وداعا زياد الرحباني.. صوت "المعتّرين" الذين يعيشون على
هامش المجتمع
موهبة شغلت الأوساط الفنية في لبنان والعالم العربي
علي قاسم
رحلة لا تنسى لفنان ولد في بيت فني ومزج الأمل بالألم حتى
صار مرآة لروح شعبه.
في بيروت الخمسينات، ولد زياد الرحباني، طفلًا يحمل أحلام
وطن مشرق. لكن، لبنان "سويسرا الشرق"، كان يخفي شقوق الانقسام. من طفولته
في بيت الفن إلى شبابه وسط الحرب الأهلية عام 1975، صار زياد مرآة لروح
شعب، صوتًا لـ"المعترين"، يمزج الأمل بالألم، والجاز بالتراث، في رحلة لن
تنسى.
الخمسينات علامة فارقة في مسيرة فيروز الفنية، لسببين:
الأول، تقديمها لأغنية “عتاب” التي تُعتبر واحدة من أوائل الأغاني التي
أكسبتها شهرة واسعة. هذه الأغنية، التي كتبها ولحّنها الأخوان رحباني،
تميزت بكلماتها العاطفية وأسلوبها البسيط الذي لامس قلوب الجماهير. تلتها
أغانٍ أخرى مثل “جايبلي سلام” و”يا ظريف الطول”، وهي أغانٍ فلكلورية قدمتها
فيروز في إطار المسرحيات الغنائية مثل “موسم العز” (1955). لكن “عتاب” تُعد
الأكثر شهرة لأنها كانت من الأعمال الأولى التي عززت مكانة فيروز كصوت
لبناني مميز.
الحدث الثاني ولادة ابنها زياد الرحباني، الذي سرعان ما
سيشغل بموهبته الأوساط الفنية في لبنان وفي العالم العربي. يفصل بيني وبين
زياد عامان، هو من مواليد 1956، وأنا من مواليد 1954، وكلانا مولود في
الأول من كانون الثاني – يناير.
زياد شبّ في منزل العملاقة فيروز، ومؤكد أن أول ما سمعه من
أغاني كان أغنية “يا ظريف الطول”. لم أشبّ في بيت فيروز ولكن ترعرعت في بيت
بسيط كانت والدتي تردد فيه أغنية “يا ظريف الطول”.
◙
ألبومات مثل "هدوء نسبي" و"بالأفراح" مزجت الجاز والبوسا
نوفا بالتراث العربي، لتصل إلى قلوب جيل عاش تحت وطأة الحرب
ولد زياد الرحباني، في وطنٍ لم يكن يعرف بعد أن مصيره
سيتأرجح بين الأحلام والدمار. كان لبنان آنذاك لوحةً مشرقة تُلقب بـ”سويسرا
الشرق”، تضج بالمقاهي التي يتبادل فيها الشباب الأفكار والضحكات، والمسارح
التي تحكي قصص القرى والجبال. لكن تحت هذا البريق، كانت هناك علامات توتر،
ظلال خفيفة تسبق العاصفة. زياد، ابن فيروز وعاصي الرحباني، نشأ في بيت
يتنفس الموسيقى، لكنه كان أيضًا ابن وطن يحمل في طياته بذور الانقسام.
كانت بيروت الخمسينات والستينات مدينة تتجسد فيها الأحلام
حقيقة. كانت الأضواء الساطعة لمسرح البيكاديلي وكازينو لبنان تجذب السياح،
وألحان الأخوين رحباني تملأ القلوب فخرًا. في هذا البيت الفني، كان زياد
يرى والدته فيروز تغني للوطن، ووالده عاصي وعمّه منصور ينسجان قصصًا
رومانسية عن القرى اللبنانية. لكن هذا العصر الذهبي لم يكن خاليًا من
الشقوق. نظام الميثاق الوطني، الذي وزّع السلطة بين الطوائف، بدأ يترنح تحت
ثقل عدم المساواة. عندما هزّت أزمة 1958 البلاد، كان زياد طفلًا صغيرًا،
لكن صدى الاشتباكات والتدخل الأميركي بقي في الذاكرة الجماعية، كتحذير من
هشاشة الوحدة الوطنية.
كمراهق في الستينات، كان زياد يعيش في مدينة تنبض بالحياة
والتناقضات. كانت بيروت ملتقى الأفكار، حيث يستمع الشباب إلى ألحان البيتلز
ومايلز ديفيس، ويناقشون ماركس وسارتر في مقاهي الأشرفية والحمرا. لكن في
الريف وأحياء الفقر، كان هناك صوت آخر، صوت الغضب والتهميش. الشيعة
والفلاحون شعروا بأن ازدهار بيروت لم يطلهم، وهذه الفجوة كانت تنحت في قلب
زياد حساسية عميقة تجاه “المعترين” (البؤساء)، أولئك الذين سيصبحون لاحقًا
أبطال أغانيه ومسرحياته. في بيته، كان يرى والده عاصي يعاني من المرض،
وفيروز تحمل على كتفيها أحلام شعب، لكنه كان يرى أيضًا وطنًا ينهار تحت ضغط
الطائفية والظلم.
تمرد المراهق وولادة فنان
◙
مسرحيات صارت جزءا من الذاكرة الجماعية
في سن السابعة عشرة، عام 1973، خطا زياد خطوته الأولى نحو
الخلود الفني. لحّن “سألوني الناس” لفيروز في مسرحية “المحطة”، وكأنه يعلن
للعالم أن هناك صوتًا جديدًا سيغير قواعد اللعبة. لم يكن زياد يريد أن يكون
مجرد امتداد لأبويه. كان يرى في الشارع قصصًا مختلفة: شباب يحلمون وسط
الفقر، وسياسيون يبيعون الوعود الكاذبة، ووطن يترنح على حافة الهاوية.
تأثره بالجاز والبوسا نوفا، الذي سمعه في مقاهي بيروت، دفعه ليمزج التراث
العربي بلمسات غربية، ممهدًا الطريق لأسلوب موسيقي سيصبح توقيعه الخاص.
صعود القضية الفلسطينية بعد نكسة 1967 أضاف طبقة أخرى إلى
وعي زياد. لبنان، الذي أصبح قاعدة للمقاومة بموجب اتفاقية القاهرة 1969،
كان يغلي بانقسامات بين مؤيدي المقاومة ومعارضيها. كمراهق، كان زياد يسمع
نقاشات الشباب عن العدالة والحرية، وتأثر بالأفكار اليسارية التي اجتاحت
الجامعات. هذه البذور السياسية، التي نبتت في قلبه، ستزهر لاحقًا في دعمه
للحزب الشيوعي اللبناني وفي أعماله التي ستصبح صوتًا للمظلومين.
◙
لم يرد أن يكون مجرد امتداد لأبويه
عندما اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، كان زياد في التاسعة
عشرة، شابًا يحمل في قلبه أحلامًا كبيرة وجراح وطن بدأ ينزف. بيروت، التي
كانت يومًا مدينة الأضواء، تحولت إلى ساحة قتال، مقسمة بحواجز بين شرق
وغرب. اختار زياد أن يبقى في غرب بيروت، حيث عاش بين الناس العاديين،
مشاركًا آلامهم وآمالهم. كان هذا القرار بمثابة نار صهرت موهبته. الحرب لم
تكن مجرد خلفية لأعماله، بل كانت المحرك الذي شكّل صوته الفني. في شوارع
بيروت الممزقة، حيث كان دوي القذائف يخنق الأمل، وجد زياد صوتًا مختلفًا،
صوتًا يحمل السخرية والألم، النقد والحلم.
مسرحياته، مثل “سهرية” (1973)، “نزل السرور” (1974)،
“بالنسبة لبكرا شو” (1978)، و”فيلم أميركي طويل” (1980)، كانت صرخات ساخرة
في وجه الحرب. على عكس مسرحيات الأخوين رحباني، التي كانت تحلم بقرى
مثالية، جاءت مسرحيات زياد واقعية إلى حد الألم. في “فيلم أميركي طويل”،
سخر من الجنون السياسي والطائفي، مقدمًا شخصيات مثل رشيد وزكريا، اللذين
أصبحا رمزًا للشاب اللبناني المحاصر بين الحرب والحلم. في “شي فاشل”
(1983)، تجسدت شخصية “أبو الزلف” كرمز للفرد الذي يحاول البقاء وسط الفوضى.
هذه المسرحيات لم تكن ترفيهًا، بل كانت مرآة تعكس وجع الشعب، وفسحة أمل وسط
اليأس.
موسيقاه، أيضًا، كانت تعكس نبض الشارع. في “ع هدير
البوسطة”، غنى عن وسيلة النقل الشعبية التي ربطت أحياء بيروت المقسمة،
جاعلاً منها رمزًا للوحدة. أغانيه مع فيروز، مثل “حبيتك تنسيت النوم” و”إيه
في أمل”، حملت روحًا جديدة، حيث استبدل الرومانسية التقليدية بنصوص تعبّر
عن الحب والحياة بجرأة وواقعية. ألبومات مثل “هدوء نسبي” و”بالأفراح” مزجت
الجاز والبوسا نوفا بالتراث العربي، لتصل إلى قلوب جيل عاش تحت وطأة الحرب.
الحرب لم تترك زياد دون ندوب. عيشه في غرب بيروت، بعيدًا عن
عائلته في الشرق، أثّر على علاقته بفيروز وشقيقته ريما. مذبحة تل الزعتر
عام 1976، التي هزت لبنان، عززت من إيمانه بالمقاومة ضد الظلم، لكنها أيضًا
جعلته يرى الوجه القبيح للطائفية. آراؤه اليسارية، وارتباطه بالحزب الشيوعي
اللبناني، جعلاه رمزًا للنضال ضد الفساد. برامجه الإذاعية، مثل “العقل
زينة” و”بعدنا طيبين قولوا الله”، كانت منبرًا لسخريته الحادة، حيث كشف زيف
السياسيين والقادة الطائفيين، مضحكًا الشعب ومبكيًا في آن واحد.
مواقفه الجريئة، بما في ذلك إعلانه أنه ملحد وانتقاده
للأحزاب اليمينية، جعلته هدفًا للجدل. عام 2017، واجه محاكمة بتهمة التشهير
بعد تصريحاته ضد سمير جعجع، لكنه ظل وفيًا لمبادئه، رافضًا التنازل عن دوره
كصوت للناس. كما وصف أحد المعجبين على منصة إكس، كان زياد “صوت المعترين،
صوت الضمير”، صوت من يعيشون على هامش المجتمع، بعيدًا عن النخب.
◙
الحرب لم تترك زياد دون ندوب
إرث يتجاوز الحرب
مع انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، استمر زياد في كونه
صوتًا للشعب. مسرحياته مثل “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” (1993) تحدثت عن
الكرامة الوطنية في وجه التدخلات الخارجية، معبرة عن إيمانه بصمود
اللبنانيين. أعماله لم تقتصر على لبنان، بل وصلت إلى العالم العربي.
في مصر، أحيا حفلًا عام 2018 استقبله الجمهور بحماس،
وكاسيتات مسرحياته في الثمانينات أصبحت جزءًا من الذاكرة الجماعية، كما وصف
الكاتب الكويتي عبدالوهاب الحمادي عام 2024، مشيرًا إلى “خرس الدهشة” الذي
شعر به عند سماع “فيلم أميركي طويل”.
◙
زياد، ابن فيروز وعاصي الرحباني، نشأ في بيت يتنفس
الموسيقى، لكنه كان أيضًا ابن وطن يحمل في طياته بذور الانقسام
اليوم، السبت 26 تموز – يوليو 2025، استفقت على أنباء تتحدث
عن وفاته، انتشرت على منصة إكس، قفزت من فراشي وتوجهت إلى الكمبيوتر أبحث
عن تكذيب لها. لكن، للأسف أكدتها المصادر الرسمية.
سيظل زياد رمزًا للصمود. منذ طفولته في بيروت الخمسينات إلى
شبابه في ظل الحرب، كان زياد مرآة لروح لبنان. مسرحياته أعطت صوتًا لمن لم
يُسمعوا، وأغانيه بنت جسرًا بين التراث والحداثة. في زمن الحرب، كان صوت
الأمل الممزوج بالألم، وفي زمن السلم، ظل صوت الضمير. سواء كنت تسمع “حبيتك
تنسيت النوم” أو تضحك على قفشات مسرحية “شي فاشل”، فإن زياد الرحباني سيبقى
رمزًا للبنان الذي يحلم، يناضل، ويصمد، صوتًا يتردد في القلوب، من الياسمين
إلى الأنقاض.
هناك اليوم أمل في أن يخرج لبنان من محنته، لكن للقدر
خيارات أخرى قاسية، لم يمهل زياد الرحباني “صوت المعترين” قليلا من الوقت
ليرى لبنان وقد عاد مجددا سويسرا للشرق.
رحل “صوت المعترين” وكلمات أغنية “اسمع يا رضا” ترن بأذني:
اسمع.. اسمع يا رضا
كل شي عم يغلا ويزيد
مبارح كنا ع الحديدة.. وهلق صرنا ع الحديد
مبارح أكلنا.. بعلمي شبعنا
حطينا كل لي كانوا معنا
قمنا ع بكرة.. رجعنا جعنا
لازم ناكل عن جديد.. لازم ناكل عن جديد
مصيبة والله يا رضا
اسمع.. اسمع يا رضا
كل شي عم يغلا ويزيد
مبارح كنا ع الحديدة.. وهلق صرنا ع الحديد
عم تسمعني.. اسمع
عم تسمعني.. اسمع
وداعا زياد.. وداعا صوت “المعترين” الذين يعيشون على هامش
المجتمع.
كاتب سوري مقيم في تونس |