ملفات خاصة

 
 
 

الحمرا تستعيد هويّتها مع زياد

مروة جردي

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

تشييع زياد الرحباني جاء يشبهه، لا دور للدولة التي يصح عليها قوله «قرطة عالم مقسومين». هذا التشييع صنع الشعب «العنيد». الرفاق القدامى، الجيل الذي واكب مسرحه، والشباب الذين تبنوا موسيقى زياد. هكذا اجتمعت الأجيال الثلاثة تودع آخر ما يجمعها.

بعد سنوات من التعب الاقتصادي والمعيشي، يعيد زياد الرحباني لشارع الحمرا في بيروت هويته الثقافية. هكذا من الطبيعي أن يقف الناس على جانبي الطريق في الشارع يودعون زياد في زيارته الأخيرة لهم. يتذكرون مع كل خطوة وهتاف يرفعونه للعبقري الراحل كل ما قدمه للمدينة وشارعها من مسرحيات وأعمال منحت المدينة هوية أخرى بعيداً عن الحرب والفساد والنظام الطائفي.

تشييع زياد الرحباني جاء يشبهه، لا دور للدولة التي يصح عليها قوله «قرطة عالم مقسومين». هذا التشييع صنع الشعب «العنيد». الرفاق القدامى، الجيل الذي واكب مسرحه، والشباب الذين تبنوا موسيقى زياد. هكذا اجتمعت الأجيال الثلاثة تودع آخر ما يجمعها، وتصرخ: «لماذا لم تعلن الدولة حداداً.. لماذا لم تغلق الشوارع؟».

وإذا بأجسامهم التي تحمل الورود وصور زياد تجبر الطرقات على الإغلاق لتوديع زياد كما يليق به. حتى الصحافة في وداع زياد لا تقف على الحياد. يتوقف المصور عن عمله ليصرخ «الله معك يا زياد». الكلّ يكسر القوالب معه.

وكما في العروض السينمائية، حصل زياد على أطول موجة تصفيق رافقته من لحظة خروج جثمانه من «مستشفى فؤاد خوري» إلى آخر محطة له في شارع الحمرا قبل التوجه إلى مثواه الأخير في بكفيا، مع ترديد اسمه وبعض أغانيه. ربما قول «الفضل للي جمعنا.. الفضل.. لك زياد» ربما كلمات أغنية «نزل السرور» الأكثر تعبيراً عن شارع الحمرا اليوم.

في إحدى مقابلاته، يقول زياد «انشالله ما تقلي شو الكلمة الأخيرة.. يا ريت بعرف قلن للعالم شي». والعالم اليوم في تشييعه قالوا عنه كل شيء. صرخوا «شكراً زياد»، ومنهم من قالوا ما لديهم بالدموع. لكنّ الأكيد أن أعمال زياد قالت كل شيء، وكان يعرف ماذا يقول. وكما قال في برنامجه الإذاعي «العقل زينة» عن محاولات اغتيال وقتل الأدباء، «حتى لو مات الكاتب، ما حيصير شي، لأنه ورق، لأنه في منه ألف نسخة». وزياد في منه ألف كلمة وأغنية ومسرحية ولحن.

 

####

 

نبوءة ضد البربرية

كريم حداد

رحل زياد الرحباني، وانطفأت ضحكة ساخرة ظلّت تتردد نصف قرن في زوايا المسرح اللبناني، وأغنية متمردة كانت كلما سُمع لحنها، نهض فينا ما تبقّى من حسّ نقدي وكرامة مستورة. رحل زياد كما عاش: بصمت متأمل، ساخر، لا يطلب التصفيق ولا يهاب الجفاء. عاش غريباً بين الناس، لا لأنهم غريبون عليه فقط، بل لأنه، ببصيرته النادرة، رأى فيهم ما لم يريدوا الاعتراف به: ميلهم المزمن إلى البربرية.

منذ سبعينيات القرن الماضي، لم يكن زياد الرحباني فناناً فقط، بل كان قلقاً فكرياً دائماً، وعيناً شاخصة على المجتمع اللبناني المتشظي، المعلّق بين طائفية متوارثة وحداثة مستوردة مشوّهة. في مسرحياته، كما في موسيقاه، مارس ما يمكن تسميته بـ«النبوة الساخرة»، إذ لم يَصف فقط السلوك العام بل تفحّص جذوره، ليرينا أن ما نسمّيه «شعباً» قد يكون، أحياناً، مجرد مجموعة من «الناس يللي مش ناس»، كما كتب ذات مرة.

لم يكن زياد نخبوياً رغم معرفته العميقة بالماركسية والحداثة الموسيقية، بل خاطب جمهوره باللغة اليومية، وبتقطيعات الجملة المترددة التي تُشبهنا في لحظات التلعثم والقلق. في مسرحياته مثل «بالنسبة لبكرا شو؟» و«فيلم أميركي طويل» و«نزل السرور»، لم يُخفِ اشمئزازه من المساومات اليومية، من انحطاط القيم، من تسليع المشاعر، من الكذب العام الذي يتواطأ عليه الجميع. كان نقده حاداً لكنه لا يُقصي؛ بل يستنهض ويُقلق ويضع المرآة أمامنا.

في مسرحياته لم يُخفِ اشمئزازه من المساومات اليومية

رأى في الناس قابلية دائمة للخضوع، وجبناً مقنّعاً بالواقعية، وتوحّشاً يتغطّى بلباس المدنية. لا عجب أن تكرّر في أعماله التحذير من السقوط في «البربرية»، لا كعودة إلى البدائية، بل كبنية سلوكية جماعية تعيد إنتاج نفسها داخل أنظمة حديثة فاقدة للمعنى والعدالة.

كان زياد، بذلك، فناناً ضد التاريخ الرسمي وضد الأساطير المؤسسة، سواء كانت دينية أو وطنية أو عائلية. حتى أسطورة «البيت الرحباني»، لم يتردد في مواجهتها من الداخل، وفي تخليصها من البخور والغبار العاطفي.

في موسيقاه، كما في نقده، كان يرفض الثنائيات السهلة: الشرقية والغربية، الشعبية والنخبوية، التراجيديا والكوميديا. جمع في نوتاته بين الرقي والبساطة، بين الجاز والموال، وبين الحنين والمفارقة الساخرة. لم يكن الحزن عنده دمعة، بل جملة لحنية تتسلل إليك بعد الضحك، كأنها تذكرك بأنك، رغم الضحك، لا تزال تئنّ.

زياد الرحباني لم يكن نبياً يرى المستقبل، بل كان فناناً يرى ما يختبئ في الحاضر. صرخاته الساخرة، تعليقاته اللامبالية، انسحاباته المتكررة، كلها لم تكن تعبيراً عن يأس، بل عن خيبة من زمن بلا جدوى، زمن يتكرر فيه الخطأ من دون أدنى محاولة للتعلم. لم يكن ضد الناس، بل ضد القطيع في داخلهم. لم يكره المجتمع، بل أحب الإمكانية المهدورة فيه، الإمكانية التي كان يحرسها بكلماته، حتى وهو يسخر منها.

في زمن يُحتفل فيه بالتفاهة، ويُغتال فيه المعنى تحت رايات التسامح الزائف والواقعية الخائنة، تبقى أعمال زياد الرحباني حافزاً على الغضب النبيل. غضب لا ينقلب إلى عنف، بل إلى رفض، إلى تعفف عن المشاركة في حفلة الكذب الجماعي.

الآن، وقد سكت صوته، ربما صار علينا نحن أن نعيد قراءة زياد: لا كتراث، بل كتحذير. لا كنوستالجيا، بل كوصية. علّنا نتذكّر أن البربرية، كما فهمها، ليست وراءنا، بل أمامنا، ما لم نتسلّح بسخرية تقطع الصمت، وبفنّ يجعل الوعي شرطاً للعيش.

سلامٌ لروح زياد الرحباني. لقد قلت ما يجب، وضحكت حين كان البكاء خيانة.

 

####

 

بائع الأمل

زاهر أبو حمدة

مشكلة الأستاذ زياد الرحباني: عقله. لا يمكن فصل التناقض عن الوضوح، البساطة عن الأصالة، الواقع عن الخيال، اللحن عن الإحساس، الصباح عن المساء، المقاومة عن الاحتلال، الموت عن الحياة، الإبداع عن الإمتاع... لذلك، كانت الازدواجية في عقله بحالات متفاوتة متباينة: صراع، ربط نزاع، توافق، تعارض، تفاهم، وربما تكامل. حالات لا يمكن فهمها، وربما هو لم يفهمها. فبعدما خاطب الله في مراهقته، تحول إلى مخاطبة نفسه، ونفسه ترد عليه.

زياد يكتب لزياد. زياد يؤلف ويلحن ويغني لزياد فقط. جمهور زياد هو زياد. هذا ليس وهماً. لأن زياد هو نحن، أي جمهوره بكل تنوعاته، وهذا يفسر توافق الخصوم على مكانته. للأسف، مشروع زياد لم يكتمل. مشروعه يتمرد على مدرسة صنعها أهله. مشروع يرفض الرومانسية المفرطة، ويحفز على الثورة ويؤثر في تغيير المسارات الفردية وينسف الطبقات المجتمعية. وعليه، لن تجد له أغنية عاطفية من دون أبعاد سياسية أو نقدية مجتمعية.

أمثال الأستاذ زياد لا يموتون. يعيشون أكثر من الغزاة والطغاة والغلاة. يبقون أبد الدهر. يعيشون لنعيش، فما قيمة أي حياة ليس فيها زياد وأشباهه الأربعون. كيف تستمر الأيام وشلال الدم لا يتوقف منذ ما قبل ولادة زياد؟ الفارق، أن نتاج زياد يساعد على البقاء والتحدي، فهو يبيع الأمل مجاناً، وسط آخرين يبيعون الوهم ويشترون السراب في كل شيء، حتى أنهم يبيعون عقولهم لمن يدفع أولاً أو أكثر.

ومن حلاوة زياد أنه لا يفتش عن زبائن، لذلك رفض المغريات الكثيرة. وما كان يُغرينا فيه أنه متفرد في عِناده، واستثنائي بإبداعه، ولسانه يسبق أفكاره، وموسيقاه ليست ترتيباً للأصوات والإيقاعات والنغمات، إنما ترتيب للتاريخ كما يجب أن يكون.

* صحافي فلسطيني

 

####

 

من بيروت إلى دمشق... أنت الخالد خلود خيباتنا!

مهدي زلزلي

«زياد مات». كان من الطبيعي أن تتمظهر الخسارة الشخصية التي شعر بها كل فرد مع تداول النبأ المفاجئ عبر وسائل التواصل الاجتماعي على شكل موجة من الشعور الجماعي بالفقد تجاوزت حدود الجغرافيا والهويات، فالمبدع اللبناني هو أيضاً فقيد السوريين والمصريين والتوانسة وسواهم ممن آمنوا بفنه الجميل ومواقفه النبيلة.

ومن الطبيعي أيضاً أن ينصب أهل الفن في لبنان - قبل سواهم - سرادق العزاء بالفنان والإنسان الاستثنائي الذي ساهم على امتداد عقود في صناعة وعي أجيال كاملة.

الفنان جورج خباز كان في طليعة هؤلاء، فكتب مخاطباً زياد «ربينا معك، وتأثرنا فيك، وتعلمنا منك»، مضيفاً «كنت ورح تضل حكاية وطن، حكاية شعب، حكاية إنسان».

المخرج إيلي ف. حبيب استعار عبارة زيادة «صديقي الله»، ليؤبّنه بكلمات موجزة ومعبّرة «نياله الله.. صديقك»، قبل أن يستبدل بصورة ملفه الشخصي على فايسبوك خلفية سوداء مرفقاً المنشور بعبارة «ماتت الحقيقة».

ومع هاشتاغ #زياد_الرحباني، توقفت نوال الزغبي عبر حسابها على إكس عند «رحيل العبقري» داعيةً له بالرحمة، ومثلها فعلت الممثلة ماغي بو غصن معتبرةً غياب زياد الذي وصفته بالأسطورة الحقيقية «خسارة كبيرة للفن اللبناني»، بينما رأت فيه هيفا وهبي فناناً لن يتكرّر، سبق عصره وأثر بجيل كامل، معزية الفنانة فيروز وشقيقته ريما وعائلته وكل من أحبّ فنه الحرّ والصادق.

وبكلمات قليلة باللهجة المحكية، عبّرت الممثلة كارمن لبّس عن حزنها متسائلةً «ليش هيك؟ حاسة كل شي راح، حاسة فضي لبنان». أما الممثلة سهير ناصر الدين، فقد نشرت مقطعاً من إحدى مسرحيات زياد مع عبارة «لن تتكرر»، بينما اكتفت الممثلة سالي حرب بعبارة «يا كسرة قلبك يا فيروز».

النجم باسم مغنية كتب «رحل المبدع، وكأن شادي هو زياد» في استعادة لأغنية السيدة فيروز «شادي» (كلمات وألحان الأخوين رحباني)، واتكأ زميله يوسف حدّاد على عبارات زياد نفسه ليصوغ منها نصاً وداعياً رأى فيه أن من أعطى كل شيء «رحل بلا ولا شي» ومن دون الإجابة عن السؤال الأهم والأصعب: «بالنسبة لبكرا شو؟»، واصفاً زياد بـ «العبقري المقاوم الذي قال أعمق وأخطر وأجمل وأصدق كلام وألحان وعبر وفلسفة».

وفي منشور آخر، عزّى حدّاد نفسه منشداً الصبر والسلوان عن الوداع القاسي والمحزن من خلال تذكر أن زياد صار الآن مع عاصي ومنصور وفيلمون وجوزيف صقر، مضيفاً «مبدع من بلادي في زمن الانحطاط، عبقري في وطن يحتضر، فيلسوف في عصر الجهل والغباء، متواضع في وقت التفاهة والمظاهر».

وبدا لافتاً التفاعل مع الحدث من قبل فنانين معادين تماماً لفكر زياد والنهج المقاوم الذي اختاره لنفسه، بما يتجاوز التعاطف الإنساني الطبيعي أو حتى الإشادة بالإرث الفني وصولاً إلى امتداح فكر الفنان الراحل والحديث تحديداً عن مواقفه التي لم يقفوا يوماً إلا موقف المناهض لها! وهو ما دفع الممثل مهدي فخر الدين إلى مشاركة منشور للباحث السياسي حسام مطر يخاطب فيه هؤلاء بالقول: «تحاولون ربط أنفسكم بثورية زياد لأنها بتعمل قيمة للإنسان وللتطهر مما أنتم فيه، لكن لنكن واضحين، أنتم ملهمكم هو المفكر العربي الثوري تركي آل الشيخ، وهكذا سيذكركم الناس حين ترحلون».

بقيان بقلوب السوريين

وفي الوقت الذي عبر فيه فنانون لبنانيون عن ألمهم لفقد زياد بوصفه «خسارة وطنية»، كما فعل نقولا الأسطا، جاءت تعليقات نظرائهم العرب والسوريين، لتثبت أن فقد زياد خسارة إنسانية أصابت الجميع بلا استثناء.

«بقيان بالقلب» كتبت النجمة أمل عرفة مع صورة لزياد بالأبيض والأسود. أما الممثل والمنتج فراس إبراهيم فقد خاطب زياد قائلاً «لا تحتاج إلى مزيد من العمر لتثبت أنك عبقري ومتفرد ولا تشبه إلا نفسك» قبل أن يضيف متسائلاً: «ولكن بالنسبة لبكرا شو؟».

«رحل آخر السادة المتهمين ببناء وطن جميل في وجداننا وخيالاتنا.. رحل كافر آخر من الكافرين الذين صدّقناهم ومشينا معهم لندافع عن معتقداتنا بكل ما نملك من حب»، بهذه العبارات استهل وائل رمضان منشوراً طويلاً رثى فيه «القريب والحبيب والمعلم».

المخرج سيف السبيعي اعتبر أن رحيل العبقري زياد أكمل سواد المشهد، متمنياً له أن يرقد بسلام في عليائه تاركاً لنا الحسرة ووجع الغياب، وداعياً الله أن ينزل الصبر والسكينة على قلب أمه وأمنا جميعاً السيدة فيروز. وعلى الموجة نفسها، غمز السيناريست جورج عربجي من «سواد المشهد» في سوريا والعالم في هذه اللحظة التاريخية، معتبراً أنّ زياد «رحل في توقيت يُحسَد عليه» معقباً «الحالة تعبانة يا زياد».

المخرج سيف السبيعي اعتبر أنّ رحيله أكمل سواد المشهد

ورأى محمد خير الجراح في زياد «الإنسان الفنان الاستثناء في كل شيء، من الفكر إلى الموسيقى والمسرح والغناء والتلحين»، شاكراً الراحل على كل هذا الإرث العظيم والخالد، ومقدماً خالص العزاء لسيدة الفن العربي الأيقونة فيروز وآل الرحباني ولبنان، بينما ودّعت عهد ديب زياد بمنشور وصفته فيه بـ «صديق الروح».

أما النجمة سلاف فواخرجي، فقد كتبت باللهجة المحكية «زياد مات، تركنا عالأرض وراح، ما قلنا شو بنقدر نعمل، لملايين المساكين»، وأكملت مخاطبةً زياد «حملتنا إشيا كتيرة، عم نفتش ع واحد متلك، يمشي، نمشي، ونكفي الطريق».

ورأت المغنية لينا شماميان أنّ زياد «قال على الملأ ما آمن به سرّاً من دون خوف، وامتطى الحرب ولم يهرب منها، وسخر من كل القوالب الاجتماعية والموسيقية وأصرّ أن يشبه نفسه فقط، وغيّر شكل الأغنية العربية والمسرح العربي السياسي الساخر، وفتح لنا طريقاً كان سيستغرق منا أضعاف الوقت لنمشي فيه من دونه»، مؤكدةً لزياد «كان العالم مكاناً أجمل وأفهم بوجودك»، وخاتمةً «السلام لقلبك وعقلك مطرح ما أنت».

ورأى السيناريست حسن م. يوسف أنّ «الكلمات تضيق عن الإحاطة بخسارتنا الفادحة ونحن نفقد البهي النقي العميق الرقيق، عبقري البساطة ورشاقة الروح، الذي وسع آفاق الجمال في عقولنا وقلوبنا ومنع الثقوب السوداء من أن تمتص أضواء أرواحنا».

المخرج جود سعيد تفاعل مع الحدث بسلسلة من المنشورات المتلاحقة، توقف في أحدها عند التعليقات عليه في بعض صفحات إعلاميي «العهد الجديد»، قائلاً «لا أصدق أننا نقتسم البلاد والهوية مع هؤلاء، كمية الحقد والتطرف والسفالة مرعبة»، مضيفاً «زياد باقٍ رغم أنوفكم وأنتم لن تكونوا سوى غبار طائفي متطرف عابر».

ولعل أبلغ ما كتب في رثاء زياد، هو ما خطّه الموسيقار طاهر ماملي الذي خاطبه بقوله «أنت لم تمت اليوم أبداً. أنت الخالد خلود خيباتنا. أنت الساخر أمام مآسينا. أنت الضاحك الباكي منا وعلينا.. من أوطاننا الكذبة.. ومن أوهام ماضينا.. ومن هذا الحاضر الصفيق. هذا الحاضر لا يشبهك ولا يشبهنا.. نحن وأنت متنا مراراً من قبل، وها قد توَّجت موتنا بموتك الأخير».

 

####

 

قتلناك جميعاً

عامر جودت

حقيقةً.. إن التعامل معك ومع أمك وأبيك كبشر، فيه نوع من الغباء، لكن نحن البشر العاديين، بحاجة إلى أسماءٍ بعينها نناديها حين نتفجّع أو نتذكر أو نمدح أو نشتم، إذ أننا لا نستطيع التعامل مع الأفكار أو الطاقة الصَرفة التي مثلتموها كل هذه السنين، لذا نعم، يؤلمنا رحيلك كجسد، ولا نستطيع منع أنفسنا من تخيلكَ مسجى في صندوق لم يخطر في بال صانعيه أن فكرة عظيمة اختارت أن تكون لـ 69 عاماً جسداً اسمه زياد الرحباني، سيضمه إلى الأبد.. الأبد الذي يبدو قريباً جداً يا زياد.

سأسألك سؤالاً أعلمُ جيداً أنك أجبتَ عليه كثيراً خلال حوالي 54 عاماً من السحر الذي أخرجته لنا من قبعتك حتى وأنت لا ترتديها، لكن وبما أنني أسلفتُ لكَ أننا بشر عاديون ولسنا مثلك، فلا بد أن نسأل.

شوف خيي.. إن كنتَ تظن أننا عاديون لدرجة أن نقتنع بأن المرض قد قتلك، فقد بالغتَ في تصغيرنا، لذا أجبنا لو سمحت، أو أعطنا إشارة من المكان الذي أصبحت فيه، لنعود إلى إحدى أغنياتك أو مسرحياتك أو لقاءاتك ونأخذ منها الجواب:

مَن قتلكَ؟

قتلكَ أن جورج عبد الله الذي خرج بالأمس لم يجد القضية التي أنفق عليها 41 عاماً في السجن؟

قتلكَ ترشيح نتنياهو لترامب للفوز بنوبل للسلام؟

قتلكَ أنه ما عاد بالإمكان رؤية ابتسامة السيد حسن إلا في الصور؟

قتلكَ أنك حين تصل إلى «المصنع» ستشم رائحة تل أبيب وقندهار بدلاً من رائحة الشام؟

قتلكَ الاجتهاد في فتاوى سفك الدم؟

قتلك الشيوعيون الذين يصطفّون مع الإخوان المسلمين وقادة «هيئة تحرير الشام»؟

أتذكُر صاحب محلّ اللحوم الذي سألك «أمك شو ملحنتلنا السنة؟».

هل قتلكَ أنه أصبح شاعراً ومهندساً وطبيباً ورئيس تحرير وعضو برلمان ومترجماً ورجل أعمال ومتعهد بناء مُدن ومطرباً ومدرّساً وملحناً ووزيراً وحاكماً؟

إن كان كذلك، فلست الضحية الوحيدة، هم يقتلون الملايين كل يوم، فهل قتلكَ أننا اعتدنا كل ما سبق، وتقريباً ما عاد يعنينا ولا يؤثر فينا؟

بقي أمر واحد أعتقده وهو ما أخشاه، إن قتلناك جميعاً ليضيع دمُك بين القبائل، فربما الذي قتلكَ هو علمك بأنها لن تشعر بزيادة دم جديد، فهي لم تغتسل بَعد من الدم الطازج على يديها.

تابعتُ وقرأتُ وسمعتُ الكثير مما قيل عنك منذ إعلان رحيلك، وكنتُ بانتظار أن يكسرَ أحد رتابةَ ما يقال وتشابُه ما يُطرح، ثم تذكرتُ أنهم ليسوا زياد ليفعلوا ذلك، وهم مثلي بشرٌ عاديون، فهل كوننا عاديون لعنةٌ نستشعرُ أذاها حين نفقد من هم مثلك؟ أم أنت اللعنة التي جعلتنا نظن أنفسنا عاديون مهما أجدنا؟

سألني بعد إعلان الوفاة صديق يعرف حجم حبي لك، ما أكثر ما يعجبك بزياد الرحباني؟

فقلت له دون تردد ولا تفكير أن زياد قد يكون العربي الوحيد الذي يفكر بطريقة مختلفة عن تفكيرنا، لا بطريقة متطورة عنه، فلم يفهم قصدي، فقلت له التالي أطلب من كاتب كلمات أن يكتبَ لك أغنيةً عاطفية فيها حداثة ولا تشبه أغنياتنا المعتادة، وانظر إلى النتيجة، فربما سُيدخل فيها أسماء مواقع التواصل التي يلاحق عبرها حبيبته، أو أنواع ملابسها بالتسميات الحديثة، أو ما يشبه ذلك.

أما زياد فيقول لك، ومنذ سنين «طيب مش قصة ما تقلي.. وأصلاً مش هون العلة، العلة ما تكون اشتقتلي واشتقتلك» ويقول: «كان يبقى الحب جنون يخلص بحرف النون.. مش كل إنسانة تمرق تفرق وتصير تمون»، ويقول «قلتيلي حبيتك لأنك زعلان بتضل وبتضل منكوَت وعدتي تركتيني لأني زعلان بضل وبضل منكوَت».

هذا ليس تفكيراً بطريقة متطورة، بل بطريقة مختلفة، وهو أمر يمارسه زياد بمنتهى العادية إن صح التعبير، لذا يخرج منه هذا الإبداع بلا تعب، كنهر يسيل دون أن يشغل باله كمية الانحرافات التي عليه القيام بها ليغمر كل شيء.

أستطيع اقتباس عشرات إن لم يكن مئات الاقتباسات عنك، لكنني لا أريد الانجرار إلى ما انتقدته قبل قليل، فأنا هنا أحاول إثارةَ إعجابك، نعم إثارة إعجابك الآن، فأنا لم أبالغ حين قلت لك في السطر الأول أنني لا أتعامل معك ومع أسرتك على أنكم أشخاص مثلنا، وبالمناسبة، لا أتعامل معكم كأفكار أيضاً، بل كشيء لا أعرف ولا أقوى على ابتكار اسم له، أو وصف، لكن أستطيع شرحه بأنه ربما يكون نوعاً من أنواع الخالقين.

لا أعلم إن كنا نستطيع إقامة تشييع رمزي لك في دمشق التي تحبها وتحبك، إذ أننا لا نعلم بعد عقوبة تشييع فنان مسيحي شيوعي، وللأمانة، ورغم حب الكثير من السوريين اللامتناهي لك، إلا أننا - وحقك علينا - لسنا مضطرين «نعوي» من أجل جنازة رمزية وصندوق لستَ فيه، فاعذرنا.

سؤال أخير، إن تسنى لنا زيارة قبرك، ما الذي تفضل سماعه منا؟ كيفك انت؟ سلملي عليه؟ قرب الموعد والشوق اكتمل؟

عموماً هذه ليست مشكلة، سنغني لك ما تشاء، لكن هناك مقطع واحد إن سمعته، فاعلم أنه ما نريد نحن أن نقوله لك: يا ريتك مش رايح.. يا ريت بتبقى عطول.. وداعاً معلم زياد.

 

####

 

أمـــا آن...

ابراهيم الأمين

ليس للفقد تعريف. هو شعور يصعب تحويله إلى شيء مرئي، أو نص مقروء، أو حتى حكاية تُروى

والفقد، في حالتي، صار عادة. ربما صار نمط حياة. نمط سببه المكان الذي اخترته لنفسي، بنفسي، مصيباً أو ضالاً لا فرق. فالمهم بالنسبة إلى الفقد، هو أين تكون، ومع من تكون.

أبناء جيلي، بدأ وعيهم على الحياة، وهم، يعثرون على زياد في كل تفاصيلهم اليومية.

إعجاب وانبهار، وشعور بأن هناك من يجيد النطق بما تفكر. كلها أمور تجعلك صاحب حق فيه. هو سلوك تمنح فيه لنفسك هامش التدخل في حياته. وهو تدخل بلا حدود، ليلامس حد التقمّص.

وهذا أيضاً أكثر ما كان يُتعب زياد، وأكثر ما كان يصيبه بداء الوحدة. كان يعتقد، أن الهروب، كما البقاء، منزوياً لوحده، يساعده على منع الآخرين من التشارك فيه.

ومثل كل البشر، كان زياد يحب الدلال، ويحب أن يلتفت إليه الناس. ويرتاح عندما يهتم به المقربون، ويكون ممتنّاً عندما يحسن الناس التعامل معه. وفي زياد طفل لم يرد أن يُفطم، وسبيله إلى النوم كان هاتف آخر الليل، عندما يسمع أمه تسأله عن يومه.

مشكلتي مع رحيل زياد، أنها لحظة كانت محجوزة منذ وقت. لم تعد المشكلة في لحظة إعلان النبأ، بل المشكلة في أن الخانة البيضاء على جدار الفقد لم يُكتب اسمه فيها بعد. وهو أصعب ما يمكن للمرء أن يفعله...

كان زياد يهرب إلى الصمت علاجاً للقرف والعجز والتعب. وكان الصمت عنده فرصة للنطق بالآلة العجيبة التي اسمها البيانو. لا شيء في الدنيا ينافس حضن الأم، إلا علاقة زياد بمفاتيح آلته السحرية. عندما يرتفع صوت الموسيقى، تعرف أنه لم يستسلم. لكن زياد، في رحلته الأخيرة، ابتعد عن صندوق العجائب الخاص به، فارتفع الغبار فوقه، إيذاناً بالرحيل.

زياد، واحد من الذين لم ينجح العالم كله في قمعه. كان حراً إلى درجة تجعل الآخرين يتعبون من حريته، ومن قدرته على إحداث الفوضى في المكان، وهو لم يتوقف يوماً عن قول كل يفكر فيه، أو كل ما يعتقد أن عليه قوله.
بالنسبة إليّ، جاء موت زياد في زمن الموت المفتوح. هو موت له معنى، ولا يشبه موت الميتين أصلاً. وهذا ما يجعل رحيله صاخباً
.

مشكلتي في حالة زياد ليست في فكرة أن يغيب شخص بات له أثره في أشياء كثيرة، تخص فكرك وعملك وعائلتك وحياتك ولحظات عزلتك.

مشكلتي، في أنني لا أجيد فصل الأحداث عن بعضها، فكيف وأنا أعاني أصلاً من مرض التبلد. فلا أجيد البكاء، ولا رفع الصوت احتجاجاً أو غضباً. بل كل ما تعلمته هو اللجوء إلى الصمت، مثل مسكّن، بانتظار علاج يبدو بعيد المنال.

أتعبني الرحيل والفقد كثيراً. وتتعبني صور الكثيرين من الذين رحلوا في السنوات الأخيرة، وتنهكني لحظات تفقّد من رحلوا أخيراً. وأحفظ لزياد، كما لكل هؤلاء، أنهم لم يرحلوا من دون فعل الصواب. لكنني، مثل بقية البشر، كاره للفقد، ورافض لفكرة أن هناك صفحات ستطوى.

تعبت كثيراً من الفقد، ولا أجد مكاناً أحصي فيه وجع الفراق، وتعبي يزيد، لأن كل هؤلاء، ومنهم زياد، ما رحلوا من دون أثر.

لكنني، فهمت للمرة الأولى ما قاله الجواهري عن دنيا قاهرة، وقاسية:

لم يبقَ عندي ما يبتزّه الألم

حسبي من الموحشات الهم والهرم

وعندما تطغى على الحران جمرته

فالصمت أفضل ما يطوى عليه فم!

 

####

 

الابن الشاطر تمرّد على «المدرسة الرحبانية»

محمد ناصر الدين

«زياد الرحباني يلتقي مع كل إنسان جاء إلى هذه الأرض»: ربما تلخص هذه الجملة التي قالها الشاعر الجنوبي جوزف حرب كل التجربة العبقرية والفذة لزياد الرحباني (1956-2025) الذي تشبه في مشتركها الإنساني ما وصف به أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» حال المغني ابن سريج الذي يقال إنه أول من أدخل آلة العود الخشبية إلى الحجاز، ليقول عنه إبراهيم الموصلي بعد قرن من الزمن: «كأنّه خُلق من كل قَلب فهو يغنّى له ما يشتهي».

هكذا جعلتنا ظاهرة الولد العبقري نقف أمام أفولها بالموت كأننا أمام خسارة شخصية، لأن زياد لم يسكننا بالموسيقى والفن فحسب، بل في لغة كاملة اخترعها ورشقهَا وصقلها كما تصقل السكين اللامعة ثم ألقاها فوق ألسنتنا لنشرّح بها الوطن والحرب والطائفية والحب. لغة تتردد ذهاباً وإياباً بين الفن والحياة بوجهها الصلف والهش والعاري والملتبس، تردّد الشعر بين الصوت والمعنى وفقاً لمقولة بول فاليري الشهيرة. فكيف خرجت تلك الظاهرة في الموسيقى والمسرح والإذاعة، التي اسمها زياد الرحباني وتشاكلت وانجدلت في حياتنا حتى خلنا أنها لا تنتهي انتهاء الحياة ذاتها، ليصفعنا الموت بنهايتها بما يترك تلك الغصّة في القلب والمرارة فوق اللسان؟

لا بد من العودة إلى البدايات لدراسة هذه الظاهرة التي لا تشبه إلا نفسها: المسار البيويولوجي الجيني أولاً، فهو ابن البيت الرحباني والنهضة الغنائية التي حققتها الأسرة الرحبانية التي مثلها الثلاثي فيروز وعاصي ومنصور على مدى ما يزيد على نصف قرن. نهضة لا بد من رؤيتها في سياق اجتماعي-سياسي هو تاريخ لبنان الحديث، أو تاريخ الدولة اللبنانية وما واكب ذلك من ديناميات في المجالات الثقافية.

في هذه اللحظة المثقلة بالحنين الشعري ولدَ ما تسمّيه الناقدة خالدة سعيد «يوتوبيا القرية اللبنانية» التي بنت العبقرية الموسيقية والشعرية والمسرحية لعاصي ومنصور الرحباني صورتَها المثالية، وتجلّت روحها في الصوت الملائكي لفيروز، البطلة التي تحمل قيم هذه القرية وتصون التجانس الجمعي للقرية المتخيلة بنقطة انطلاقها المرجعية المتمثلة في الثقافة الشعبية لجبل لبنان. ثم ما لبثت هذه الصورة المشهدية النمطية أن احتلّت معظم النتاج الرحباني حتى وفاة عاصي وذهاب فيروز ومنصور كلّ في اتجاه.

روح الفن السياسي التحريضي تجلّت في برنامج «العقل زينة» على أثير «صوت الشعب»

الورشة الفنية الباذخة هذه للأخوين الرحباني شكّلت «البيئة الحاضنة» التي تلمّس فيها الولد الموهوب أولى خطواته، وسط إحاطة خاصة من عاصي بعبقرية الولد في إتقانه المبكر للعزف على آلتين على طرفي نقيض: البزق التي تنضح بروح الشرق، والبيانو الذي ينطق بروح الغرب، وهو ما سيطبع نتاجه في ما بعد بتلك الجدلية عبر التعاطي مع الموسيقى العالمية تأليفاً وعزفاً وأداء من خلال مناخ الموسيقى الشرقية، والبحث كما يقول الباحث الموسيقي طلال وهبة عن «مناحٍ جديدة في تأليف الأغنية العربية والعلاقة بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، وعلاقة الأغنية العربية المعاصرة بالتراث الشرقي، وتأثير التيارات الاجتماعية في ذلك وكيفية الربط بين التراث والواقع المعاش، وكيفية التوصل إلى أجوبة ميدانية لذلك».

المسيرة اللاحقة للولد العبقري ستجزم بأنه أجاب عن كل هذه الإشكاليات الثقافية العويصة، ولو لم تكن هذه الأسئلة الفنية المعقدة حاضرة بصيغتها المنهجية المنظمة في دماغ الولد الذي كتب ديواناً أسماه «صديقي الله» وهو في عمر الـ 13، وهي السنة ذاتها التي بدأ فيها دروسه النظرية في الموسيقى مع بوغوص جلاليان وظهرت عليه أولى أمارات النبوغ الموسيقي حين يظهر عازفاً بديلاً سنة 1971 في فرقة فيروز، وتلحينه أغنية «ضلّك حبيني يا لوزية» للفنانة هدى حداد.

يمكن اعتبار مسرحية «سهرية» التي كتبها ولحنها سنة 1973 بمنزلة البصمة الشخصية المستقلة لصاحبها، فالمسرحية التي وإن بدت من ناحية المكان (القرية اللبنانية بتراثها وفولكلورها) متأثرة ببداية الأخوين الرحباني الإذاعية والمسرحية، إلا أنها من الناحية الموسيقية كشفت عن خلطة مبتكرة من الفولكلور المشرقي والموسيقى الرحبانية والتأثر بفيلمون وهبي. طابع سيطغى على لحن زياد الأول لفيروز «سألوني الناس عنك يا حبيبي» في مسرحية «المحطة» في السنة ذاتها، ثم تطعيم اللحن بالطابع الغربي كما بدا ذلك واضحاً في «قديش كان في ناس» و«نطرونا كتير» و«حبّو بعضن»، لتظهر شخصيته الموسيقية في عمل ناضج ومكتمل في لحن «وحدن» الذي جمعه بصوت فيروز وكلمات طلال حيدر.

إلا أن أهمية «سهرية» تكمن في الجدلية المتفجرة في «يوتوبيا القرية اللبنانية» ذاتها التي التفت إليها الشاب العبقري الذي بدأ يتبحّر بقراءة فرويد ويونغ وأدلر طارحاً على نفسه السؤال الصعب: هل وجدَت تلك القرية الرحبانية الجميلة حقّاً؟ لذلك، راح يبحث عنها في نقيضها، في مدينة التمدين الفجّ والعشوائي مع استنفاد مفاعيل المرحلة الشهابية، على ما ذهب إليه الشاعر الجنوبي عصام العبدالله في التقاطة مدهشة: «ما في مدينة اسمها بيروت/ بيروت عنقود الضيع». المدينة المتشكلة رأسمالياً بطبقاتها المسحوقة والوسطى والعليا الممتلكة لرأس المال، وصراعاتها الطبقية والأهلية كانت تنذر بفتيل حرب قادمة بعد سنتين لا أكثر من «سهرية».

لم ينقلب زياد على الإرث الرحباني الغنائي بعد «سهرية»، بل كان ما فعله بمشروع أهله على ما يذهب إليه الناقد كريستوفر ستون بمنزلة تحويل المسرح من الملحمة إلى الرواية: «ما يسم الملحمة بحسب باختين وغيره أمثال لوكاش هو ابتعادها وانكتامها عن أي حاضر، وفي حين تنظر الملحمة إلى الوراء، فإن الرواية متجذرة في الحاضر، بل تنظر دائماً إلى الأمام. وخلافاً لمسرحيات الأخوين رحباني التي تنتهي بالزواج أو النصر العسكري، فإن مسرحيات زياد أكثر إشكالية، من الثورة الناقصة في نهاية «نزل السرور»، إلى القدر غير المعروف لثريا وزكريا في «بالنسبة لبكرا شو»، فإلى العلاج المشبوه للمرض في خاتمة «فيلم أميركي طويل»، وانتهاء بالمسرحية التي لن تعرض في «شي فاشل». لا عجب، والحالة هذه، أن تُعتبر مسرحيات زياد متنبئة بأحداث المستقبل، في حين وصف مسرح الأخوين رحباني بأنه تعبير عن الحنين إلى ماضي يوتوبي ما».

وهكذا شكلت محاولة زياد انتفاضة مدينية في قلب البيت الرحباني. كانت مسرحيتا «نزل السرور» و«بالنسبة لبكرا شو» بمنزلة قراءة فنية وثقافية في تفاصيل الحياة اليومية للمدينة بصراعاتها الطائفية والأهلية، والأهم بلغتها الشعبية. حتى إنّ الناس تفاعلوا مع هذه الشخصيات واستعاروا قاموسها و«قفشاتها» وسخريتها السوداء التي تسخر من كل شيء، حتى من أصحابها أنفسهم: كان زياد قد تحرر من فانتازيا الأحادية اللغوية (وتحديداً لهجة جبل لبنان) وقرينتها الأحادية الثقافية التي يربطها باختين بالطغيان السياسي، ومن محاولتهم فرض هذه الأحادية على أشكال الفن الأخرى مثل الدبكة المتعددة في منطقة بلاد الشام.

قارب يوميات الحرب الاهلية اللبنانية بوحي من التزامه الاخلاقي والسياسي

المتتبع لسيرة الرجل الذي برع في اختراع الجدليات انطلاقاً من المنهج الماركسي الذي ظل وفيّاً له حتى آخر يوم في حياته، لا يمكن أن يغفل عن الجدلية الكبرى: جدلية فيروز-زياد، التي لا ينتبه من يشير إليها إلا إلى طرف من أطرافها. أنزل الولد الأم-الأيقونة من برجها العاجي في اللغة والموسيقى واستدرجها إلى الإيقاع اليومي الذي يعمل على اكتشاف جمالياته الخاصة، إلى عالم هدم اليوتوبيا وإقامة الراهن في الانكسارات والاغتراب واقتحام تناقضات وعري الحياة اليومية، إلى حيث يحب أن يسمعها الصيادون في المراكب، والتلامذة في المدارس، والناس البسطاء في الأسواق والطرقات والمقاهي، في كلام يشبه اللغة الشائعة مثل «ولو شو بشعة مرتو»، و«كان غير شكل الزيتون، كان غير الشكل الصابون»، وبألحانها المرحة التي يواصل فيها الولد المشاغب لعبة استكشاف المساحات المشتركة بين الجاز والموسيقى العربية (لكن قلما التفت أحدهم إلى ما ذهبت إليه خالدة سعيد حول ما أضافته فيروز إلى مشروع زياد: «في البداية عجبتُ كيف تجاوبت فيروز مع اتجاه زياد، ثم بدأت أنتبه كيف أدخلت إلى ثورته، وإلى ما يبتغيه من تعرية الحياة وشغب الواقع شعرية الحلم، وشقاوة الطفولة، حتى سربلَت لحنه بالحيرة»).

في الختام، لا بد من نقطة أخيرة حول مفردة «العبثية» التي يطيب لكثيرين وصم تجربة زياد الرحباني بها، ولا سيما من قبل المعسكر المعادي للالتزام الفكري والعقائدي لزياد في مواجهة الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة والصهيونية البربرية، ودعمه لكل حركات المقاومة وإعجابه بلا مواربة بشخصية السيد الشهيد حسن نصر الله في مشروعه لمجابهة الاحتلال. كان زياد على ما قاله في حوار مع نزار مروة يقارب الحرب بوعي سياسي مكتمل، «في الوقت الذي كانت الحرب هي العبثية».

قارب يوميات الحرب الأهلية اللبنانية وكل القضايا التي تعصف بمنطقتنا الملتهبة بوحي من هذا الالتزام السياسي والأخلاقي ولو بصيغة ساخرة، إذ يذكر رسام الكاريكاتور المصري بهجت عثمان في حديث مع الموسيقار والناقد الياس سحاب إنه درس في ألمانيا أصول الفنون التحريضية، ولكنه لم يفهم من تلك المحاضرات شيئاً عن روح الفن السياسي التحريضي كما فهمه بعد الاستماع إلى تسجيلات «بعدنا طيبين قولو الله» الذي بثه زياد مع زميله جان شمعون في الإذاعة اللبنانية، وبرنامج «العقل زينة» على أثير «صوت الشعب».

انطفأت الشعلة المتوهّجة في هذا اليوم الحزين من تموز، وأغلق غطاء البيانو في حانة «بلو نوت»، وانتظرنا «العشاق تنين تنين» على موقف دارينا. كان الولد يشاغب على كل شيء، على نوتة أبيه، وبشاعة الحرب، وأفول الموهبة وشراء المثقفين من أنظمة البترودولار، شاغبَ حتى أضحك «صديقه الله»، الذي أخذه إليه بعدما غنى لكل قلب ما يشتهي.

التشييع اليوم: من الحمرا الى المحيدثة

يودع لبنان اليوم زياد الرحباني. صباحا، وعند الثامنة يتجمع الأصدقاء والرفاق أمام «مستشفى خوري» في الحمرا. ليصار بعدها الى الانتقال بالنعش نحو انطلياس، قبل الرحلة الاخيرة عند الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم نحو كنيسة «رقاد السيدة - المعلقة» (بكفيا)، ويوارى الجثمان في مدافن العائلة.

تقبل التعازي قبل الدفن وبعده في صالون الكنيسة ابتداءً من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى الساعة السادسة مساءً ــ كما تقبل التعازي غداً في صالون الكنيسة من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى الساعة السادسة مساءً.

 

####

 

مات حين ماتت أماكنه

عبيدو باشا

هذا الصباح واسع كقميص. لا صديق تلعب بقبعته الكؤوس ولا الكلمات السكرانة بالسخرية ولا الإيقاع الحلال في الجمل الموسيقية.

ولا سهرة أنيقة مع طاقم فيلم، تنتهي بأكل القنبر بعد ضياع الطعام في السهرة. لا شيء من ذلك. لا شيء سوى التذكر البسيط، لأن من مضى مضى منذ انتهى صاحب السمو يوم أمس، اليوم المعطوب بغياب زياد، من ترك وراءه بادية من الرفاق والأصدقاء والأهالي وهلي. فيروز، لن تستريح بعد اليوم في لغته.

لن تشتم رائحة موسيقاه وهي تنزلق ماكرة، طازجة، مباشرة، أعز الأشياء في أذنيها، في إحساسها. لن يسكن حجرة في منزل تسكنه السيدة، لن يطرق الجدران، لن يدفع الأبواب، لن يلاعب الستائر لكي يلاعب هلي. وإذ أتطلع إلى الخلف لا أرى سوى العطل والقهقهات. كل لقاء بزياد عطلة. كل عطلة صعلكة، افتراض واضح في مجال واضح. ثمة جلوس إلى التأمل لن يلحظه سوى من يعرف معنى أعياد السعادة بلا مكياج مع من لا يحب المكياج. لا حساب خطوات. مضى كل شيء في دفاتر تمارين البلاد. لا شيء سوى جيوش بلا أمجاد، لا شيء سوى أمواس الحلاقة والمقصّات وآخر من بقي من سياسيين يقفزون قفزاتهم ككنغر، يقفز من الجيب إلى الجيب.

كيف لا نموت ونحن لا نزال في الحرائق مذ ولادتنا. كل ما حدث حدث في الظهر. لكن من وجد الأحداث في ظهره، لا في صنعاء أو عُمان أو جنيف أو نيويورك، لم يتعثر بالجثث وهو يراقب المصائد حيث أحكم العالم قبضته على العالم في جمهورية بحجم الشأن هذا الصباح.

يمضي زياد الرحباني في طقم لا يحبه.

مضى كموجة قلقة لا تخشى وجودها في بحرها الهائج. ما عاشه الرجل عاشه بدقة واثقة، بفوضى مضى صاحبها كما يمضي صاحب حقل القطن في حقله. سيمضي في حقل قطنه الأخير، بعدما ترك شؤونه في قلة الحيلة. قلة حياة مرضى بلاد لم يحولوها إلى مستشفى. لا تكاليف شقة بعد. لا دافع خفياً. لا نشاط علاجياً، كأن أراه على بوابة صيدلية لكي يشكه الصيدلي بإبرة تخفف من مزيد ضغط القولون. لا وجود في مول، ينتهي اللقاء فيه بقبلة على الكاف وبدعوة إلى عدم الركون إلى مبررات السياسيين في اعتزام الدولة إلى ربيعها بعد عشرين خريفاً وشتاء أو صيوفاً قائظة.

كأنني أمشي في روحي هذا الصباح، حين أبذل الجهد الأكبر لتخطي يوم البارحة، يوم السبت، السبت الأسود. سبت أسود في بيروت. لا في مرفئها. قد أضل الطريق حين أقود في طريق أقود فيها منذ عشرات الأعوام، بعد سقوط الضحك منذ اختفى ضحك زياد ممّا يحسب أنه لا يمكن الوثوق به. القيادة كالنزوة. لا براعة كما أحبها. لا جمال. هذا الفراغ. لا تريد المدينة الانغماس في نشاطها بعدما غاب من منحها لحظاتها الاستثنائية. لطخة على وجه الصباح هذا اليوم، بوقوف البلاد على سدة صدى الحدث. منذ زمن بقي الأنس بين شخصين من دون ارتجاف. أنجز الأول خلاصاته حين استجاب لمحياه.

لا يزال الآخر يبذل جهده لكي يبعد ذاته عن الصلات الصامتة لقرى خفية جمعت بين فردين. لا يزال يذكر كيف اعتزم مناقشة الأمر بالتفصيل لأمر لم يفقد أهميته بعدما حدث. قصف صحيفة «السفير». جاء بعدما قصف أحدهم الصحيفة، لكي يطمئن إلى اختتام القصف بانقضائه على تدخين سيجارة بعد أخرى. ثمة سرّ يتدافع من أعماقه. ثمة طين أغرق البلاد في لا فجأة هائلة من العنف والموت، ألفاها الرجل في صف واحد حتى دور وجودها، روضها، أمي تظهر كزهر الخزامى في مزهرية رشيقة تثير الاهتمام.

حين أشرت إلى موقع إطلاق الصواريخ، لم يسلم بما ألقيته على كاهله، لأنه لا يسلم، لأنه جدلي، لا يقدر أن ينزع الجدل من ذهن شكّل مجالاً واسعاً في الموسيقى والمسرح والإذاعة، ما أثار دهشة لا حيرة. حين قام التعايش مع الحرب، أصبح زياد الرحباني ملك الساحة اللبنانية على بياض. ملك من ملوك المشافهة. طرح المعاني في مثل هذه التفصيلات واحدة من أضوائه. كلام يظهر بلا تحفظ. لكنه كلام على الحرف، الإيقاع، سلاسة المؤدى، الإدراك ما لا يختلف عن مشاعره.

عبقرية من جمال لغة تأخذ بالألباب. ملك المشافهة لا يفرض على نفسه، لا يفرض على الآخرين لا الصور الواعية ولا المشاهد الواعية. المشاهد أوسع من انطلاقه قدماً في مهمة يقدر لها أن تؤدى. شيء غريب في هذا الرجل. أغرب ما في الأمر أنه لا يعرفه، أنّ أحداً لا يعرف ما هو هذا الشيء. حدّد زياد الرحباني زمنه، حدد زمن البلاد.

قال إنّها خارج الزمن. هو على حق، حين لم يستطع أحد أن يعترض. هو على حق بما فعله. أراد أكثر من ذلك. إلا أن الزمن، الأشياء، الأدوات، الظروف، لم تسعفه. انتهى ولم ينتهِ مشروعه. لا يزال لديه ما يرشد إلى موائد عامرة. موائد لا تتبرج بأزواج الأقراط ولا السلاسل الذهبية ذات الوحي الليلي.

كل مسرحية حدث، كل أغنية سبب وجيه للوقوع في الغرام

قرأ زياد الرحباني مجالات البلاد بإبداعه، حدث الأمر في مسرحية، في قطعة موسيقية، في عمل إذاعي. كل مسرحية حدث، كل أغنية سبب وجيه للوقوع في الغرام أو الانكفاء عنه أو البحث عن أرملة حزينة. دينٌ باهظ تركه زياد على البلاد. دين زياد على البلاد لم يرده أحد. قام بما قام به من أجل إحداث التأثير المطلوب في بلاد لم تخمن أنها ستحقق الهدأة والاستقرار في دفعة كبرى، أو صغرى، إلى الأمام.

الرحباني، يظهر الرحباني صلباً، حين أن ردود أفعاله في مضيه بمعدلاته اليومية بعلاقته بالعالم وعالمه بقيت عند الخشية من التعجل بما يتعلق بالزوجة والحبيبة ومن تريد أن تكون أكثر تأثيراً وأهمية بالنسبة إلى خواتم القصص. المادة وتنظيمها. نظم كل شيء سوى علاقاته بما رآه منوطاً باهتمامه. «سهرية» أولاً. ثم، «نزل السرور»، نزل يتخبط بالضرر وبأحداث وأغانٍ كمطعم فرنسي فاخر. بعدها، «بالنسبة لبكرا شو»، و«فيلم أميركي طويل»، و«شي فاشل».

هجاء مسرح الوالد والعم والأم في صور لا علاقة لها بالأقلام. تهيئة النفس لوضع أعمال الأقرباء في تفصيلات تعجل بالحصول على مبررات لا تجدها في مسرحه. مسرح الانغماس بما لم يكتبه فقط، بما يرتجله. مسرحه مسرح فارق في الارتجال، مواجهة الواقع بالارتجال عليه. واقعي، بوسعه تأجيل الواقعية إلى الأبد. لا رغبة في إزاحة مسرح الوالدين والعم. لا يريدها سوى أن تجيء جيدة، بالأخص على الصعيدين التنظيمي والأيديولوجي.

قوي، حساس، شفاف. تتنفس حساسيته كما تتنفس الأسماك. حين أغلق الأهل حقيبتهم المسرحية، فقد بعض محفزاته، قتلها بأيديهم إلى الأبد. هكذا، قدم «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» و«لولا فسحة الأمل»، ما أثار جدلاً حول الفلاح أو عدم الفلاح بالعودة. الواقع أنه خسر مادته، حين تعذر على العائلة الرحبانية القديمة تقديم ما تقدمه بلا استسلام كلما عكفت على إنجازه. التعرض لخيبة الأمل شيء لم يرغب محبوه في مواجهته وهو يواصل أحاديثه بصوت فيروز بدفعها إلى القرن الحادي والعشرين بأعمق الكلام، على بساطته، والألحان/ المنعطفات.

ذلك أن الرجل حقل واسع من ثقافة الزعلانة لها بثقافة الصناديق بالموسيقى. فهم للجاز. لا محبته فقط. البلوز. لا نواح زنجياً في البلوز عند زياد الرحباني. هذا كلام حفر ضحلة. البلوز في موضعه حين يقدم سخاء الفنون بالإمساك بها بإحكام حين يهبط الأسود إلى قاع القبر ومن حوّله من يقوده إلى آخرته. فن عظيم، لا رقود على الظهر. الروك. الروك ميتال. كل موسيقى العالم كندف ثلج يتساقط في موسيقاه، لا بالتدوير، بالعلاقة بين الحساسيات. كل حساسية شمس. شموس يدور العالم حولها. إنها تدور عند هذا الراوي، الذي رفع وجهه نحو السماء لكي يقدم قصصه بنفسه، بعدما أمسكها من نواصيها.

أيام «هدوء نسبي» أيام حفلات لا تنتهي في الصالات المسرحية وصالات الصروح الجامعية. بدراما مين، أيام دخول قوات الردع العربية إلى لبنان، وجد كأن لا أحد غيره رغم عجقة الأسماء. كل ما بلغته يداه يقع في المشهد، ينبض في المشهد. بلا ولا شي. كيفك إنت. حين مات جوزيف صقر خسر صوته. وحين مات الاتحاد السوفياتي، خسر اندياحه الغامض، المفهوم، في فكر غاص بالتعثر إثر شروعه بالسير في الراوية الأخرى. رواية عالم ضد العالم الرأسمالي، بعد زمن بانشو فيلا وتشي غيفارا.

لا أريد أن أقبل فكرة أن الرجل قضى لحظاته الأخيرة وحيداً، أن يلتف على جسده المكسور، أن يلف عينيه على فؤاده المكسور، أو يلف حياته على سماء يتظاهر أمامها أنه يموت. مات حين ماتت أماكنه. شي اندريه. مطعم أمين. البلو نوت. حين تموت الأمكنة، يموت أصحابها. ماتت المدينة. حين تموت يموت أولادها. لا طائل من الكلام على موت من لا يموت، محدد العلاقة بالكلمات. مجدد العلاقة بالكلمات.

الحقيقة غير المحدودة. زياد يغيب ولا يموت. لا يموت من تجاوز أفئدة الأمور وجوهرها. لا يغير من حقيقة ما حدث أن الرجل مضى إلى وادي النوم، إلى حيث استبق نفسه وناور مشاعره. الحزن على رفيق حياة بحجم كوكب، بحجم إمعان النظر في من رقد صاحبه على أعمال وقعت، بحيث تهاوى الجميع أمامها.

 

####

 

أحببناه بلُغَة الشّتم... كما «فعَل هو»

عبد الغني طليس

لا تجديد الموسيقى اللبنانية ولا العربية، كان هدفاً عند زياد الرحباني. كان صانع موسيقى بالمعنى الفردي، وحسب.

صانع موسيقى لهُ، لشخصيّته، لحاله الفنية التي تعب عليها شرقاً وغرباً، فَتَقَولَبت بهذه الأشكال التي نسمعها، وقادها خيالهُ النبّاعُ المُسيطر عليه وعلى أفكار المسرح، وأجنحة الموسيقى، وملائكة الغناء الحاضرة من حيث لا يحتَسِب هو ولا حنجرة المغنين ولو كانوا هواةً عابرين، فكيف بفيروز؟ كل ذلك، من دون نقصان، ولا زيادة، هو زياد الرحباني.

وهذا ما جعلَ أعماله قاطبةً تلامس الصدور العاشقة بحسّ فوق تجريدي، وتدهش العقول التي تدرك الاستثناءات في أفعال الفنانين الممسوسين عالمياً.

كان للنقاد والكتّاب أن يحلّلوا ما يريدون، وما زالوا، خصوصاً تحت عصف رحيله المفاجئ، في أهميته الكبرى ضمن تطوير الموسيقى أو تجديدها.

كان زياد في مكان آخَر أبعَد من التحليل والتصنيف، وأقرب إلى نفسه وما تشتاقه وتسعى إليه، بفطرة العُلماء، وعِلْم الفطرة معاً. هذا هو العمق الذي كان زياد ينتشل منه اللآلئ، في لُغة المسرح والموسيقى والأغاني وكذلك في حواراته الإعلامية، ويطرحها على الناس فيحبونها، أو يحبون أكثرها، وأحياناً لا يحبونها، خصوصاً جماعة إدخال «سياسة» الشخص في النظرة إلى فنه، إذا كانت لهم اتجاهات مختلفة عما يعتقد زياد ويقول.

في السياسة، هم أحرار في تبخيسه قدْرهُ كونهم يرون عداء وحقداً وتزمتاً وهوائية في كل مُناقِض، غير أن الغباء المجلجِل هو في تغيير نظرتهم إليه، بحسب آرائه السياسية. يُراد أن يكون حماراً كمن التحقوا بالمال والشهرة والإغراءات ومشاريع «العروبة» الفنية المتمثّلة بـ«الحضن العربي» وإلا فلا.

نحن ندرك ذلك عبر مراقبتنا، أما هو فكان الأمر «متل إجرو» تماماً. هُوَ هُوَ. لا يتشبه بأحد، ولا يكمل تجربة أحد، ولا يعمل على تأكيد مدرسة فنية «خاصة» ولا شيء من هذا القبيل.

صانع مسرح وموسيقى من باطنِه الإنساني المترامي الأطراف بلا حدود. وذاتُ زياد وراء البيانو أو أي آلة موسيقية، أو على المسرح، حرّة، ذات جذور وبلا جذور فتكبر أغصانها خارج المتوقّع. ذاتٌ مستنفرة على الغامض الذي يأتي بشيء كما الوحي، وشيء آخَر من الذاكرة المأهولة بأجناس وأقوام وبشَر يُمَوسقون هوياتهم، وبأشياء عظيمة من الصنعة الفنية العالية التي، هي أيضاً تبدو اختراقاً يشبه الفتوحات. وتوزيعُه الموسيقي غاية في «العقل» (لا الجنون) المتفلّت المرصوص كبناء القلاع، لكنْ الشفاف، المفاجئ، المتدحرج كجلمود ثلجٍ حطّته العاصفة من علٍ.

نَقرة عود أو قانون، ونوتات قليلة من آلة تذهلُك كيف نبتت في خياله أولاً، وكيف كتبها، وكيف سمعها للمرة الأولى واطمأن إليها، وكيف أطلقها إلى الجمهور «راجياً» بينه وبين نفسه أن تلفت السامع وتنبّهه إلى جمالها. وغالبيتنا ما كانت تعرف، بالضبط، ما تسمع. يحبّ أو لا يحبّ، أما تقدير تفاصيل العمل فمتروك على همّة... الآخرين.

كان زياد الرحباني بادع هوية، حقيقية، يَشتُم ويَسُب ويَكفُر في مسرحه ومقابلاته...

وكان هو نفسه، يُشْتَم ويُسَبّ ويُكفَّر ممن لم تعجبهم مواقفه.

لكنّ العجيب الأقرب إلى الخَيال، أننا نحن الذين خلَب ألبابَنا بإنجازاته، كنّا نَشتم أمه «إعجاباً» به إذا مثّلَ، ونسُبّ أُختَه «تقديراً» لهُ إذا لحّن، ونلعن العائلة كلها إذا أضحَكَنا!

يبدو... أحببناه بلُغَتِه، وكما «يريد»!

وقد سئلت فيروز مرّة عنه، في مقابلة إذاعية أواخر السبعينيات، فاستعانت بأُرجوزة قديمة، وقالت ما يُغْني عن أي كلام:

يا حبّذا ريحُ الولَدْ

ريحُ الخُزامَى في البلَدْ

أهَكذا كلُّ ولَدْ

أم لم يَلِد مثلي أحَدْ؟

 

####

 

المراهق الـ «مش كافر»

أكثم سليمان

هو المراهق الأبدي ..

لا، ليس لارتباطِ اسمهِ بمراهقةِ جيلٍ مشرقيّ كاملٍ في ثمانينيات القرن الماضي في غير مكان من بلاد الشام.
صحيحٌ أنّ المراهقة في دمشق الثمانينيات - وذاك المكان كان مكاني - كانت تحمل عناوين واضحة حين تنحو للاحتجاج والمعارضة والغضب. وصحيحٌ أنّ مسرحيات وأغاني اللبناني زياد الرحباني (بالإضافة إلى قصائد العراقي مظفّر النوّاب) كانت تأتي على رأس هذه العناوين
.

وصحيحٌ أيضاً أنّ شراءَ كاسيتات الإثنين، زياد ومظفّر، كان يتمّ آنذاك بطريقةٍ مُراهقة شبه سرّيةٍ ونصف علنيةٍ في مكتبة «ميسلون» مقابل فندق «الشام» وسط العاصمة السورية، التي كان مجرّدَ دخولها يعني حُكماً أنك مدمنٌ على «الممنوعات»، أو مرشحٌ لأن تكون. وصحيحٌ أكثر أن تَكَوُّنَ الضميرِ السياسي والاجتماعي لمراهقي ذاك الجيل لا يمكن فصله عن «كاسيت» عنوانه: «أنا مش كافر»، ويبدأ بصوت زياد وهو يقول مُحذّراً: «هاد الشريط حقّو عشرين ليرة.

اللي بيبيعو أغلى من هيك بيكون حرامي، واللي بيبيعو أرخص من هيك كمان بيكون حرامي، بس غير نوع حرامي لأنْ غير نوع شريط»، في إشارةٍ إلى قرصنة الكاسيتات في ذلك الزمان. إلا أنّ المراهقةَ المقصودة هنا هي مراهقة زياد الرحباني نفسه (رغم بلوغه عمر الشباب والرجولة آنذاك)، لا مراهقةَ متلقفيه العُمْرية، مراهقةُ زياد التي ترفضُ أنصاف الحلول وأرباع المعاني وأخماس الضمير.

نعم مراهق أبدي

وإلا كيف يمكن تفسيرُ ملامستِه لدواخلِ أولئك المراهقين كأنّه واحدٌ منهم؟ كيف استطاع بألبومٍ واحد أن يتسلّل إلى عقولهم وقلوبهم ووجدانهم؟ لم يكن ألبوم «أنا مش كافر» تجميعاً لأنشوداتٍ سياسية أو نقداً اجتماعياً فحسب، بل كان تعبيراً عن شعور جيلٍ كامل من مراهقي وشباب تلك الأيام وعن شخصية هؤلاء وخلجات روحهم.

جيلٌ لم يلتفتْ كثيراً إلى مسرحياتٍ طويلة سبقت الألبوم مثل «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978) و«فيلم أميركي طويل» (1980)، ولن ينشغلَ لاحقاً بألبوماتٍ بصوتِ أمّه فيروز قد تكون أكثر إتقاناً من الناحية الفنيّة مثل ألبوم «معرفتي فيك» (1987) وألبوم «كيفك إنتَ؟» (1991).

في 2020، اختار مواطنٌ لبناني ضاقتْ به الأحوال هذه العبارة لتكون آخر ما تخطّه يداه

سيحفظ هذا الجيل نصوص ألبوم «أنا مش كافر» وألحانه كالترانيم الدينية، خصوصاً أنّ غالبيتها استخدمت الـ «أنا» والـ «نحن» في مواجهة الـ «أنتَ» حتى كادتْ عناوينُها ومطالعُها تكوّن نصّاً متكاملاً شاهداً على عصره، طولُه حوالى أربعين دقيقة: «أنا مش كافر، بس الجوع كافر، أنا مش كافر بس المرض كافر/ شو هالأيام الي وصلنالا، قال إنّو غني عم يعطي فقير/ شايفو عالنظام مش عم يمشي غيّرلو النظام/ شو عدا ما بدا ما بتفرق مع حدا، صرنا بدنا نبيع ألماز الخواتم، دهب المناجم، لندفع بالمطاعم فاتورة الغدا/ خَلّصوا الأغاني هنِّ ويغنّوا عالجنوب، خَلّصوا القصايد هنِّ ويصفّوا عالجنوب/ الله يساعد... الله يِعين... الشرّايي عالبيّاعين/ بدّو ينقطع البنزين بهاليومين... مش رح ينقطعوا الرِجلين / أنا والله فِكري هنّيك، يعني وهنّي أهلك فيك».

بل مراهق الأبدية

ليس فقط لأنّه انتقل من ضيق دُنيانا إلى فسحةِ الأبدية، بل لأنّه كسر حواجز البعد الرابع بفنّه حتى قبل المغادرة. عندما اشتدتْ الأزماتُ على لبنان واللبنانيين (وعلى غيرهم في المنطقة بالمناسبة) نشرتْ «النهار» في أيلول من عام 2020 مقالاً بعنوان «أغانٍ قديمة لزياد الرحباني كأنّه كتبها اليوم - زياد الرحباني لكلّ زمان». وكانت أربع أغنيات من أصل خمس من ألبوم «أنا مش كافر».

قبل ذلك التاريخ بشهرين تقريباً، اختار مواطنٌ لبناني ضاقتْ به الأحوال هذه العبارة المكوّنة من ثلاث كلمات تحديداً، أنا مش كافر، لتكون آخر ما تخطّه يداه وهو جالسٌ في مقهى في شارع الحمرا قبل أنْ يُطلق رصاصةً من مسدّسه إلى رأسه، ولسان حاله يقول: «بس الجوع كافر، بس المرض كافر، بس الفقر كافر، والذل كافر».
سيمرّ في ملكوتك الأعلى يا الله مراهقٌ نحيلٌ ذو نظراتٍ خجولة وصوتٍ متردّد، هو الرفيق زياد... صدّقه يا الله حين يقول: أنا مش كافر
.

 

####

 

لحن لا يزول

بشارة مرهج

الرحيل المبكر للفنان اللبناني العبقري زياد الرحباني يثير الأسى والحزن لدى محبيه وعارفيه وقادري عطاءه الراقي الذي يشهد على ثقافته الواسعة كما على إبداعه ووفائه للقضايا الأساسية في حياة لبنان والعرب. ولقد تفاعلت وتداخلت تلك القضايا السامية مع روحه الصادقة ونظرته الثاقبة ونزعته النقدية واتحدت بها عميقاً لتتحول إلى كلمات مضيئة وألحان جميلة ومعلقات على أبواب البيوت والمدارس والجامعات.

زياد لم يكن أكثر الفنانين اللبنانيين شهرة وإبداعاً فحسب، بل كان، أيضاً، من أكثرهم التصاقاً بالأرض وتمسكاً بالحرية، فجاءت أعماله الفنية تحاكي نبض الناس وتخاطب الجمال المسكون في روعة الفطرة وغنى الأندية والتجمعات كما في زوايا القرى والبلدات والأحياء الشعبية.

فضيلته الكبرى تمثلت باعتماده العقل والبحث إلى جانب الموهبة والسليقة في عمله المتواصل، ليلاً ونهاراً، تنقيباً عن كنوز فنية تفيض من روحه الغنية المتوثبة، أو كنوز مرئية منثورة في التراث الفني العربي يتفاعل معها ويسافر إليها طارقاً أبواب الأندلس وموشحاتها، زائراً سيد درويش وألحانه المفتوحة على انسياب النيل وسحر العيون، عائداً إلى رنين العود في تلال الورد والصخر التي شهدت خطرات عاصي وفيروز ومنصور يوم كانت الينابيع تتدفق أحلاماً وإلهاماً وصوراً محفورة على لوحات الزمن.

أيها الراحل العزيز، مهما باعد بيننا القدر، ستبقى قريباً منا نسمعك ونستعيدك بينما ألحانك الشجية وكلماتك الثرية توافي نبضات القلب وتستقر في ثنايا الروح.

* نائب سابق

 

الأخبار اللبنانية في

28.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004