ملفات خاصة

 
 
 

مرافقو زياد الرحباني يروون حكاياهم معه في الغناء والتمثيل والحياة

هيام بنوت

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

تملكت حالة من الحزن والصدمة والقهر محبي زياد الرحباني والمقربين منه وكل من عملوا وتعاملوا معه، بعد انتشار خبر وفاته. حتى مساء السبت، كانت معظم الهواتف مقفلة، أما الأصوات فبدت مخنوقة وعاجزة عن الردّ والتعبير، وأبرزها صوت كارمن لبس، التي رافقته أكثر من 15 عاماً فنياً، واكتفت بالقول لـ"المدن": "أنا عاجزة عن الكلام. أعتذر".

أما أحمد مدلج صديقه المقرب ومدير أعماله ومساعده، فأشار إلى أنه لم يكن مصاباً بالسرطان كما أشيع، وأضاف: "هو قضاء الله. هو لم يكن مريض سرطان وكان يعاني قديماً من مرض في الكبد، إلى أن تفاقم وضعه الصحي أخيراً".

لطيفة التونسية

الفنانة لطيفة التي كانت تنتظر منه أعمالاً جديدة، أشارت إلى "المدن" إلى أنها توجد حالياً في قرطاج، لكنها سوف تسافر إلى لبنان للمشاركة في جنازته. ورأت أن رحيله خسارة كبيرة، وقالت: "هو أكبر خسارة عرفها التاريخ الفني. أنا أحببت الفن عبر أعماله وهو أثر فيّ، وكان من المفترض أن يرى ألبومي معه النور، ولكن ظروف الحرب حالت دون ذلك".

وأشارت لطيفة إلى أنه كان متعباً جداً في الفترة الأخيرة، وأضافت: "كنت أتمنى أن تتحسن صحته، ولكنه قضاء الله وقدره".

ورأت لطيفة أن خط زياد الفني لا يمكن أن يتوقف، إذ "أسس مدارس فنية ستستمر حتى في غيابه، والأجيال القادمة سوف تتأسس على فنه".

ولفتت إلى أن "تجربتي معه أضافت لي الكثير، وهي كانت من أهم التجارب في حياتي الفنية"، مضيفة: "كنت أحلم بالتعامل معه منذ الطفولة والحمد لله أنه اقتنع بي وبموهبتي وأعطاني من ألحانه".

فائق حميصي

الفنان فائق حميصي شارك زياد في مسرحية "بالنسبة لبكرا شو"، ولم يكررا التعامل فنياً، لكنهما حافظا على صداقتهما. يقول عنه: "كان فناناً فريداً من نوعه لأنه كان يبتكر ألحاناً يقول الموسيقيون عنها كأنها قريبة من النشاز، لكنها صحيحة لأنها لم تكن مألوفة للأذن. كان زياد مثقفاً ويعرف في كل أنواع الموسيقى، وبوجه خاص في الجاز لأنه قريب من الموسيقى العربية وفيه تقاسيم مثلها، وهو كان متميّزاً من هذه الناحية".

أما إنسانياً "فكان متواضعاً جداً، لا يحب الازدحام حوله، كما كان يحب الناس النادرين ويكره التصنّع، لذلك كان يختار الممثلين الذين هم من هذا النوع".

لم يكن حميصي يعرفه، "لأنني كنت أدرس في باريس وعندما عدت إلى لبنان قصدت مطعم الأمين في شارع الحمراء لتناول الطعام، ولكن المكان كان مزدحماً، وهو كان يجلس وحده، فدعاني إلى الجلوس معه ثم سألني عن طبيعة عملي، فأخبرته أنني مذيع في إذاعة "مونت كارلو" ثم قال لي "وماذا تفعل في لبنان؟" فأجبته أنني أبحث عن عمل.. فعرض عليّ أن أمثل معه، وعرض علي دوراً في مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" واتفقنا على اللقاء في "السارولا" للبحث في التفاصيل، ثم فوجئ عندما علم أنني أدرس التمثيل في الجامعة عندما كنت في فرنسا". 

ويضيف: "فنياً هو كان ملتزم تماماً وكان يرفض أن يرتجل الممثل ويزيح عن النص، وكان يحب التمثيل الطبيعي". ويتابع: "في مرحلة لاحقة تعرفت على أهله وكان والده يحبه كثيراً ويصفه بـ "الفلتة" وكان محبوباً من كل أفراد العائلة. وهو ورث الالتزام عن والده لأنه كان يرافقه ويعمل معه".

مجدد موسيقي

ويرى حميصي أن زياد "برع بوصفه كاتباً ومخرجاً وممثلاً ومسرحياً وملحناً، لكنه تميّز في الموسيقى، إذ جدّد في الموسيقى، وأوجد تياراً موسيقياً جديداً اسمه تيار زياد الرحباني، لأنه خلق أنماطاً موسيقية جديدة وغير مألوفة. هو كان يشتغل على "السنكوف"؛ أي ضد الإيقاع. كما كان يعرف عنه أنه "دياليكتيكي" ويحلل كثيراً بناء على الطريقة الاقتصادية، وكان الاقتصاد هو محرك الصراع عنده، وهذا تحليل ماركسي وهو كان يحب كارل ماركس كثيراً". 

وعن سبب عدم تكرار التجربة المسرحية معه، يجيب "عاصي الرحباني وفيروز أعجبا بي كثيراً عندما شاهدا المسرحية، وفي الكواليس طلب عاصي من زياد ألا يكتب لي أدواراً في مسرحيته المقبلة وعرض عليّ دوراً في مسرحية "يا أنا يا أنت"، لكنها لم تنفّذ، ثم كان التحضير لمسرحية "اليوم السابع" ولكن حصل خلاف واستُعين بالفنانة رونزا وقدمنا "الربيع السابع"، ورغم افتراقنا فنياً لكنني أصبحت صديق العائلة".

وريث التمرد في عاصي

كما يؤكد حميصي أن زياد ورث عن والده أيضاً روح التمرد. يقول: "عاصي كان مثله وكان يحلل الأمور مثله أيضاً. عاصي كان يكره المال ويقول "المال يذّل سواء كنا نملكه أو لا نملكه"، والخلاف الوحيد بينهما هو أن والده على عكسه لا يحب السياسة، وكان يرفض تماماً أن يلتزم الفنان بالأحزاب ويفضله متمرداً، وكان يطلب مني أن أقول لزياد بألا يلتزم بأي حزب ويُعدّ أن الفنان يتمرد على نفسه".

أما عن وقع الصدمة على والدة زياد السيدة فيروز فيقول "هي كانت أماً حقيقية بالرغم من كل مشاغلها وكانت تعتني وتهتم بعائلتها. هي كانت تحب أن تسكن وحدها، ولكنهما كانا يتواصلان يومياً. في الفترة الأخيرة مكث زياد في المستشفى وهي كانت تزوره يومياً. عندما علمت أنه في مستشفى الجامعة الأميركية، قمت بزيارته ولم يكن قد دخل في غيبوبة وقتها". 

مادونا 

الفنانة مادونا التي وصفت رحيل زياد بـ"الفاجعة"، قالت إنها لا تستطيع أن تتمالك نفسها وأن تتوقف عن البكاء، وتابعت: "رحيله فجعني وهزّ كياني. "ضيعانو" زياد أستاذي ونحن تربينا وكبرنا معاً. هو كان يعلمني الموسيقى والسولفاج وقدمنا معاً أسطوانة والكثير من التراتيل في الكنيسة، وكنا نتشارك في الكورال. زياد كان عبقرياً وعازف بيانو لا مثيل له". 

وتابعت: "التقيت به قبل عدة أشهر ولم يكن في أحسن حال بسبب مشكلة الكبد، ولكنها لم تكن متطورة، وهو تعب كثيراً في الشهرين الأخيرين. كان طيباً وكريماً وكان يقول لي دائماً: "أنا بانتظار الإنتاج" لأنه كان قد جهز لي عملاً مسرحياً". 

منذ الثمانينيات

في الثمانينيات، تقول مادونا: "كنا نستعد لعرض مسرحية "كان به" وأحضر الفرقة الموسيقية والاستعراضية من روسيا، لكننا لم نقدمها بسبب الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وفي لقائنا الأخير أخبرني أننا يمكن أن نقدم مسرحية استعراضية في الشتاء".

وتؤكد مادونا: "تعلمت منه كل شيء. صقل صوتي كما صقل أخلاقي أيضاً. كان صارماً ومخلصاً ووفياً في عمله. كان يسهر كل الليل ولا ينام أبداً من أجل تقديم أعمال ناجحة، لكنه كان يضحكنا أيضاً بالرغم من جديته. هو كان عبقرياً وكل شيء كان يصدر عنه بعفوية".

وعن سبب اختياره لها دون سواها من الفنانات اللواتي كن يتمنين العمل معه في تلك الحقبة، تقول: "تشاركنا في أشياء كثيرة. في البداية جمعتنا الكنيسة وكنا نرتل في أنطلياس وكنت ضمن الكورال. فيروز كانت تغني "أنا الأم الحزينة" وهو كان يعزف على البيانو، واستمرينا على هذا الوضع نحو 15 عاماً. كان يؤمن بصوتي وكان والده عاصي الرحباني يردد دائماً "انتبهوا لـ مادونا.. هي لا يمكن أن تتكرر". وتضيف: "تعامله معي فنياً فخر لي ولا سيما أنه كان يرفض التعامل مع أي كان". 

 

####

 

زياد السياسي.. بين "القوات اللبنانية" و"حزب الله"

نور الهاشم

يختصر بيان "العلاقات الإعلامية" في "حزب الله"، وتغريدة رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، لنعي الفنان زياد الرحباني والتعزية به، تجربة زياد السياسية التي لم تتبدل مع الزمن، وبقي من الفنانين القلة، على مواقفهم السياسية الأولى، ولم تغرهم التحولات و"التكويعات". 

فمن دواعي المفاجأة، أن يصدر "حزب الله" بياناً عن "العلاقات الإعلامية"، ينعى فيه الرحباني ويعزي به. هي المرة الأولى في تاريخ الحزب، منذ تأسيسه، يخصص بياناً لفنان، وهو الحزب العقائدي المتديّن، الذي لا يستسيغ أي نوع من الفنون "غير الثورية".. في وقت لا يمكن سجن زياد الرحباني في هذا الإطار، رغم أن تجربته المسرحية التي انطوت على كوميديا سياسية سوداء، وخاطب بها الناس بلغتهم، وعبّر عن آلامهم وآمالهم، صنعت تلك التجربة. 

ومن دواعي المفاجأة أيضاً، أن يتضمن بيان النعي المقتضب الذي نشره رئيس حزب "القوات" سمير جعجع لزياد، عبارة: "كنا نتمنى لو استطاع إعطاء طاقته الاستثنائية كلها للفن في لبنان". تؤشر هذه العبارة إلى محاولة الانتقاص من حق زياد في إبداء الرأي السياسي، أو اعتناق الرأي السياسي، لمجرد الاختلاف في الرأي. وهي تُستخدم أيضاً للمرة الأولى في تعزية جعجع بالفنانين، ولعل أبرزها كان بيان تعزيته في 2023 بالكاتب المسرحي والتلفزيوني مروان نجار، حين توجه فيه إليه بالقول: "يا من سيبقى قلمك شاهداً للحق وللبنان الحرية والسيادة". 

وإذا كان بيان "حزب الله" بمنزلة "سابقة" في تجربته، ويؤشر، بالشكل، إلى تحولات الحزب من المنحى العقائدي الصرف، إلى التوضُّع السياسي الداخلي، فإن بيان "القوات" لا يتخطى كونه "رفع عتب" في لحظة حزن وطني عام على زياد الرحباني، يتدرج هذا الحزن من المستوى الرسمي (الرؤساء الثلاثة)، إلى سائر فئات الشعب الذي عبرت أطيافها عن حزنها، كل منها وفق رؤيتها العاطفية أو السياسية. 

زياد بين مشروعين

وزياد، بين "حزب الله" و"القوات اللبنانية"، عالق بين مشروعين. خلافاً للتأويل، لم يتخطَ زياد في توضُّعاته السياسية الساحة اللبنانية، خلال حقبة ما بعد الحرب، وهي نقطة خلاف مع "حزب الله"، ولو أنه إنسانياً، بقي مؤيداً "المقاومة" بوصفها حقاً في مواجهة الاحتلال، وبقي مدافعاً عن حق الفلسطينيين في العيش والحرية. ومع ذلك، حافظ على مسافة مع خطاب الحزب، برفضه تقديم برنامج خاص على قناة "الميادين"، رغم علاقة متينة تربطه مع القناة. 

وعلى النقيض، لم يتفهم "القوات"، ومعتنقو المشروع السياسي اللبناني، أو المسيحي اللبناني، قناعات زياد الإنسانية، ورسموا مساحة فاصلة معه، بحيث لم تتخطَ العلاقة معه كونه ابن فيروز وعاصي الرحباني. احتسب هذا الفريق زياد، على مشروع أممي غير وطني. في الحالتين، نبذه فريق الاعتدال، ولم يذب في مشروع "حزب الله" الإقليمي.. 

ثبات ضمن متغيرات

والحال أن زياد، الزاهد بطبعه، بقِيَ حتى اللحظة الأخيرة منسجماً مع قناعاته الإنسانية والسياسية. ثباته ضمن متغيرات طرأت على الواقع العربي، أبقاه في عزلة داخلية، بعيداً عن وسائل الاعلام والمسارح العربية التي فتحت منابرها وفرص عملها لغير المسيسين من الموسيقيين والفنانين، وهو ما يفسر ندرة ظهوره في وسائل إعلام عربية ضخمة، خلافاً لفنانين آخرين حافظوا على هويتهم بالشكل عبر تصريحات عامة و"كليشيهات"، ولم ينخرطوا في إبداء المواقف السياسية التفصيلية مثله. 

قناعاته الانسانية، قادته في العام 2006 إلى المشاركة في احتفال الانتصار الذي نظمه "حزب الله" في الضاحية بعد حرب تموز 2006. حضر متمايزاً عن الحزب، غير ذائب فيه، وذلك باعتماره قبعة حمراء طُبِعت عليها عبارة "نصر من الله"، وكنزة حمراء، حملت دلالات التميز، كونها ترمز الى لون "الحزب الشيوعي". وقال في مقابلتين منفصلتين، إنه ليس حيادياً وإنه مع "حزب الله" ما دام هذا الحزب يقاوم إسرائيل، مضيفاً في تصريح لـ"المنار": "لا يمكن أن أكون حيادياً بوجود كيان مثل إسرائيل. يا بكون مع المقاومة، يا بكون مع إسرائيل. وما حدا يقلّي في خيار ثالث".

وقناعاته أيضاً، قادته لإطلاق مواقف مؤيدة لنصرالله في ذلك الوقت، ولفعل المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.. أما عاطفته، فقادته لاعتبار أمه مؤيدة للمقاومة، وإلا "لا تأخذ لحناً منه"، كما قال في تصريح تلفزيوني سابق، وهو ما دفع شقيقته ريما لإصدار بيان نفي، مما ولَّد خلافاً مع أمه وشقيقته استمر لسنوات. 

خلافات سياسية

يبني "حزب الله" على هذا الإرث من القناعات، لتسجيل سابقة في إصدار بيان تعزية بموسيقي. ويبني جعجع على هذا الإرث أيضاً، للقول إنه كان يتمنى أن يبقى زياد بالموسيقى. وبينهما، لم يتغير زياد ولم يتبدل. بقي حتى اللحظة الأخيرة ثائراً وتغييرياً ويواجه أحلام عائلته، وليس أقلها مواجهته التلفزيونية مع عمه منصور حين اعتبر أن حلم الرحباني بلبنان، سقط في الحرب، وسأله: "هل تحلم بتوحيد الطوائف في لبنان؟"

 

المدن الإلكترونية في

27.07.2025

 
 
 
 
 

وداعا زياد الرحباني.. صوت "المعتّرين" الذين يعيشون على هامش المجتمع

موهبة شغلت الأوساط الفنية في لبنان والعالم العربي

علي قاسم

رحلة لا تنسى لفنان ولد في بيت فني ومزج الأمل بالألم حتى صار مرآة لروح شعبه.

في بيروت الخمسينات، ولد زياد الرحباني، طفلًا يحمل أحلام وطن مشرق. لكن، لبنان "سويسرا الشرق"، كان يخفي شقوق الانقسام. من طفولته في بيت الفن إلى شبابه وسط الحرب الأهلية عام 1975، صار زياد مرآة لروح شعب، صوتًا لـ"المعترين"، يمزج الأمل بالألم، والجاز بالتراث، في رحلة لن تنسى.

الخمسينات علامة فارقة في مسيرة فيروز الفنية، لسببين: الأول، تقديمها لأغنية “عتاب” التي تُعتبر واحدة من أوائل الأغاني التي أكسبتها شهرة واسعة. هذه الأغنية، التي كتبها ولحّنها الأخوان رحباني، تميزت بكلماتها العاطفية وأسلوبها البسيط الذي لامس قلوب الجماهير. تلتها أغانٍ أخرى مثل “جايبلي سلام” و”يا ظريف الطول”، وهي أغانٍ فلكلورية قدمتها فيروز في إطار المسرحيات الغنائية مثل “موسم العز” (1955). لكن “عتاب” تُعد الأكثر شهرة لأنها كانت من الأعمال الأولى التي عززت مكانة فيروز كصوت لبناني مميز.

الحدث الثاني ولادة ابنها زياد الرحباني، الذي سرعان ما سيشغل بموهبته الأوساط الفنية في لبنان وفي العالم العربي. يفصل بيني وبين زياد عامان، هو من مواليد 1956، وأنا من مواليد 1954، وكلانا مولود في الأول من كانون الثاني – يناير.

زياد شبّ في منزل العملاقة فيروز، ومؤكد أن أول ما سمعه من أغاني كان أغنية “يا ظريف الطول”. لم أشبّ في بيت فيروز ولكن ترعرعت في بيت بسيط كانت والدتي تردد فيه أغنية “يا ظريف الطول”.

ألبومات مثل "هدوء نسبي" و"بالأفراح" مزجت الجاز والبوسا نوفا بالتراث العربي، لتصل إلى قلوب جيل عاش تحت وطأة الحرب

ولد زياد الرحباني، في وطنٍ لم يكن يعرف بعد أن مصيره سيتأرجح بين الأحلام والدمار. كان لبنان آنذاك لوحةً مشرقة تُلقب بـ”سويسرا الشرق”، تضج بالمقاهي التي يتبادل فيها الشباب الأفكار والضحكات، والمسارح التي تحكي قصص القرى والجبال. لكن تحت هذا البريق، كانت هناك علامات توتر، ظلال خفيفة تسبق العاصفة. زياد، ابن فيروز وعاصي الرحباني، نشأ في بيت يتنفس الموسيقى، لكنه كان أيضًا ابن وطن يحمل في طياته بذور الانقسام.

كانت بيروت الخمسينات والستينات مدينة تتجسد فيها الأحلام حقيقة. كانت الأضواء الساطعة لمسرح البيكاديلي وكازينو لبنان تجذب السياح، وألحان الأخوين رحباني تملأ القلوب فخرًا. في هذا البيت الفني، كان زياد يرى والدته فيروز تغني للوطن، ووالده عاصي وعمّه منصور ينسجان قصصًا رومانسية عن القرى اللبنانية. لكن هذا العصر الذهبي لم يكن خاليًا من الشقوق. نظام الميثاق الوطني، الذي وزّع السلطة بين الطوائف، بدأ يترنح تحت ثقل عدم المساواة. عندما هزّت أزمة 1958 البلاد، كان زياد طفلًا صغيرًا، لكن صدى الاشتباكات والتدخل الأميركي بقي في الذاكرة الجماعية، كتحذير من هشاشة الوحدة الوطنية.

كمراهق في الستينات، كان زياد يعيش في مدينة تنبض بالحياة والتناقضات. كانت بيروت ملتقى الأفكار، حيث يستمع الشباب إلى ألحان البيتلز ومايلز ديفيس، ويناقشون ماركس وسارتر في مقاهي الأشرفية والحمرا. لكن في الريف وأحياء الفقر، كان هناك صوت آخر، صوت الغضب والتهميش. الشيعة والفلاحون شعروا بأن ازدهار بيروت لم يطلهم، وهذه الفجوة كانت تنحت في قلب زياد حساسية عميقة تجاه “المعترين” (البؤساء)، أولئك الذين سيصبحون لاحقًا أبطال أغانيه ومسرحياته. في بيته، كان يرى والده عاصي يعاني من المرض، وفيروز تحمل على كتفيها أحلام شعب، لكنه كان يرى أيضًا وطنًا ينهار تحت ضغط الطائفية والظلم.

تمرد المراهق وولادة فنان

مسرحيات صارت جزءا من الذاكرة الجماعية

في سن السابعة عشرة، عام 1973، خطا زياد خطوته الأولى نحو الخلود الفني. لحّن “سألوني الناس” لفيروز في مسرحية “المحطة”، وكأنه يعلن للعالم أن هناك صوتًا جديدًا سيغير قواعد اللعبة. لم يكن زياد يريد أن يكون مجرد امتداد لأبويه. كان يرى في الشارع قصصًا مختلفة: شباب يحلمون وسط الفقر، وسياسيون يبيعون الوعود الكاذبة، ووطن يترنح على حافة الهاوية. تأثره بالجاز والبوسا نوفا، الذي سمعه في مقاهي بيروت، دفعه ليمزج التراث العربي بلمسات غربية، ممهدًا الطريق لأسلوب موسيقي سيصبح توقيعه الخاص.

صعود القضية الفلسطينية بعد نكسة 1967 أضاف طبقة أخرى إلى وعي زياد. لبنان، الذي أصبح قاعدة للمقاومة بموجب اتفاقية القاهرة 1969، كان يغلي بانقسامات بين مؤيدي المقاومة ومعارضيها. كمراهق، كان زياد يسمع نقاشات الشباب عن العدالة والحرية، وتأثر بالأفكار اليسارية التي اجتاحت الجامعات. هذه البذور السياسية، التي نبتت في قلبه، ستزهر لاحقًا في دعمه للحزب الشيوعي اللبناني وفي أعماله التي ستصبح صوتًا للمظلومين.

لم يرد أن يكون مجرد امتداد لأبويه

عندما اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، كان زياد في التاسعة عشرة، شابًا يحمل في قلبه أحلامًا كبيرة وجراح وطن بدأ ينزف. بيروت، التي كانت يومًا مدينة الأضواء، تحولت إلى ساحة قتال، مقسمة بحواجز بين شرق وغرب. اختار زياد أن يبقى في غرب بيروت، حيث عاش بين الناس العاديين، مشاركًا آلامهم وآمالهم. كان هذا القرار بمثابة نار صهرت موهبته. الحرب لم تكن مجرد خلفية لأعماله، بل كانت المحرك الذي شكّل صوته الفني. في شوارع بيروت الممزقة، حيث كان دوي القذائف يخنق الأمل، وجد زياد صوتًا مختلفًا، صوتًا يحمل السخرية والألم، النقد والحلم.

مسرحياته، مثل “سهرية” (1973)، “نزل السرور” (1974)، “بالنسبة لبكرا شو” (1978)، و”فيلم أميركي طويل” (1980)، كانت صرخات ساخرة في وجه الحرب. على عكس مسرحيات الأخوين رحباني، التي كانت تحلم بقرى مثالية، جاءت مسرحيات زياد واقعية إلى حد الألم. في “فيلم أميركي طويل”، سخر من الجنون السياسي والطائفي، مقدمًا شخصيات مثل رشيد وزكريا، اللذين أصبحا رمزًا للشاب اللبناني المحاصر بين الحرب والحلم. في “شي فاشل” (1983)، تجسدت شخصية “أبو الزلف” كرمز للفرد الذي يحاول البقاء وسط الفوضى. هذه المسرحيات لم تكن ترفيهًا، بل كانت مرآة تعكس وجع الشعب، وفسحة أمل وسط اليأس.

موسيقاه، أيضًا، كانت تعكس نبض الشارع. في “ع هدير البوسطة”، غنى عن وسيلة النقل الشعبية التي ربطت أحياء بيروت المقسمة، جاعلاً منها رمزًا للوحدة. أغانيه مع فيروز، مثل “حبيتك تنسيت النوم” و”إيه في أمل”، حملت روحًا جديدة، حيث استبدل الرومانسية التقليدية بنصوص تعبّر عن الحب والحياة بجرأة وواقعية. ألبومات مثل “هدوء نسبي” و”بالأفراح” مزجت الجاز والبوسا نوفا بالتراث العربي، لتصل إلى قلوب جيل عاش تحت وطأة الحرب.

الحرب لم تترك زياد دون ندوب. عيشه في غرب بيروت، بعيدًا عن عائلته في الشرق، أثّر على علاقته بفيروز وشقيقته ريما. مذبحة تل الزعتر عام 1976، التي هزت لبنان، عززت من إيمانه بالمقاومة ضد الظلم، لكنها أيضًا جعلته يرى الوجه القبيح للطائفية. آراؤه اليسارية، وارتباطه بالحزب الشيوعي اللبناني، جعلاه رمزًا للنضال ضد الفساد. برامجه الإذاعية، مثل “العقل زينة” و”بعدنا طيبين قولوا الله”، كانت منبرًا لسخريته الحادة، حيث كشف زيف السياسيين والقادة الطائفيين، مضحكًا الشعب ومبكيًا في آن واحد.

مواقفه الجريئة، بما في ذلك إعلانه أنه ملحد وانتقاده للأحزاب اليمينية، جعلته هدفًا للجدل. عام 2017، واجه محاكمة بتهمة التشهير بعد تصريحاته ضد سمير جعجع، لكنه ظل وفيًا لمبادئه، رافضًا التنازل عن دوره كصوت للناس. كما وصف أحد المعجبين على منصة إكس، كان زياد “صوت المعترين، صوت الضمير”، صوت من يعيشون على هامش المجتمع، بعيدًا عن النخب.

الحرب لم تترك زياد دون ندوب

إرث يتجاوز الحرب

مع انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، استمر زياد في كونه صوتًا للشعب. مسرحياته مثل “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” (1993) تحدثت عن الكرامة الوطنية في وجه التدخلات الخارجية، معبرة عن إيمانه بصمود اللبنانيين. أعماله لم تقتصر على لبنان، بل وصلت إلى العالم العربي.

في مصر، أحيا حفلًا عام 2018 استقبله الجمهور بحماس، وكاسيتات مسرحياته في الثمانينات أصبحت جزءًا من الذاكرة الجماعية، كما وصف الكاتب الكويتي عبدالوهاب الحمادي عام 2024، مشيرًا إلى “خرس الدهشة” الذي شعر به عند سماع “فيلم أميركي طويل”.

زياد، ابن فيروز وعاصي الرحباني، نشأ في بيت يتنفس الموسيقى، لكنه كان أيضًا ابن وطن يحمل في طياته بذور الانقسام

اليوم، السبت 26 تموز – يوليو 2025، استفقت على أنباء تتحدث عن وفاته، انتشرت على منصة إكس، قفزت من فراشي وتوجهت إلى الكمبيوتر أبحث عن تكذيب لها. لكن، للأسف أكدتها المصادر الرسمية.

سيظل زياد رمزًا للصمود. منذ طفولته في بيروت الخمسينات إلى شبابه في ظل الحرب، كان زياد مرآة لروح لبنان. مسرحياته أعطت صوتًا لمن لم يُسمعوا، وأغانيه بنت جسرًا بين التراث والحداثة. في زمن الحرب، كان صوت الأمل الممزوج بالألم، وفي زمن السلم، ظل صوت الضمير. سواء كنت تسمع “حبيتك تنسيت النوم” أو تضحك على قفشات مسرحية “شي فاشل”، فإن زياد الرحباني سيبقى رمزًا للبنان الذي يحلم، يناضل، ويصمد، صوتًا يتردد في القلوب، من الياسمين إلى الأنقاض.

هناك اليوم أمل في أن يخرج لبنان من محنته، لكن للقدر خيارات أخرى قاسية، لم يمهل زياد الرحباني “صوت المعترين” قليلا من الوقت ليرى لبنان وقد عاد مجددا سويسرا للشرق.

رحل “صوت المعترين” وكلمات أغنية “اسمع يا رضا” ترن بأذني:

اسمع.. اسمع يا رضا

كل شي عم يغلا ويزيد

مبارح كنا ع الحديدة.. وهلق صرنا ع الحديد

مبارح أكلنا.. بعلمي شبعنا

حطينا كل لي كانوا معنا

قمنا ع بكرة.. رجعنا جعنا

لازم ناكل عن جديد.. لازم ناكل عن جديد

مصيبة والله يا رضا

اسمع.. اسمع يا رضا

كل شي عم يغلا ويزيد

مبارح كنا ع الحديدة.. وهلق صرنا ع الحديد

عم تسمعني.. اسمع

عم تسمعني.. اسمع

وداعا زياد.. وداعا صوت “المعترين” الذين يعيشون على هامش المجتمع.

كاتب سوري مقيم في تونس

 

العرب اللندنية في

27.07.2025

 
 
 
 
 

عبدالوهاب الحمادي يكتب:

هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟

هذا يوم كنت أخافه، لذلك كنت أتجاهله ولا أفكر به. إذ إن بيروت لن تنفك تكون هناك رابضة فى فم الدنيا، مثلما أن شارع الحمرا سيكون فى مكانه، وعمارة الأطباء حيث يقع استوديو نوتا فى قبوة فى مكانها أمام مستشفى الجامعة، حيث كنت وعدتنى أن أراك هناك. هذا السياق الطبيعى للحياة أو لأكن دقيقا، هذا وصف مختزل لاطمئنان قديم بأننى سألتقيك ثانية ونحكى هذه المرة أكثر، لا تلك المرّة العابرة أمام باب مسرح المدينة. لكنك أخلفت ذلك كله وبكل مكرك وحيلتك وإبداعك - وهى خصال لم تنفعك لأن تعيش سعيدا على الصعيد الشخصى على الأقل - قررت بكل أنانية أن تمحو خططى الدائمة فى بيروت، أحلامى، وترسلها لخانة العدم. لذلك أود أن أسألك: هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟

أنت لابد أنك ذهبت الآن إلى عالم آخر، عالم قد تتوفر به معرفة كلية مختلفة عن عالمنا، لا شك أنك بكل سهولة ستعرف ما نعتبره فى عالمنا غيبا، وتطّلع على روتينى اليومى فى بيروت، ألف من شارع الحمرا وصولا إلى مستشفى الجامعة، أغافل الحارس وأهبط وأدق جرس الاستوديو كل يوم علّ الباب يفتح. لا يأس.. أعود للحمرا وكلى ظن بأننى سأراك، يا رجل لقد كتبت مسرحية مع صديقك الجميل سعد حاجو وفكرت بعرضها فى بيروت علّك تسمع بقدومه وتجىء كرما لتلك الأيام التى تصاحبتما فيها فى بيروت.. لذلك أعيد سؤالى بكل لباقة: هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟

أنا أنانى قليلا، لن أفكر بالسيدة فيروز ومشاعرها فلقد رأت رحيل عاصى وعقبه منصور ثم إلياس.. ثم أنت؟ لن أفكر لأننى أنا سأسألك ألم تفكر بمشاعرها عندما قررت الرحيل؟ يعنى بقيت فى بيروت بكل «الزفت» والعز الذى عاشت به تلك المدينة، ثم فجأة، وعندما بدأت الأمور الإقليمية بالاستقرار، ووعود عودة بيروت اقتصاديا وفجر انبلاجة عصر جديد لها، فى تلك اللحظة تختار الرحيل؟

«بلا كل أنواع تيابك.. بلا كل شى فيه تزيين. بلا كل أصحاب أصحابك.. الثقلا والمهضومين» هذه العبارة من أغنية بلا ولا شى نبهتنى إليك عام ١٩٩٣م. ومن مول فى دبى، مول اسمه الغرير ولا أدرى إن كان موجودا حتى اليوم، اشتريت قرصين من أقراص مسرحية «فيلم أمريكى طويل»، واستمعت لها.. طبعا لوحدى.. لم أستطع معرفة أيهم زياد حتى فتنت بـ«رشيد» ملك الساحة اللبنانية ع بياض. قبلها كان سياق من قراءة تغطيات صحف كويتية حول مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، كنت بدأت أغوص فى مغاور فن الأخوين، والتف حينا إلى ما تصنعه وأبقى معه مطولا. عندما أعلن عن حوار معك فى الأل بى سى، عبر برنامج جيزيل خورى «حوار العمر» عام ١٩٩٧م لم أصدق، حتى أعلنت المذيعة عن بداية الحلقة، وظهرت أنت على الشاشة، صرخت صرخة أيقظت الحى بكامله وتلقيت توبيخا لن أنساه. كنت آنذاك قد حفظت: «سهرية»، «نزل السرور»، «بالنسبة لبكرة شو؟»، «فيلم أمريكى طويل»، «شى فاشل».. وأمّن لى صديق من بيروت أشرطة مسرحيّتى «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» و«لولا فسحة الأمل».. وطبعا كنت أموت وأروح أسافر بيروت، لذلك وعندما استطعت عام ١٩٩٨م كنت أبحث عنك فى كل شوارعها ومقاهيها، لذلك كانت عبارتى الغبية هدفا لك، يوم قلت لك قبلما ندخل لمسرحية فى مسرح المدينة عام ٢٠٠٦م: صار لى سبع سنوات أجى ع بيروت وما كنت شوفك! فرددت: تبقى تلفن قبل! فضحك من حولك.. هنا قررت الانتقام من الضحكة فرددت: هل تعرف يا أستاذ زياد أنك فى حوار العمر قلت إن أول دور لك كان دور رجل المباحث فى مسرحية المحطة.. لكن هذا غير صحيح! أذكر كيف تطلّعت فى وجهى وأصحابك تربصوا بضحكة جديدة من تعليق منتظر يخرج من فمك الذى قال: لكان شو؟ قلت لك: أول دور لك كان فى فيلم بنت الحارس لما كنت مع ولاد عمّك منصور عاملين ولاد بشير المعاز وروحتوا تخبروه بخبر البلدية! يوما سألتنى: وكيف انتبهت؟! وضحكت وقلت لى بأننى يجب أن أزورك فى الاستوديو.. ومرّت حرب الألفين وستة.. وانقطعت عن بيروت.. لكن ما انفك ذلك الحلم بجلسة مليئة بالضحك.. أذكر أننى كذبت عليك يومها وأنا آسف.. لحظة سألتنى: هل يسمعنى الناس فى الكويت؟ فقلت لك: طبعا ولك شعبية كبيرة ومحبون.. وأنا أعرف أن عدد من يعرفون أعمالك خارج نطاق فيروز فى الكويت من السهولة حصرهم.. بل يكفينا باص من واحد وعشرين راكبا لأجلبهم لك حتى شارع الحمرا، وستكون هناك مقاعد فارغة فى الباص. نسيت أسألك: هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟

ماذا علّمتنى..؟ تعلمت منك الكثير بل أكثر الكثير، تعرف مع عشرة العمر، نتطبع بأطباع من نحب، لذلك كان عزفك واختياراتك الموسيقية بل وحتى لهجتك ولغتك طريقة من طرق فهم الحياة بالنسبة لى وأحيانا طريقة من طرق إعادة إنتاجها حديثا وكتابة. هل كنت أكرهك؟ طبعا.. كنت أكره الكليشيهات الغبية التى ترددها لا عن سواد قلب بل عن حزبية شبعت موتا وتعفّنت.. لذلك كنت أتخيل حوارا حول جمل رددّتها فى حواراتك الصحفية فقط لأنبهك.. وأعرف أنك ستضحك وتسبّ ونضحك ثم نذهب للأفران الوطنية ناكل مناقيش.. لبنان الجديد طلع لحم بعجين.. صح؟ هل أسمّعك مجددا أغانيك وأفرد كلمتها لأعزيك وأشبهك بصبحى الجيز الذى تركنى ع الأرض وراح؟ ووينك يا رفيق.. لا طبعا.. أولا لأنك لا تحب هذا الأمر.. ثانيا لأن لا مزاج لى.. وثالثا وهو الأهم.. لأنك اخترت يوما أحتاج معه أن أسألك بكل تهذيب: هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟

هل تظن أننى أستطيع أن أتوقف عن الكتابة عنك؟ بالطبع لا.. أوف كورس.. بل لما أكتب عنك أكتب عنّى.. لكن لماذا كسرت بقلبى ولم تنتظرنى آتى إلى بيروت مع سعد حاجو ونعرض المسرحية وأقولك عبارة حفظتها لتلك اللحظة؛ كنت أتخيل أننى أشير لسعد وأقول لك: أنت كتبت نصا ومثل هو فى مسرحيتك بدور مواطن سورى.. وأنا وهو كتبنا نصا سيمثله كمواطن سورى وأرجعه دمشقه بعدما لف العالم.. الحاصل أننا زملاء يا زياد! هنا ستضحك وقد تسبّ.. ونضحك.. ولن أعتب كثيرا فلقد مللت من العتاب.. لأنك قلتها يوما.. أن فيروز قالت لك: أنك بلا تربايه!.. ولن أزيد على كلام السيدة شيئا.. الله يصبّرها ويكون بعونها.. ولن أسألك مجددا السؤال البليد الذى أتعبنى تكراره.. لن أزيد إلا..: الله يسامحك يا زياد..

 

####

 

كيف رأى زياد الرحباني المشهد السياسي في لبنان؟

محمد حسين

يشيّع اللبنانيون جثمان الفنان والموسيقي الراحل زياد الرحباني، في الرابعة بعد ظهر غدٍ الإثنين، من كنيسة رقاد السيدة بالمحيدثة، في وداع أخير لـ"الموسيقيار" الذي ترك بصمة لا تُمحى في الذاكرة الفنية اللبنانية والعربية.

وأحدث نبأ وفاة زياد الرحباني، صدمة واسعة في الأوساط الثقافية والفنية، حيث تناقل محبّوه عبر منصات التواصل الاجتماعي مقاطع من أعماله الموسيقية والمسرحية، مصحوبة بكلمات رثاء ووداع مؤثرة، عبّرت عن مدى الحزن لرحيل هذا الصوت المختلف والموهبة الفذة.

وعلى المستوى الرسمي، نعت الرئاسات الثلاث في لبنان الفنان الراحل، إذ تقدّم بالتعازي كل من رئيس الجمهورية جوزيف عون، ورئيس الحكومة نواف سلام، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، في بيانات أكدت تقدير الدولة لإسهاماته الفنية والمجتمعية.

وعلى الرغم من اختلاف أصوات السياسيين، فإن رحيل زياد الرحباني وحّد المنابر اللبنانية، إذ اتفقت التصريحات الرسمية والشعبية على أن لبنان خسر برحيله أحد أجرأ مبدعيه.

وشغلت السياسة حيزاً واسعاً من مسيرة زياد الرحباني، إذ عبّر عن مواقفه وآرائه في مناسبات عديدة، شكّلت امتداداً لمشروعه الفني والإنساني.

ونستعرض فيما يلي جانباً من تلك المواقف التي قالها بصراحة ووضوح:

*الطائفية والدين والسلطة

في تصريحات سابقة، لقناة دويشه فيله الألمانية، انتقد الرحباني الواقع السياسي اللبناني، قائلاً إن الأحزاب في لبنان باتت "تكتلات طائفية" تخدم مصالح فئة محددة، ولا تقوم على أساس وطني أو اجتماعي شامل.

وأضاف: "حتى الحزب الذي يُفترض أنه يمثل الطبقات الاجتماعية من مختلف الطوائف، عاد ليصبح طائفياً خلال الحرب، قبل 1975، كانت هناك حركات طلابية ونقابية تُشبه مثيلاتها في أوروبا، لكن بعد اندلاع الحرب الأهلية، ضعفت الأحزاب العقائدية، وهيمنت الطائفية."

وحمل هذه القوى مسئولية استغلال الطائفية للبقاء في السلطة: "همّ هذه الأحزاب ليس التغيير أو خدمة الناس، بل البقاء في الحكم بأي ثمن، الطائفية وسيلة فعالة لجمع الأنصار وتكريس الزعامة، وهي أيضاً أداة للبقاء الدائم في السلطة."

وفي رؤيته لعلاقة الدين بالسلطة، أوضح أن التاريخ غالباً ما يظهر ارتباطاً وثيقاً بين رجال الدين والأنظمة الحاكمة، مستثنياً بعض التجارب النادرة في روسيا وأمريكا اللاتينية رجال الدين، تاريخياً، كانوا دائماً قريبين من السلطة، باستثناء حالات نادرة خرجوا فيها من مؤسساتهم وانحازوا للشعوب.

*حزب الله: دعم في الحرب وخلاف في حرية الفن

أصدرت العلاقات الإعلامية في حزب الله بياناً نعت فيه الرحباني، مقدّمةً أحرّ التعازي إلى عائلته ومحبيه في لبنان والعالم العربي، واصفةً إياه بـ"القامة الفنية الوطنية المقاومة"، التي رحلت بعد مسيرة حافلة بالعطاء والحب والإبداع.

وأشار البيان، الصادر مساء السبت، إلى أن الرحباني جسّد من خلال فنه ومواقفه نموذجاً للفن الهادف في خدمة الوطن والإنسان، مشيداً بقدرته على رسم "صورة الوطن الحُلم من على خشبة المسرح، وطن الكرامة والوحدة والعيش المشترك".

لكن علاقة زياد الرحباني، بحزب الله لم تكن دائماً متناغمة، إذ شهدت مواقفه تقاطعات وتحفظات، عكست استقلاليته الفكرية والسياسية، فرغم دعمه الواضح للمقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وظهوره في مهرجانات الانتصار بعد حرب تموز 2006، فإنه لم يتردد في انتقاد الحزب علناً عام 2014، في مقابلة مع الصحفي جاد غصن على قناة الجديد.

وأوضح "الرحباني"، أنه كان يُحيي حفلاً في منطقة الناقورة، وطلب من الجمهور تسجيل الحفل ومشاركته على وسائل التواصل، لكنه فوجئ بعدم ظهور أي تسجيل، مرجحاً وجود تشويش متعمّد على البث، قال إنه لا يمكن أن يصدر عن جهة عادية.

وربط هذا الحادث بانتقادات وجّهها خلال الحفل إلى حزب الله، لعدم اعترافه بدور الحزب الشيوعي اللبناني ومقاوميه، مستشهدًا بالمناضلة سهى بشارة، التي حاولت اغتيال العميل أنطوان لحد.

وقال الرحباني، إن موقفه لم يأتِ فجأة بل هو نتاج تراكمات، مضيفًا: "لا يمكن أن نخسر الحزب الشيوعي وكل البلد من أجل حزب الله.. نحن حلفاء، لكنه لا يردّ على هذا التحالف بالمثل، ولا يذكرنا في خطاباته."

وفي تمييز لافت، حاول الرحباني الفصل بين الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، وبين القيادات الأخرى: "هو شيء، وهم شيء آخر.. وهذا أمر لا يطمئن"، مضيفاً أن "السيد قد يتعرض لضغوط"، لكنه تساءل أيضاً: "لماذا لا يستخدم نصر الله كل طاقاته؟".

عبّر "الرحباني"، عن انزعاجه من غياب المشروع الفكري لدى حزب الله: "الاستشهاد شيء، لكن النظرية والمشروع شيء آخر"، منتقداً خلو الحزب من أي بنية فكرية تشبه النظرية الماركسية التي آمن بها طيلة حياته.

*الوعد الأجمل.. حسن نصر الله وقناعة هزيمة إسرائيل

مواقفه من حزب الله وحق المقاومة في لبنان في تصريحات لقناة الميادين، كشف الموسيقار اللبناني زياد الرحباني عن رؤيته الخاصة لموضوع المقاومة في لبنان، مؤكدًا دعمه الثابت لمبدأ المقاومة المسلحة في وجه الاحتلال، مع إقراره بتراجع بعض القوى التقدمية عن هذا المسار لأسباب واقعية.

وفي حديثه عن الحزب الشيوعي اللبناني، الذي لطالما ارتبط به فكريًا، أقرّ بأن الحزب لم يعد قادرًا على التفرغ لمشروع المقاومة كما في السابق، مرجعًا ذلك إلى "ظروف داخلية صعبة، وضعف التمويل".

وفيما يتعلق بمشاركته في مهرجان الانتصار عام 2006، الذي أُقيم عقب انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان، دافع الرحباني عن حضوره قائلًا: "كان لا بد من الاحتفال بهذا اليوم، لأن لبنان انتصر بالفعل، ولأن مثل هذه الأخبار لا تتكرر كثيرًا في التاريخ المعاصر، ولا تُمحى بسهولة."

وأضاف مؤكدًا اقتناعه بأن ما حدث في حرب تموز غيّر النظرة الإسرائيلية بشكل جذري، وأعاد ترتيب حسابات الردع.

أما عن مشاركته في مهرجان "الوعد الأجمل"، الذي نُظم بعد اكتمال إعادة إعمار الضاحية الجنوبية، فقال: "ذهبت مع جمهور الناس، وكان الحضور ممثلًا من كل فئات الأجهزة الأمنية، سبب وجودي في المهرجان كان الاحتفاء بإعادة بناء الضاحية بهذه السرعة المذهلة، رغم الدمار الهائل والمجازر التي تعرضت لها."

وحين سُئل عن موقفه من حزب الله والسيد حسن نصر الله، رغم كونه مسيحيًا وعلمانيًا، أوضح الرحباني: "أنا لست من حزب الله، وإنما أنتمي إلى موقع الحزب الشيوعي، الذي يحتاج اليوم إلى إعادة تجديد."

لكنه أعرب في الوقت ذاته عن احترامه البالغ لحسن نصر الله، قائلًا: "السيد حسن نصرالله ليس خطيبًا دينيًا تقليديًا، بل هو أقل السياسيين استخدامًا للاستشهادات الدينية والآيات القرآنية، رغم طول خطاباته، بعكس كثير من النواب."

وأشار إلى أن نصر الله منحه جرعة من الاطمئنان، وأعاد إحياء القناعة بأن إسرائيل ليست قوة لا تُقهر، بل يمكن مواجهتها حين تتوافر الإرادة والإيمان بالمقاومة.

 

####

 

كيف طوّر زياد الرحباني موسيقى الرحبانية؟

سوزان سعيد

امتلك الراحل زياد الرحباني، موهبة فريدة تجسدت في موسيقى مختلفة عن المدرسة التقليدية التي أسسها الأخان عاصي ومنصور الرحباني، إذ تميزت ألحانه بجرأتها ومزجها المبتكر بين الموسيقى الشرقية والغربية، لا سيما موسيقى الجاز.

كما تمرد "زياد"، في كثير من أعماله على الأسلوب الكلاسيكي الرحباني، متأثرًا بظروف نشأته في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، التي تركت بصمتها الواضحة على شخصيته ومزاجه الفني والفكري.

وتستعرض "الشروق"، في هذا التقرير، كيف أسهم زياد الرحباني في تطوير موسيقى الرحبانية وانتقالها من النمط الرومانسي الحالم إلى الواقعية النقدية الجريئة؟

*خط موسيقي جديد

أعرب الدكتور وليد شوشة، عميد المعهد العالي للنقد الفني بالقاهرة والإسكندرية، والرئيس السابق للنادي الموسيقى، عن حزنه العميق لوفاة زياد الرحباني، واصفًا إياه بأنه "قامة إبداعية واستثنائية"، فقدها العالم العربي في لحظة مفصلية.

وأوضح "شوشة"، لـ"الشروق"، أن الأخين عاصي ومنصور الرحباني ينتميان إلى المدرسة الكلاسيكية التي تعتمد على المقامات الشرقية، مع بعض التضمينات الغربية البسيطة، مؤكدًا أن صوت فيروز كان المحور الأساسي في بلورة هذا النمط المميز.

بالمقابل، جاء زياد بخط موسيقي مغاير، استخدم فيه موسيقى الجاز كأداة أساسية، متأثرًا بتوجهاته اليسارية وتعليمه خارج لبنان، ليصنع هوية موسيقية مستقلة وخاصة.

وأضاف أن موسيقى الجاز، رغم نشأتها في القرن الثامن عشر، لا تزال تحتفظ بشعبيتها؛ نظرًا لقدرتها على استيعاب أنماط صوتية متعددة، وحل مشاكل تقنية في التلحين والتوزيع، لافتًا إلى أن زياد نجح في تطويعها لخدمة الأغنية اللبنانية والعربية، بشكل يرضي الأذن المعاصرة دون أن يتخلى عن الجذور الشرقية.

*التكنولوجيا وتحديات الانتشار

وأشار إلى أن الوسائط التي تنتقل عبرها الألحان تلعب دورًا مهمًا في تحديد عمرها الفني، موضحًا أن التكنولوجيا المعاصرة، رغم ما وفرته من سهولة في الوصول والإنتاج، لكنها قللت من العمر الافتراضي للأغنية، ومع ذلك تبقى موسيقى زياد خاصة الجاز، "حالة استثنائية" في صمودها أمام تغير الأذواق وتسارع الاستهلاك.

*فيروز تتألق بألحان نجلها

كانت التجربة الأولى لزياد الرحباني في التلحين لوالدته فيروز من خلال ألبوم "كيفك أنت؟"، والذي واجه في البداية انتقادات واسعة وصلت إلى حد اعتباره "نهاية فيروز"، لكن على عكس التوقعات والأجواء آنذاك حققت التجربة نقلة نوعية لصوت جارة القمر، ورسّخت مكانة زياد كمجدد في الموسيقى اللبنانية.

وتابع "شوشة"، أن كثيرًا من أغاني فيروز التي لحنها زياد تجاوزت من حيث الشعبية تلك التي لحنها الأخان رحباني، لا سيما أنها نجحت في مخاطبة وجدان اللبنانيين المنقسمين بفعل الحرب الأهلية، وقدمت قضاياهم بلغة فنية معاصرة وقريبة من نبض الشارع.

وأضاف أن إعادة توزيع زياد لأعمال الرحبانية القديمة أضفى عليها روحًا جديدة، وجعلها أكثر قربًا للأجيال الجديدة، ولا تزال هذه النسخ الأكثر استماعًا حتى اليوم.

علاقة فنية استثنائية

وشكّلت العلاقة بين فيروز وزياد، رغم فارق السن، واحدة من أنجح الثنائيات الفنية في تاريخ الموسيقى العربية، إذ استطاع نجلها أن يطور صوتها ويوجه مسيرتها في اتجاه جديد، دون أن يتخلى عن جوهرها.

وأشار شوشة، إلى أن زياد لم يكن مجرد ملحن، بل فنان شامل: "مؤلف، موزع، موسيقي، ومفكر".

*البصمة المصرية الحاضرة

ولفت إلى أن "زياد"، تأثر كثيرًا بالموسيقى المصرية، التي اعتبرها حجر الأساس في الموسيقى العربية بحكم الجغرافيا والتعداد وأسبقية المصريين في صناعة الفنون.

وأكد أن البصمة المصرية كانت حاضرة دائمًا في الأعمال العربية، بما فيها أعمال زياد، وإن جاءت ممزوجة بطابع لبناني خاص.

*من الرومانسية إلى الواقعية

في عمر التاسعة عشرة، وجد زياد نفسه شاهدًا على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث انقسم الوطن على أساس طائفي دموي، إذ تركت هذه الأحداث جرحًا غائرًا في وجدانه، فتمرد على المدرسة الرومانسية الحالمة التي أسسها والداه، واختار لنفسه خطًا واقعيًا ساخرًا، يعكس الواقع المتأزم للمجتمع اللبناني.

*المسرح كمنصة للنقد

وبدأ زياد رحلته المسرحية بمسرحية "سهرية" عام 1973، التي حافظ فيها على الشكل الكلاسيكي الرحباني في استخدام القصة كوسيلة لعرض الأغنية، لكنه سرعان ما ابتكر نمطًا جديدًا من المسرحيات الاجتماعية السياسية، التي جمعت بين السخرية والجرأة والنقد العميق.

كما نجح من خلال أعمال مثل "نزل السرور"، "بالنسبة لبكرا شو؟" (1978)، "فيلم أميركي طويل" (1980)، "شي فاشل" (1983)، "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993)، و"لولا فسحة الأمل" (1994)، في التعبير عن قضايا مجتمعه، لا سيما الطائفية السياسية والاجتماعية، بأسلوب يجمع بين التهكم والإحساس.

ويفقد العالم العربي برحيل زياد الرحباني، موسيقيًا استثنائيًا، نقل الأغنية اللبنانية من ضباب الرومانسية إلى ضوء الواقعية، ومن النغم الكلاسيكي إلى صوت الحياة اليومية، تاركًا إرثًا فنيًا يصعب تجاوزه.

 

الشروق المصرية في

27.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004