كان ثورة السوريين الأولى
مروة جردي
ليس من السّهل تحديد متى عرف السّوريون زياد الرحباني، ولا
كيف بدأت علاقتهم به.
لعلّ واسطته الأولى كانت فيروز، إذ لا يخلو صباح بيت سوري
من صوت والدته. ربما دخل معها منازل السوريين حين سمعوا «سألوني الناس»
و«كيفك أنت». لكنّ ابن فيروز، سرعان ما تحوّل إلى زيادنا صديقنا وعمنا.
لا حاجة إلى التعريف به. فزياد دخل مجالسنا، وربما تبادل
معنا القبل والأحضان، وسأل عن الأهل والجيران. لكنه لم يكتفِ بذلك. استغلّ
هذه الألفة، ونشر عبرها ثقافة كاملة صارت، مع الوقت، هويةً لشرائح واسعة من
السوريين. بهدوئه وسخريته وموسيقاه، تحوّل زياد إلى «أحدنا». صار منّا
وفينا.
موسيقى تعرفك... وتتكلّم عنك
«عاجبك
يا عمّي زياد؟» عبارة تخاطب فيها شخصية «فيديل ديناري» (أحمد الأحمد)
الصورة المُعلّقة في القبو الدمشقي الذي استأجره بعد قبوله في المعهد
العالي للفنون المسرحية. لم يعرف السوريون زياد الرحباني من مسلسل «هومي
هون»، لكن المسلسل ترجم كيف عرفوه، هو صوتهم. نموذجهم عن الحرية،
والمشاكسة، والجاذبية المشروعة.
مع تراكم مقولاته في المسرح والموسيقى صار لكثيرين أكبر من
مجرد فنان، فحفظ جيل كامل كلماته عن ظهر قلب، وقلّد مظهره وطريقة كلامه،
وسخريته من الوضع العام، والحب والصراع الطبقي، أصبحت رائجة عند الجيل
الصاعد. يحضر مجدداً كعنصر أساسي في مسلسل «مشاريع صغيرة» عندما يكون
الملجأ لبطل العمل «عاصي (سلوم حداد) مع نهاية كل يوم نضال ليساري قديم
يحاول تحسين حياته وحياة من حوله.
وبذلك، لم يكن من قبيل المصادفة أن يردّد الجمهور السوري كل
نغمة عزفها زياد في حفلته الشهيرة داخل قلعة دمشق. وحين قال لهم ممازحاً:
«جينا نسمعكن، طلعنا عم نسمعلكُن»، كان يختصر علاقةً تتجاوز المسرح
والموسيقى. زياد، الذي حرص دائماً على تخصيص بطاقات بأسعار مخفّضة للطلاب،
لم يكن فناناً زائراً. كان صديقاً قديماً. يعرفهم كأنه عاش بينهم، كأنه
«عمّهم» فعلاً، كما تناديه شخصية «فيديل ديناري».
ضمّ فريقه موسيقيين سوريين، بين مغنّين وعازفين، برزت بينهم
رشا رزق، التي غنّت «بلا ولا شي»، فصارت واحدة من أشهر أغاني الحبّ التي
ردّدها العشاق الفقراء. إلى جانبها، منال سمعان، التي أحبّها الجمهور عبر
«معلومات مش أكيدة»، ثمّ ليندا بيطار، ونهى زروف، وعازف العود باسل داوود،
الذين أغنوا تجربتهم بمشاركتهم في حفلاته الدمشقية.
عاما 2008 و2009، كانا موعد السوريين مع أول وآخر حفلات
زياد في الشام. الأولى ضمن فعاليات «دمشق عاصمة الثقافة العربية»، والثانية
بعنوان «منيحة... موسيقى، غناء، وكلام». في القلعة الأثرية، استعاد جمهور
زياد لحظة نادرة: أن تشعر أن الموسيقى تعرفك، وتتكلّم عنك، وتنحاز إليك،
بلا ولا شي. أعاد من حضرها تذكر كل ثانية تتعلق بها بعد إعلان رحيل صاحبها.
حين تُذبح الهوية وتغيب الموسيقى
قبل أيام من رحيل زياد، كان السوريون يعيشون فاجعة الشاب
أحمد خضور من الساحل الذي يُقتل على أحد الحواجز الأمنية بعد رفضه الإهانة
عندما طلب منه تقليد أصوات الحيوانات وسبّ معتقداته الدينية، فدفع حياته
ثمناً. انتشرت حكايته على مواقع التواصل إلى جانب أغنية زياد: «يا زمان
الطائفية».
لم يعرف السوريون الخطاب الطائفي بصيغته العلنية من قبل. لم
يتذوّقوا مرارته التي توقعها زياد في مسرحيته «نزل السرور». لكنهم عرفوا
زياد وتعلموا منه أن يقولوا «لا»، أو على الأقل أن يصرخوا بوجه الجلاد وهم
مقيدون.
والمضحك المبكي، أنك إن كنت من محبّي زياد، ولكنك فقدت القدرة على قول
«لا»، فسوف يهيّئك لمواجهة المخرز في عينيك، وأنت تضحك. تتقبّل الإهانة
وتتهكّم على الجلاد، كما في «شي فاشل»، حين تصرخ إحدى الشخصيات: «شو
هالضيعة اللي ما فيها حدا بيركع، ولاك؟».
فاجعة قتل أحمد خضور من الساحل انتشرت على مواقع التواصل
إلى جانب أغنية «يا زمان الطائفية»
وربما فقط في هذه اللحظات، يترك غياب زياد غصّةً حقيقية.
غصّة تشبه بكاء محمد الماغوط عندما يسمع أغنية «كيفك أنت»، أو حسرة من
اعتاد الاتّكاء عليه في مواجهة الانكسارات. في زمن تُحاصر فيه الثقافة،
وتُسجن فيه الثورة، ويُستلب فيه الإنسان، يعود زياد إلى الصمت. بينما يسود
الطغيان... بلا موسيقى، بلا كلام.
الثورة الأولى التي عرفها السوريون
لم تعرف سوريا في ظل حكم «البعث» طيفاً من الألوان في
حياتها اليومية أو الثقافية. وكما تفعل الأنظمة الاشتراكية – الاستبدادية،
فُرض «اللون الواحد» تحت شعار «الصالح العام»، على حساب الهويات الفردية
والتنوّع. صارت الحياة نمطاً موحّداً، يسهل على الدولة ضبطه وإدارته.
لكن زياد الرحباني كان الاستثناء. لوناً أحمر صارخاً في عين
شباب اعتادوا الأبيض والأسود. لم يقدّم بديلاً طائفياً أو نخبويّاً، بل
نموذجاً يعلو فيه الذوق العام على الرداءة، وتعلو فيه الجماعة على
الفردانية. لذلك، كان زياد صديق الآباء و«عمّ الشباب» في آن، وكان بالنسبة
إلى كثير من السوريين، ثورتهم الأولى.
«يا
عمّي، نحنا ما تغيّرنا». لم يتغير زياد لكنه رحل، وبعض جمهوره السوري على
خلاف معه، لا بسبب موسيقاه أو مسرحه، بل بفعل المواقف السياسية. جاء
«الربيع العربي» كزلزال فتّت المجتمعات، وترك أثره العميق في الأفراد. وكان
زياد، المعلّم والمُلهم، عرضة لهجوم لاذع من بعض مريديه، بسبب عدم وقوفه
إلى جانب الثورة السورية. لكنّ كثيرين رأوا في موقفه نوعاً من البصيرة،
قراءة مبكّرة لما آل إليه المشهد السوري من خراب، وحرب، وتهديد بالتقسيم.
زياد، الذي انتقد النظام السوري والمقاومة في أكثر من
مقابلة، لم يصطف يوماً مع أعدائهما. لم يكن متحمّساً للثورة. لخّص موقفه
بجملة بليغة قالها في إحدى مقابلاته الإذاعية: «أنا ما بزعل من الناس، أنا
بزعل على الناس». جملة تختصر وعيه بدور الفنان بعدم الوقوف على الحياد، بل
مقاومة الصور الجاهزة، وتمهيد طريق نحو ثقافة عقلانية، هي ثقافة لا تُهادن.
لا تخضع للدعاية، ولا تصطفّ مع الريح. بل تنتمي إلى مشروع مقاومة ثقافية
عربية، تواجه تغوّل الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية فوق جثث الشهداء في
لبنان، وفلسطين، واليمن. |