ملفات خاصة

 
 
 

الموسيقى التي علّمتنا الشغب

طارق عسراوي

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

برحيل زياد الرحباني، يُطوى فصلٌ فريد من تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، حيث التقت الموسيقى بالموقف، واختلطت النغمة بالمبدأ، واتخذت الأغنية شكل بيان سياسي منحاز للعدالة والحرية، وفي مقدّمته فلسطين. بل اتخذت أكثر من كونها مجرد بيان سياسي، وتعدّت الأمر بمسافات ومراحل كثيرة، فكان زياد المتحالف مع الحب في وجه الكراهية، والمجدّد فنيًّا، والمشتبك مع الحب، والمتمرّد الرعوي الذي نحب، زياد الذي يشبهنا ونشتهي أن نشبهه.

لم يكن زياد مجرّد امتداد لمدرسة الرحابنة، بل انشقّ عنها مبكراً، بمزاج يساري صريح، ورؤية عروبية جذرية. امتلك منذ بداياته حساً نقدياً حاداً، لا يساوم، ولا يهادن، ولا يقبل التجزئة في الموقف. انحاز إلى القضية الفلسطينية بوصفها مركزاً أخلاقياً للصراع، لقيمة الحرية في مكوّن الإنسان، لا كقضية تضامن موسمي. ظلّ واضحاً في رفضه للاحتلال، وللتطبيع، ولكل أشكال التواطؤ السياسي أو الثقافي مع المشروع الصهيوني، معتبراً أن الفن، حين ينفصل عن القضايا، يتحوّل إلى ترف فاقد للمعنى.

في مسرحه، كما في موسيقاه، ظلّ صوت المقموعين حاضراً: من المخيم إلى الزنزانة، ومن القمع السياسي إلى فساد النظام والقبيلة. ووسط هذا كله، ظلّت فلسطين الثابت الذي لا يتبدّل. لم يختفِ حضورها في أعماله، بل كان يتسرّب في التفاصيل، وفي النبرة، وفي الخيارات الجمالية ذاتها.

بالنسبة إليّ، كانت البداية مع زياد حين سمعت مقطوعة «أبو علي» وأنا فتى لم أتجاوز الخامسة عشرة. لم أفهم كل أبعادها آنذاك، إنما كنت الفتى المبهور بغابة موسيقيّة، يشده شغب الناي، ومشاكسة المقام الموسيقي، بألحانها المتوترة، ونبضها الآتي من زمن المقاومة. منذ ثلاثين عاماً وأكثر، بقيت «أبو علي» ترافقني كعلامة فارقة، وستبقى: بوابة دخولي إلى عالم زياد، ومفتاحي لفهم موقفه الجوهري من الفن والسياسة.

رحل زياد، وبقي إرثه الثقافي شاهدًا على أن الانحياز إلى فلسطين ليس خياراً فنياً، بل موقف مبدأ لا يقبل التأويل، وفي هذا الرحيل خسارة للإبداع، وفقد لمناضل عنيد، سيشعرنا غيابه بالفراغ، فثّمة غياب لا يمكن استدراكه، أو تعويضه.

* كاتب وروائي فلسطيني

 

####

 

باحثاً عن الله

وسام ناصيف ياسين

حباني كان رجلاً استثنائياً في زمن استثنائي. لم يكن الفن بالنسبة إليه طريقاً للاسترزاق. فنه رسالة

زياد الرحباني كان رجلاً استثنائياً في زمن استثنائي. لم يكن الفن بالنسبة إليه طريقاً للاسترزاق. فنه رسالة. حقد عليه دعاة الطائفية والانعزالية لسخريته منهم. ثبت على مواقفه بعدما غيّر كثير من اليساريين وجهتهم. أحبه جمهور المقاومة لصدقه. أوجد للناس فسحة للتنفيس عن مشاكلهم بأسلوب محبب للقلب. رجل كزياد الرحباني كان يقرأ الأحداث بدقة حتى يصل إلى الحقيقة. حقيقة ما يجري وحقيقة ما يجب أن يكون عليه. هذا بعض ما دار في ذهني بعدما التقيت زياد في العام ٢٠٠٨.

التقيت زياد في «مملكته» في منطقة الحمرا، الاستديو الذي كان يعتبره منزله وعمله وحياته، وخلال الزيارة دار بيني وبينه الحديث التالي:

كيف حالك نشالله بخير، شو عامل بهالأيام؟

زياد: عم فتش ع الله.

ـما إلك بالعادة، انتو جماعة اليسار بشكل عام مش كتير صحبة مع هالفكرة!

زياد: السيد حسن زلمة صادق، وإذا بتجي بتشوف حرب الـ2006:

براً بحراً جواً الإسرائيلي أكيد أقوى من الحزب. وبالعدد، الإسرائيلي جايب أربع أو خمس فرق يعني شي أربعين خمسين ألف جندي، وكل اللي قاتلو بالحزب قدي بيطلعو؟ أربع أو خمس آلاف واحد؟ يعني الإسرائيليي قدن عشي عشر مرات. والدعم السياسي الدولي والإقليمي والعربي كان ضد الحزب ومع الإسرائيلي وحتى بالداخل اللبناني جزء منه كان هيك. وعنصر المفاجأة كان مع الإسرائيلي فعلياً لأن الإسرائيلي بلّش الحرب فجأة والحزب ما كان عامل حساب أنو الأمور تروح لحرب.

ـ إي شو بدك تقول؟

زياد: مش منطق. مفترض الإسرائيلي هوي اللي ينتصر، كل هول بقولوا إنو الإسرائيلي هوي اللي لازم يربح.

ـ طيب شو بالنسبة للنتيجة؟

زياد: بما انو هالشي مش منطق، وبما انو السيد نصر الله زلمة صادق، هوي قال هيدا نصر إلهي، معناتا في الله وأنا مش واصلو، فعمفتش ع الله.

بحث زياد عن الله. الله القريب ممن يبحث عنه ولا يتركه في حيرة من أمره. كان صادقاً. ولا مسافة تفصل بين الصدق والايمان، كما بين نصر الله والله... وزياد.

* كاتب وباحث لبناني

 

####

 

نادراً ما يموت فنان فيختل ميزان العالم

خالد جمعة

منذ بداية الثمانينيات، أعجبتُ ببضع أغان مثل «الحالة تعبانة يا ليلى»، وأغانٍ أخرى مجنونة، لا تشبه الفن الذي نعرفه من قبل، وعرفت أنه فنان يدعى زياد الرحباني، قبل أن أعرف لاحقاً أنه ابن فيروز وعاصي الرحباني.

بدأت في جمع الكاسيتات الخاصة به من كل مكان، وأوصي المسافرين أن يحضروا لي الكاسيتات التي لا تتوافر في فلسطين، وأشعر بالسعادة حين أحصل على شريط فيديو يظهر فيه زياد وهو يتحدث، حتى إنني اشتريت فيديو «مخصوص» لأسجل مقابلاته، مثل مقابلته الشهيرة مع جيزيل خوري، والتي استمرت ست ساعات على حلقتين، كان هذا قبل أن تنزل كل مقابلاته على اليوتيوب.

كان زياد صديقاً شخصياً، وكنت مع صديقي أيمن البردويل نشغّل مسرحية «فيلم أميركي طويل» بشكل يومي حتى حفظناها غيباً، كما بقية مسرحياته الحزينة والعميقة والمضحكة في الوقت نفسه، «شي فاشل»، «نزل السرور»، «بالنسبة لبكرا شو»، «سهرية»... إلى آخر مسرحياته، واحتفظنا بكل ما أنتجه أثناء الحرب الأهلية من برامج، «بعدنا طيبين»، «شي تابع لشي»، «العقل زينة»، بكل تعليقاته الساخرة والمليئة بالكوميديا السوداء، كنا نتتبع أخباره بتفاصيلها، كل ما يفعله أو يقوله كان بالنسبة إلينا عبقرياً، ربما لأننا أحببناه «بزيادة»، أو لأنه كان عبقرياً فعلاً، حتى أصبحنا نردد في سهراتنا بعضاً من «قفشاته».

حين أصدر ألبومه الشهير «بما إنو»، كان المرافق الدائم لي ولصديقي نعيم الخطيب، اشتريته أكثر من 15 مرة لأهديه لأصدقائي، حتى إن مورغان المتطوع الإيرلندي في الأونروا، أذهلته الموسيقى في الكاسيت.
أرسلت ديوانه «صديقي الله» الذي كتبه قبل أن يتجاوز الثالثة عشرة إلى ما لا يحصى من الأصدقاء وغير الأصدقاء، ولولا التاريخ المطبوع على الديوان، لما صدق أحد أن هذه العبقرية تصدر عن ولد ما يزال شاربه لم يخط بعد، ولكن حين عرفنا أنه لحّن لأمه «سألوني الناس» وهو في الرابعة عشرة، ازدادت دهشتنا بدل أن تزول
.

زياد كان حاضراً دائماً، في نقاشاتنا، في أغنياتنا، في ضحكاتنا، في أمثلتنا عن الحياة، حتى إنه خلق نمطاً من الفن سُمّي معجبوه «بالرحبانية»، أو «ذوي المزاج الرحباني»، حيث شرّق البيانو، وشرّق الجاز.
كان جريئاً في الفن، كما هو جريء في السياسة، كما هو جريء في الحياة، بقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله، مع قدرة عالية على تبرير ما يقوله مهما كان غريباً وشاذاً عن الموقف العام
.

برحيل زياد الرحباني، ترحل حقبة من الإبداع الفني، حقبة كاملة بتاريخها وكلماتها وجرأتها، حقبة كاملة بدأت مع عاصي وانتهت مع زياد، حقبة جمعت الفرقاء اللبنانيين في الحرب على برامجه، فوقت إذاعة البرنامج كانت المدافع تسكت بين المتحاربين، وتعود بعد أن ينتهي البرنامج، وهذا ما لم يحدث في تاريخ الحروب في العالم، أن يُسكت فنان المدافع ولو لنصف ساعة.

مرجع روحي كنا نستند إليه في أيام الخواء الثقافي والفني

كان يقول رأيه في الفنانين من دون أن يخشى الهجوم، يسمي المغنيات مثلاً ويحلل مشروعها إن كان لديها مشروع، ويحلل صوتها، إن كان لديها صوت، ويقول ذلك بكل ثقة، حتى إن الفنانين كانوا يخشون أن يُسأل زياد عن رأيه فيهم، وكان يقول أحياناً: لجنة تحكم على أصوات شابة تغني أفضل منها بعشرين مرة، ويضحك، بألم طبعاً، ولم يمنعه هذا من أن يعجب بأصوات أخرى، ويقول ذلك بوضوح كما كان يقدم نقده بوضوح.

ميزة أخرى في زياد، لم ينتبه إليها الكثيرون، أن زياد وهو ابن عاصي وفيروز، وعمه منصور وعمه إلياس رحباني، اتخذ خطاً بعيداً منهم جميعاً، وهو الأمر الذي يعدّ أكثر تعقيداً من أن تكون عبقريّ موسيقى، أن تخرج من عباءة كل هؤلاء وتخلق خطك الخاص، وتفرضه عليهم أيضاً، فهذه قمة العبقرية، وقمة الاستقلالية الفنية.

ليس زياد من الفنانين الذين يمكن أن نلتقي بمثلهم قريباً، وربما ولا حتى بعد مئة عام، لكن لا أحد يستطيع أن يصادر المستقبل، لكن ما هو مؤكد، أن زياد الرحباني إضافة إلى خسارة المشهد الفني والثقافي له، فهو خسارة شخصية لكل واحد فينا، لكل واحد كان يستمع إلى الموسيقى بقلبه، لا بأذنيه، لكل واحد كان يسمع اللحن فيتجسد زياد أمامه، قبل أن يتجسد المطرب أو المؤلف، وهذا نادر في الأغاني.

برحيل زياد، سنفقد مرجعاً روحياً كنا نستند إليه في أيام الخواء الثقافي والفني، لكنه كان ذكياً في موته كما كان ذكياً في اختياراته الأخرى، فقرر الرحيل قبل أن يستفحل الأمر أكثر مما استفحل حتى الآن.

* شاعر وقاص فلسطيني من غزة

 

####

 

شكراً من فلسطين

محمود عوض

كان زياد الرحباني صوت الثورة ونبضها المختلف. خرج من رحم الرحبانية الأصيلة التي شرب منها وفتح لها رافداً، وعلى سلطة العائلة الفنية الكبيرة، وحتى على سلطة نفسه. لم يكن زياد الزيادة والنمو والكثرة في الموسيقى وحسب، بل كان الزيادة والنمو والكثرة والمختلف والجديد والإضافة في المسرح والإذاعة والسياسة والنقد. همه همه الذي تطابق مع هموم الناس من كل فئة وصفة وزمن ووطن وبيت في العالم العربي.

هو ظاهرة فنية فريدة مزجت بين التمرد والجمال، والسخرية السوداء والأمل العنيد. لقد صنع زياد عالمه الخاص. عالم يلتقي فيه الفن بالواقع، والموسيقى بالثورة، والضحكة المُرة بالدموع الخفية، التي صارت عالمنا وعالم كل من تلقّى فنّه فأحبّه، فصار هو وانتاجه واحداً لا ينفصل.

في الإذاعة، كان الصوت الذي لا يشبه أحداً وعبّر عن كل أحد. كان مدرسة جديدة في تحرير الكلمة من قيودها، بصوته الهادئ المخملي المتهكم، «غير المكترث» الواثق، يحكي قصصاً عن الناس العاديين، عن الحب، عن غربة النفس، مقتحماً كل النفوس والعقول، كأنه يحدث صديقه الوحيد في خلوة.

وفي المسرح، كانت أعماله مزيجاً فريداً من الكوميديا السوداء والنقد الاجتماعي الحاد. شخصياته التي كتبها لم تكن محض خيال، بل كانت انعكاساً مضخماً لنا، بكلّ ما نحمله من تناقضات وعيوب. كان يسخر من السياسة والسياسيين، من الانحدار الأخلاقي والفساد، ومن الازدواجية التي تفتك بالمجتمع.

اجتاح زياد أجيال الشباب، وحوّل الموسيقى إلى لغة ومقولة نقدية متمرّدة، فصارت مرجعاً لمن يبحثون عن صوت يمثلهم. صوت لا يخدعهم بالوهم، ولا يسرق منهم الأمل. طرح الأسئلة الفجة والمُزعجة: من نحن؟ وإلى أين نسير؟ وكيف نضحك بدون أن ننسى أننا نبكي؟

لا يمكن الحديث عن الموسيقى العربية المعاصرة من دون ذكره، فقد قدم لها هياكل وأنماطاً جديدة. كانت صوت الثورة الخافتة، والضحكة المرّة، والحنين الدائم للنفس وللوطن الذي لم يعد كما كان.

بالنسبة لي ولأبناء جيلي وأبناء جيله ومن سيأتي بعدنا، زياد الزيادة والنمو والكثرة في كل شيء، لم يتوقف، فما زلنا جميعاً نسمع ونستزيد منه كلما احتجنا للحظات صدق حقيقية، وليقين وجدوى.

زياد ليس مجرد فنان. هو ظاهرة إنسانية تثبت أن الفن الحقيقي لا يموت. ببساطة، هو يُشبه الحياة.

شكراً زياد من فلسطين، أنت لم تخدعنا بوعود زائفة، بل كنت تقول الحقيقة.

* موسيقي من فلسطين

 

####

 

نبوءة وأمنية

بشير صفير

«هِيَّ الحياة كِده

وَلّا الحظوظ كِده

مِن أوِّل ما ابْتَدا

حزين… حزين»

(زياد الرحباني — أغنية غير منشورة)

خريف 1980. «وِحياتَك ما بِترُوق… عم بيقولوا بِترِحلها شي سنين». التَبَس المعنى على قاسم في «فيلم أميركي طويل». خلَطَ بين وضعه النفسي والحرب، عندما قال له الطبيب: «إيه بس لازم تداوِم عالأدوية فترة، بِترُوق». من هذا الالتباس اللغوي دخل زياد ليُعلِن توقّعاً عن مدى دوام الحرب الأهلية.

خريف 1990. راقت.

صيف 2015. «بعد باقيلو الواحد عشر سنين، بدّو يفكّر شو بدّو يعمل بهالوقت اللي باقيلو». كان هادئاً وواثقاً عندما قالها. كنّا وحدنا في المنزل. كان الوقت متأخراً. أول ما خطَر في ذهني، لأسباب مجهولة جزئياً، فكرةَ أن زياد متفائلٌ أكثر منّي. ما هذه الفكرة؟ استغربت من نفسي. ربما في هذه اللحظة بالذات تَفَعَّلت في الدماغ الواقعية، لا الأمنيات. لأنّ الواقعية تحمي من الصدمات. فالجزء غير المجهول من أسباب هذه الفكرة، هو إحاطتي بوضعه الصحّي ونمط حياته ونومه القليل والتدخين والتعب والقهر والهموم.

إحاطةٌ، إن لم تكن شاملة، فهي كافية لتجعلني «أعرف»، بمزيج من التفكير الواعي والتحليل اللاواعي، بأنّ زياد لا يمكن أن يعيش عشر سنوات بعد. هذا التشاؤم تبدَّد عندما خطرت ببالي، بعد لحظة، عبارة قاسم في المسرحية. للدماغ ألاعيبه في اجتراح التفاؤل. دبّت السعادة فجأة عندما قلت في نفسي: ماذا لو أصابها أيضاً هذه المرّة؟ تمرُّ الأشهر وبعدها الأعوام. أفقد من مخزون السعادة هذا.

أحاول التخلّص من تمسّكي بـ«نبوءة» العشر السنوات، التي انعكس مفعولها تماماً في أول يوم من 2025. استنفدتُ «مخزون السنوات»، فلجأتُ إلى الفصول. استعدتُ الإصابة المحددة: خريف/خريف. قابلتُها باحتمال تكرار الإصابة المحدّدة: صيف/صيف. للدماغ ألاعيبه في استجلاب التفاؤل، والصيف بعيدٌ ستة أشهر بأقل تقدير.

الثلاثاء الماضي كان موعدنا عند العاشرة صباحاً. كنت على بُعد بضعة أمتار من منزله عندما رن الهاتف. أحمد: «زياد بيعتذر منّك. موجوع شوَي». الحرّ الشديد ذكّرني بـ«الصيف». صيف 2015. بدأت أتعَرَّق بطريقة غريبة. بكمّية مضاعفة كأن حرارة صيفَين اثنين حلَّت عليَّ فجأة. شعرت بالغثيان والدوار… فاستنفر السيد «دماغ» ورمى آخر ألاعيبه: أولاً، الأعمار بيد الله. ثانياً، «… بِترِحلها شي عشر سنين» هي عبارة مألوفة في اللغة الشعبية، والرقم عشرة ثابت في كل استخدامات العبارة، وهو اعتباطي. قصة «انتهاء الحرب» كانت مصادفة. والصدَف تحمل في جوهرها احتمال عدم تكرارها. زاح صيفٌ، فعُدتُ إلى الشعور بحرارة صيف واحد، الحالي. ارتحت. لكنّ بقايا التفاؤل الأخيرة منعَتني من التفكير بأن الصدَف تحمل في جوهرها احتمال تكرارها أيضاً.

صيف 2025. تركني عالأرض وراح. راح.

عندما انتهى الزعل المشؤوم بين فيروز وزياد عام 2019، عادت لتتصل به يومياً كما تفعل عادةً، بعد منتصف الليل بقليل. تُمَسّي عليه، تسأل عن أحواله، ويُنهي هو المكاملة من جهته بعبارة: وإنتِ مِن أهلو. من دون سبب، أو أقلّه من دون سبب ظاهر، أقفل الهاتف في إحدى المرّات وكان متأثراً. صمَتَ لدقيقة منحنياً يفرِكُ يديه، ثم قال بنبرة رتيبة لتخفيف العواطف والإيحاء بأنّ ما سيقوله إنّما هو مسألة عادية: «إنّو الواحد بيتمنّى شغلة وحدة… يموت قبل هالشخص». صُدِمتُ قليلاً.

لم أعلِّق، وبدأتُ أفكّر. ما هذه الأمنية؟ لماذا؟ ألهذه الدرجة تحبّها يا زياد؟ فكّرتُ بأمي وأجرَيتُ مقارنة، وتساءلتُ: وأنا، مثلاً، ماذا أتمنى؟ وهنا ضعتُ كلّياً. من جهة، نعم، الإنسان لا يريد لمن أعطاه الحياة أن يفارقها قبله، وهو يبقى طفلاً بنظر نفسه تجاه أمّه، والطفل لا يتحمّل أن يعيش من دون أمّ. من جهة ثانية، اسألوا الأم عن تسلسل الرحيل! كم «تقبروني» يسمع أولادها منها في حياتهم؟ تكرر الأمهات هذا التمنّي بسبب ومن دون سبب.

تكرره لترفع من احتمال تَحقّقه. تتمنّى ذلك من موقع قوة منطقي: هي دائماً أكبر سناً من أطفالها! ورغم ذلك تبقى مرعوبة من عدم تحقق الأمنية، فتكرر وتكرر كي تعدُم كل فرصةٍ بحصول العكس. لم أصل في التفكير إلى أي نتيجة. حُبّ الأمّ يعطب المنطق. تتمنى الشيء وعكسه وتَترك الأعمار بيد الله… الذي حقّق لزياد أمنيته، وأجاب على طلال حيدر عندما سأل فيروز في قصيدة رثاء عاصي (المهداة لزياد):

«وإنتِ
وحيدةٌ بين النساء
.

من أين نأتي لكِ بهذه الأحزان مرة ثانية…»

 

####

 

«الجوع كافر»

أيهم السهلي

هذه الرحلة ليست الأخيرة لزياد الرحباني، فبعدها رحلات، ليس لأنه مات وترك أثراً إبداعياً يصعب أن تنساه الأيام، بل لأنّ الواقع الذي عاشه وتفحّصه وفكفكفه ورآه من الداخل، كما هو، لم يتغير، وازداد تردّياً وانحطاطاً.  

منذ علمت برحيله أول من أمس، لا تدور في رأسي سوى أغنية واحدة له، وهي «أنا مش كافر»، وأتوقف عند جملة «بس الجوع كافر»، وأستذكر المثل الشعبي القائل «ما حدا بموت من الجوع». هذه «الاشيا الكافريين» اجتمعت في رأسي، مع صور آتية من قطاع غزة، لأناس يموتون جوعاً، بسبب آلة الحرب الإسرائيلية التجويعية الإبادية.

طبعاً زياد الرحباني ابن عاصي وفيروز، لم يكن متنّبئاً ليعرف أنّ حرب تجويع ستشنّ على شعب ما في العالم، لكن زياد الذي شهد وسمع التخطيط للمجزرة التي ستحدث في مخيم تل الزعتر عام 1976، وستشترك فيها قوى متعددة، منها النظام السوري السابق، عرف أنّ المستفيد من هذه المجزرة، إسرائيل، وهذه المحرّكة لمعادلات كثيرة في المنطقة، ستشن يوماً حرب تجويع على أي شعب يواجهها. فكانت غزة في المواجهة منذ عامين، وهي تجوّع في العام 2025.

زياد الرحباني، كان سياسياً على طريقته، ومفكّراً قل نظيره، أيضاً على طريقته، وهذه «الطريقته» فيها الموسيقى والكتابة، وفيها ما طاب من قصص متناثرة بين أصدقائه، وفي مقابلاته، فيها حياته بطولها وعرضها، بحضوره، وسنوات صمته. فالذي تكلم عن جيش «الكافرين» كان يعرف من سيُكفّرهم أكثر من أي شخص على الإطلاق، ومثلما كان واضحاً في وجه الجميع، كان ثورياً أكثر من الثوريين المناهضين للاحتلال والأنظمة الاستبدادية، كان أصدقهم وأولهم.

وعن كلّ «المعترين» قال زياد وغنى في نشيده في «نزل السرور»:

«جايي مع الشعب المسكين

جايي تأعرف أرضي لمين

لمين عم بيموتوا ولادي

بأرض بلادي جوعانين.

* صحافي فلسطيني

 

####

 

شقّ أصاب القلب والمدينة

علي عواد

مات زياد الرحباني.

جملة كافية لتُحدث خللاً في التوازن. هناك من يموتون ويتركون غياباً، وهناك من يغادرون ويأخذون معهم شيئاً من المعنى.

مع زياد، هناك شقّ أصاب القلب والمدينة معاً، كما لو أن جزءاً من بيروت انهار فجأة.

أول مرة التقيته فيها لم أكن قد دخلت مجال الصحافة بعد ولم أتم العشرين من عمري. كنت أعمل نادلاً في أحد مطاعم شارع الحمراء.

لمحته يجلس في مطعم مقابل. لم أتردّد. تركت الطاولة والطلبات وذهبت نحوه. أردت أن أقول له إنّ كل ما يحدث لعمّال المطاعم في هذه المدينة موجود في مسرحيته «بالنسبة لبُكرا شو؟». لكني لم أتمكن من قول ذلك. قلت فقط: «أنا أحبك كثيراً». وأذكر أني خرجت من المطعم ذلك اليوم بارتباك وفرح، كمن لمس طرف أسطورة.

ثم، بعد سنوات، كنت أعمل في قسم المعلوماتية في الجريدة حين تلقّيت اتصالاً منه. كان يواجه مشكلة بسيطة في الكومبيوتر. دخلت مكتبه وأنا أكرّر في رأسي «خليك عادي». أردت أن أبدو طبيعياً، ألا أتورّط في لحظة إعجاب صبيانية أمام رجل شكّل جزءاً من مخيّلتي منذ المراهقة. المشكلة لم تكن معقّدة، احتجت فقط إلى التحقّق من إعدادات في غرفة الخوادم. رفض. لم يشأ أن «يتعبني»، بدا خجِلاً من أن يطلب خدمة. لم يكن يعلم أننا كنا على استعداد لفعل الكثير من أجله. تلك البساطة، ذلك الإحساس بالحرج، جعلاه في تلك اللحظة أقرب إلى أبطال مسرحياته، هامشيين، يتردّدون في طلب أبسط الحقوق، حتى لو كانت مساعدة عابرة في يوم عمل عادي.

لاحقاً، في عام 2018، طُلب مني، أن أتابع بعض الأمور اللوجستية الخاصة بحفلاته. تواصلت معي سيدة من فريقه، ثم زرت الاستوديو الشهير بمقبض بابه الذي يشبه أبواب الغوّاصات. وصل زياد بعد قليل. كان ظهره محنياً من الإصابة والتعب، لكنه ظل كما هو، مشحوناً بالسخرية والملاحظات الحادة. بعد انتهاء العمل، خرجت من المكان ممسكاً نفسي بصعوبة. لم أحتمل رؤيته متعباً إلى هذا الحد. لم أحتمل أن يتحوّل الجسد الذي حمل كل تلك العبقرية إلى صورة متعبة من صعود الدرج.

■ ■ ■

بالنسبة إلى جيل التسعينيات، كانت مسرحيات زياد الرحباني، أقواله وأغانيه أحد مفاتيح الوعي الأولى على البلد.
حين يبدأ الشاب اللبناني في الاصطدام بسوق العمل قبل أن ينهي دراسته الجامعية، في المطاعم، بين الأجر الزهيد والتفاوت الطبقي وأحاديث الموظفين ورب العمل... يكتشف فجأة أن المسرحية التي كُتبت قبل عقود تصف حياته هو، بتفاصيلها الصغيرة. اختصر زياد الرحباني في مسرحياته عالم الهامش، عالم الذين يدورون حول السلطة ولا يدخلونها أبداً، عالم أولئك الذين تستهلكهم الحياة اليومية حتى العظم
.

بالنسبة إلى جيل التسعينيات، كانت مسرحياته وأقواله وأغانيه أحد مفاتيح الوعي الأولى على البلد

ثم، مع تقدّم أبناء هذا الجيل في العمر، وتكاثر الأسئلة بين الشك والإيمان، بين سؤال الله ومصير الإنسان، تصلهم أغنية «أنا مش كافر» كما لو أن الرحباني قد جهّز أجوبة لأسئلتهم قبل أن يصلوا إليها. كان زياد يكتب ويؤلف ويعزف لجيلٍ لم يولد بعد، يرسل لهم رسائل معبّأة بالضحك الأسود، ويعيد تعريف معنى أن تكون حراً، مناضلاً، وأن لا فرق بين نداء «يا حاج» أو «يا رفيق» على الجبهة. وقد وصل إلينا جميعاً، واحداً واحداً. لم يترك لنا مجالاً للبراءة ولا للوهم.

■ ■ ■

أسلوبه في التفكير كان فوضوياً بعبقرية.

يبدأ جملة ويقاطعها بجملة أخرى، ينتقل من الاقتصاد إلى الدين إلى الأب إلى التكنولوجيا إلى السياسة إلى الحب، كأن لا وجود لحواجز بين المواضيع. كان قادراً على إزاحة الستائر عن كل ما هو متفق عليه، وأن يتركنا أمام قسوة الواقع.

هو نفسه الذي هزم التنميط، وواجه السلطة، وسخر من الكذب في كل مكان، هو الذي كتب عن لبنان كما لم يكتب أحد. في الحب، كتب لنا ثنائية أضداد. «تعي نقعد بالفي، مش لحدا هالفي»، ثم أعادنا إلى الواقع بأغنية «مربى الدلال» بكلمات مثل: «قلي بتعرف بنتي، طلبها المحامي، ويلي بيجو لعنا من أحسن عيال...».
كان يعلمنا عن الحب الذي لا يكفي وحده، والمجتمع الذي يطالب بكل شيء مقابل لا شيء
.

■ ■ ■

لم يختر زياد أن يكون قديساً، ولم ينتظر مجداً.

اختار فقط أن يكون صوتاً صادقاً في مدينة اعتادت الأقنعة.

ربما يواسينا اليوم أنه ترك أرشيفاً موسيقياً عظيماً. وربما نجده الآن جالساً إلى جانب صديقه الفنان جوزيف صقر، يتبادلان السخرية والنكات، أو يخططان لأغنية جديدة لن يسمعها أحد.

 

####

 

أيقونة رافضة للنظام اللبناني: جيل ما بعد الطائف مسّته «زياد مانيا»

نزار نمر

لم أكن موجوداً بعد عندما أصدر زياد الرحباني السواد الأعظم من أعماله، على تنوّعها. لم أشهد على ما يسمّيه الأكبر منّي سنّاً «الأحداث»، وبالكاد شهدت على احتلال الجنوب. لذا، لا يمكن أن أسمع أعمال زياد بأذنهم، ولا أن أراها كما تشهد عليها مخيّلتهم، ولا أن أشعر بما تختزنه أفئدتهم.

لكن في ظلّ الغياب الرسمي عن تعليم التاريخ لأجيال ما بعد «الطائف»، ومنها مَن بات اليوم يقارب العقود الأربعة من العمر، شكّلت الأعمال المذكورة نافذة إلى الماضي ومرآة للحاضر. تربّيت على زياد منذ نعومة أظفاري، وانتظرت كلّ عمل جديد بفارغ الصبر. شهدت على الموجة الثانية من الـ«زياد مانيا»، موجة الأجيال الجديدة التي حوّلته إلى أيقونة بعدما رأت في فنّه ومواقفه رفضاً للنظام الطائفي اللبناني برمّته، وسمعت في موسيقاه وموسيقى والدته الأسطورة فيروز انعكاساً لهويّتها الوطنية.

لم يُعجَب الراحل يوماً بـ«أيقنته»، كونها تخالف ما اعتقد به. مع ذلك، استحالت مسرحيّاته وفقراته الكلامية كما أغانيه، ملازماً دائماً للمنشورات على منصّات التواصل الاجتماعي التي لم يستسغها كذلك. يصعب أن يوجد حساب افتراضي لم يتفاعل مع هذا العبقري في يوم من الأيّام، وينشر «تنبّؤاته». لكنّ الرحباني لم يتنبّأ بالمستقبل، بل جلّ ما قام به كان قراءة الوضع القائم وتفكيكه حتّى آخر برغي. البراغي هي التي لم تتغيّر، مهما تلوّن الطلاء الخارجي أو صدئ.

يرثيه أبناء الأجيال الجديدة اليوم، فيما كثر منهم جزء من المشكلة التي يمدحونه على توصيفها وتحليلها مخبريّاً. يردّدون أقواله ببّغائيّاً فيما هم طائفيّون حتّى النخاع، أو رافضون لمبدأ مقاومة الاحتلال من أساسه، أو مؤيّدون لحيتان مال دمّروا المجتمع ويقفون حجر عثرة في وجه أيّ نوع من العدالة الاجتماعية، أو مغفّلون مفيدون ما زالوا ينبهرون بالأوهام التي يبيعهم إيّاها الثعلب الأميركي، أو طبقيّون محبّو مظاهر تجذبهم السخافات، أو مستمعو نفايات تسمّى زوراً بالموسيقى فيما هي في الحقيقة مسيئة... واللائحة تطول.

لم يُعجَب الراحل يوماً بـ«أيقنته»، كونها تخالف ما اعتقد به

قد يعتبر بعضهم أنّ ما سبق هو لمصلحة زياد، وأنّه استطاع إقناع كلّ هؤلاء. ولكن إن اقتنعوا فعلاً، لماذا لم يتغيّروا؟ الواقع أنّه مهما أتانا من «زيادين» – علماً أنّ الزياد الوحيد الذي أتانا لن يتكرّر قطّ – لن يتحسّن واقعنا طالما أنّ المشكلة «منّا وفينا» ونرفض النظر في ذواتنا، واحداً واحداً. وهبنا موهبته، أعطانا عطاءه، تفنّن في فنّه، أورثنا إرثه، دلّنا على الطريق. لم يبقَ علينا سوى سلوكه، فهل يكون لدينا استعداد، أم أنّه متروك للأجيال المستقبلية التي ستتعرّف إليه بكلّ تأكيد؟

حتّى تحين اللحظة، سأبقى أقتبس منه في مقالاتي طالما أنّني موجود في هذا المكان، إيماناً منّي بالقيام بدوري في عدم ترك الأعشاب تغطّي الطريق التي فتحها لنا زياد الرحباني، وهو ما يجب أن يكون واجب كلّ منّا. في هذه الأثناء، يبقى النوم كما وصفه الراحل «أحسن شي؛ النوم prova للموت». ورغم كلّ السوداوية، كم نحن محظوظون لنكون عشنا في بلد زياد وزمن زياد.

 

####

 

تحيـــــا رفيقاً

غادة حداد

حوّلت العادة صور زياد الرحباني وأغانيه ومقولاته، إلى جزء من كليشيهات اليسار اللبناني. ورغم الملل، أو خيبات الأمل والاستسلام، بقي زياد الرحباني الرفيق الذي بقينا نبحث عنه في مناسبات الحزب الشيوعي، وبين الرفاق.

العلاقة معه تختلف من جيلٍ إلى آخر. جيلُنا لم يشهد متاريس الأحزاب، لم نركض تحت الرصاص، ولم نختبر النوم في الملاجئ. أما ذوونا، فقد عاشوا الحرب الأهلية، عاصروا زياد وتجربته، كبروا معه، ورافقوه في التحولات التي شكّلت تجربته في المسرح والموسيقى والإذاعة والصحافة. رأوا على خشبة المسرح وجوههم، ضحكوا من آلامهم، ومن أخطائهم، في لحظتها، وشعروا بآنيتها.

نحن، جيل التسعينيات من الشيوعيين، وصلتنا تجربة زياد ناضجة. لم نكتشفه بأنفسنا، بل وُرِّث إلينا. وُضعت أمامنا الأشرطة، من برامج إذاعة لبنان، و«صوت الشعب»، والمسرحيات. ومع وصول الإنترنت، أصبح بإمكاننا أن نغوص في أرشيفه، ننتقل من عملٍ إلى آخر بحسب الاقتراحات، أو التفضيلات، لا وفق ترتيب زمني. اختبرنا زياد على عشوائيتنا، وأخذنا ما نريده منه. تشربناه، حتى باتت أفكاره، وجمله، وموسيقاه، جزءاً أساسياً من فكرنا ولغتنا، وطبعاً هويتنا.

في شبابه، كان من ضمن الشباب الشيوعي المتمركز في «بيروت الغربية». قدّم فنه لحزبه وقضيته. أما نحن، فأخذناه رمزاً للرفض. رفض كل ما هو نمطي: العادات، الأخلاق، المعتقدات، وأنماط الحياة الجامدة. بدأ ثورته مبكراً، عندما هجر منزل ذويه، وانتقل من الشرقية إلى الغربية، واختار الجاز بدلاً من موسيقى الرحابنة. علّمنا أنه يمكننا أن نعصي أهلنا، وأنها بداية حياة غامضة، ومخيفة، ورائعة.

تلقّينا زياد ككل القيم التي ورثناها من أهلنا، بتفاوت. في الشكل، زياد الشيوعي خصمٌ مثالي للسلطة، لكنه ليس كفناني جيله. هو ابن عاصي الرحباني وفيروز. وغالباً ما يلجأ من يُولدون بهذا الامتياز إلى المجد السهل، لكنه اختار طريقاً صعباً. هو سليل الرحابنة، الذين صوّروا لبنان الحلم، شيئاً من امتداد ميشال شيحا، ليقرر وريثهم البكر مغادرة ما كان يُعرف بـ«الشرقية»، والانتقال إلى «الغربية». كان نصرنا الوحيد ضمن سلسلة انكساراتنا. هو علامة لليسار في سجل اليمين في لبنان. علّمنا التمرد، حتى في مكان تمردنا عليه. ساءلناه عن مواقف لم تعجبنا، لندرك في لحظات أن زياد ليس ملكنا. لكن لا يزال الشيوعيون يحاولون احتكار زياد، فهو انتقامهم من النظام وكل أحزابه.

غير أن زياد ليس محصوراً بشيوعيته، رغم أنها ظهرت في أعمال فنية أخرى غنّتها فيروز. وهنا أيضاً، يأتي من يريد أن يُجرّد زياد من نفسه، ليقول إننا نضع السياسة جانباً ونحيي زياد الفنان. وهذه غيرة من نوع آخر، فكيف لعبقري كزياد أن لا يعشق الأرزة ويتواجد على مائدة معظم السياسيين، ليجامِل الكل، ويترأس صف المكرّمين في المهرجانات الفنية المدفوعة؟

قيل لنا: هذا هو الرفيق، وبقي الرفيق. أحببناه، وفي لحظات غضبنا لغيابه. ثم ظهر في مقدمة تظاهرة في مناسبة عيد العمال، وعاد واختفى. رددنا نشيد الحزب الذي وضع زياد كلماته ولحنه في العيد الستين للحزب عام 1984، وتجادلنا حول جملة «حتى يبقى القايد ماتوا الجنود»، فهل كانت تأليهاً لصورة قائد ما ونحن ضد التأليه؟ بحثنا عنه في الانتفاضة، وفي الانتخابات، وفي الحرب. كان وجوده يعني صوابية الموقف، وغيابه ينعكس تشكيكاً في موقعنا.

في مقابلته الشهيرة ضمن برنامج «حوار العمر» قال: «أنا موسيقي»، ولطالما ردّد أن مهنته هي عازف بيانو. ولم يُسمح له بالعزف فقط. وأكثر، لم يسمح لنفسه بالعزف فقط. فالانفصال التام عما يحدث في محيط أيّ فرد، محاولة دائمة وفاشلة، فمن وجد نفسه يوماً إلى جانب المستضعفين، لن يتمكن من العزف فقط للنخب البرجوازية.

لدى جمهوره، زياد هو صاحب النكتة الذكية والسريعة. يُقال عنه «رؤيوي». لكنه يُفضّل أن يعزف على البيانو بصمت. ومع ذلك، خذله جمهوره مراراً. وحتى ضمن رفاقه، لا يُراد منه سوى ما يُغذّي النوستالجيا، لا ما يُعمّق تجربته الموسيقية. وعند اكتشاف زياد الموسيقي، اكتشفنا «مقدمة ميس الريّم»، و«بالأفراح»، و«وصلوا ع بيته». كانت تلك «الخمس دقايق بس» كافية لفهم أن للرفيق كياناً مستقلاً، لا يمكن حصره بالرفاقية.

كان يكتب في «الأخبار» عموداً تحت عنوان «ما العمل؟»، وهو مستوحى من لينين. وبعدما رحل الرفيق، فعلاً: ما العمل؟ كنا نقول إنه سيعود ويقدم أعمالاً أو موقفاً، ليقول «بعدنا هون». وهذه الجماعية نبحث عنها، كأفراد شيوعيين يجلسون متفرجين على عالمٍ وصل إلى حد من التوحش لا يمكن تحليله فقط بالحتمية التاريخية. نحتاج إلى لقطة تلفزيونية جديدة لزياد بإشارة المنجل والمطرقة، يعضّها «نكاية»، لنقول إننا لا نزال هنا. أمسك زياد بيد جيلنا وقال لنا، نكايةً بالأعداء: جاهروا بشيوعيتكم، وكسروا الأصنام من ماركس وصولاً إليّ.

ومهما تطور العلم، يبقى عصياً على الموت، ليكون الصفعة التي تجبر أيّ عاشق على الاعتراف بإنسانية الآخر. وزياد كان، أولاً وأخيراً، إنساناً شعر بألم أبناء جلده، رفض استغلالهم، واستخدم فنه لأجلهم. هذا ما علمنا إياه الرفيق زياد، واليوم «منمشي ومنكفي الطريق يا رفيق».

 

####

 

«حوار العمر» مع... بسام كوسا

علي عواد

يموت من نحبهم، فنتحوّل فجأة إلى جامعي آثارهم. نلاحق صورهم القديمة، نفتش عن فيديوهاتهم المخبأة في دهاليز الإنترنت، نصغي إلى أصواتهم في رسائل صوتية أو تسجيلات عابرة.

نعيد قراءة محادثات مرّت بيننا، نشم ما تبقى من رائحتهم على مقتنيات بسيطة.

عندما يكون الراحل زياد الرحباني، تتضاعف هذه الطقوس، وتكتسب طبقة جديدة من الجنون والبحث. نفتح يوتيوب ونبدأ بماراثون مشاهدة مقابلاته، نغوص في أرشيف صوته وحركاته، نحاول أن نكذّب الخسارة. نصرّ أن الموت غير قادر على خطف رجل بهذا الحضور. نستعرض فيديوهات قديمة وحديثة، نتمسك بأي صورة، حتى لو ظهر فيها متعباً. نبحث عن خلل في فكرة الفقد نفسها: كيف يغيب رجل كان يبدو أنه لن يغيب أبداً؟

يحدث ذلك مع كل موت قريب أو مؤثر. تميل النفس إلى انتقاء أجمل ما في الذاكرة، نعيد تشغيل اللحظات المضيئة، نحاول استحضار الأثر المتروك فينا، نحمي أرواحنا من الانهيار. مع زياد، تكبر الحاجة إلى أرشفة كل ما هو جميل، وتتركز الرغبة في استعادة اللحظات التي ظهر فيها. بين كل مقابلاته، تبرز تلك المقابلة التي جمعته بالممثل السوري الكاريزماتي بسام كوسا على شاشة «الفضائية السورية» عام 2009. مقابلة غير عادية، أظهرت جانباً من زياد قلّما لمسناه بوضوح.

يخوض المحاور مع زياد اختباراً معقداً. الأفكار عنده تتزاحم، تتدافع أمام الكاميرا، يحاول أن يلتقطها بالكلام، يدون ما يفكر فيه حتى وهو يتكلم، كأنه يريد الاحتفاظ بكل شرارة كي يعود إليها لاحقاً. يتحول الحوار إلى مسابقة تركيز للطرفين، فزياد يفتتح كل إجابة بمدخل، ثم ينتقل سريعاً إلى متاهة من المواضيع: السياسة، الموسيقى، الذاكرة، تفاصيل الحياة اليومية، الصداقات والخيبات، حتى الأزمات اللبنانية الصغيرة، يختصرها بلمحة ساخرة.

يواجه المحاور تحدياً في مواكبة كل هذه الدفقات، يسأل نفسه طوال الوقت: أين سأعود بالنقاش؟ هل أستطيع أن أوقف زياد وأعيده للسؤال الأول؟ أم أستسلم للتيار وأرافقه حيث يشاء؟ هل أتحمل طاقة الدهشة أو أترك الحوار يتجه حيث يشاء؟ هذه الفوضى الفكرية لا تسمح لمن أمامه أن يستعرض أو يتذاكى أو يمسك زمام الحديث طويلاً. على العكس، تفرض عليه الصدق أو الصمت.

في نهاية المقابلة، عبّر كوسا عن تقدير السوريين لفنّه

في هذا اللقاء، حدث شيء يتجاوز الشكل التقليدي للمقابلات. على الطاولة، نشأت حالة «برومانس» واضحة. أعجب كل واحد بالآخر. الإعجاب هنا حمل احتراماً متبادلاً حقيقياً بين رجلين بمعزل عن تاريخهما الفني، اكتشف كل منهما أصالة منطق الآخر وصدقه في التعبير. شهدت الكاميرا لحظة اكتساب كوسا احترام زياد: لمس معرفته الموسيقية، فهمه لفن آل الرحباني، قدرته على الإصغاء لا المجاملة. وجد زياد أمامه إنساناً يعرف ما يقول، يحمل عمقاً حقيقياً في شخصيته. فبادله الود والإعجاب.

كذلك، لم يُخفِ كوسا دهشته وإعجابه بالرحباني الإنسان، قبل الفنان. وجد فيه ما تقوله الأسطورة: لا تصنّع، لا تذاكي، لا تعالٍ فارغ. لمس فيه الفوضى، والهوس، والعبقرية الموسيقية في أنقى أشكالها. حتى عندما تطرق زياد إلى المشكلات اللبنانية الحيوية، تركه كوسا يعبر كما يشاء، لم يحاول اصطياد جمل للاستهلاك الإعلامي، لم يقاطعه أو يزايد عليه. منح زياد الأمان لكي يتكلم بصدق عن قلقه، وعزلته، وعن إلحاح الأسئلة الكبرى التي لم يجد لها جواباً كاملاً.

في نهاية المقابلة، عبّر كوسا عن تقدير السوريين لفن زياد. شكره بحق، وشرح كيف أثرت أعماله في الشارع السوري، وكيف دخلت وجدان الناس بمعزل عمّا إذا كان زياد فكّر في ذلك أو خطط له. بدا واضحاً في لغة جسد زياد أنه صدّق هذا الامتنان، وارتاح أخيراً لأن الحقيقة وصلته من فم رجل صادق، لا من معجب يحاول التودد إليه. شعر أن هناك من يكلمه من القلب إلى القلب.

ما كان ينقص المشهد سوى تفصيل صغير: لو أشعل بسام كوسا سيجارة مع زياد حول الطاولة. ربما كانت لتبلغ اللحظة أقصاها وتترك الأثر معلقاً في الهواء.

 

####

 

جيل الألفية: والآن ما العمل؟

فؤاد بزي

كلا يا زياد، لا يشبه اليوم الأمس، فرحيلك ثقيل ومرّ، ومنذ تبلّغنا نحن، «جيل الكاسيت والإذاعة والجريدة الورقية، والذي نشأ على أفكار وموسيقى ومسرحيات زياد، خبر انتقالك إلى «الرفيق الأعلى»، ويرافقنا شعور بخسارة جزء كبير من يومياتنا. وكأنّ فجوة وجدت فجأة في أرواحنا.

وكأنّ خبر رحيلك قتل جزءاً منّا، هكذا يحدث عندما يموت أشخاص نحبّهم، أو هكذا يقولون إنّ الموت لا يأتي فجأة، بل على أجزاء، إذ يبدأ الأشخاص الذين نحب بالرحيل، فنغدو أقرب للحظة الوداع. يحتمل أن يعدّ البعض ما أقوله مبالغة، ولكن سأقولها بكلّ صراحة، هل تعرف يا زياد، لم أشعر بالحزن أبداً منذ 27 أيلول من 2024 عندما انتقل السيد حسن نصر الله إلى «الرفيق الأعلى»؟ ولكن اليوم أشعر بحزن مشابه، حزن يحمله معظم أبناء جيلي.

من نحن، أو من هؤلاء الذين أحاول التعبير عنهم؟ نحن الذين ولدنا في أواخر الثمانينيات حتى بداية التسعينيات. ننتمي إلى القهر، إلى قرى الأطراف المهمشة مثل البقاع المحروم، والجنوب المحتل، الذي عاد محتلاً اليوم يا زياد. لم نعرف أحياء بيروت بالضرورة، بل عرفنا الضاحية وأحياء المهجرين في آخر أيامها قبل تحوّلها إلى مناطق سوّرها رأس المال بالغلاء، ومنعنا من التفكير سوى في المرور فيها. فكانت كلماتك هي المعبّرة عن حالنا عندما قلت «شو هل الأيام لِوصلنالها؟»، أو شرحت وضعنا في «مربى الدلال».

سأحاول في كلمات قليلة أن أعبّر عن خسارة جيل برحيلك. لم نشاهد مسرحياتك مباشرةً، ومحظوظ منّا من حضر حفلاتك الموسيقية القليلة بعدما أصبحنا مستقلين مالياً عن أهالينا، وقادرين على الذهاب إلى المسارح لمتابعتك. ولكن يا زياد، أنت حاضر بين ثنايا الأفكار في رؤوسنا، فأنت صنعت وعينا السياسي بحسّه الساخر، والناقد، والمفكر أبعد من الحدث.

ربما نحن آخر من استمع إلى مسرحياتك على إذاعة «صوت الشعب» في منتصف الليالي، وغفونا والسماعات في آذاننا تبث صوت «رشيد» في مسرحية «فيلم أميركي طويل»، أو «أبو الزلف» الآتي من التراث. ونحن الذين قرأنا أفكارك على صفحات جريدة «الأخبار» في فقرة «ما العمل؟»، وحلمنا في «الجمهورية، وآخر جيل استخدم أشرطة «الكاسيت» واشترى مسرحياتك على أجزاء من شريطين و3، أو أغانيك التي تشبهنا مع الراحل جوزف صقر.

تنافسنا على حفظ المقاطع وترديدها، بل تطبيقها في حياتنا اليومية

عرف جيلي، «جيل الألفية»، بحسب التسميات الحديثة، زياد قبل الإنترنت، وتطبيقات الموسيقى والـ«playlist» الطويلة، عبر أشرطة «الكاسيت» ومحال «الديسكوتك» التي باعت كنوزاً بـ2750 ليرة مقابل كلّ كاسيت. على فكرة، لم يكن هناك من داعٍ لذكر عائلتك «الرحباني» إلى جانب اسمك، إذ يكفي أن نجيب بـ«عم إسمع زياد» ليعرف السائل كلّ هويتنا السياسية والفكرية، وربما العقائدية.

فكنا نسأل في «الديسكوتك»، عندك زياد، لنقف أمام ما توافر من أرشيفك، ونصرف ما وفرنا من مصرونا اليومي ثمن هذه الكنوز، التي استخدمنا أجهزة انقرضت اليوم لسماعها، وهي «المسجلات»، وحفظنا التسجيلات الموجودة على كلّ وجه للشريط، وتبادلناها. سمعنا صوتك الآتي من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في مطلع الألفية. فتنافسنا يا زياد على حفظ المقاطع وترديدها، بل وتطبيقها في حياتنا اليومية.

نحن لم نعرف الحرب الأهلية بشكل مباشر، ولكننا سمعنا أصواتها في «فيلم أميركي طويل» و«شي فاشل»، وعرفنا ويلاتها الاقتصادية في «بالنسبة لبكرا شو»، ولمسنا العشوائية في «نزل السرور». أيّها العبقري، علّمتنا الموسيقى في مقاطعك، ونقلتنا إلى أزمنة بعيدة منا، ولولاك لما أدركنا ما جرى ويجري وكيف علينا أن نتصرّف.

لم تكن يا زياد رئيس حزب، ولا طلبت الشهرة والجماهير، بل جئنا إليك، نحن المريدون، كالسكارى الباحثين عن أقداح خمرهم، أو كالفراش الذي يطير حول النار، ثمّ أحرقتنا برحيل يبدو كأنّه حان وقته، فخرجت من هذه الدنيا وبقينا نحن «جيل زياد» أمام مهمة هي الأصعب، علينا أن نجعلك خالداً الآن كما أنت، وأن نمنع أحداً من تشويه آرائك ومواقفك...

 

####

 

كان ثورة السوريين الأولى

مروة جردي

ليس من السّهل تحديد متى عرف السّوريون زياد الرحباني، ولا كيف بدأت علاقتهم به.

لعلّ واسطته الأولى كانت فيروز، إذ لا يخلو صباح بيت سوري من صوت والدته. ربما دخل معها منازل السوريين حين سمعوا «سألوني الناس» و«كيفك أنت». لكنّ ابن فيروز، سرعان ما تحوّل إلى زيادنا صديقنا وعمنا.

لا حاجة إلى التعريف به. فزياد دخل مجالسنا، وربما تبادل معنا القبل والأحضان، وسأل عن الأهل والجيران. لكنه لم يكتفِ بذلك. استغلّ هذه الألفة، ونشر عبرها ثقافة كاملة صارت، مع الوقت، هويةً لشرائح واسعة من السوريين. بهدوئه وسخريته وموسيقاه، تحوّل زياد إلى «أحدنا». صار منّا وفينا.

موسيقى تعرفك... وتتكلّم عنك

«عاجبك يا عمّي زياد؟» عبارة تخاطب فيها شخصية «فيديل ديناري» (أحمد الأحمد) الصورة المُعلّقة في القبو الدمشقي الذي استأجره بعد قبوله في المعهد العالي للفنون المسرحية. لم يعرف السوريون زياد الرحباني من مسلسل «هومي هون»، لكن المسلسل ترجم كيف عرفوه، هو صوتهم. نموذجهم عن الحرية، والمشاكسة، والجاذبية المشروعة.

مع تراكم مقولاته في المسرح والموسيقى صار لكثيرين أكبر من مجرد فنان، فحفظ جيل كامل كلماته عن ظهر قلب، وقلّد مظهره وطريقة كلامه، وسخريته من الوضع العام، والحب والصراع الطبقي، أصبحت رائجة عند الجيل الصاعد. يحضر مجدداً كعنصر أساسي في مسلسل «مشاريع صغيرة» عندما يكون الملجأ لبطل العمل «عاصي (سلوم حداد) مع نهاية كل يوم نضال ليساري قديم يحاول تحسين حياته وحياة من حوله.

وبذلك، لم يكن من قبيل المصادفة أن يردّد الجمهور السوري كل نغمة عزفها زياد في حفلته الشهيرة داخل قلعة دمشق. وحين قال لهم ممازحاً: «جينا نسمعكن، طلعنا عم نسمعلكُن»، كان يختصر علاقةً تتجاوز المسرح والموسيقى. زياد، الذي حرص دائماً على تخصيص بطاقات بأسعار مخفّضة للطلاب، لم يكن فناناً زائراً. كان صديقاً قديماً. يعرفهم كأنه عاش بينهم، كأنه «عمّهم» فعلاً، كما تناديه شخصية «فيديل ديناري».

ضمّ فريقه موسيقيين سوريين، بين مغنّين وعازفين، برزت بينهم رشا رزق، التي غنّت «بلا ولا شي»، فصارت واحدة من أشهر أغاني الحبّ التي ردّدها العشاق الفقراء. إلى جانبها، منال سمعان، التي أحبّها الجمهور عبر «معلومات مش أكيدة»، ثمّ ليندا بيطار، ونهى زروف، وعازف العود باسل داوود، الذين أغنوا تجربتهم بمشاركتهم في حفلاته الدمشقية.

عاما 2008 و2009، كانا موعد السوريين مع أول وآخر حفلات زياد في الشام. الأولى ضمن فعاليات «دمشق عاصمة الثقافة العربية»، والثانية بعنوان «منيحة... موسيقى، غناء، وكلام». في القلعة الأثرية، استعاد جمهور زياد لحظة نادرة: أن تشعر أن الموسيقى تعرفك، وتتكلّم عنك، وتنحاز إليك، بلا ولا شي. أعاد من حضرها تذكر كل ثانية تتعلق بها بعد إعلان رحيل صاحبها.

حين تُذبح الهوية وتغيب الموسيقى

قبل أيام من رحيل زياد، كان السوريون يعيشون فاجعة الشاب أحمد خضور من الساحل الذي يُقتل على أحد الحواجز الأمنية بعد رفضه الإهانة عندما طلب منه تقليد أصوات الحيوانات وسبّ معتقداته الدينية، فدفع حياته ثمناً. انتشرت حكايته على مواقع التواصل إلى جانب أغنية زياد: «يا زمان الطائفية».

لم يعرف السوريون الخطاب الطائفي بصيغته العلنية من قبل. لم يتذوّقوا مرارته التي توقعها زياد في مسرحيته «نزل السرور». لكنهم عرفوا زياد وتعلموا منه أن يقولوا «لا»، أو على الأقل أن يصرخوا بوجه الجلاد وهم مقيدون.
والمضحك المبكي، أنك إن كنت من محبّي زياد، ولكنك فقدت القدرة على قول «لا»، فسوف يهيّئك لمواجهة المخرز في عينيك، وأنت تضحك. تتقبّل الإهانة وتتهكّم على الجلاد، كما في «شي فاشل»، حين تصرخ إحدى الشخصيات: «شو هالضيعة اللي ما فيها حدا بيركع، ولاك؟
».

فاجعة قتل أحمد خضور من الساحل انتشرت على مواقع التواصل إلى جانب أغنية «يا زمان الطائفية»

وربما فقط في هذه اللحظات، يترك غياب زياد غصّةً حقيقية. غصّة تشبه بكاء محمد الماغوط عندما يسمع أغنية «كيفك أنت»، أو حسرة من اعتاد الاتّكاء عليه في مواجهة الانكسارات. في زمن تُحاصر فيه الثقافة، وتُسجن فيه الثورة، ويُستلب فيه الإنسان، يعود زياد إلى الصمت. بينما يسود الطغيان... بلا موسيقى، بلا كلام.

الثورة الأولى التي عرفها السوريون

لم تعرف سوريا في ظل حكم «البعث» طيفاً من الألوان في حياتها اليومية أو الثقافية. وكما تفعل الأنظمة الاشتراكية – الاستبدادية، فُرض «اللون الواحد» تحت شعار «الصالح العام»، على حساب الهويات الفردية والتنوّع. صارت الحياة نمطاً موحّداً، يسهل على الدولة ضبطه وإدارته.

لكن زياد الرحباني كان الاستثناء. لوناً أحمر صارخاً في عين شباب اعتادوا الأبيض والأسود. لم يقدّم بديلاً طائفياً أو نخبويّاً، بل نموذجاً يعلو فيه الذوق العام على الرداءة، وتعلو فيه الجماعة على الفردانية. لذلك، كان زياد صديق الآباء و«عمّ الشباب» في آن، وكان بالنسبة إلى كثير من السوريين، ثورتهم الأولى.

«يا عمّي، نحنا ما تغيّرنا». لم يتغير زياد لكنه رحل، وبعض جمهوره السوري على خلاف معه، لا بسبب موسيقاه أو مسرحه، بل بفعل المواقف السياسية. جاء «الربيع العربي» كزلزال فتّت المجتمعات، وترك أثره العميق في الأفراد. وكان زياد، المعلّم والمُلهم، عرضة لهجوم لاذع من بعض مريديه، بسبب عدم وقوفه إلى جانب الثورة السورية. لكنّ كثيرين رأوا في موقفه نوعاً من البصيرة، قراءة مبكّرة لما آل إليه المشهد السوري من خراب، وحرب، وتهديد بالتقسيم.

زياد، الذي انتقد النظام السوري والمقاومة في أكثر من مقابلة، لم يصطف يوماً مع أعدائهما. لم يكن متحمّساً للثورة. لخّص موقفه بجملة بليغة قالها في إحدى مقابلاته الإذاعية: «أنا ما بزعل من الناس، أنا بزعل على الناس». جملة تختصر وعيه بدور الفنان بعدم الوقوف على الحياد، بل مقاومة الصور الجاهزة، وتمهيد طريق نحو ثقافة عقلانية، هي ثقافة لا تُهادن. لا تخضع للدعاية، ولا تصطفّ مع الريح. بل تنتمي إلى مشروع مقاومة ثقافية عربية، تواجه تغوّل الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية فوق جثث الشهداء في لبنان، وفلسطين، واليمن.

 

الأخبار اللبنانية في

28.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004