مات حين ماتت أماكنه
عبيدو باشا
هذا الصباح واسع كقميص. لا صديق تلعب بقبعته الكؤوس ولا
الكلمات السكرانة بالسخرية ولا الإيقاع الحلال في الجمل الموسيقية.
ولا سهرة أنيقة مع طاقم فيلم، تنتهي بأكل القنبر بعد ضياع
الطعام في السهرة. لا شيء من ذلك. لا شيء سوى التذكر البسيط، لأن من مضى
مضى منذ انتهى صاحب السمو يوم أمس، اليوم المعطوب بغياب زياد، من ترك وراءه
بادية من الرفاق والأصدقاء والأهالي وهلي. فيروز، لن تستريح بعد اليوم في
لغته.
لن تشتم رائحة موسيقاه وهي تنزلق ماكرة، طازجة، مباشرة، أعز
الأشياء في أذنيها، في إحساسها. لن يسكن حجرة في منزل تسكنه السيدة، لن
يطرق الجدران، لن يدفع الأبواب، لن يلاعب الستائر لكي يلاعب هلي. وإذ أتطلع
إلى الخلف لا أرى سوى العطل والقهقهات. كل لقاء بزياد عطلة. كل عطلة صعلكة،
افتراض واضح في مجال واضح. ثمة جلوس إلى التأمل لن يلحظه سوى من يعرف معنى
أعياد السعادة بلا مكياج مع من لا يحب المكياج. لا حساب خطوات. مضى كل شيء
في دفاتر تمارين البلاد. لا شيء سوى جيوش بلا أمجاد، لا شيء سوى أمواس
الحلاقة والمقصّات وآخر من بقي من سياسيين يقفزون قفزاتهم ككنغر، يقفز من
الجيب إلى الجيب.
كيف لا نموت ونحن لا نزال في الحرائق مذ ولادتنا. كل ما حدث
حدث في الظهر. لكن من وجد الأحداث في ظهره، لا في صنعاء أو عُمان أو جنيف
أو نيويورك، لم يتعثر بالجثث وهو يراقب المصائد حيث أحكم العالم قبضته على
العالم في جمهورية بحجم الشأن هذا الصباح.
يمضي زياد الرحباني في طقم لا يحبه.
مضى كموجة قلقة لا تخشى وجودها في بحرها الهائج. ما عاشه
الرجل عاشه بدقة واثقة، بفوضى مضى صاحبها كما يمضي صاحب حقل القطن في حقله.
سيمضي في حقل قطنه الأخير، بعدما ترك شؤونه في قلة الحيلة. قلة حياة مرضى
بلاد لم يحولوها إلى مستشفى. لا تكاليف شقة بعد. لا دافع خفياً. لا نشاط
علاجياً، كأن أراه على بوابة صيدلية لكي يشكه الصيدلي بإبرة تخفف من مزيد
ضغط القولون. لا وجود في مول، ينتهي اللقاء فيه بقبلة على الكاف وبدعوة إلى
عدم الركون إلى مبررات السياسيين في اعتزام الدولة إلى ربيعها بعد عشرين
خريفاً وشتاء أو صيوفاً قائظة.
كأنني أمشي في روحي هذا الصباح، حين أبذل الجهد الأكبر
لتخطي يوم البارحة، يوم السبت، السبت الأسود. سبت أسود في بيروت. لا في
مرفئها. قد أضل الطريق حين أقود في طريق أقود فيها منذ عشرات الأعوام، بعد
سقوط الضحك منذ اختفى ضحك زياد ممّا يحسب أنه لا يمكن الوثوق به. القيادة
كالنزوة. لا براعة كما أحبها. لا جمال. هذا الفراغ. لا تريد المدينة
الانغماس في نشاطها بعدما غاب من منحها لحظاتها الاستثنائية. لطخة على وجه
الصباح هذا اليوم، بوقوف البلاد على سدة صدى الحدث. منذ زمن بقي الأنس بين
شخصين من دون ارتجاف. أنجز الأول خلاصاته حين استجاب لمحياه.
لا يزال الآخر يبذل جهده لكي يبعد ذاته عن الصلات الصامتة
لقرى خفية جمعت بين فردين. لا يزال يذكر كيف اعتزم مناقشة الأمر بالتفصيل
لأمر لم يفقد أهميته بعدما حدث. قصف صحيفة «السفير». جاء بعدما قصف أحدهم
الصحيفة، لكي يطمئن إلى اختتام القصف بانقضائه على تدخين سيجارة بعد أخرى.
ثمة سرّ يتدافع من أعماقه. ثمة طين أغرق البلاد في لا فجأة هائلة من العنف
والموت، ألفاها الرجل في صف واحد حتى دور وجودها، روضها، أمي تظهر كزهر
الخزامى في مزهرية رشيقة تثير الاهتمام.
حين أشرت إلى موقع إطلاق الصواريخ، لم يسلم بما ألقيته على
كاهله، لأنه لا يسلم، لأنه جدلي، لا يقدر أن ينزع الجدل من ذهن شكّل مجالاً
واسعاً في الموسيقى والمسرح والإذاعة، ما أثار دهشة لا حيرة. حين قام
التعايش مع الحرب، أصبح زياد الرحباني ملك الساحة اللبنانية على بياض. ملك
من ملوك المشافهة. طرح المعاني في مثل هذه التفصيلات واحدة من أضوائه. كلام
يظهر بلا تحفظ. لكنه كلام على الحرف، الإيقاع، سلاسة المؤدى، الإدراك ما لا
يختلف عن مشاعره.
عبقرية من جمال لغة تأخذ بالألباب. ملك المشافهة لا يفرض
على نفسه، لا يفرض على الآخرين لا الصور الواعية ولا المشاهد الواعية.
المشاهد أوسع من انطلاقه قدماً في مهمة يقدر لها أن تؤدى. شيء غريب في هذا
الرجل. أغرب ما في الأمر أنه لا يعرفه، أنّ أحداً لا يعرف ما هو هذا الشيء.
حدّد زياد الرحباني زمنه، حدد زمن البلاد.
قال إنّها خارج الزمن. هو على حق، حين لم يستطع أحد أن
يعترض. هو على حق بما فعله. أراد أكثر من ذلك. إلا أن الزمن، الأشياء،
الأدوات، الظروف، لم تسعفه. انتهى ولم ينتهِ مشروعه. لا يزال لديه ما يرشد
إلى موائد عامرة. موائد لا تتبرج بأزواج الأقراط ولا السلاسل الذهبية ذات
الوحي الليلي.
كل مسرحية حدث، كل أغنية سبب وجيه للوقوع في الغرام
قرأ زياد الرحباني مجالات البلاد بإبداعه، حدث الأمر في
مسرحية، في قطعة موسيقية، في عمل إذاعي. كل مسرحية حدث، كل أغنية سبب وجيه
للوقوع في الغرام أو الانكفاء عنه أو البحث عن أرملة حزينة. دينٌ باهظ تركه
زياد على البلاد. دين زياد على البلاد لم يرده أحد. قام بما قام به من أجل
إحداث التأثير المطلوب في بلاد لم تخمن أنها ستحقق الهدأة والاستقرار في
دفعة كبرى، أو صغرى، إلى الأمام.
الرحباني، يظهر الرحباني صلباً، حين أن ردود أفعاله في مضيه
بمعدلاته اليومية بعلاقته بالعالم وعالمه بقيت عند الخشية من التعجل بما
يتعلق بالزوجة والحبيبة ومن تريد أن تكون أكثر تأثيراً وأهمية بالنسبة إلى
خواتم القصص. المادة وتنظيمها. نظم كل شيء سوى علاقاته بما رآه منوطاً
باهتمامه. «سهرية» أولاً. ثم، «نزل السرور»، نزل يتخبط بالضرر وبأحداث
وأغانٍ كمطعم فرنسي فاخر. بعدها، «بالنسبة لبكرا شو»، و«فيلم أميركي طويل»،
و«شي فاشل».
هجاء مسرح الوالد والعم والأم في صور لا علاقة لها
بالأقلام. تهيئة النفس لوضع أعمال الأقرباء في تفصيلات تعجل بالحصول على
مبررات لا تجدها في مسرحه. مسرح الانغماس بما لم يكتبه فقط، بما يرتجله.
مسرحه مسرح فارق في الارتجال، مواجهة الواقع بالارتجال عليه. واقعي، بوسعه
تأجيل الواقعية إلى الأبد. لا رغبة في إزاحة مسرح الوالدين والعم. لا
يريدها سوى أن تجيء جيدة، بالأخص على الصعيدين التنظيمي والأيديولوجي.
قوي، حساس، شفاف. تتنفس حساسيته كما تتنفس الأسماك. حين
أغلق الأهل حقيبتهم المسرحية، فقد بعض محفزاته، قتلها بأيديهم إلى الأبد.
هكذا، قدم «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» و«لولا فسحة الأمل»، ما أثار
جدلاً حول الفلاح أو عدم الفلاح بالعودة. الواقع أنه خسر مادته، حين تعذر
على العائلة الرحبانية القديمة تقديم ما تقدمه بلا استسلام كلما عكفت على
إنجازه. التعرض لخيبة الأمل شيء لم يرغب محبوه في مواجهته وهو يواصل
أحاديثه بصوت فيروز بدفعها إلى القرن الحادي والعشرين بأعمق الكلام، على
بساطته، والألحان/ المنعطفات.
ذلك أن الرجل حقل واسع من ثقافة الزعلانة لها بثقافة
الصناديق بالموسيقى. فهم للجاز. لا محبته فقط. البلوز. لا نواح زنجياً في
البلوز عند زياد الرحباني. هذا كلام حفر ضحلة. البلوز في موضعه حين يقدم
سخاء الفنون بالإمساك بها بإحكام حين يهبط الأسود إلى قاع القبر ومن حوّله
من يقوده إلى آخرته. فن عظيم، لا رقود على الظهر. الروك. الروك ميتال. كل
موسيقى العالم كندف ثلج يتساقط في موسيقاه، لا بالتدوير، بالعلاقة بين
الحساسيات. كل حساسية شمس. شموس يدور العالم حولها. إنها تدور عند هذا
الراوي، الذي رفع وجهه نحو السماء لكي يقدم قصصه بنفسه، بعدما أمسكها من
نواصيها.
أيام «هدوء نسبي» أيام حفلات لا تنتهي في الصالات المسرحية
وصالات الصروح الجامعية. بدراما مين، أيام دخول قوات الردع العربية إلى
لبنان، وجد كأن لا أحد غيره رغم عجقة الأسماء. كل ما بلغته يداه يقع في
المشهد، ينبض في المشهد. بلا ولا شي. كيفك إنت. حين مات جوزيف صقر خسر
صوته. وحين مات الاتحاد السوفياتي، خسر اندياحه الغامض، المفهوم، في فكر
غاص بالتعثر إثر شروعه بالسير في الراوية الأخرى. رواية عالم ضد العالم
الرأسمالي، بعد زمن بانشو فيلا وتشي غيفارا.
لا أريد أن أقبل فكرة أن الرجل قضى لحظاته الأخيرة وحيداً،
أن يلتف على جسده المكسور، أن يلف عينيه على فؤاده المكسور، أو يلف حياته
على سماء يتظاهر أمامها أنه يموت. مات حين ماتت أماكنه. شي اندريه. مطعم
أمين. البلو نوت. حين تموت الأمكنة، يموت أصحابها. ماتت المدينة. حين تموت
يموت أولادها. لا طائل من الكلام على موت من لا يموت، محدد العلاقة
بالكلمات. مجدد العلاقة بالكلمات.
الحقيقة غير المحدودة. زياد يغيب ولا يموت. لا يموت من
تجاوز أفئدة الأمور وجوهرها. لا يغير من حقيقة ما حدث أن الرجل مضى إلى
وادي النوم، إلى حيث استبق نفسه وناور مشاعره. الحزن على رفيق حياة بحجم
كوكب، بحجم إمعان النظر في من رقد صاحبه على أعمال وقعت، بحيث تهاوى الجميع
أمامها. |