ملفات خاصة

 
 
 

الرحباني المضادّ

عباس بيضون

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

وفاة زياد الرحباني خبر صاعق، بل أشد وقعاً على اللبنانيين من كوارثهم السياسية والاقتصادية. إنه في الواقع مقابلٌ لتلك المحن، بل هو في لبنان، الذي يعاني ضنكاً ومخاطر ومخاوف، من كل نوع، وقد يكون اليوم موازياً للانهيار. كان زياد شبه ساكت من زمان، وما خُيِّل إلى أحد أن هذا الغياب والتواري، يهيئان لأمر جلل كهذا الذي لم يُنتظر كثيراً حتى صار. رحيله أضاف إلى العائلة التاريخية الشامخة مزيداً من التهافت بحيث تغدو بحق، في سيرتها، أكثر مأساوية من بلدها. نحن الآن أمام الأم الكبيرة، أم اللبنانيين ونجمتهم الأولى، تواجه في التسعين خسائر بلا مقدار، مرضى وذوي إعاقة وموتى. العائلة هي الآن ليست أكثر من حطام، إنها مجد مكلوم، وعظمة زائلة، وزواج الموهبة والفناء، والفن والفاجعة، والكثير من الجمال مع الكثير من المحنة.

زياد بقي إلى أن رحل مدلَّل اللبنانيين. يفهم الجميع أن من كان أبواه عاصي وفيروز، لا يستكثر عليه أن يكون بهذه الموهبة، وبمثل تلك الطاقة. لكن زياد لم يكن مجرد وريث، لم يكن ابناً ناجحاً فقط، كان بالتأكيد أكثر بكثير من ذلك. كان مجدداً، ليس للفن العربي بجملته فقط، على غرار أبويه، بل كان أكبر من أن يكتفي بإرثه، أكبر من أن يكون وارثاً، من أن يكون ابن الكبيرَين فقط.

يمكن أن نقول بدون غضاضة إن أولى معارك زياد كانت مع والديه، كان مع الفن الذي أسّساه قمةً في الفن العربي، بل كان القمة التي لا يكفي أن نرثها، أن نقف عندها، بل لا حاجة إلى أن نكررها أو نجري على غيارها. لقد أوجدا تجربة كاملة، تجربة منتظمة من أطرافها كلها، ذات دنيا ورؤيا، وعالماً قائماً بذاته. الشعر والموسيقى والغناء، للثلاثة المسار والمدى والرؤيا ذاتها. يمكن القول إن عالماً من الحنين، من اليوميات المختلجة، من الذكريات المتداعية، من الطبيعة والإنسان، عالماً كهذا كانت له أغنيته الخاصة لدى الرحابنة، أغنية عامرة بالتفاصيل والإيقاعات والوعود. لقد صنع الرحابنة هذا العالم الذي يتنفس وينبض بالحب، كان على زياد أن يبدأ من هنا، مثل أبيه صُنع الشعر والموسيقى، بل تجاوزهما بالمسرح الذي ألّفه وأخرجه، لكن المهم أكثر أنه مثله بطاقة عالية، هكذا نفهم أن زياد أضاف إلى التجربة الرحبانية عنصراً جديداً، لم يكن الرحبانيان الأوليان بعيدين عن المسرح، ألفا فيه وأخرجا، لكن ذلك كان موصولاً بالغناء، أرادا أن يؤلفا أوبرا عربية فكان أن صنعا لفيروز أوبيراتاتها الشهيرة، لكن ما صنعه زياد كان مسرحه هو، كان المسرح.

إنه لا يهرج وهو أبعد ما يكون عن كوميديا الحركة

نبدأ من أشعار زياد التي غناها هو وسواه، هذه الأشعار غيرها عند الرحابنة، لم يكن زياد مغني طبيعة، ولا مداحاً للحب ولا مستدعي ذكريات فقط ولا مغنياً فقط، لقد بدأ تماماً من العكس، بدأ من التهافت اليومي، بل من الخسارة المطلقة، من انقلاب الأمور ومن سقوطها، ومن لا جدواها، من وجهها السخيف، مما هي عليه من تهريج ومن انتكاس باعث على الضحك؟ من العبث واللامعنى. ذلك يعني أن زياد انقلب، بلا اكتراث ولا دراماتيكية على الإرث الرحباني، بل صنع مقابله ما يمكن اعتباره ضده، بل يمكن اعتباره ضحكاً عليه وسخرية منه، هكذا بالطبع لم يكتف زياد من الانقلاب على والديه، بل صنع في الأغنية العربية جديداً، بل ألّف أغنية أخرى.

إذا عدنا إلى المسرح فسنقف طويلاً عند النصوص التي هي أيضاً مسرح مضاد للمسرح الرحباني، مسرح زياد ليس الفولكلور، إنه مضاد للفولكلور، بل هو تنكيت على الفولكلور، سخرية من أشكاله ودعاويه وأمثاله وأحلامه، مسرح زياد الرحباني كوميدي بالطبع لكن مواضيعه، تكاد تكون سخرية أو تهريجاً من الحياة اليومية، والواقع اليومي، والسياسة، والواقع العادي ففي "بالنسبة لبكرة شو؟" و"فيلم أميركي طويل"، نحن أمام حياة كل يوم لكن مرئية بضحكة، بسخرية عالية، لا يقلل من ذلك أنها أحياناً صامتة، كأنما صمتها جزء من سخريتها.

إن عبث الحياة يبدو هكذا في خفائه، يبدو هكذا سخفها، السياسة هي مدار هذا السخف ومسرحه، الحرب الأهلية اللبنانية تبدو مصداقاً للتفاهة اللبنانية. مسرح زياد الرحباني يعيد المسرح الرحباني لكن بصيغة أخرى، بصيغة مضادة. أما المهم في هذا المسرح فهو زياد نفسه، إنه لا يهرج وهو أبعد ما يكون عن كوميديا الحركة، لا يذكّر بعادل إمام أو إسماعيل ياسين. إنه تماماً عكسهم، قد يذكر على العكس من ذلك بوودي ألن، هنا أسمح لنفسي بالقول إنه قد يكون أهم كوميدي عربي.

* شاعر وروائي من لبنان

 

####

 

زياد الرحباني... لأنّ الظل ليس مُلكاً لأحد

نجيب نصير

السخرية تعني أن الواقعة وقعت، وهي إذًا واقعية، وأن السخرية منها دليل على وجود تلك الواقعة وأهليتها للتأثير في الناس، بما تتضمنه من قدرة على الظلم الذي ينتج بدوره المرارة. والسخرية تختلف عن الهزء والاستهزاء، فهي نقد وانتقاد لواقعة لا تُلمَس رغم تأثيرها الواضح، بسبب حماية الناس لها مدفوعين بموجبات التقاليد من جهة، والخوف من سلطة ما من جهة أخرى. السخرية التي نفهمها من زياد الرحباني ليست مهينة للأشخاص، لأنهم يملكون حصانة لكرامتهم الإنسانية وفقاً للشرعة العالمية لحقوق الإنسان، التي لا تتماشى مع سلوك بشري يمارس الطائفية، أو يعادي الحب، أو يحوله إلى استثمار بين العشاق. هذا السلوك يتبادل في محيطه سلطوية متبادلة قائمة على قوى الأمر الواقع الفيزيائية.

من هنا، يظهر زياد الرحباني احتجاجه على الواقع المعيش، كاشفاً أن كلمات الأغاني يجب ألّا تتوقف عند مسائل الوجد والجوى وامتداح الحبيب، بل أمامها واقع برمته تتجلى فيه قضايا التظلم في كل واقعة فيها قوي وضعيف. ومن هنا أيضاً يؤسس لجرأة في تناول الوقائع السامة لأداءات التجمعات البشرية التي تسبق المجتمع. فعندما يتناول الطائفية في أغنية "يا زمان الطائفية" لا يشير إلى المواطنة حقوقياً وسياسياً، بل يذهب مباشرة إلى النفعية؛ فالطائفية الضارة لا يمكن للفرد، إذا أراد أن يكون عضواً في "مجتمع"، أن ينتفع منها بمقاييس هذا العصر، بل يجب الالتفات إلى المصالح الموحدة للجماعة البشرية، وربما - إذا أمعنا في التحليل - أن تفضي إلى تأسيس مجتمع. يتوجه الرحباني إلى هذا الفرد آملاً تقويض الطائفية، عبر أمثال تصاغ بكلمات قريبة من الشتائم ولكنها لا تسيء، مثل "عندك حرية أجلّك" و"شو هالجرصة العالمية". لا يوارب في شتم الطائفية، لكنه ينقل هذا الشتم إلى مستوى العار، وهو العار الذي يشكل المرارة. فعلى الرغم من كوميدية الأغنية كلها، لا تضاهي المرارة التي تتركها سوى كمية التظلم الوحشي الناتج عنها.

في أغنية "عايشة وحدها بلاك"، يرد الرحباني بصوت جوزيف صقر: "عايشة وحدا بلاك، وبلا حبك يا ولد"، يصور فيها مرارة الحب من طرف واحد، رغم حق الطرف الآخر في التصرف كما يشاء، ساخراً من التصورات غير الواقعية للعشاق: "قايلي في إشارة بعيونها صوبك بتدل... كل ما بتمرق في الحارة.. عيونها بتطلع بالكل". يا لخيبة أمنيات عشاق الطرف الواحد، ويا لمرارة المعرفة بواقع الحال. هذه ليست أول امرأة يا نجيب، بل قبلها 100 امرأة لم يلتفتوا إليك، وعليك تغيير سلوكك أو حتى طريقة مقاربة الحب، فهذه ليست نافعة. الحب واقعة اجتماعية مرتبطة بالناس المحيطين وتقييماتهم لها، ورؤيتهم التي قد تكون محبطة أو مشجعة للإقدام على هذه الفعلة. فهم ربما يرون ما لا يراه العاشق، ما يصنع المفارقة الكوميدية وفي طياتها السخرية من متوهم علاقة يظن أن سلاحه الوحيد هو الشعور بالإعجاب والحب.

في أغنية "بلا ولا شي" بصوت زياد نفسه، نلمس كل ذلك الحنان والدفء في مشاعر لا تعوض، لكنها مريرة إلى حد الحزن، في بحث عن حب هو حب فقط، من دون أي مكملات بديعية من أموال أو مجوهرات، حب مفقود في الحياة لكنه موجود في الروح والأمنيات والنظريات. يبدو الإنسان هنا باحثاً سيزيفياً عن حقيقة واضحة في تعريف الحب، لكنها مستحيلة التحقيق. في هذه المفارقة، يبدو الحزن المملوء الوحيد للفراغ، ليحقق التوازن بين الأمنية والواقع، حزن مرير وساخر في آن. فماذا لو أن الحب وحده يصنع الواقعة؟ حب شفيف يأخذ بشغاف القلب، لكن علته الوحيدة أنه مستحيل. الحب يجمل ويحسن حاجات الإنسان واحتياجاته، أي إن هناك احتياجات تتنوع وتكبر وتصغر، ومنسوبة إلى الواقع. حين لا يمكن نسب الحب إلى الواقع نفسه، يتحول الحب إلى واقعة غير واقعية، ويا لهول الخسارة.

نحن لا نستطيع الجلوس في الظل لمجرد أنه غير مملوك لأحد، ومع هذا أين هذا الشريك الذي يرضى بذلك، ويستمر رضاه إلى آخر الشوط؟ نعم، يحكي لنا زياد الرحباني عن حب حقيقي، وعلينا ألا نصدقه، فهو يعي أن الحب واقعة اجتماعية تعني أنه من نوع مختلف تماماً عن هذا المجتمع، الذي لا يوجد فيه "حبيني وفكري شوي". ربما في جولة على كل أغاني زياد الرحباني، ستتعمق لدينا رؤية متلازمة المرارة والسخرية. طبعاً، لن نقفز إلى تقييم شخصي لطباع الرحباني وميوله الفكرية والنفسية، لكننا نتلمس من خلال منتوجاته تلك العلاقة مع واقعية الأشياء، التي لا يمكن ضبط ما وراءها، كما لا يمكن ضبط نتائجها.

 

####

 

زياد الرحباني في ذاكرة المسرح اللبناني

بيروت/ أنس الأسعد

لم يكن زياد الرحباني الذي رحل أول أمس السبت، مجرد مؤلف موسيقي أو كاتب مسرحي، بل كان صوتاً عبّر عن قلق اللبنانيين، واختصر مأزقهم الوجودي والسياسي بالكلمات والأغنيات. وفي هذا السياق، تواصل "العربي الجديد" مع نقّاد وفنّانين مسرحيين لبنانيين عايشوا تجربة زياد، للحديث عن إرثه ومشروعه المسرحي، وما تبقّى منه في الفنّ والواقع.

فنّان العطايا الخمس

الأكاديمي والفنان اللبناني نبيل أبو مراد يؤكّد في حديثه مع "العربي الجديد" أنّ مسرح زياد الرحباني يمثّل فاصلة حاسمة بين التقليد والتجديد، وضع الإصبع على الجرح، متناولاً قضايا لم تكن مطروحة قبله بهذه المباشرة، مثل الصراع الطبقي، والتزييف الثقافي، وحقوق العمال المهدورة.

ويشير أبو مراد إلى أن الرحباني، في مسرحيته "نزل السرور"، طرح سيناريو لثورة أُجهضَت لأسباب عبثية، في نقد مبكّر ومؤلم لواقع سياسي هش، وهو بذلك فنان استشرافي، التقط مبكراً الاتجاه الذي تسير إليه البلاد، حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية. ويتابع: "زياد يجمع في شخصه ما أُسمّيه 'العطايا الخمس'، فهو المؤلف والمخرج والممثل والملحن والموزّع. وهذا ما يجعل أثره عميقاً، ليس فقط لدى من واكب عروضه مباشرة، بل حتى في ذاكرة الجيل الجديد، الذي لم يشاهد مسرحه على الخشبة، لكنه يحفظ عباراته ويرددها وكأنها جزء من لغته اليومية".

ويستطرد أبو مراد: "في كتابي 'المسرح اللبناني في القرن العشرين' اعتبرت أن مسرحيته الأخيرة 'بخصوص الكرامة والشعب العنيد' (1993)، تشكّل أقصى ما يمكن قوله في مشروعه المسرحي، ولهذا كان من الصعب أن يضيف بعدها شيئاً جديداً. كما أن رحيل شريكه المسرحي، جوزيف صقر عام 1997، إضافة إلى انشغاله لاحقاً بتقديم ألحان لوالدته فيروز، ساهم في ابتعاده عن الخشبة".

ريادة لا تحتاج إلى تقديس

كذلك تواصل "العربي الجديد" مع الناقد والباحث في مجال المسرح الحسام محيي الدين الذي أوضح أنّ "الحركة المسرحية في لبنان عاشت بين عامي 1960 و1975 مرحلةً ذهبية، كان من روّادها منير أبو دبس وأنطوان ملتقى والأخوان رحباني، وشوشو (حسن علاء الدين)، وغيرهم من المبدعين الذين شكلوا نواةً، أو الرعيل الأول، لهذا المسرح باتجاهاته الثلاثة: الجديّ الذهني، والاجتماعي الغنائي، والكوميدي الهزلي، وهي الاتجاهات التي تجاوز عنها الراحل زياد الرحباني في مرحلة لاحقة، والذي يمكن اعتباره من الرعيل الثاني. وهو أول من لجأ إلى المسرح للحديث عن الحرب الأهلية اللبنانية، والتي كانت إشكالية استحوذت على معظم مسرحه من النص إلى العرض. وبهذا كان رائداً في فتح النوافذ على مسرح عصري، يعرّي زيف المكونات السياسية، بعيداً عن الأساليب التقليدية".

ويُضيف صاحب كتاب "المسرح اللبناني: أزمة المرجع النقدي من النص إلى العرض": "يُحسب لزياد أنه لم يقتبس نصّاً، ولا فكرة عن الريبرتوار الغربي، وهذا كله في إطار حداثي متمدن لاقى تجاوباً من جمهور متعدد الثقافات، وخاصة في مسرحيات مثل: 'نزل السرور' و'فيلم أميركي طويل'، و'بالنسبة لبكرا شو؟' التي شكلت محاكاة يسارية، حيث نهضت على مستويين، هما: تسييس القضايا الشعبية، والثاني هو الحس الكوميدي في شخصه وحضوره الذي شكل وسيلة ضامنة لإيصال رسالته الاجتماعية، وهو بذلك أسس لخصوصية فرجوية ما يزال صداها حاضراً بين الجمهورين اللبناني والعربي، وهذا الكلام ليس مجاملة على الإطلاق. فمهما كانت علاقتنا به، بعيدة أم قريبة، فهي لا تشترط منّا أن نحبّه أو نقدسه بشخصه، لأن نتاجاته تغنينا عن كل ذلك".

من شارع الحمرا كان يمدّنا بالأمل

بدورها تصف الفنانة اللبنانية رندة أسمر حزنها على رحيل زياد الرحباني، تقول لـ"العربي الجديد": "لم أستوعب بعد أن البلد، والحياة فيه، يمكن أن تستمر من دون زياد". وتؤكد أسمر أن زياد من الفنانين النادرين الذين أدركوا الجوهر الحقيقي للفن؛ فهو استخرج الوجع من أعماق الواقع وقدّمه بطريقة فنية، تُحوّل الألم إلى لحظة فرح، والمرارة إلى شكل من أشكال القوة. وتضيف: "زياد الرحباني جعلنا نحتمل الحرب الطويلة، وقصص الحبّ المؤلمة، والحياة في بلد منهار، عبر سخريته استطعنا أن نتخطى مآسينا".

وتتذكر أسمر كيف كانت تتابع أعماله وسط أقسى الظروف خلال الحرب الأهلية: "كنّا ننتظر برنامجه الإذاعي 'العقل زينة' في ذروة القصف، ونمشي إلى شارع الحمرا في بيروت تحت الخطر حتى نشاهد مسرحياته، لأننا كنّا نعرف أننا سنعود بجرعة أمل كبيرة". وعن تجربتها الشخصية، تختم حديثها إلى "العربي الجديد": "كنت محظوظة، لأني اكتشفت شخصه عن قرب، روحه المجبولة بالصدق والتواضع. شاهدته يقود الفرق الموسيقية والكورال، ويعزف على البيانو بكل حب. شكراً على كل الفرح الذي منحتنا إياه".

نقد الواقع بلا مواربة

يرى الفنان اللبناني فايق حميصي، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن زياد الرحباني موسيقي أولاً قبل أن يكون مسرحياً، وقد دخل إلى عالم المسرح من بوابة الموسيقى، وهي القناعة التي ظلّ يحملها طوال مسيرته. يقول حميصي: "لو أردنا توصيف تجربته بدقّة، يمكن القول إن أمثال زياد يمرون في العالم من زاوية خاصة، تجمع بين المادي والفكري والروحي، في توليفة لا تشبه أحداً. لم يستشرف الرحباني المستقبل بقدر ما حلّل الواقع بمنتهى الوضوح، ودون أي مواربة أو مجاملة".

وعن مكانة مسرحه، يشير حميصي إلى أنه رغم وجود حركة مسرحية واقعية اليوم في لبنان، إلا أن فرادة مقاربة زياد وعمق معالجته يظلان استثنائيين، موضحاً: "مسرحية 'بالنسبة لبكرا شو؟' (1978) مثلاً، تقدّم تعرية كاملة للواقع من دون أي حواجز. من خلال قصة رجل يُشغّل زوجته في البار حيث يعمل، يُظهر زياد إلى أي حد قد يدفع الواقع الاقتصادي بالناس للتخلي عن المسلّمات الأخلاقية، وهي أفكار كان من الصعب جدّاً تناولها في الإطار الاجتماعي والفني السائد آنذاك". ويشبّه حميصي حضور زياد الرحباني بـ"الظاهرة"، ويختم: "هو امتداد لنَفَس مسرحي وموسيقي ربما لا نبالغ لو قلنا عنه إنه مثل سوفوكليس، وشكسبير، أو سيد درويش".

 

####

 

فيروز تستقبل المعزين في رحيل زياد الرحباني قبيل تشييعه

بيروت/ العربي الجديد

وصلت السيد فيروز وابنتها ريما إلى كنيسة رقاد السيدة في بلدة المحيدثة (بكفيا، شمالي بيروت)، للمشاركة في تشييع ابنها الموسيقي زياد الرحباني الذي رحل يوم السبت الماضي عن 69 عاماً.

وكانت ريما الرحباني برفقة والدتها لحظة دخولها الكنيسة متشحتين بالسواد، كما حضر أفراد عائلة الرحباني، وخالته الفنانة هدى، والشاعر طلال حيدر ومارسيل خليفة وعدد كبير من الفنانين والصحافيين وأصدقاء الرحباني، بينما توافد المعزون إلى صالة الكنيسة لتعزية العائلة.

وكان جثمان زياد الرحباني قد نقل صباحاً من مستشفى خوري في شارع الحمرا في بيروت إلى الكنيسة، حيث سيصلى عليه عند الساعة الرابعة من بعد الظهر. وزيّن نعش الرحباني بأكاليل من العائلة، أبرزها إكليل من الورد الأبيض من فيروز.

 

####

 

المئات يودعون زياد الرحباني بالموسيقى أمام مستشفى خوري في بيروت

بيروت/ العربي الجديد

تجمّع المئات اليوم الاثنين، أمام مستشفى خوري بشارع الحمرا في بيروت، لتوديع الموسيقي اللبناني زياد الرحباني، الذي نُقل جثمانه من المستشفى (توفي فيه صباح يوم السبت الماضي)، إلى كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة (بكفيا، شمالي بيروت) حيث سيصلّى على جثمانه عند الرابعة من بعد ظهر اليوم قبل أن يوارى الثرى في مدافن العائلة.

وعلى وقع التصفيق والزغاريد والموسيقى ودّع الجمهور، زياد الرحباني، بعد موته المفاجئ بالنسبة لكثيرين إثر مرض في الكبد.

وكان أصدقاء ورفاق زياد الرحباني قد وجهوا دعوة بعد ساعات من وفاته جاء فيها: "أصدقاء زياد الرحباني ورفاقه يدعونكم إلى تشييعه من أمام مستشفى خوري في منطقة الحمرا في بيروت قبل انطلاق النعش إلى المحيدثة بكفيا وذلك في الثامنة صباحاً من يوم الاثنين المقبل... تعالوا نكلله بالورود لنقول له وداعًا".

وبالفعل، غصت الساحة المقابلة للمستشفى بجمهور زياد وبالفنانين بينهم ندى بو فرحات وطارق تميم كما حضرت فرقته الموسيقية كاملة، وبعض السياسيين، إلى جانب شخصيات عامة أخرى، أبرزها الأسيرة اللبنانية المحررة سهى بشارة التي حملت وروداً حمراء.

كما رفعت أعلام فلسطين، وأعلام الحزب الشيوعي اللبناني، ولافتات كتب عليها "هيدي بس تحية"، المأخوذة من أغنيته "المقاومة الوطنية اللبنانية".

 

####

 

صورة زياد الرحباني الأيقونية في محيط عربي مضطرب

عمّان/ محمود منير

ارتبط اسم زياد الرحباني منذ صعوده بالغليان الثوري الذي ساد تلك المرحلة، وردّة الفعل الغاضبة على هزيمة يونيو/ حزيران 1967 وما عكسته من تأثيرات عميقة طاولت الأدب والمسرح والفنون، لكن ثورة زياد بدت جذرية وغاضبة أكثر، ربما لأن نقده كان مركباً ومكثفاً، إذ انتقد بقسوة إرث عائلته ضمن محاولات تجديده الموسيقى العربية، والأهم من ذلك تعريته للطائفية في لبنان، وأزمة السلطة في المنطقة بعمومها.

جذبت مناكفة الواقع والسخرية المحمّلة بالمفارقات والتساؤلات في أعمال المسرحي والموسيقي الذي رحل أول أمس، أوساط المثقفين في الدول المحيطة بلبنان، سوريين وفلسطينيين وأردنيين، في لحظة انقسمت الآراء حوله في وطنه، بالنظر إلى الاستقطاب الحاد بين معسكري اليمين واليسار اللذين انخرطا في حرب أهلية طويلة، تنبأ زياد بوقوعها في مسرحية "نَزل السرور" (1974). انتشرت كاسيتات أغانيه ومسرحياته في صفوف الناشطين والكتّاب والفنانين المسيّسين في سورية والأردن خلال الثمانينيات، رغم أنها كانت توزّع سرّاً، وإن اختلفت أسباب المنع في كلا البلدين، إلا أن التمرّد على المنظومة السائدة كان كافياً للحجب، وللانتشار في آن واحد.

لم ينجح زياد في استيعاب لحظةٍ معقدة تعيشها المنطقة

تشكّلت صورة زياد في بلدان الجوار اللبناني في أبعاد مختلفة، بدءاً من تأييده مقاومة الاحتلال الإسرائيلي على مدار العقود الماضية، ومناوأته لقمع الأنظمة العربية، وتعريته للظلم الاجتماعي والطبقي. ولا يمكن إغفال بعدٍ أخير ظلّ عابراً لأجيال شابة حتى اليوم، مع تزايد حضوره عربياً على منصات التواصل الاجتماعي، يتعلّق بعبثيته وجرأته وانزياحاته في التعبير بالنكتة المحملة بمضامين ناقدة وجارحة أو بالشتائم أحياناً على قضايا مسكوت عنها.

بالمسرح السياسي والاسكتشات الإذاعية والأغاني التي لحنها لكلّ من فيروز وجوزيف صقر وسامي حواط وسلمى مصفي، عبّر الراحل عن آرائه ووجهات نظره بالموسيقى والدين والسياسة والمجتمع وغيرها من المواضيع، لدرجة أن اخترع البعض مقولاتٍ ونسَبها إليه. على هذا النحو، تأسست أيقونةٌ تفيض عن المرجعيات التي استندت إليها، وبمعنى أدّق أصبح الفنان الماركسي المشتبك مع مجتمعه وأزماته، منظّراً في السياسة والفكر ورائياً يستشرف الغد، وحتى فيلسوفاً في نظر البعض.

في بدايات التسعينيات، تنامت عند زياد نزعة معارضة برنامج الإصلاحات (البيريسترويكا) التي قادت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، لينتج موقفاً معادياً للديمقراطيات الليبرالية. مقاربة العالم بوصفه منقسماً بين عدوين، انسحبت أيضاً على موقفه للانتفاضات العربية بعد 2011، التي تسببّت بحسب رأيه، بالانقسام وتفشّي الطائفية والتدخل الأجنبي، مؤيداً أنظمة على حساب شعوبها، وهي خلاصةٌ أقنعت معجبيه الذين ظلّوا شغوفين بأيقونتهم المعبّرة عن نضالات الفقراء والمهمشين ضدّ الرأسمالية، وإن لم ينجح زياد في تطوير أدوات تحليله، والتخلّص تماماً من الأدلجة، لاستيعاب لحظة معقدة تعيشها المنطقة.

 

####

 

زياد الرحباني في أرض المستحيل.. فسحة المسرح من أجل الموسيقى

عبيدو باشا

حين نهى عاصي الرحباني ولده عن الدخول في القوافل الشاردة في حزب الكتائب اللبناني، لم ينهه إلا عن قطاف العشب اليابس. لم يقل الوالد إن الدخول في حمى الحزب حدف بعيد من الملائكة. نهاه بالفزع من السيرة الريفية. سيرة حمالة ملح الدمع من نأيها عن شمس المدينة. لأن في المدينة وحدها نزق الرقص في الثقافة من أعوام بعيدة، ابتعدت من نفسها حين هاجمها الحزب بريفية مقاتليه. لا يزال الحزب حتى اللحظة واحدة من لوحات المدينة الهوجاء من اقتصاصه الدائم منها وهو في مجال تشكيكه فيها. حزب ريفي. الريف منطقة جغرافية بمساحات واسعة من الأراضي الزراعية والقرى. خلافها مع المدن ليس على قلة كثافتها السكانية، على تركيزها على الأنشطة الزراعية وتربية الحيوانات. لا تعاريف مختلفة في الريف. بالمدينة تعاريف لا تحدث معظم الوقت في الريف.

هكذا، دفع عاصي الرحباني زياد الرحباني، إلى وعيه الأول من خلال اللاوعي. لا وعي سيقوده إلى التسليم بالوعي في مراحل الوجود في المدينة. مدينة لم يغادرها، حتى حين هاجمها الجن الأرقط. مدينة وجوده العالي بالفعل مذ وجد فيها مجاله، حين انتُزِع مخيم تل الزعتر من أهاليه على أيدي القوات المحلية من يمين متطرف وقوات الردع السورية. لحظة نجاة زياد الرحباني، اختباره الحقيقي، في سقوط مخيم تل الزعتر على مرآه. لم يتوقف عن التفكير بسقوطه، حين لم يسعده أن يرى الضباط السوريين في منزل والديه يخططون لفرض الواقع الجديد على مخيم الفقراء الفلسطينيين، بإخراجهم منه قتلى أو مهجرين، كما لو أنهم يخرجون مستحمين من حماماتهم

استخدم أرباح المسرحيات في توفير مجال العمل في الموسيقى

روى زياد الرحباني الأمر، كما لو أن ليس بمقدوره التوقف عن التفكير بالأمر. لأن المخيم على بعد قريب من منزل والديه. جرأة مغادرة "المنطقة الشرقية" إلى "الغربية" لحظة جرأة ستحدد أزمانه المقبلة. لأنها الآمر الحتمي بكل ما فعله في المسرح والموسيقى والإذاعة، حين لم يقرب التلفزيون لأنه لم يجد فيه مقدمات نشرة في مشروعه. مشروع معادلات النجاح الهائلة، بحيث صار الوقت الأكثر أهمية في حياة المدينة هو ما أحدثه فيها زياد الرحباني وحسب. بالأخص في الموسيقى. ذلك أن موسيقاه زادت من حدة وحدتها مع الموسيقات الأخرى، بحيث سيطرت على الداخل المحلي وعلى موسيقى العواصم العربية على مدى أعوام لم تنته بـ رحيله، لن تنتهي برحيله

ذلك الزمن؛ "زمن هدوء نسبي"، أوضح أحداث زياد الرحباني الحقة، بما يفرق بكثير عما تصوره الآخرون. لأن في ما فعله زياد الرحباني في الموسيقى لا الدخول في أرض المستحيل، فتح المجال أمام موسيقى أخرى من أفضل ما ألفه موسيقي. لأنها تألفت لا على الضروري ولا على الجلبة، على ثقافة واسعة دورت زوايا اللقاء بين الموسيقى الشرقية والموسيقات العالمية. لم يشعر الرحباني بأهمية ما فعل، لأنه من طبائعه المكرسة فيه. رجل لا يدخل تحسينات، رجل لا يدخل إلا إلى الصمامات من إصغاءاتها إلى دوائرها. "الجاز الشرقي" واحد من منجزات زياد الرحباني. عالِمٌ مجنون اخترع آلة عجائبية أخرى اندفعت إلى المزيد من المدفوعات الإبداعية بدوي بلا دمدمة. الجاز والبلوز والروك والباسادوبلي. دام الأمر أعواماً ولا يزال. وحين وجد العالم فيروز على قدر من الصلف والتعالي بوجودها على ما يصح من أقوالها لا من أقوال الآخرين، وجدها زياد الرحباني غماراً لا يزال بقدرته أن يفضي إلى سلسلة من الإبداعات انطلقت ممن رآه البعض هذيان زياد الرحباني إلى تحرير علاقة فيروز من الأخوين، عاصي ومنصور، بوضعها في صفاء آخر، صفاء فريد، صفاء العلاقة بجيله وجيل آخر تلاه. جيل الإنترنت. وضع الرحباني زياد، وضع فيروز بغضون دروج جديد استخدمه بتوفير العلاقة بين الوالدة السبعينية وجمهور العشرين

هذه واحدة من اللحظات العظيمة من زياد الرحباني لفيروز، حين لم يضعها في ضوء عناء التأقلم مع الألفية الجديدة، إذ حتم عليها أن يضحي نجاحها معادلاً لنجاحه في الأوساط الشبابية. نجاح تحريك عصي الروافع الجديدة مما ساوره من انتقالاته المعرفية بين موسيقى الشرق وموسيقى أميركا اللاتينية وأميركا البيضاء وأوروبا. عمر جديد لفيروز بعد تجربة لا يقال إن أصحابها يعتدون بها، لأنها تجربة أخوين لم يقفا أمام القصائد إلا بتأليف أفضل الموسيقات. آخر أعمال زياد الرحباني لفيروز "إيه في أمل" بعد أن غنت "عهدير البوسطة"، و"زعلي طول أنا وياك "وكيفك إنت"، بعد "سألوني الناس"، و"عصفورة البرد" و"رح نبقى سوا" و"سفينتي بانتظاري". لم تقع مصادفة قضية حين أصبح من الطبيعي أن يصل زياد الرحباني إلى والده الموسيقي وعمه منصور في ذاتياته الموسيقية وتوافقها مع أعمال الأخوين، من روحها لا من إدراجها في أنحائها المادية. ابتعد عن شعور المهندس لدى الوالد والعم إلى واقع عدم دوام تلك اللحظات بصوت فيروز، إلا بما يعتد به على صعيد إنتاج موسيقى جديدة ستقود الصوت القديم إلى العالم الجديد.

وجد في اللغة مبرر وجود، تحدث بشيء وهي تسعى وراء شيء

جاء زياد الرحباني إلى المدينة من ريف قدم فيه أولى مسرحياته "سهرية". وجد خالد العيتاني (صاحب البيكاديللي والسارولا، صالتان من أشهر الصالات البيروتية، قدم فيهما فنانون عالميون حفلات لا يزال صداها في فضاء المدينة حتى اليوم) أنها فصل الرحباني الأول في مغادرة الريف إلى المدينة، ما سيجعل أموره مختلفة عما جاءت عليه. وجد الجمهور الرحباني في "نزل السرور" كما لو أن أفضل ما يقع وقع في مدينة تفرغت لقضايا العالم، لا لقضاياها. ثم، دام الأمر ما دام زياد الرحباني يوقع على مسرحية. استخدم أرباح المسرحيات في توفير مجال العمل في الموسيقى

قال إنه لا يحب المسرح. قال إنه يمول موسيقاه من أعماله المسرحية (لقاءات شخصية). طرق عدداً من السبل لتمويل أعماله الموسيقية، حتى قال إن كل كونسير موسيقى كلف منتجه إصابته بكونسير، في واحدة من ألعابه اللغوية. ذلك أن الرحباني وجد في اللغة مبرر وجود، تحدث بشيء وهي تسعى وراء شيء. هكذا، واصل الحفاظ على مسافة بين المنطوق وطمع المنطوق بقتل الخيبات بالسخرية، واحدة من أعياد ميلاده باللغة، بالمشافهة اللغوية. ما لم يسبق سماعه ولا فهمه على ما هو عليه. أي ما سيحدث حدث في لغة جزلة جذابة، لم يُسعد صاحبها يوماً بالحصول على المال، إذ إن المادي الجدلي اكتفى من المقولة العالمية بالجدل دون المال. لم يهمه المال يوماً. لم يصل إلى لحظة لم يتصارع فيها مع رأس المال، غير أنه استقر على رفض الدوافع الجلية لرأس المال هذا في عدم تحقيق الأرصدة الإيجابية للفنون قدر تحقيق هذه الأرصدة في حسابات أصحابه

جاءت مشافهاته في المسرح والأغنية، في مواضعها في أعماق الناس، حتى استعملوها في دفاعاتهم عن أنفسهم، مواقفهم، قضاياهم. شيء يستعصي تحديده إلا من صاحبه، مع ذلك وجد فيه الجمهور أصوله اللغوية الحية المفقودة، إلى حين جاء زياد الرحباني بطبائعه اللغوية المحشودة بالمشاعر، بالخفة، لا بالثقل، ولو أنها في سخريتها أكثر جدية من جد لن يسعد أحد بالحصول عليه. عالج الشفاهي لدى الرحباني أمور العقود الحياتية وكل شأن تعامل معه الناس بصعوبة أو تردد. بلغته، انتهت الصعوبة، انتهى التردد.

رجل موسيقى لا رجل طماع مسرح. قدم، على الرغم من جدية الأمر، مسرحيات كل مسرحية حدث. مع "بالنسبة لبكرة شو"، و"فيلم أميركي طويل"، و"شي فاشل"، و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، و"لولا فسحة الأمل". قدمت المسرحيات في فؤاد المدينة، أشهر لكل مسرحية، لا مجال فيها للتشكيك في قدرة الرجل على الإبداع. مؤلف، ملحن، مخرج، لازم مسرحياته، بحيث لم يستطع أحد انتزاعها منه. مسرحيات لا تزال تواصل الإلحاح على الذاكرة. تبقى، ستبقى. تحضر في اغرب اللحظات بأغرب لحظاتها .

أضحى صوت فيروز وأداؤها لدى جيل الشباب كالتنفس مع زياد الرحباني. إنجاز لم يدفع إلى نوم الصوت في الألفية الماضية. غير أن لزياد الرحباني عنانه في الانسياق وراء تجاربه، حتى إنه لم يدوّر علاقته بالموسيقى الشرقية بصالح المزاوجة بينها وبين الموسيقات الأخرى. لأن عمله تعبير عن إرهاف الموسيقي في التعبير عن الإيغالات بين الموسيقات. كل شيء يلحق بكل شيء. هذه معادلة هذا العبقري في الموسيقى، أحد أفضل الممثلين الشعبيين على خشبات مسارح بيروت كما لو أنه المسرحي الإيطالي داريو فو. وضع سعادة الموسيقى في سعادة الموسيقى الأخرى. وضع سعادة موسيقاه بسعادة مستمعي صوت فيروز حين الاستماع إليه. لم يلهه شيء عن فنونه. رجل يلتقط الشوارع كما يلتقطها أعمى، عراف، أسلم حكمته الشوارع. الرائي، أشار إلى الصلب القريب للمواطن اللبناني على أسربة إنجازات البنك المركزي، قبل أن يقع الصلب.

حاول أن يؤلف حزباً سياسياً أكلته الظروف والنصائح، لم يترشح إلى الانتخابات النيابية، لأنه وجد فيها جراثيم الأنسال الفاسدة. غير أنه أكثر من المتاع على وجه الأرض. وجوده من المتع، كلامه، حواراته، تسجيلاته. لولا الأخيرة في "بعدنا طيبين قولوا الله" مع جان شمعون في الإذاعة اللبنانية في الجولة الأولى من الحرب الأهلية في لبنان لقل صمود اللبناني في أرضه. لولاه لقلّت قدرة اللبناني على الصمود في فارغ صحونه في العشريات الأخيرة. إنه مكرمة لا تنفد. لأن إبداعه لا يموت. لا يموت من لا يموت إبداعه. هو من شرَّق العزف على الغيتار، من لعب على البيانو وكأنه طبلة تمرّ بين شقوق الرؤى. الآن، الآن، يتوهج ألق الحتف، بعد أن انتصر على غصات البلاد الدموية بتحويله الحرب إلى سمفونية. خسارته نار ترمي في فضاء المتاعب، لأنه حفر اسمه معتلياً للصفحات، كإسبارطي، يساري، لا يهمه الغياب في باب من أبواب البحر.

* كاتب ومسرحي لبناني

 

العربي الجديد اللندنية في

28.07.2025

 
 
 
 
 

بيروت "تزف" زياد الرحباني وفيروز تتجرع الكأس المرة

حشد كبير في الحمراء شارك في الوداع بالورد والرز والهتافات ووفود كبيرة تؤم الجنازة

عبده وازن

ملخص

ودَّعت بيروت وشارع الحمراء صباح اليوم الفنان زياد الرحباني، وتجمع حشد كبير من الأصدقاء والفنانين والمثقفين أمام المستشفى الذي انطلق منه موكب الراحل إلى بلدة بكفيا – المحيدثة لإتمام صلاة الجناز، ثم الدفن في مقبرة الأسرة.

كم مُرَّة هي الكأس التي تجرَّعتها السيدة فيروز برحيل ابنها الفنان الكبير زياد الرحباني، بل كم أليم هو هذا الجرح الذي اخترق روحها كأم كانت فقدت قبل سنوات ابنتها الشابة ليال، وبكتها بحرقة. واليوم، بدت كأنها "الأم الحزينة" عندما دخلت مكللةً بالأسود كنيسة سيدة الرقاد في بلدة المحيدثة - بكفيا (شرق بيروت) ترافقها ابنتها ريما، لتودع ابنها المسجى داخل التابوت وتلقي عليه نظرة أخيرة، بعدما استأذنت الحاضرين بالخروج لتختلي به وتكلمه وتُبكيه.

ولما أنهت هذا "اللقاء" الأخير بزياد خرجت ثم انتحت زاوية في القاعة الكبرى جالسة بصمت متقبلةً العزاء في حال من الوجوم، وعلى عينيها نظارة تخفي حزنها العميق. وبين قاعة الكنيسة وصالة التعزية ارتفعت الصلوات والأناشيد الأرثوذكسية وترتيلة "أنا الأم الحزينة" بصوت فيروز.

وكانت بيروت شيَّعت عند التاسعة صباحاً زياد عند خروج جثمانه في التابوت من مستشفى خوري في منطقة الحمراء، بحضور حشد كبير من أصدقاء الفنان ورفاقه ومحبيه، عطفاً على ممثلين وموسيقيين ومطربين تجمعوا أمام باب المستشفى ليودعوه ويرافقوه في "مشواره" الأخير في قلب الحمراء التي عاش  وأقام فيها معظم سنوات حياته، بدءاً من عام 1976 عندما قرر هجر بيت أهله في بلدة أنطلياس (شرق بيروت) منتقلاً إلى ما يسمى بيروت الغربية.

بدا تجمع الأصدقاء الذين وفدوا من كل المناطق أشبه بتظاهرة فنية وشعبية ضمت مواطنين من كل التيارات السياسية والمدنية، وفيها ارتفعت صور لزياد. وفي وسط الحشد اختلط البكاء بالتنهيدات وعبارات الوداع والهتافات باسم زياد. وعندما أقلعت السيارة الحاملة للنعش وسط الجموع انهال الورد وحبوب الرز كما لو أن الأصدقاء يزفون زياد ولا يودعونه. ولم يتمكن الموكب من اختراق الصفوف بسهولة، نظراً إلى الازدحام البشري الشديد.

ولئن حشدت بيروت والحمراء مثل هذا الجمع الغفير في وداع زياد، فإن مدخل بكفيا، بلدة الرئيس أمين الجميل، خلا من المستقبلين، لكن جمعاً من الأصدقاء وأبناء رعية الكنيسة في المحيدثة، كانوا ينتظرون وصول الموكب إلى الباحة الخارجية ليستقبلوا الجثمان بالصلوات والبخور. وبدا المشهد مختلفاً كل الاختلاف بين الحمراء وبكفيا، وهو اختلاف ذو دلالات عدة.

وراحت تتوافد بالتوالي إلى صالة التعزية، شخصيات سياسية وإعلامية وفنية من كل المناطق، مقدمةً أحرَّ التعازي إلى الأسرة، بينما مكثت فيروز جالسة والإعياء بادٍ عليها. أما أقسى ما في المشهد المأساوي، فهو تدشين زياد المقبرة الجديدة التي بنتها السيدة فيروز لعائلتها، في قرية متاخمة لبلدة المحيدثة، ولدراتها الصيفية.

 

الـ The Independent  في

28.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004