأ كل الواقع بامتياز.
كتب:
قالوا: مللنا الحياة
امتلأت الأرض بالشتائم والحقد
زرعوا خناجر في قلب الكلام
صاروا يعدون ذكيًا من يكفر أحسنهم بالله
ذكيًا الذي كلامه أكثر الكلام سفالة
آه لو كان الكلام كالخبز يُشرى
فلا يستطيع أحد أن يتكلم
إلا إذا اشترى كلاما
الخصوم يتباكون
احترم زياد موهبته ولم يقدم أغاني ولا مسرحيات تغذي
الابتذال في العالم العربي كغالبية من “يطلقون” على أنفسهم لقب الفنانين،
ولم يشارك في تغييب الوعي وساهم في زيادة الوعي بالقضايا العربية ومنها
قضية فلسطين، وأبدى اعجابه بالصمود المذهل لغزة وأكد أنهم سينتصرون حتما.
جسد طموحات الكثيرين في لبنان والعالم العربي والمثير
للسخرية تنافس كثير ممن انتقدهم في مسرحياته ومن خصومه من مسؤولين وسياسيين
في وطنه وخارجه في رثائه والتباكي عليه وهم أبعد ما يكونون عن نهجه
واختياراته التي جدد تمسكه بها حتى أخر عمره، وهو القائل: لن تتمكن من بناء
بلد وإسرائيل على الباب، لن تستطيع صنع عدالة وحرية وهم يطالبونك بالاختيار
بين أمنك وكرامتك.
المصدر: الجزيرة
مباشر
كاتبة وخبيرة في التنمية البشرية |