ملفات خاصة

 
 
 

في سوريا اسمه زياد «حاف»

علاء الخطيب

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

دمشق | نعرف نحن السّوريون زياد جيداً، في سوريا لا نقول زياد الرحباني بل زياد «حاف»، زياد المتمرد الصاخب العابث، ونعي أكثر أنّ هناك زياداً في المسرح وزياداً في الموسيقى وزياد فيروز وزياد المتمرد، وكثيرون منّا يفضلون زياداً على الآخر.

ومنذ بدايات زياد في المسرح السياسي الساخر خصوصاً، مرّت أجيال عدة وهي تردد كلامه، وتفاجأت هذه الأجيال بعد 2011 أنها تعيش كلامه حرفياً، مفارقة مرعبة إذا ما نظرنا إليها من خارج هذه المنطقة.

«عبوة عبوة ما في شي... إذا كلكم إخوة شو في لزوم تعيدا... ضليتك تغني للثورة لحتى وقعت الثورة بحضنك» كثيرة هي الجمل التي قالها السوريون على لسان زياد، ثم عاشوها بعد اندلاع الحرب، كنا نرى في زياد أدباً خالداً، كونه بالفعل كان عابراً للأجيال وصالحاً لكل زمان، فما هي خصوصية الأدب الأولى؟ الخلود أليس صحيحاً؟

وزياد المتمرد العابث الصاخب، الذي يعرفه السوريون عبر مقابلاته، مقابلتين تحديداً، الأولى مع الإعلامية جيزيل خوري، ومقابلة أخرى مع النجم بسام كوسا، هما الأشهر لدى السوريين، عرفوه فيهما بذيء اللسان لا يعبأ بجمهور، ولا بأي شخص ولا بمعايير تلفزيون، ولا معايير سياسة ولا فن، كلامه يقوله وأنت «تصطفل» كيف تتلقاه.

كثيرة هي الجمل التي قالها السوريون على لسانه، ثم عاشوها بعد الحرب

كان حالة خاصة استثنائية، نوعاً من التعبير عن كل السخط والغضب والقهر الذي بداخل شباب، يتوق ليقول ما يريد بحرية، فهناك مجلد في رأس غالبية الشباب السوري، من قبل جيل Z، اسمه زياد. صورة زياد هي صورة غالبية الشباب السوري الذي يريد التمرد في بداية شبابه، هذه حقيقة.

لذلك حين تسألني أنا كسوري كيف مات زياد، الرجل الصاخب الثائر المتمرد حتى على أهله، أسأل نفسي أولاً كيف يرحل صاحب هذه الضوضاء الكبيرة بكل هذا الهدوء والسلام؟! والغالب عندي أن قلبه لم يتحمل أن يعيش مرة أخرى فيلماً أميركياً طويلاً بوحشية فاقت كل التصورات.

هو زياد الذي كسر كل ما يستطيع من معايير وقواعد في طريقه نحو قلوب وعقول أكثر من جيل سوري، وعبّر ببساطة الرحابنة المعروفة عن هذه الأجيال، في حربها على كل شيء يحاول قتلها وطمسها واحتقارها وإهمالها واغتيال وجودها.

أرد على السؤال بأسئلة: من سيجرؤ على تقديم قصة حب تقول «بيطلع ع بالي رغم العيل والناس... أنت الأساسي وبحبك بالأساس». من أين لنا برشيد ثانٍ يجلدنا كشعوب تُقدّس حكّامها وتموت بالمجان من أجل زعامتها وكراسيها البالية المهترئة؟ من ستكون لديه الجرأة ليعرّي ارتباط الفن الرديء بالسياسة، ويفضح من يقولون كذباً أن كلنا إخوة بس بيقبضوا عليها «بونات»؟

هو زياد الذي مات ورأسه «ما بيحمل مطعم بيبرم بالخليج»... أليس هذا لوحده عنواناً يكسر معياراً «مقدساً» في هذا العصر القذر؟ يموت زياد وبدلاً من نزل السرور الواحد، أضحت كل بلاد المنطقة عبارة عن أنزال تتقاتل فيما بينها لمصلحة أنذال لا يشبهون البلاد، ومشاريع لا تشبه سوى الأعداء، وهل في ذلك إلا حقيقة استشرفها زياد!

يا أبو علي... في الحب تعلمنا موسيقى زياد أنّ «مش كل إنسانة تمرق تفرق وتصير تمون». طيب كمان ولا كل إنسان بيمرق وبيفرق وبيصير يمون على كذا جيل فيبكيه. وأخيراً، في سوريا نحن نحزن على زياد مرتين، كل منها أقسى من الثانية: مرة على زياد ومرة على فيروز الله يطول بعمرها، وبالكلام عن فيروز، كثيرون هم السوريون الذين يقولون «فيروز بتشبه إمي». إذا كانت الأم كفيروز، فالطبيعي أن نقول زياد حاف ونحزن كل هذا الحزن.

 

####

 

صدى صوته يئن في غزة

ثائر أبو عياش

لم يكن زياد الرحباني فناناً عادياً. كان مشروعاً إنسانياً، مزيجاً من الألم والسخرية، من الموسيقى والكلمة التي تنطق بما يهرب منه السياسيون والمثقفون. رحل تاركاً وراءه تراثاً من الصدق المرّ، والخيبة الساخرة، والحب الذي لا يهادن. لكن رحيله في هذا التوقيت بالذات، في زمن المجاعة التي تضرب غزة، يُضفي على غيابه نبرة أعمق: كأنَّ صوته لا يزال يصدح من خلف التراب قائلاً: «أنا مش كافر... بس الجوع كافر».

في غزة، يموت الناس جوعاً، حرفياً، لا مجازاً. الأطفال ينامون على معدة فارغة، النساء يحلبن الخوف، والرجال يخبئون دموع العجز تحت الردم. وعلى بعد مئات الكيلومترات، في بيروت التي حملت صوت زياد إلى العالم، أسلم هو الروح في صمت، ولكن أغنيته – تلك الصرخة التي تجاوزت المسرح – تعود اليوم من جديد، لا لتُغنّى، بل لتُبكى.

أغنيته الشهيرة «أنا مش كافر» لم تكن نشيد احتجاج فحسب، بل اعترافاً داخلياً عميقاً. فيها يقف الإنسان أمام ربه، لا ناكراً، بل ناقماً على الجوع، على الخيبة، على الظلم الذي يجعل من الإيمان ترفاً. «أنا مش كافر، بس الجوع كافر»، لم تكن تبريراً، بل إدانة لنظام سياسي واجتماعي جعل من الجوع وسيلة قمع ومن الدين سلعة سلطة.

وفي غزة اليوم، تتجسّد هذه الصرخة. الجوع هناك لم يعد استعارة. الناس يموتون بحثاً عن دقيق، وأطفال يموتون تحت الخيام أو على أبواب المستشفيات، بينما المجتمع الدولي يقف صامتاً. كأن زياد، وهو في غيابه، يُكمل الرواية، يعيد تشغيل صوته من السماء: «مش كافر، بس الجوع كافر».

زمن تخلّى عن الفن كأداة للمقاومة، واستبدله بالضجيج

زياد لم يكن حكراً على بيروت، ولا امتداداً للرحابنة فقط. كان ابن اللحظة القاسية، وحامل مرآة المهمشين. في غزة، نسمع صداه لا لأنه كتب عنها، بل لأنه كتب عنها من دون أن يسميها. كتب عن كل أم تُذل، وكل طفل يُجوّع، وكل أب ينهار صامتاً. لم يكن فناناً يُصفق له من بعيد، بل رجلاً يشتم الظلم من على الخشبة، ويضحك في وجه القهر، ويقول للأنظمة: أنتم العار. كان يكتب ويعزف ويضحك ويبكي، لا من أجل الأرشيف، بل من أجل أن يشعر الناس أنّ أحداً يتحدث بلسانهم.

في زمن الفقد الكبير، حيث يضيع الأحبة تحت الردم أو في عزلة المستشفى، يُصبح رحيل زياد الرحباني علامة على زمن بأكمله. زمن تخلّى عن الفن كأداة للمقاومة، واستبدله بالضجيج. زمن ارتفع فيه صوت الجوع فوق صوت الشعر.

لكن زياد لا يموت لأنه قال ما لم يجرؤ كثيرون على قوله. لأنه حفر في وجداننا مقطعاً لا يُنسى: «أنا مش كافر، بس الجوع كافر». هذه العبارة اليوم ليست أغنية، بل وثيقة. مرثية لغزة، ووصية من فنان لم يعرف الصمت حتى وهو يودّع الحياة. الوداع يا زياد، وداع من غزة التي لم ترها، ولكنها كانت في كل نوتة كتبتها، وفي كل قهرٍ غنّيته. رحلت، لكن الجوع باقٍ، وصوتك أيضاً.

* كاتب فلسطيني

 

####

 

يوم منعَ وصول الأسطوانات إلى رفاقه في السجون الإسرائيلية

مصعب بشير

«أجاك أجاك!» (جَاءك جَاءك!) قالها أحد الرفاق على باب غرفة 66 في قسم 12 في المبنى القديم من سجن «نفحة» الصحراوي الذي ما زال يعجّ بالنزلاء الذين يسميهم نظام إسرائيل الصهيوني بـ «السجناء الأمنيين».

كنتُ قد طلبت شراء أسطوانة «سي دي» لمجموعة من أغنيات زياد الرحباني، لإثراء سِجِلِّي الموسيقي بما يزيد عن شريط الكاسيت الذي سُجِّلَت عليه قبل ردح من الزمن مجموعة أغنيات لزياد سمعناها مراراً وتكراراً حتى صارت تحول بيننا وبين أي صمت، حتى ذلك الذي بين المرء وذاته!

لا يظنّن أحدٌ أن شراء الأسطوانات عبر مَقْصَفْ «كانتين» سجنٍ إسرائيليِ أمر عادي؛ إذ كان السماح بذلك استثناءً سمحت به إدارة سجن «نفحة» للسجناء السياسيين الفلسطينيين عام 2008، بأن أتاحت لهم إنجاز قائمة بالأسطوانات الموسيقية التي يرغبون في اقتنائها للاستماع إليها عبر أجهزة تشغيل الأسطوانات «سي دي مان»، لكن زياد الرحباني كان السبب في عدم تكرار الأمر!

وصَلَت الأسطوانة وكانت لمسرحية «فيلم أميركي طويل». سمعتها للمرة الأولى هناك، وضحكت وفكرت، وسمعها وفكّر غيري. جابت الغرف والقسم، لكني رفضت أن يستعيرها مني أحدٌ من قسمٍ آخر، لا لشيءٍ إلا خوفاً أن يُنقَل المُستعير إلى سجنٍ آخر ولا أتمكن من استعادة «الفيلم».

بعد أسبوع من استقبال «المشتريات الموسيقية»، أعددنا قائمة بأسطوانات جديدة، وأراد السجناء - الذين لم يتوقعوا وصول أعمال ثورية مثل أعمال زياد- أن يحصلوا فعلياً على كل أعمال رفيقنا زياد. أُعدَّت القائمة التي كانت تعجّ بما هبّ ودبّ من صنوف الأسطوانات الفنية، علاوةً على أغراض أخرى للمأكل والمشرب والملبس. وعندما جاءت المشتريات، لم تكن بينها أي أسطوانات. وبعد سؤال الإدارة، أجاب ضابط الاستخبارات بأن الأسطوانات الموسيقية عادت ممنوعةً من جديد «رحباني وغيره».

قلت لي: «شرف لي أن يسمعني المناضلون. شكراً جزيلاً»

بعد عقد من الزمن وجدتني في بيروت، في مقهى «بلو نوت» حيث كان يقدم فنّه الثمين بتكاليف مالية معقولة وسط غلاء بيروت العاهر. تمكّنت من رؤيته وقصّ قصة أسطوانته، ليردَّ بأدبٍ جمٍ وسط إنهاكه ومرضه الواضحين قائلاً بتواضع: «شرف لي أن يسمعني المناضلون. شكراً جزيلاً».

شكراً لك يا زياد على ما قدمته، وأياً كانت مواقفنا من بعض ما قلته في شأن هذا القطر العربي أو ذاك، فإننا وأنت كنا وسنظل في نفس الخندق، خندق «المْعَتَّرِين» الذين ظلّوا نصب عينيك وفي كلماتك وألحانك وممارستك اليومية. لم يكن اختصارك مُخِلاً أبداً عندما قلت إن «المْعَتَّر بكل الأرض دايماً هو ذاته».

يؤسفني ويحزنني أنك لن تعزف في فلسطين «المعترين» بعد العودة، وبناء ما نصبوا إليه من اشتراكية الحقوق الكاملة والوفرة والسلام دونما استغلال أو قمع، لكني على ثقة بأن موسيقاك وأعمالك ستُبعث بحناجر وأنامل فتيات وفتية في احتفالاتنا القادمة في البلاد. لذكراك قمحٌ وموسيقى وسلام عادل!

* مترجم وسجين سياسي سابق في سجون الاحتلال

 

####

 

حاضر في الضفة المحتلة

يامن نوباني

لم يكن زياد الرحباني مجرد موهبة فنية وإبداعية، تلقفها الفلسطيني في سبعينيات القرن الماضي، وامتدت طيلة العقود الخمسة الماضية، بل، حالة وعي فكري وثوري ناهضة، وأيقونة، عبرت آذانهم واستقرت فيها، كلماته ومسرحياته وأغانيه وحواراته، وتلك الجمل المقتطعة من مسرحياته وأحاديثه الصحافية، كمقولات متصدية دوماً للزمن الذي لا نريده، عبارات لا تهترئ.

إننا، وإن لم نكن الجيل الذي رافق صعوده، وعايش مفاصل تاريخية حضرت فيه مواقفه، فإن: «صوته فينا وأثره لا يُمحى»، ملتزماً بفلسطين وبالقضايا التحررية، موسيقاراً عبقرياً، مختلفاً، شريفاً وحقيقياً وواقعياً.

تحتفظ الشابة ليلى، 23 عاماً، من مدينة رام الله، بكاسيتات لزياد الرحباني، كورثة غنائية سياسية ووطنية وكوميديا ساخرة، من والدها، الذي مارس العمل النضالي ضمن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، في ذروة الفعل الثوري اليساري، فأدخل زياد البيت، بصوته وفنه منذ السبعينيات، ومع اندلاع الانتفاضة الأولى في كانون الأول 1987، مروراً بتغيرات القضية في التسعينات وبخاصة اتفاقية أوسلو.

تقول ليلى: «كان زياد حاضراً بصورة فيروز، وارتباطهما معاً، بأغانيهما وعملهما المشترك، ظهر زياد في حياتي خلال فترة الثانوية العامة، بداية تفهمي لأوضاعنا السياسية والاجتماعية وانحيازي للفكر اليساري. كنت أستمع لزياد وخالد الهبر، وأقرأ مهدي عامل، بدون فهم واضح للمعاني والمقولات والارتباطات. وخلال دراستي في جامعة بيرزيت، التي يذكر فيها زياد الرحباني بشكلٍ دائم، وخصوصاً لدى الفكر اليساري، تعمقت علاقتي بزياد وزاد فهمي لمقاصده من خلال النقاشات داخل الأطر الطلابية، وحضور زياد في الأطر اليسارية.

ساعدتني كاسيتات والدي التي تعود لتلك المراحل النضالية في تاريخ شعبنا، وارتباطاتها بأسماء عالمية وعربية من الاندماج والتؤثر في تلك الشخصيات التي مثلت لي مرجعاً فكرياً وسياسياً، وشارحاً ومستهزئاً، بالحال السياسية والحياة الاجتماعية التي يصفها زياد، كما يجب أن تُوصف، بحدة وجرأة.

لم يكن سهلاً في شباب والدي أن تكون لديك كاسيتات سياسية ووطنية، إذ كانت تتعرّض بدورها للملاحقة والمصادرة، واعتقال صاحبها وزجه بالسجن، فكانت تُهرب وتُنسخ وتوزع سراً، وتُسمع سراً، وتُلصق عليها أسماء لا تدل على محتواها الأصلي.

في جداريات جامعة بيرزيت خلال الأنشطة الثقافية والوطنية، يحضر زياد الرحباني، في فترات لا تستدعي إلا حضوره، شارحاً ما وصلنا إليه، سياسياً، بكلمتين أو ثلاث.

خسرنا فناناً معاكساً، منفرداً وشقياً، وكان القطيع يمر، متكاتفاً بلا هيبة، ومتلاصقاً برجفة. رجفة لا تشبه رجفة وتلعثم زياد في أحاديثه، التي لم تكن تشبه رجف الآخرين، بل، كانت رجفة الذي يعي أن الكلام لن يُصلح هذا الخراب، وأن الأغنية والمسرحية، وإن كانتا باقيتين، فهما أيضاً لن تصلحا عطل الطائفية والفقر والاستغلال وأذناب الاستعمار.

شكّل زياد، روحاً ثورية، ناطقاً باسم المضطهدين والمسحوقين، لسان الشعب الحاد، تجاه النخب والسلطات.
كانت شتائمه موقفاً بحد ذاته. رحل في زمن عربي ميت، تُجَوع فيه غزة على مرأى موائد اللئام، فجاء رحيله «رافضاً» للواقع، الذي عاش رافضه
.

كنا نعي أن وجود زياد، لن يطول، وإن كان في سنواته الأخيرة معتزلاً، وهادئاً. شيء في جو هذه البلاد المقتولة كان يُلمح أننا قريباً، سنودعه، وكان هو بنفسه يعتقد وواثقاً من ذلك: «كل حياتي كنت أعلق أهمية كبيرة على تاريخ صلاحية كل غرض بشتريه، كثير كان مهم هالشي بالنسبة لإلي، من فترة بطلت، بطلت لأنه لاحظت إنه كل شي عم بشتريه، تاريخ صلاحيته أبعد من تاريخ صلاحيتي أنا، أنا والبلد».

* صحافي وباحث في الدراسات الثقافية النقدية

 

####

 

لربّما مات زياد

إبراهيم نجم

ربما كان لا بدّ من أن يرحل زياد في هذا التوقيت بالضبط. حين تساوى كل شيء: الحاكم والمعارض، الفنان والتابع، الأغنية والإعلان. حين انهارت المعايير، وانكمشت الهموم إلى حدود حسابات صغيرة على شاشة أصغر. حين لم يعد الصراخ يجدي، ولا التلميح ينقذ، ولا السخرية تُضحك إلا السُذّج.

مات زياد بعدما أتمّ مهمته، أو لنقل: بعدما استُنزف تماماً وهو يحاول إيقاظ وعي لم يشأ أن يصحو. منذ الثمانينيات وهو يشير بوضوح إلى الهاوية. يصفها، يسميها، يستهزئ بها، يغنيها، يُضحكنا عليها، ويعود ليحزن وحده.
في «نزل السرور» كان القضاء أضحوكة، والدولة شبحاً، والمواطن سجيناً بلا قضية. في «بالنسبة لبكرا شو؟»، لم يكن يسأل سؤالًا، بل كان يكتب مرثية لأمل لم يولد أصلاً. وفي «فيلم أميركي طويل» سبقنا بسنوات إلى واقع مملوء بالضجر، ومهن تافهة، وعلاقات خائفة، وزمن بلا معنى
.

في المقابلات، كما في المقطوعات، لم يخدع أحداً. كان يقول ما يفكر فيه بلا كلفة ولا تملّق. دفع ثمن خياراته، وهُوجم من الجميع تقريباً: اليمين واليسار، المحافظون والانفتاحيون، الفلسطينيون واللبنانيون، حتى «الجمهور» الذي أحبه كان يريده ليعزف فقط، لا ليقول الحقيقة. لكن زياد لم يرد أن يُرضي أحداً. أراد أن يُزعج، أن يُحرّض، أن يقول: «ما عنا بكرا». كان يعرف أنّ الكارثة ليست في الحرب فقط، بل في التسويات، في قبول القبح، في نسيان فلسطين، في تحوّل المثقف إلى موظف، والموهبة إلى مُنتَج.

منذ الثمانينيات وهو يشير بوضوح إلى الهاوية

كان زياد يُنقّب عن الوعي العربي، لا في كتب التراث، بل في «حكي الناس»، في الغضب الخام، في ذاكرة الشارع، وفي صوت فيروز حين يصير نشيداً لا خلفية موسيقية لكأس النبيذ. زياد مات في الوقت المناسب... قبل أن تتحول الكارثة إلى «ترند»، والمأساة إلى «مونولوج»، والمقاومة إلى «ماركة».

مات، بعدما صار هو نفسه، من دون أن يدري، «الذاكرة الحيّة» لجيلين خائفين من أن يحلما. لم نعد بحاجة إلى فنانين كبار فقط، بل إلى بشر كبار. إلى مَن يُصِرّون على البقاء أوفياء لما فهموه عن العدالة، عن الجمال، عن فلسطين، عن الكرامة. وزياد كان هذا كله... بفوضاه، بعنادِه، بعزلته، وبضحكته الساخرة حتى وهو ينكسر.

قد لا نحتاج إلى أن نرثيه، بل أن نستيقظ، ونقول له: سمعناك متأخرين... سامحنا.

* موسيقي من فلسطين

 

####

 

ما العمل

الأخبار

◄ 29 آب 2018

الأميركان (عم نحكي عن الإدارة حصراً... بس)، الأميركان ما بيقتلو اللّي ما بيصدّقوه، بيقتلوا اللّي بيصدّقوه. الروس بالقِلِبْ، بيقتلوا اللّي ما بيصدّقوه... ليه هالفرق؟ لأنّو الأميركان عندهن شعُور وسعي دايم لحكم الكون كلّو، وليصيروا الله... بس، فوَقتهُن معهن، واحد ما صدّقوه خلّيه ما بيأثّر، بيجي وقتو، أمّا الروس فَيُوم بيومو بيتعلّموا منُّو وعمليّاً بيخلّوا اللّي بيصدّقوه بس، لأنّو أخطر، وممكن بس يخلّوه ياخد مجدو ويصير بعد أخطر، يعني ساعتها بس بيجي وقتو

◄ 16 تموز 2018

NGO ..سماع هالجملة ملّا جملة، وتصوّر إنّو عميسمعها مزارع بالبقاع، لاقي دقنو عطرف الرفش تِرْم الغدا، وقّف نكش عميرتاح، وطلعتلو: «... وهذا أقلّ ما تقبل به المنظمات الشبابية في المجتمع المدني». هاي شو هالشيفرة؟ ووين عادةً بيكونوا مجتمعين؟ بجنينة سمير قصير... طيب وهول يعطيهم العافية، بس شو؟ مين؟ شو بيعملوا غير يجتمعوا هونيك، ولا بيزيدوا ولا بينقصوا، يعني كأنّن موظفين أو تابعين لشي، إنّو مثلاً للمجتمع المدني. أساساً كم مجتمع في، ببلد هالأدّ عجيبة قدّ ما زغير، وعالخارطة ما بيعود ينشاف.

إنّو إذا عميجتمعوا هنّي تحديداً بجنينة سمير قصير لأنهن بالمجتمع المدني، طيب نحنا وكلّ اللي ما بيحضروا هالجمعات، بأي مجتمع هنّي؟ بمجتمع غير مدني؟ إنّو أنا شو بدّي فكّر غير هيك؟ إنّو شو عكسو للمجتمع المدني إذا مش غير مدني، عكسو المجتمع العسكري.

ــــ لَهْ شو دخّل؟ ممكن عكسن المجتمع الديني وهنّي المدني.

ــــ آآآآآآآآه! هلّأ فهمت، إي تمام هيك... ليك، اذا المجتمع الديني هوّي عكسو لهيدا المجتمع المدني، لازم فوراً يصير ويتمّ اعتماد التالي: المجتمع المدني هيدا زائد المجتمع الديني، عكسن، مش عكسن عفواً، دواهن المجتمع العسكري. وهيك بس تزبط، لأنّو رح تزبط، رح يصيروا التلات مجتمعات، مجتمع واحد عسكري. يعني ما بيعود حدا ضد حدا أو حاكم حدا أو غير حدا، وعا فترة طويلة أكيد.

كلنا عسكر! وشفلي كيف رح تزبط الساعة أوّل شي، والزيبق، والقياس، شفلي كيف رح يقوى الارسال، كيف رح تختفي الى الأبد عجقة أدونيس وجونية وعبدو وعشتروت ومي المر وجورج شكّور وفؤاد افرام البستاني وستريدا جعجع والمير فاروق أبي اللمع وشارل مالك، الله يرحمن، ورودي رحمة!!! ولِي إلنا من الـ 75 عا فَرْد سحبة

◄ 19 كانون الأول 2014

هاي قصة مش مقالة ولا نتفة. هاي واحدة من قصص بيروت، هاي المدينة اللي افتروا مرة إضافية عليها قدّام ولادها، ولاد بيروت، لما أصروا بعد كل اللي صار من الـ75 للـ91 أصروا يسمّوها: بيروت مدينة عريقة للمستقبل. منين لوين العراقة؟ وين، أيمتى بأي سنين خبرونا؟! والا هيك بدكن تسوقوها علينا ونحنا كنّا موجودين، وطالبين منّا نسوقها كمان على الاجيال اللي جايي..

ما ممكن ما التاريخ والحمدلله انو ما قدرتوا اتفقتوا على كتابتو، وطبعاً لأنو انتو نفسكن اللي كنتو بالحرب عم توزعوا «عراقة»، عم تصدروا «عراقة» كمان، انتو نفسكن قعدتوا عا طاولة لتكتبوا تاريخ الحرب!! كيف انسان عميل ذليل واطي وزعيم بنفس الوقت، ومعروف مين بيلقموا الحكي والفلوس، بدو يقعد مع واحد عا شاكلتو تمام بس من غير طايفة، وقال شو بدن يكتبوا تاريخن... صايرة هاي؟! اكيد لا... عفواً، المقال مش عن هيك أنا بعتذر لأني بتحمّس وبتهوّر لأني ما قادر إحكي عن نكبة واحدة هيك مستقلة، ما النكبات مشبّكة ببعضها وهي بتتوالد خاصة بمساحات من الجغرافيا ما معروف وين الراس فيا هيدي اذا إلها راس...

القصة الحزينة، وهي واحدة من آلافات القصص، عن الحجة آمنة المسلمة السنية البيروتية اللي رجعتها دار الايتام لبيت ابنها المتزوج عا أساس هوي حفيد، وعا أساس إنو كيف ما كان وضعو، صار افضل من دار الأيتام نفسها، أيسر يعني اجتماعياً بالعربي الفصيح. هالكلام بالفترة الممتدة من الـ2007 للـ2010 وليش لحتالي الحجة آمنة كانت تعامل السيريلنكية «اوتام» بشكل ممتاز بخلاف معاملة ولادها الستة يا عالم وزوجاتهن وولادهن، قيسوا مللا طابور، مللا «شلعة دواب» ما بيركبوا الا جيبات أَجلّكُن، لي؟

لأن الجيب عالي وضخم وإلو «إيبوليت»، هاي اللي بتعمل كتاف للزلمة اللي ما عندو كتاف!! إي والقرآن، سيارة لا بتنصف بسهولة ولا بتنساق مع نسوانهن بسهولة ولا بتنفهم شو عم تساوي بزواريب البسطة بسهولة... المهم وهولي الست ولاد ونسوانهن وثرياتهن وولادهن، هودي لبنانيي مميزين، هيدا شي مفروغ منو وما عندهن شي تاني غير يتمسخروا عا العرب بالإجمال ويوقحوا عين اكتر بالمسخرة وبصيروا يعرّضوا اصواتهن خاصة النسوان بس ينقلوا عا السوريين!!.

اي هولي هني المدينة العريقة للمستقبل، وما رح بيفرطوا بالحَمام والدجاج أحيان كتيرة اللي مربينهم عا السطوح.. هولي نفسهن يا ريت تنتبهوا كيف صاروا يعاملوا الحجة آمنة بس رجعت عا البيت من الدار.. بيكفي يكون الانسان ساكن بوج بيتهن، حتى ولو ببناية تانية، ليعرف شو عم يصير جوّا طبعاً لأنو الحجة صارت بتقضيها عا بلكون المطبخ هي و«أوتام»... لأنو الإستلشاق واللي بيصير اضطهاد بعمرها، والبَرّ عليها، متل البَرّ والإستلشاق والاضطهاد اللي شغّال على السيريلنكية المعترة «اوتام»، وعا السوريين... هنّي حَطّوهن بالطبقة نفسها... هنّي طبقة، والحجة آمنة وأوتام والسوريين بطبقة غير!!

وساكنين عا بلكون المطبخ صاروا كأنوا... إمبلا هيك صاروا... لأنو أريحلهن بلكي بياخدوا هوا، بلكي بيتسلوا بحركة الشارع، بالعراضات اللبنانية اللي ما ممكن الا ما تحصل كل يوم وبكل شارع... ورغم كل هالقهر بعدهن بدن رضاهن للتنظيف وللطبيخ... هولي هنّي بيروت الموعودة لتكون عريقة وللمستقبل... اتحدوا، اتحدن، وفوراً يا نساء بيروت!

◄ 4 تشرين الثاني 2014

كلنا، نحنا المواطنين، نحنا عباد الله الصابر الرحوم، لما يغلّق معنا فَهم حياتنا اليومية ومن زمان، ودغري نستقرب، وبالتالي دغري نستشهد بالمقولة الشهيرة «كما تَكونوا يولّى عليكم»، منكون طبعاً بمعرض الحديث عن زعاماتنا عموماً، لأ حصراً. طيّب ما هو هون مشكلتنا، رجعنا! نحنا المواطنين، نحنا العباد الغير صالحين، هاي نحنا! وما بيكفي إنو نحنا أساس المشكلة الكبرى بالوضع القائم إلو سنين، كمان لمّا نحاول نحلّل الوضع، منغشّ، منزعبر، مِنْحرّف. ولاه؟ ما الجملة من شقفتين: «كما تكونوا» واحدة، و»يُولّى عليكم» واحدة تانية.

الجملة هي عرض ــ استنتاج. إنو وين رايحين بـ»كما تكونوا»، إي؟ إنو شو هيي الجملة «يُولّى عليكم» بس؟ كتير هيك. هالوقاحة كمان، بالتأويل وبالتفسير، تعوا لهون، حاكوني، «كما تكونوا» عم بيقلّكن، انتو ما منتبهين ع حالكن انتو كيف ووين وشو؟

خرجكن ولاه، خرجكن يشغّلكن هيك معلّم، خرجكن تغنيلكن هيك مطربة، خرجكن يوقّفكنم هيك دركي، خرجكن تتعذّبوا هلقد بالنافعة، او بالضهرة المستحيلة من الباركينغ، خرجكن هيك بهدلة بهيك مستشفيات مع هيك أطبّا أو لحّامين بلا أخلاق وتجار، ما هيك بتحسّوهن؟ إي وهنّي هيك. خرجكن يطلعلكن هيك خبز، ويطلعلكن إشيا بالخبز، وهيك لبنة وهيك مَيْ! مَيْ يا إلهي، مَيْ يا إلهي لماذا تركتني؟ خرجكن هيك سواقة سيارات، مدرسة بسواقة السيارات، ما في منهج سواقة بالعالم بيشبهها، لا باليونان ولا بالإمارات.

بالنهاية، خرجكن هيك مواطنين، إي شو يعني؟ إنو المواطنين مين هنّي؟ انتو شو ليه بالله؟ إنو انتو كلكن كمواطنين ما دخّلكن بهيك مواطنين؟! كيف هاي؟ وهاي ما في منها إلا عندكن وفيكن. وبالعربي الأفصح: كل ما «تَكونوا» هيك، رح يضلّوا هيك «يُوَلّى عليكم». وأساساً أظن إنو هيك مواطنين بهيك مواصفات، ما لازم «يُوَلّى عليهم» إلا هيك. والدليل، هيدا اللي حاصل.

 

####

 

زياد الرحباني... منمشي ومنــكفي الطريق

الأخبار

 

 

####

 

لن ندعه يموت

أسعد أبو خليل

ضدّ تكريم زياد الرحباني. ضدّ أن يرثيه السياسيّون والإعلاميّون والفنّانون. كلّ الذين مثّل زياد مشروعاً مضادّاً لهم يتسابقون لكَيل المديح على عدوّهم الحقيقي. ضدّ أن تُكرِّس محطّات مشبوهة ومأجورة ومتصهينة فقرات خاصّة به: هؤلاء خصومه لا أصدقاؤه. ضدّ أن تُعلّق نياشين على تابوته مِن قِبل الدولة. أمثاله يتلقّون نياشينهم من الناس في الشوارع كلّما كان يمرّ. ضدّ أن يُشار إلى تراثه بـ«الإرث الرحباني». هو الإرث المضادّ للمشروع الرحباني.

هو ضدّ الرحبانيّة. لا صِلة بين ما فعله وما فعلوه. ضدّ أن يُقال إنّه «عبقري»: هو عبقري بالفعل، لكنّ الكلمة مُستسهَلة في لبنان وتُطلق على مشعوذين ودجّالين ومحتالين ومتفذلكين. ضدّ أن تُغنَّى أعماله بعد موته: كان حريصاً على اختيار الصوت المقرون بألحانه. ضدّ أن تتبنّاه المؤسّسة الدينيّة كما فعلوا بعد جبران خليل جبران: كفّرته الكنيسة لكن عندما مات شوّهوا أفكاره وجعلوه واحداً من الرجعيّين الشوفينيّين. ضدّ أن يُحشَر في طائفة وهو الذي نبذ الطوائف وسخِر من انضواء الناس تحتها. ضدّ أن يُقال إنّه ألهم أُناساً كان يحتقرهم ويسخَر منهم.

ضدّ أن يصبح بعد وفاته أيقونة لبنانيّة تُضاف إلى أيقونات فينيقيّة طائفيّة. ضدّ أن يُعاد تفسير أغانيه حيث تصبح طقاطيق لا مضمون عميقاً لها ولا رسالة اجتماعية ــ سياسيّة هادفة.

ضدّ أن نتحدّث عن حياته الشخصيّة التي لا تعنينا في شيء. ضدّ أن يُقلّد مِن قِبل كوميديّين سمجين: لا يصبح من يُعيد إطلاق كلام زياد ظريفاً وفذّاً مثله. لنتجنَّب ذلك. ضدّ أن نتصنّع التوحّد حول زياد أو أنّ زياد جمعَنا في الممات. لا، بالعكس. وفاته كرّست الانقسام ولو نعاه كتائبيّون وقواتيّون (أبوه نصحه وهو في سنّ المراهقة أن يجمع (البزّاق) بدلاً من الانضمام إلى حزب الكتائب).

ضدّ أن نجعله في المنهاج الدراسي لأنّ ذلك يحتاج أن نُعيد تركيب وطن جديد ينسجم مع أطروحاته.
ضدّ أن نقطع زياد من سياق تاريخه السياسي الطويل كي نقتطع ما يناسب شخصاً أو تيّاراً ما. ضدّ أن يموت زياد. لن ندعه يموت
.

 

####

 

ياه، ما أحلاكن

مريم البسام

في عصر «ياه، ما أحلاكن، شو حلوين»، رُحّلتُ إلى عالم صاخب، فيه ضجيج الدنيا، ومصانع حياكة الالتفافات السياسية الفاتنة بين الدول.

صبيّة كلية الفنون، في سنتها التحضيرية، تتقدّم بامتحانات إذاعية لبرامج تُشبه زياد، وعقله الذي كان زينة البلاد.
يُحكى في حينه أن رجل الظل لإذاعة «صوت الشعب»، كان هذا المرابض في شارع الحمرا، ويتسرّب إلى وطى المصيطبة، كمقرّر ومشرف على استوديوهات فيها كل حبال الصوت وأثيره
.

والبنت القادمة من عشائر بني مسرح للفنون، وإيماءات فايق حميصي، وخصور سهام ناصر، وجنون يعقوب الشدراوي، وسحر بطرس روحانا، يقرّر ابن انطلياس أن يعزلها إلى رمال سياسية متحركة، كانت تُسمّى «قسم الأخبار».

لستة أشهر، بكيت طويلاً من زياد وعصبة حنا صالح وطوني فرنسيس وحسن الشامي وطانيوس دعيبس وآخرين، لأن آراءهم هجّرتني من ضفاف الفنون إلى عِلْم الجن السياسي.

واليوم، بعد عقود، لا أعرف كم سأبكيه وطناً عمّرَه على وزن مكسور، وليوم مع لياليه، يكتنز أطول ساعات الصيف، وقفت أدقّق في النبأ المؤكد، وأنا التي أدّعي تَحدّري من سلالة صناعة الخبر.

رفضت تصديق الرواية المنسوجة زوراً، عن رجل لا يموت، يعيش فينا قبل الميلاد، ونحياه نغماً، وتمرداً، وتحرراً من كل قيود.

أول حزن سبق الدمع كان فيروز، التي تسلّلتُ إلى أحوالها، وتَجسّستُ على رُبوعها، وأيقنت في حينه أنها لا تزال في حالة عدم اليقين. رَفضتْ شائعاتنا، لازمت صمتها، احترفت الحزن والانتظار، وارتأت ألا تصدّقنا، نحن معشر الصحافة الشاردة.

قد تكون قالت: تلك روايات من صنيعة «اللّي بيلفّقوا أخبار... فزياد مشوار يا عيوني، مرق مشوار».

وهذا الزياد، الوارث عن أمه كل هزلية الدنيا وضحكاتها، كان ونيسها الدائم، حتى في زمن «التباعد الاجتماعي».
تجلس على أريكتها وتسمع موسيقاه من راديو لصيق، وترشدك إلى مكامن الإبداع، ترويه عبقرياً يجدّد زمانه، وتشرح لك يوماً، وفي جلسات ممنوعة من الصرف الإعلامي، كيف قفز من «البوسطة» التي كانت متجهة إلى تنورين، هرباً من عيون عليا الحلوين، على مسرح «بالنسبة لبكرا شو
».

هي تسكن هديره الطاحن في الموسيقى، العابر عن أزمنة وحدود، المؤسس لجمهورية مرّة، فيها كل حلاوة الدنيا وسخريتها.

عالبال يا فيروز، في حزنها الواسع وسع المدى.

لا بدّ أنها الآن رجعت إلى طفولة زيادها، لترنّم:

«وشو الدني يا بني، وشو طَعم الدني

إنْ ما هَبّجتْ وجي بإيديك الحرير،

وهالقلب عم حفّو على جرين السرير

عم مرمغو بلعبك، بمطارحك، بفراشك،

بريحة ريشات جوانحك،

بغبرة حوافر حصانك، هالزغير يا بني»

أقامت فيروزنا بين الرحيل والسُكنْى، مسيّجة ببلادها العالية، المعمّرة بقلوب وغناني.

ودارت الأسئلة كموال من سهرة حب: كيف لقلب سيّدة لبنان الأولى أن يحتمل كل هذا الغياب؟

فقبل سنوات، سقطت ليال عن قمة الكاميرا الشاهقة، وهي التي ارتفعنا معها في سماء «بنت الحارس» على ورق وخيطان، في أغنية لم تهرب منها البنت الصغيرة مع «هالورق الطاير».

وكان «هالي» رقيباً على الغياب، بصمت الغارقين في وحدتهم، العازفين عن الحراك، المشاركين بالدمع حصراً، المتوقدين عصراً. يسمع صوتها يتسلل:

«غِديو هلي يا هلي... بالسّحر، ما هي ربوعن دواني».

لا تهنأ حياة لهالي من دونها، ولا تكون فيروز «بلاه»،

هي صوت الله الشافي، الذي أتاه على أطباق من ذهب: عاصي وزياد، الخام منه والمشغول.

كل هذا الحب النازف، تختزنه الأم التي نادت ذات صلاة:

«واه حبيبي، أي حال أنت فيه؟»

فأي حزن سيكفيها الآن، وهي تودّع سفينتها كما في أورفيليس؟

كيف ستمضي عن مدينة زياد من غير كآبة؟

ستسمع شعوباً يهتفون: «لا تفارقنا، لا تفارقنا»، فالمحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.

فيروز وزياد: ستظلان معاً، حتى في سكون تذكارات الله، ومعاً حين تبدد كما أجنحة الموت البيضاء.

وفي يوم اثنين، صوب بكفيا، ستبحر السفينة. ستعود فيروز إلى عرزالها برفقة ريما

«واسألوا ريما:

كيف بوعى بهاللّيالي،

بقعد أنا وحالي،

أهْدُس فيكن،

حاكيكن،

طرقات عمّار مشاريع،

ووزّع هالمدى،

لا آخد من رزق حدا،

ولا زعّل حدا...

قوليلن يا ريما».

وفي يوم تُلقى فيه التحية على زياد... قد نلمح طيفها هناك،

ونمسك بقطعة حزن عنها، ربما نلتقط دمعتها، لنزرعها في ريف العيون.

سيكون حزننا مشتركاً، فزيادك للعموم، للبنان، لشعبه المسكين الذي لا يعرف «أرضه لمين؟»

من قال لك يا زياد إنه:

«ولا غنيّة نفعت معنا،

ولا كلمة، إلا شي حزين؟»

نحن بكينا ودمّعنا،

لكن كل ودائعك هنا... معنا.

مخزونك طاف بين المدن، أغنياتك، صوتك، سخريتك منّا، وعلى الشعب العنيد، صارت نشيداً بين الناس.

يا أبو علي... يا رفيق القمح وصبحي الجيز، صديق المجانين ومخفف عنهم وطأة الجمهورية، ستغادرنا في اثنين من رماد الأيام المتكسّرة، وتترك بلاداً كما صنعتها مسرحياتك: لبنان لحم بعجين.

لكن هذا العجين تلاحم على رحيلك، خرق إطلاق النار اللبناني على اللبناني، أوقف الخلاف، كما أوقف رشيد السير في شارع الحمرا.

سنختلف على كل تفصيل، إلا عليك،

أنت الذي تنبأت بماضينا، وحاضرنا، والآتي إلينا، عرّيتنا من تزيّفنا، وكنت لبنان المُلتهب طائفياً.

شكراً يا رفيق... «ما رح فينا نمشي ونكفّي الطريق؟»

شكراً على جمهورية مهريّة، وصفتها على واقعها،

لكننا سنستل بعض أمل من صوت فيروز،

ونشدّ على صمودها، ونقتدي بنصائح زياد، العابرة للأوطان المشيّدة على صخر جوزيف حرب:

«فيكن تنسوا

الخبز، الكلام،

الأسامي، الأيام،

والمجد اللي إلكن،

لكن شو ما صار،

ما تنسوا وطنكن»

زياد وفيروز «ياه، ما أحلاكن، شو حلوين».

 

####

 

حنجرةُ السَّماء

زاهي وهبي

(إلى فيروز الأُمِّ الحزينة)

فيرُوزُ

ضَبَابُ الصَّبَاحِ حِينَ يَلَامِسُ أَجْفَانَ بَيْرُوتَ،

إِسْوَارَةُ الجَنُوبِ المَشْغُولَةِ بِذَهَبِ التُّرَابِ،

حَنْجَرَةُ السَّمَاءِ الذَّائِبَةِ فِي شَايِ الصَّبَاحَاتِ النَّاعِمَة.

تُعَلِّقُ القَلْبَ عَلَى خَيْطِ نَدى،

وَتُعِيدُ لِلْوَطَنِ المَصْلُوبِ وَجْهَهُ الأَوَّلَ.

فيرُوزُ

الحَزِينَةُ مِثْلُ قَمَرٍ يَتِيمٍ،

سَقَطَتْ فِلَذَةُ كَبِدِهَا

نَغْمَةً مِنْ سِيمْفُونِيَّةٍ لَمْ تَكْتَمِلْ.

أُمٌّ هِيَ أَمْ مَرْثِيَّةٌ نَاطِقَةٌ

أَمْ مُتَتَالِيَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ مِنْ ثَلَاثِ حَرَكَاتٍ:

الزَّهْرَةُ الَّتِي لَمْ تَعِشْ رَبِيعَهَا،

سَاحِرُ الأَلْحَانِ الَّذِي حَوَّلَ وَجَعَ الأَرْضِ إِلَى مَلَاحِمَ،

ثُمَّ هَذَا الَّذِي جَعَلَ النُّوتَاتِ فَرَاشَاتٍ جَارِحَةٍ

وَالْبِيَانُو ثَائِرًا كَمُحَارِبٍ خَسِرَ كُلَّ رِفَاقِهِ.

فيرُوزُ

سِنْدِيَانَةٌ مَكْلُومَةٌ

جُذُورُهَا تَشْرَبُ صَبْرَ التُّرَابِ،

وَطَنُهَا الجَمْرُ

وَمَدِينَتُهَا «مَجْدٌ مِنْ رَمَادٍ».

لَكِنَّهَا ظَلَّتْ بَلْسَماً فِي عُرُوقِ الجرْحَى،

وَدَوَاءً «لِشُعُوبٍ مِنَ العُشَّاقِ».

فيرُوزُ

ذَاكِرَةُ كُلِّ صباحٍ كَإِنَاءٍ مِنْ ضَوْءٍ،

الحَانِيَةُ عَلَى الحَامِلِ فِي عَيْنَيْهِ أَسْئِلَة القَدَرِ

وَالْعَاتِبِ عَلَى السَّمَاءِ.

غَنَّتْ لِلْفَرَحِ صَارَ الفَرَحُ شَجَاعَةً،

لِلْحُبِّ صَارَ الحُبُّ مُقَاوَمَةً،

غَنَّتْ لِفِلَسْطِينَ... فَانْتَفَضَتْ أُمَّةٌ فِي صَوْتِهَا:

الغَضَبُ السَّاطِعُ آتٍ

على القُدْسِ العَتِيقَةِ

وَعَلَى كُلِّ مَدِينَةٍ نَثَرَتْ نَدى وَيَاسَمِيناً

مَاسِحَةً بِرَاحَتِهَا جَبِينَ البِلَادِ.

الحَامِلَةُ فِي عَيْنَيْهَا بِحَارَ صَمْتٍ،

تُغَنِّي،

تَصِيرُ العَاصِفَةُ كماناً ومزْهَرِيَّةً

وَالدَّمْعَةُ نَجْمَةَ صُبْحٍ

وَالوَجَعُ قَوْسَ قُزَحٍ

لِأَنَّهَا
الأُمُّ الَّتِي صَارَتْ وَطَناً،

وَالوَطَنُ الَّذِي صَارَ أُمَّةً مِنْ دَمْعٍ وَغِنَاءٍ

 

####

 

الحيّ الذي لا يموت!

نجيب نصر الله

ربما وجب مفاجأة القلقين ومصارحتهم بأن لا حاجة إلى كل هذا الحزن ولا مبرّر له.

نعم، لا حاجة ولا مبرّر لكل هذا الحزن لا اليوم ولا غداً. فزياد الرحباني لم يمت. هو كغيره من أصحاب الظل وصنّاعه الذين ما زادهم الموت المزعوم إلا حضوراً وتأثيراً.

ربما هو استنقاع الأفكار، وربما هو فتور التطلب الذي جعل من العادي خارقاً، ومن الوهم حقيقة. لكن القاعدة لم تجر يوماً ـ ولن تجري ـ على الاستثناء. والاستثناء، في حالة أصحاب الحضور الخالص والكثيف، هو الأقوى، وهو الأرسخ.

زياد الرحباني حي يرزق. نعم، إنه كذلك، وليس لعاقل إلا أن يصدق.

بل إنّ زياد الرحباني يواصل، ومن دون كلل، اشتغالاته على مشاريعه إياها. وكعهده لا يعبأ بالترسيمات الفوقية ولا بانعكاساتها التحتية. وكيف لا يفعل وهو أحد أبرز الذين أعلوا راية المقاومة للسائد وحليفه الموروث. فكانت النتائج الباهرة التي حفرت في الوعي وسكنت الوجدان: وضوح ثوري لا لبس فيه، ولا شائبة عليه. نعم، إنه واقع الحال وصلب الحقيقة، وكل قول مخالف لا يعوّل عليه.

زياد الرحباني حي. حي في الهامات الشامخة. حي في قبضات المناضلين (لا الناشطين!). حي في رسوخ الأقدام وثباتها. حي في لمعان بنادق المقاومين. حي في صرخات معذبي الأرض. حي في حرية المناضل جورج عبدالله. حي في نضالات شغيلة العالم وخشونة أيديهم. حي في ضحكات الأطفال الصغار. حي في همسات العشاق. حي في كد النمل وسعي النحل وجمال الفراشات. حيّ في غناء العصافير وهديل الحمام. حي في رذاذ الخريف ومطر الشتاء... حي في كل ما اتصل بمعنى الحياة الحرة ومنحها الإباء اللائق بها.

زياد الرحباني حي في «رشيد» و«أبو ليلى» و«مس عايدة» و«الأستاذ عبد» و«نور» و«أبو الزلف» و«شكيب» و«عباس وفهد» و«زكريا» و«ثريا» و«عناية» و«رامز» و«كريكور» و«معلم أنور»... حي في «سهرية» و«نزل السرور» و«بالنسبة لبكرا شو؟» و«فيلم أميركي طويل» و«شي فاشل»... حي في «بعدنا طيبين...» و«العقل زينة».

هو أحد أبرز الذين أعلوا راية المقاومة للسائد وحليفه الموروث

إنها خيبة الموت العظيمة. لكن الموت لا يتعظ. وها هو، اليوم، يكرر المحاولة مع عبث إضافي لا معنى له، ولا جدوى منه.

يا لبؤس الموت وتعاسته. فهو الذي لم يتعظ، ولم يتعلم من دروس الماضي القريب ولا من ذاك البعيد. ولم يتعلم من فائض الحياة الذي يثقل، اليوم، على زياد، كما سبق له أن أثقل على رفاقه من الشهداء الذين واجهوا ويواجهون الأعداء في غير زمان ومكان.

نعم، نكرر القول إن زياد الرحباني حي. بل وأكثر حياة من كل هؤلاء الذين يتحركون، وبالذات تلك الدمى السياسية والثقافية المحنطة، التي تحاول، كدأبها، الرسملة الرخيصة على علم الحق والحرية والعدالة الذي جسده زياد. لكن ما هم الفراشة من النور، وما هم البحر من المطر. وليعلم من يفترض به أن يعلم أن زياد لم ولن يغادر قبل أن يملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت جوراً يسانده في هذه المهمة حشد من ثوار الأرض الذين يتقدمهم شهيد التحرر العالمي السيّد حسن نصرالله وجمهرة كبيرة من صحبه ورفاق دربه الميامين.

زياد الرحباني لم يمت.

زياد الرحباني قلعة من قلاع الوعي الفني الثوري.

زياد الرحباني بركان إبداع، وبحر عبقرية، وجبل كرامة.

زياد الرحباني مثال إنساني وقيمي نادر.

زياد الرحباني الساحر الساخر أبقى وأمنع من الموت الغبي الذي لا يتعظ ولا يتعلم.

بل إن زياد الرحباني يعكف الآن وهنا، في التو واللحظة، على وضع لمساته الأخيرة على عمل يضيفه إلى قائمة أعماله التي يصعب عدها. والأرجح أنه لن يتأخر قبل أن يطل علينا بجديد موسيقي أو مسرحي يقطع مع تلفيقة انسحابه المزعوم من المشهد أو نأيه عنه. فلا مشهد من دون زياد. بل إنّ زياد، ومنذ أن وعاه الوجود هو المشهد ومركزه.

ربما كان من حق المحزونين الحقيقيين أن يحزنوا. فالخبر الذي طار في سماء البلاد وأرجاء واسعة من العالم كان صادماً. ولأنه كان كذلك، وهو فعلاً كذلك، كان أن انطلت الكذبة التي ينبغي تكرار القول إن لا أساس لها، وأنها عارية عن الصحة. وهي، ومهما شاعت أو تعاظمت ستبقى مجرد أمنية تقض مضاجع الأعداء وتقلقهم. وعليه فليطمئن المخلصون، وليهنأوا بمعاصرتهم لرمز من رموز المقاومة الإنسانية التي لم ولن تنفصل عن مقاومة المقاتلين الأشداء الذين انزرعوا على «الحافة الأمامية» في لبنان وفلسطين واليمن وباقي العالم، في مواجهة كواسر العالم وضواريه.

نعم، زياد الرحباني حي ولن يلبث أن يطل بعد دقائق أو ربما ساعات. أي على الموعد الذي ضربه لنا.

 

####

 

مكتب زياد

جمال غصن

منذ أسبوع استدلّ رفيق قديم، والمنظّر على سما ربنا من كاليفورنيا، على مكتبي فقالت له رفيقة: «مكتب زياد». هذه أجدد ذاكرة.

الذاكرة الأقدم هي كاسيت نسيه عمّي «أبو علي» في سيارة أبي الهوندا أكورد موديل 1984 الطالعة من الشركة من عند الوزّان على عين التينة. كان الكاسيت تسجيلاً من «صوت الشعب» حفظته حرفاً حرفاً طوال الثمانينيات ولا أذكر حرفاً منه اليوم.

في عام 1996 كانت سيّارتي الأولى والأخيرة، هوندا سيفيك بيضاء في ميامي. في قسم «الإنترناشيونال» في إحدى المحال الكبرى في «مول» رأسمالي «قحّ»، كان ألبوم «بما أنّو» على قرص مدمج «بعبوصاً» خارج السياق والزمان والجغرافيا والإيدولوجيا. طبعاً اشتريته وشغل القرص الدرج الأوّل من أدراج في «ستفة» الستّة للأقراص المدمجة في صندوق الهوندا سيفيك لسنوات الجامعة وما تلاها من رحلة اكتشاف الذات.

«دبّ الألم بيك»

العتابا الساخرة كانت من خصال زياد وألبوم «بما أنّو». كنت في عمر التنشئة بين نخبة أميركا اللاتينية في عز دين نهضة رأس المال ونهاية الحرب الباردة، وكلّمتني وحدّثتني السخرية من الوضع القائم. دبّ الألم بي إلى درجة قرار العودة إلى بيروت لأن بعد «غزوة نيويورك» و«غزوة بغداد» لم أجد نفسي في أميركا، بل وجدت نفسي في جريدة «الأخبار» التي لم يكن قد صدر عددها الأوّل بعد. في بيروت 2004 لم «تكن كما تكونون» «الأخبار». كان الرفيقان جوزف سماحة وإبراهيم الأمين في «السفير» وقرّرا (مع زياد) إنشاء «الأخبار». في المرحلة نفسها، تعرّفت إلى «العربي الغاضب» أسعد أبو خليل وإلى الكتابة وما كان يسمّى يومها بالتدوين.

انضممت إلى فريق «الأخبار» أواخر عام 2011. لم أتعرّف إلى جوزف، إذ قرّر الموت مبكراً. أتعامل مع إبراهيم يومياً. تعرّفت إلى كثيرين في أروقة الجريدة، ومنهم زياد. أوّل لقاء كان قبل انضمامي إلى الجريدة. في ملعب بلديّة سن الفيل لكرة القدم في تصوير إعلان لبيرة ألمازة قبيل مونديال 2010. «الاحتياط واجب» كانت كلماته في الإعلان. شارك في تصوير نسخة ثانية من الإعلان الأسطوري الآخر طوني حنّا، وقال لزياد «آخر مرّة شفتك كنت مع أمّك وبيّك، قبل أن أغادر إلى أميركا في السبعينيات». «أمّك» هي فيروز. «بيّك» هو عاصي الرحباني. حينها أدركت تاريخيّة اللحظة.

حفلة دمشق

أول لقاء كان على الأرجح في قصر الأونيسكو أو إحدى حانات الجاز في رأس بيروت، حين درجت حانات موسيقى الجاز في بيروت، «موجو» تحت الأرض في شارع الحمرا، «الجاز لاونج» في عين المريسة. لكن حفلة دمشق غير. كنّا خمسة أصدقاء في سيارة صغيرة جدّاً، وكان من المفترض أن يشتري لنا بطاقات رفيق أمضى أشهر في سجون الأسد. لاقيته في لندن لاحقاً. كفر بالسياسة ولكنّه ليس بكافرٍ. في قلعة دمشق وتحت تمثال صلاح الدين، حصلنا على خمس بطاقات، بطاقة بطاقة. جمهور دمشق كان حافظاً للكلمات كلمة كلمة. زوّار بيروت كنّا أقرب الزوار إذ كان الجمهور بغالبيته من أماكن أبعد من بيروت، كطرطوس واللاذقية وحلب.

«أبو علي» في الحمرا

عزف زياد ورفاقه الموسيقيون معزوفة «أبو علي» على بعد متر منّي في شارع الحمرا. كم محظوظٌ أنا. لا أعرف تاريخ الحفل لكنّي أحفظه نوتةً نوتة. كانت بروفة لأحد آخر ألبوماته. كان حفلاً مجانياً وغير معلن. هكذا عرفت شخصه بعد أن كنّا زملاء. حضرت حفلاته الموسيقية في كل مكان، آخرها في حراجل، في الحمرا، في كليمنصو، في دمشق، في بيت الدين، في المركز الثقافي الروسي، مع فيروز.

لم أفوّت فرصة عندما علمت كم محظيّاً كنت. بعد الكاسيت والسي دي أصبحنا زملاء «في الجريدة»، لا أعرف كيف. لكن عندها صرت ألتقي مؤلف «أبو علي» صار يناديني باسمي.

زياد عاصي الرحباني لم يكن يعرفني أنا شخصياً، كان يعرفنا جميعاً شخصياً. هذه أسطورته.

 

####

 

شخصياته المسرحية لم تغادرنا يوماً: الضحك المرّ على خشبة وطن ينهار

أدهم الدمشقي

الكتابة عن عبقرية زياد تعني الإصغاء إلى موسيقى تُرتّل على إيقاع الحروب والخيبات، واستذكار شخصياته المسرحية التي لم تغادرنا يوماً، لأنها ببساطة لم تكن على الخشبة بقدر ما كانت تسكن فينا. لقد ابتدع زياد الرحباني مسرحاً هجائيّاً استشرافيّاً منسوجاً بأعصابنا، لا يكتفي بالتعبير عن الواقع بل يفضحه، ولا يكتفي بالسخرية منه بل يسخر من سخريتنا ذاتها.

وعندما نستعيد جملَه الموسيقية والمسرحية، لا نكرّرها فقط من باب النوستالجيا. نحن نعيد صياغة وعينا بها. نحن نكتشف كم أن الفنّ الذي يضحكك على مأساتك أبلغ من الفنّ الذي يبكيك منها.

في مسرحه، لا شخصيات نمطية رغم أنّها مألوفة، ولا «رسائل مباشرة» رغمَ أنّها معاشة، هناك حفلة جنون جماعية، حيث المجانين عقلاء والسلطة مريضة، حيث الحرب تلد الخوف، والخوف يلد الطاعة، والطاعة تلد المسخ.

في مسرحية «فيلم أميركي طويل» (1980)، لم يقدّم زياد نقداً سياسياً صريحاً بقدر ما نسج متاهة نفسية تعكس الخراب العام: من مريض يلاحق المؤامرة، إلى آخر يهاجس المصادفة، إلى طبيب يبدو أكثر اضطراباً من مرضاه. هناك، في المصحّ، نكتشف أن الجنون ليس اختلالاً ذهنياً، بل ردّ فعل طبيعي على واقع مفكّك.

في «بالنسبة لبكرا شو» (1978)، لا نتابع مسرحاً بل نتورّط في نسيج مدينة تتداعى. عبر شخصية زكريا، يختصر زياد حيرة جيلٍ كاملٍ بين الحب والسياسة، بين العجز والغضب، بين البقاء والرحيل. لا يقدّم حلاً، بل يكشف هشاشة السؤال نفسه: «بكرا شو؟» هو السؤال الذي ما يزال يلاحقنا كوصمة وطنية.

في «نزل السرور»، تحوّل الفندق إلى استعارة لوطن مؤقت

أما في «نزل السرور» (1974)، فتحوّل الفندق إلى استعارة لوطن مؤقت، يقطنه المنبوذون، المنكسرون، الحالمون بثورة لا تأتي، أو ربما لا يريدونها أصلاً. فالمشكلة ليست في الجلاد وحده، بل في الضحية التي فقدت الرغبة بالنجاة.

زياد الذي بخلَ علينا بإبداعاتهِ، في السنوات الأخيرة، بقي منفياً اختيارياً في الداخل، يراقب من ضباب سجائره مدينةً انهارت ولم تعد تعرف من أين تنهض.

فاليسار عنده لم يكن موقفاً أيديولوجياً بل أخلاقياً. والفن ليسَ محاكاةً للواقع بل استشراف لمستقبلِ تاريخٍ يُعيدُ نفسه. كان يقف إلى جانب الفقراء لا بالخطابات، بل بأن جعلهم أبطال أعماله، بوجوههم المغبرة، بلغتهم القاسية، بتناقضاتهم المحببة.

في زمنٍ انقلبت فيه الواقعية إلى تكرارٍ فجّ للسطح، وابتذلت فيه «الشعبية» كأنها ملجأ العجز الإبداعي، استخرجَ زياد من اليومي التافه نصلاً حاداً، يشرّح الجرح اللبناني، يعرّيه من دون أن يتحوّل إلى واعظ أو خطيب، لأنّهُ لم يستخدم الواقع ليبرّره أو ليمتطيه، بل لكي يقارعه بالسخرية. هذا المسرح مشروع فني متكامل، غايته ليست فقط إضحاك الجمهور، بل إعادة تعريفه كجمهور... إعادة تحميله مسؤولية الضحك نفسه.

أما الخروج من عباءة الرحابنة فلم يكن تمرداً عائلياً بقدر ما كان إعلان ولادة لمدرسة فنية جديدة، تتقاطع مع إرث الوالدين من حيث التزامها الجمالي، لكنها تفارقه تماماً من حيث اللغة والمضمون.

رحل زياد؟ ربما جسداً. أما هو فبيننا، في عباراتنا، في جلساتنا، في خيباتنا، وفي ابتساماتنا المرة. مسرحه لم يكن حدثاً فنياً، بل تجربة وجودية. هو ذاكرة لبنان الحقيقية، لا تلك التي يكتبها المنتصرون، بل تلك التي تصرخ بها الشرفات، والطرقات، والبيوت التي تنتظر كهرباء لن تأتي، وربما، لن تحتاجها... فزياد أضاء كل شيء.

 

####

 

من «صديقي الله» بدأت الحكاية

منير الحايك

«صديقي الله» باكورة ما نشره زياد الرحباني الشعرية التي كتبها بين عامَي 1967 و1968، ونشرها عام 1971، تدلّ على أنّ هذا الطفل، المشاكس، لم يكن عادياً، وابناً مدلّلاً لأبوين مشهورين، مبدعَين.

«أنا صغير» يبدأ النصّ الأول، وهذا الفتى يعرف أنه صغير، على عكس الأطفال الذين يريدون تقليد الكبار، والكبار ممن حول زياد كانوا عاصي وفيروز ومنصور. كان «مدركاً» أنه صغير، يطفئ ستّ شمعات.

في النص الثاني كلام مباشر حول البحث عن الإله، «وقالوا يوماً إن الله صديقي، ورحتُ أفتّش عن صديقي». كان الطفل «يفتّش» ولم يرضَ بما «قالوه»، ذلك الصديق الذي قالوا له إنه يخاف فعلاً، ولكنه يخاف من ألّا يحبّه زياد الطفل، فهل أحبّه زياد في ما بعد؟

ويستمر في مناجاة «صديقه»، لكن العمق الذي حملته تلك النصوص، لا يمكن أن يصدّقه، إلا من عرف العبقريّ عبقريّاً، فتكون نصوصه الأولى في العاشرة والحادية عشرة من عمره مبررة النبوغ الظاهر فيها: «في الشتاء طُرُق المجيء مسكرة، وطرق السفر يقف عليها أناس كثيرون، لا يبكون، لا يضحكون، إنهم مسافرون، وعصافير تنتظر موكب الريح، هل يصل صوتي إليك عبر كلّ هذه الأوراق المتساقطة؟».

وتكمل نصوص زياد القصيرة على الشاكلة نفسها: طفل يسأل عن صديقه الله، يسأل أمه، ومن يقرأ ولا يعرف صاحب الديوان، يظنها أمّاً عادية، أمّاً بحقّ، من دون القدسية التي رافقت فيروز، كأنّ هذا الطفل كان يبحث عنها أيضاً، فحضرت بشكل كبير في نصوصه الأولى: «تلبس أمي فستاناً جديداً وتسألني: هل جميل فستاني؟». جميعنا رأينا تلك الفساتين، ولكن ذلك الطفل كان يشارك أمه يومياتها الطبيعية ككل الأمهات.

كتبها بين عامَي 1967 و1968

نصٌّ يَظهر فيه لَبِنة أولى لزياد الذي عرفناه، كتبه طفلاً، يحمل كل ما تأسست عليه ثورة زياد على التقليد وعلى أهله وإرثهم، وثورته على نفسه حتى في ما بعد، وهو العصفور الذي أراد تكسير قفص الرحابنة، يقول: «كيف أفهمك يا عصفور قفصنا، إنني أنا غير أهلي، لا أحبّ أن أقتني لا أقفاصاً ولا عصافير».

زياد ترحل وأنت الباقي في وجداننا، و«صديقك الله» لا ندري إن كان في انتظارك أم أن النهايات، ستكون كما آمنتَ، وختمتَ فيها هذا الديوان «الأيام أبواب على كل منها حارس، وقد كُتِب علينا أن نخلق كل يوم، وعلى كل باب قصة جديدة، نُلهي بها الحارس ليفتح لنا الباب، إلى باب آخر». ها قد دخلتَ الباب الآخر، إلا أنّ قصصك ستظل معنا لنلهي بها الحرّاس، علّنا نستمر في الحياة، في هذا الزمن الصعب.

 

####

 

أن تكون صادقاً حتى آخر وجع

عماد ياغي

في زحمة هذا الشرق المتعب، في ضجيج السياسة والدين والموت المجاني، كان هناك صوت مختلف، لا يُشبه أحداً، ولا يريد أن يُشبهه أحد. صوتٌ يتلوى بين السخرية والغضب، بين الحزن العميق والضحكة التي تأتي كفعل مقاومة. زياد الرحباني، ذاك الذي لم يُولد ليُرضي أحداً، ولا ليُورِّث مجداً، بل ليقول: هناك صوت آخر، لغة أخرى، وشعب ما يزال يئنّ، ويريد أن يقول كل ما لا يُقال.

لم يكن فناناً عادياً. لم يُخلق ليُغنّي، بل ليُفكّك المعنى، ويُعيد صياغته على طريقته. منذ بداياته، تمرّد على كل شيء: على الجمال المعلّب، على الموسيقى النظيفة أكثر من اللازم، على الشعر الذي لا ينزف، على المواقف الرمادية. كان يرى الفن امتداداً للواقع، وكان يكره الزينة، ويخاف السكوت أكثر من الموت. لهذا، لم يُهادن يوماً. لم يبحث عن جائزة، ولا عن منصب، ولا حتى عن إعجاب أحد. كان يبحث عن الحقيقة، مهما كانت موجعة، وكان يجدها غالباً في أصوات المهمّشين، في وجوه العمّال، في وجع المواطن الذي يقف على أبواب الإدارات المهترئة، وفي الصمت الطويل الذي لا يقطعه إلا صوت المذياع أو الراديو العتيق في زاوية المقهى.

هو ابن فيروز، نعم، لكنه لم يكن يوماً مجرد ظلّ لصوتها الملائكي، بل كان نقيضها من حيث الشكل، وامتدادها من حيث العمق. فيروز كانت تُغني الحلم، وزياد كان يفضح الكوابيس. فيروز تُقدّم صورة الوطن الممكن، أما هو فكان يغوص في الوحل، ويشرح الواقع بلا مكياج. لم يرِدْ أن يكون شاعراً في بلاط الجمال، بل شاهداً في زمن القبح، شاهداً لا يتجاهل، ولا يُسامح، ولا يسكت. ولهذا السبب، أحبّه الناس الحقيقيون، أولئك الذين لا وقت لديهم للزخرفة، ولا رغبة في المجاملة، أولئك الذين يبحثون في الفن عن شيء يشبههم، لا عن نافذة للهروب.

في مسرحه، لم تكن الشخصيات مجرد أدوات درامية، بل نسخاً حيّة منّا: الفقير الذي يحلم بلا أمل، الموظف المقهور، المواطن الذي يكتب رسالة ولا يعرف لمن يرسلها. كان المشهد الواحد كافياً لأن يعرّي طبقة كاملة من المجتمع، أو نظاماً سياسياً بكامله. لا عجب أنّ مسرحياته استُقبِلت دائماً بكثير من الضحك، وكثير من المرارة. لأنه كان يضعنا أمام أنفسنا، بلا تزويق، بلا مؤثرات، وبلا أيّ محاولة للترفيه المجاني. زياد لم يكن فناناً يلوّح بالمواقف، بل إنساناً يعيشها. لم يكن محايداً، ولم يتظاهر بالموضوعية. اختار موقعه منذ البداية، حيث اليسار، حيث الفقراء، حيث المقاومة بكل معانيها. لم يتردد لحظة في التعبير عن احترامه لكل من حمل السلاح في وجه الاحتلال، بصرف النظر عن انتمائه الطائفي أو السياسي.

كان يرى في المقاومة فعلاً أخلاقياً قبل أن يكون عسكرياً، ويرى في الفن شريكاً لها، لا مرآة لزخرفتها. ولهذا السبب بالذات، لم يكن مرحّباً به دائماً في الوسط الثقافي البرّاق، ولا في المنابر المحسوبة على النخبة المتلونة. لأنهم لم يحتملوا حدّته، ولا وضوحه، ولا صراحته وجرأته التي لا تُجامل. عندما كان الجميع يلوذون بالصمت، كان هو يتكلم.

وعندما اختبأ الفن خلف الابتسامات، كان هو يكشّر عن أنيابه، لا تهديداً بل صدقاً. وحين أصبحت الأغنية إعلاناً، والمسرح تمريناً على النسيان، كان زياد يقف وحيداً في الزاوية، ينظر إلى الواقع من كواليسه، ويكتب، ويعزف، ويشتم، ويضحك، ثم يسكت فجأة كما لو أن الصمت أصدق من كل الكلام. ومع السنوات، بدأ ينسحب بهدوء. لم يعد يظهر كثيراً، ولم يعد ينتج كثيراً. ربما تعب، وربما اختنق، وربما شعر أن ما أراد قوله قد قيل، لكنّه ظلّ حياً في وجدان من فهموه. حضوره لم يكن بحاجة إلى ألبوم جديد، ولا إلى مقابلة إعلامية.

حين يكون الفنّ حقيقياً، يتحوّل إلى ضمير لا يموت

لأن زياد كان أكبر من الحدث، وكان كل حضوره موقفاً متواصلاً، لا يحتاج إلى مناسبة. اليوم، حين نفتقده، لا نشعر أننا فقدنا صوتاً فنياً فقط، بل فقدنا تلك «الجرأة الجميلة» التي كانت توقظنا من سباتنا. فقدنا ذاك الشخص الذي لم يكن يخاف قول الحقيقة، حتى لو أحرقته. لم يكن نبياً، ولا قديساً، لكنه كان صادقاً، وتلك صفة نادرة جداً في عالم يمتهن التزييف.

في غيابه، تتكرر الأسئلة: من يحمل هذا الصدق الآن؟ من يكتب للناس لا عنهم؟ من يقول ما يجب أن يُقال، لا ما يُنتظر أن يُقال؟ زياد لم يترك خلفه تلاميذ، بل ترك اختباراً مفتوحاً: اختباراً للذوق، وللجرأة، وللفن نفسه. هل ما يزال الفن قادراً على أن يكون أداة مقاومة؟ أم أنه تحوّل إلى سلعة ناعمة تُباع وتُشترى؟

إن الذين فهموا زياد، لن ينسوه. لأنهم لم يحبوه فقط بسبب نغمة، بل بسبب موقف. ولأنهم عرفوا أن الفن، حين يكون حقيقياً، يتحوّل إلى ضمير لا يموت. وزياد لم يكن مشروعاً موسيقياً فقط، بل مشروع وعي. وحين يموت الوعي، لا يعود للفن طعم، ولا للكلمة قيمة.

ولهذا، فإن زياد لا يموت. لأن الكلمات التي قيلت بصدق، تظلّ حيّة، مهما تغيّرت الأزمنة. لأنه حين تجرّأ على قول ما لم يُقل، فتح لنا باباً، وترك لنا خريطة تقول: إيّاكم أن تسكتوا. إيّاكم أن تزيّنوا الخراب. إيّاكم أن تُغنّوا، وأنتم خائفون.

 

####

 

مُجدّد فيروز وشيوعي «النمط القديم»

محمد خير

حول طاولة ازدحم على جانبيها الصحافيون في جريدة «الأهرام» في القاهرة، سألتُه عن عدم اهتمامه بالتعاون مع أصوات طربية جميلة في مشروعاته الموسيقية.

القاهرة | بطريقته المشاغبة أجابني زياد الرحباني بسؤالي عما إذا كنت لا أعتبر السيدة فيروز صوتاً جميلاً؟
قلت إنني بالطبع لم أقصد أغنياته مع فيروز، وكان في خاطري مشروعاته الأحدث؛ سلمى مصفى (مونودوز)، وربما رشا رزق، بل ربما حتى لطيفة في «معلومات مش أكيدة
».

لم أجد الوقت وسط زحام الأسئلة في زيارته القاهرية النادرة آنذاك (2010) لمواصلة الأسئلة. واندهشت أن قد خطر له أن فيروز جزء من سؤالي، ثم اندهشت – في ما بعد – أنني لم أستبعدها باللفظ ربما لأنني اعتبرته شيئاً بديهياً. ومع ذلك فإنني، بعد 15 عاماً من هذه اللحظة، صرت ألاحظ، كما كثيرون، أن الزمن الذي كان زياد يعد فيه ملحقاً وإضافةً إلى زمن فيروز الأخوين رحباني، ربما قد انتهى، لقد صار له في «أمّه» ما لا يقل عما كان للزوج والعم.

بل ربما نستطيع القول، إنّنا الآن بعدما كنا «نلاحظ» أن هذه الأغنية أو تلك من كلمات وألحان زياد، صرنا في كثير من الأحيان نفعل العكس. كاد تراث زياد يصبح هو النهر الوفير الجاري، وصرنا «نلاحظ» روافد هذا النهر في أعمال الرحبانية الكبار. صارت موسيقاهم - في كثير من الآذان – كلاسيكية وبعيدة، مقارنة بموسيقى زياد، سيان الأصلية منها، أو حتى إعادة التوزيع.

يمكن القول إذن إن زياد هو مجدد فيروز الذي لولاه لسنا موقنين أنها كانت ستعبر هذا العائق الكبير والسور العالي بين «العصر الذهبي للموسيقى العربية» الذي لامس بالكاد سبعينيات القرن العشرين، وزمن الكاسيت، والـ «سي. دي»، وصولاً إلى الإنترنت والسوشال ميديا. لاحظ هذا زياد نفسه في حفلة «الساقية» تلك، التي أتاها – وأتى القاهرة- بعد تردد طويل، ليزدحم الناس وقوفاً في مشهد غير مسبوق في هذا المكان، رغم مضاعفة أسعار التذاكر آنذاك مرات عدة.

لاحظ زياد – كما عبّر في لقاءات تلفزيونية تالية – أنّ الجمهور المصري لا يحفظ الأغنيات فقط، بل يحفظ الوقفات، السكتات، أماكن الصمت وتوقيتات التصفيق ومناسبات الكورس والغناء الجماعي. لقد كان موجوداً، بنفسه، وبأمه، في القاهرة قبل حضوره الجسدي بوقت طويل.

كانت الحفلة قبل أقل من عام من الربيع العربي، والجمهور الذي ارتبط بالتراث الثوري في فن زياد لم تسعده بعض مواقف صاحب «أنا مش كافر» تجاه «الربيع». لقد نسي بعضهم أن زياد ليس ناشطاً من نمط الألفية الجديدة ولا الثورات الملونة. إنه شيوعي على النمط القديم، شيوعي ما قبل غضّ البصر عن الإسلاميين، من نمط عدم الارتياح للتأييد الأميركي والشك في التشجيع النفطي. نمط عدم القبول غير المشروط لـ «الديموقراطية». نمط ما قبل طلب الإعجابات على السوشال ميديا. إنها إعجابات لا يحتاج إليها العباقرة على أي حال، وكان زياد واحداً منهم بلا شك.

 

####

 

دموع كارمن أمام نعش زياد

الأخبار

رفضت الممثلة اللبنانية إعطاء أي تصريحات حول رحيل زياد، معتذرةً للإعلام ومطالبة باحترام الخصوصية. ثم انهارت أمام نعش الرحباني.

كانت الممثلة كارمن لبس أول الواصلين إلى صالون «كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة» في بكفيا، للمشاركة في تشييع الراحل زياد الرحباني. رفضت الممثلة اللبنانية إعطاء أي تصريحات حول رحيل زياد، معتذرةً للإعلام ومطالبة باحترام الخصوصية. ثم انهارت أمام نعش الرحباني. كارمن التي شكّلت مع زياد ثنائياً مميزاً، ربطتهما علاقة حب دامت نحو 15 عاماً، غالباً ما كانت تعبّر عن حبها لزياد في إطلالاتها، مشيرةً إلى أنه الشخص الوحيد الذي أحبّته.

عند إعلان وفاة الرحباني، كتبت لبس عبر حسابها «فكّرت بكل شي إلا إنو الناس يعزّوني فيك. الوجع بقلبي أكبر من إني اقدر أوصفو. أنا مش شاطرة بالتعبير، انت أشطر مني بكتير تعبّر عني».

وأضافت: «لو كان في بُعد، بس كنت موجود، وهلق بطّلت. صعبة كتير يا زياد ما تكون موجود. رح إبقى اشتقلك عطول، لو إنت مش هون. وحبك... بلا ولا شي».

 

####

 

حين دلّتنا أغنيات زياد إلى المستشفى

زكية الديراني

لا تحتاج إلى السؤال عن موقع «مستشفى خوري» في الحمرا، بل يكفي أن تتبع صوت أغاني الراحل زياد الرحباني التي صدحت من أعلى نزلة «الجامعة الأميركية» وصولًا إلى المستشفى الذي احتضن جسد زياد.

لا تحتاج إلى السؤال عن موقع «مستشفى خوري» في الحمرا، بل يكفي أن تتبع صوت أغاني الراحل زياد الرحباني التي صدحت من أعلى نزلة «الجامعة الأميركية» وصولًا إلى المستشفى الذي احتضن جسد زياد. كان ذلك الصوت دليلاً يرشد محبّي زياد إلى معشوقهم، قبل أن ينطلق في رحلته الأخيرة إلى «كنيسة رقاد السيدة – المحيدثة» في بكفيا.

دراجة نارية تُشعل وداع زياد

قد تظن أن الصوت العالي قادم من جهاز «دي دجاي» يعرف زياد عن قرب، أو من سيارة مركونة على جانب الطريق. لكنه في الحقيقة كان صوت دراجة نارية زيّنت بصور، وشعارات، وأغنيات زياد. إلى جانبها يجلس شاب أربعيني، يدخن السجائر، وفي عينيه دمعة صادقة. ركن يحيا المصري دراجته النارية على حائط «مستشفى خوري» في الحمرا، وأدار صوت أغاني زياد عالياً. كان بمثابة قائد أوركسترا التشييع، يطلب من الجمهور الغناء، ثم التصفيق بحرارة.

شارع الحمرا يُغنّي لوداع زياد

صدحت أغنيات زياد في الحمرا، الشارع الذي أحبّه وكان محطته الأخيرة. كلما صمت أصدقاء زياد قليلًا، كان صوت الدراجي يحيا المصري يرتفع مردّداً: «هيدا زياد، زياد ما بيموت. زقفة لزياد». فيتفاعل معه الحضور وكأنهم يلبّون نداء وداع شعبي صادق. يعيد المصري تشغيل الموسيقى، فتتداخل المشاعر بين الحزن والفرح. هكذا كانت أعمال زياد: مزيج من الأحاسيس الصادقة، تلامس القلب دون استئذان.

يحيا المصري: زياد باقٍ في أغانيه

كان يحيا المصري واحدًا من الوجوه الشعبية البارزة في تشييع زياد الرحباني. يقول في حديث لنا: «أنا بيروتي. زياد ذهب بالجسد فقط، لكن أغانيه باقية، وأسمعها يوميّاً. كنت سأغلق شارع الحمرا كما فعل زياد في فيلم أميركي طويل، كي يصل أصدقاؤه لإلقاء النظرة الأخيرة عليه. لكن حسناً، استدرك الأمن اللحظة وأقفل الطريق بنفسه». امتزج صوت يحيا المصري مع أغاني زياد، في مشهد صادق ومعبر. زيّن دراجته بصور زياد، وقال: «زياد عبقري، ويستحق وداعاً صادقاً يشبهه».

 

####

 

بالزغاريد والارز والدموع… ودّع الشعب زياد الرحباني

زكية الديراني

كان وداع الفنان زياد الرحباني (1956/2025) صباح اليوم نقيّاً وصادقاً مثله. وداع شعبيّ بعيد عن الشعارات السياسية، وخال ممن يُسمّى النجوم اللبنانيين.

كان وداع الفنان زياد الرحباني (1956/2025) صباح اليوم نقيّاً وصادقاً مثله. وداع شعبيّ بعيد عن الشعارات السياسية، وخال ممن يُسمّى النجوم اللبنانيين.

كان وداعاً من القلب إلى القلب نظّمه أصدقاء زياد، فلبّى الدعوة الفقراء والمساكين الذين لفظتهم الحياة ولمس زياد جراحهم. كان الوداع مؤثّراً من أمام «مستشفى خوري» في الحمرا، عابقاً برائحة زياد، قبل أن ينطلق موكب التشييع الى «كنيسة رقاد السيدة - المحيدثة» في بكفيا.

وداع صادق

كانت الدمعة أصدق فعل على رحيل عملاق شكّل وعياً سياسيّاً واجتماعيًّا في ذاكرة اللبنانيين ووجدانهم.
صدحت أغاني زياد من الدراجة النارية التي يقودها يحيى المصري، الشاب البيروتي، صارخاً بأعلى صوته «العبقري زياد». ثم علا التصفيق الذي اختلط بالدموع على أنغام «شو هالأيام اللي وصلنالل» و«يا زمان الطائفية» و«تلفن عياش
».

زيّن البعض كتفه بالكوفية الفلسطينية التي لطالما كانت بوصلة في أعماله الفنية. ونثر البعض الورود الحمراء وصور زياد متنقلين بين الحشود.

هذا الوداع الشعبي يليق بزياد، ويُعدّ بمثابة صوت صارخ في وجه الدولة اللبنانية التي لم تُعلن الحداد إثر رحيله. لكن زياد ليس بحاجة إلى حداد وطني ولا شعارات وأكاذيب في ورقة النعي الرسمية، ويكفيه حب هذا الشعب.

تجمّع اللبنانيون لوداعه من دون أي دعوة رسمية ولا بيانات من رئاسة الحكومة أو رئيس الجمهورية، حتى إنّ الدولة لم تتّخذ قرارًا بإغلاق الطريق المؤدي إلى «مستشفى خوري» حيث تجمّع الناس. لكنّ المجتمعين قرروا القيام بتلك الخطوة إفساحاً في المجال أمام محبّي زياد لإلقاء النظرة الأخيرة عليه.

 

الأخبار اللبنانية في

28.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004