بعد سخريته من الحرية: زياد الرحباني شوّه ذاته في مرايا
السوريين
علي سفر
بقدر ما عشق السوريون تجربة الرحابنة وصوتهم الراسخ فيروز،
أعطوا زياد الرحباني من تقديرهم وتفاعلهم. ولأن كل شيء في سوريا المحكومة
من الأسديين يخضع لميزان العلاقات السياسية، فقد تفرد الموسيقار الذي رحل
أمس عن السياق الجيد للعائلة مع قصر المهاجرين، حيث يسكن ويدير حافظ الأسد
مملكته، منذ دخول جيشه إلى لبنان، تحت عناوين أخوية وعربية عامة.
معرفة عموم الناس بزياد جاءت من الحيز المسرحي، ولا سيما
أعماله التي انتشرت على كاسيتات صوتية في البلاد بطريقة علنية، ولم يُعرف
للرقابة الرسمية موقف منها، منذ بدأت تصل إلى شرائح من الطبقة المتوسطة في
المدن والأرياف المتعددة. لكن شريطًا صوتيًا احتوى اسكتشات كوميدية وغنائية
تسخر من الجيش السوري ومن حافظ الأسد، كان تداوله أشبه بالمنشور السري،
الذي قد يوقع الشخص الذي يمتلكه بمشكلة مع المخابرات!
في هذا العمل الذي حمل عنوان "بعدنا طيبين.. قول الله"،
اسكتش عن شخصين يلعبان الشطرنج، لكن شخصًا ثالثًا يراقب اللعبة، ويقدّم
نصائحه العلنية لكل منهما، فينتفضان ضده، ويرفضان حجته بأنه يساعدهما لأنه
شقيقهما!
وطبعًا، كان المقصود في هذه التورية سوريا الأسدية، التي
فظّع رجال جيشها في قمع اللبنانيين من كل الأطراف، بحجة أنهم يحمون الجميع
من الجميع، لكنهم كانوا طرفًا إضافيًا في كل معركة جرت في الحرب الأهلية،
وعدوًا لأي مشروع سياسي لا يضع لبنان تحت الوصاية السورية!
قيل إن زياد الرحباني قد سُجن على يد المخابرات السورية
بسبب هذا الكاسيت، وسرت هذه الحكاية في أوساط المعارضين السوريين،
واستُكملت بالحديث عن أن الأمر استدعى تدخل حافظ الأسد شخصيًا، بعد أن
زارته السيدة فيروز طالبةً منه التدخل!
نتحدث هنا عن سرديات شاعت بين نهاية سبعينيات وبداية
ثمانينيات القرن الماضي، لكن المؤكد في حضور زياد السوري يُقسم إلى جانبين:
الأول هو ذلك المتعلق بأغانيه التي قدمها في مسرحياته
بأصوات جوزف صقر والمجموعة، وبالأغاني التي لحّنها لأمه ومغنياتٍ أخريات.
وهذا حيز لا يمكن تقليب جوانبه، لأنه صفحة واحدة، متخمة بالإبداع الذي لا
يُضاهى، المولود من رحمٍ إبداعي تغذّى فيه من مصادر فنية وثقافية هائلة!
ولعل أفضل ما يعبّر عن تواشج السوريين مع التجربة هو أنها
ما زالت حاضرة في حيواتهم، ولم تتغير مطلقًا مع تبدلات مواقف زياد!
أما الجانب الثاني، الذي تقودنا إليه وجهة نظره السياسية
تجاه العلاقة مع سوريا ومع القوى التي ائتمرت بأوامرها وقامت بتصفية شخصيات
تنتمي إلى اليسار اللبناني، الذي شكّل فضاء رؤاه السياسية، فيمكن العثور
فيه على اعتراضاتٍ بصوت عالٍ، في سلسلة "العقل زينة" التي قدمها في برنامجه
على إذاعة "صوت الشعب" التابعة للحزب الشيوعي اللبناني.
أتذكر أننا، ومنذ نهاية الثمانينيات، حين صار الحضور الأسدي
في لبنان جزءًا من المكرّس القمعي الذي يُطبّق على السوريين واللبنانيين
والفلسطينيين، كنا نسمع زياد كأفراد جيلٍ مقموع، يبحث عن أدوات تعبير ذات
مقام إبداعي، فوجدنا في الكنايات المغروزة وسط كوميديا الموقف وكوميديا
اللغة صوتًا ينطق بما نحتاج، حين نريد أن نسخر من الخطاب الرسمي للسلطة
السورية، ونتدرج عبر استخدام تكنيك اللعب بالألفاظ من الأعلى إلى الأسفل،
لنصل أخيرًا إلى السخرية من الذات ومن المحيط الضيق حول كل شخص جرب أن
يحاكي أسلوبه، مرورًا بتوزيع الضحك على المؤسسات في كل مجالات الحياة، شخص
كهذا لا يمكن تصور أنه قد يأتي إلى دمشق ذات يوم، إذ لا يعقل أن ترحب سلطة
قمعية ما بشخص حرٍ مثله، وتبعاً لهذا كان الجميع يظن أن ثمة قطيعة بينه
وبين سلطة الأسديين، تجعله شخصًا غير مرحب به!
الجموح، واستحالة ترويض الضحك، كانا درس زياد الذي لقّنه
للشباب السوري، الذي وجد فيه صورة مختلفة عن نمطية الفنان الملتزم
التقليدية؛ فهنا ثمة ديناميكية، لا توفّر أي عنصر حياتي، بل تضم كل شيء في
مسار صناعة المشهد النقدي الساخر!
لم تحضر صورة زياد كمناضل في التنظيم الشيوعي، لكن انهيار
الاتحاد السوفيتي، وتحوّل كثير من اليساريين إلى صفوف الليبرالية، صار يظهر
عنده كجزءٍ من حالة انهيار أكبر، لم يجد طريقًا لمواجهتها سوى أن يصبح
شيوعيًا أصوليًا.
وفي مرحلة ما بعد بداية التسعينيات، غاب زياد المتمرد عن
المشهد في المجتمع السوري، وحلّت مكانه صورته كمنخرط في شؤون المقاومة،
وصولًا إلى تلاحمه في أوقات متقدمة مع تيار "حزب الله"، وقد بقي الأمر غير
نافر بالنسبة للسوريين الذين كانوا يؤيدون المقاومة من دون البحث في
خلفياتها.
قبل أن تغيّر مرحلة الربيع العربي كل شيء بما يخص زياد في
سوريا، حضر الرحباني الراحل في تظاهرة "دمشق عاصمة للثقافة العربية"، في
حدث اعتبر استثنائيًا في تاريخ الثقافة السورية، فأحيا حفلات في قلعة دمشق
لم يتوانَ كل من يستطيع عن حضورها.
ثم حضر في لقاء تلفزيوني على الفضائية السورية، لم تجد
إدارة التلفزيون محاورًا يؤدي المهمة بالنظر إلى ثقل وزنه الفني والإبداعي
سوى الممثل بسام كوسا، وكان الموضوع الحاضر في اللقاء هو قدرة الفنان على
أن يكون ملتزمًا وناقدًا في زمن الانهيارات، بنبضٍ رثائي للثقافة والفن،
وسط التباسٍ كامل حول قدرة الجميع على الصمود في ملامح الخراب العام.
لم تتأخر سوريا عن الانخراط في الثورات العربية، وكذلك لم
يتأخر زياد في إعلان موقف مناوئ للثورة، مثله كمثل آخرين تذرّعوا بأسباب
شتى لعدم مباركتها أو التعاطف معها.
لكن زياد، الذي استلهم نموذجه وإبداعه الثائرون في أوقات
شتى من مراحل تكوّنهم الفكري، لم يكن هادئًا أو رزيناً في تعاطيه مع
ثورتهم، بل استخفّ بها، وقرّعها بعبارات قاسية، وكأنه كان يرسل رسائل لمن
يتحالف معهم سياسيًا في الواقع اللبناني، ولا سيما "حزب الله".
وفي لقاء تلفزيوني في أولى سنوات الحراك الشعبي المتصاعد،
وقبل أن يتعاظم دور الفصائل الجهادية، تحدّث عن الخطاب السياسي المطروح على
واجهة الثورة بطريقة بعيدة عن الواقع، وقال: "عندما أقرأ بيان... ما شفت
متلو إلا بأفغانستان... عندها أنا مع المخابرات... وكل الشعب السوري
معها... وحتى من كانوا مع الثورة غيّروا".
ولم يكترث لغضب الطلاب من سلوكه وتصريحاته في الجامعة
الأميركية حين دُعي إليها، وتابع في مسار شيطنة الثورة، وصولًا إلى توصيفه
لرئيس نظام البراميل بأنه "الصامد الكبير"!
انهارت صورة زياد بالكامل لدى الأجيال السورية المنخرطة في
الثورة، ولم يعد "ابن فيروز" بالنسبة للملايين من النازحين واللاجئين ذلك
الفنان الذي احترموه دائمًا، بل صار في الجوقة المؤيدة لقتل السوريين بحجة
الخوف من الإسلام السياسي!
يرحل زياد، من دون أن ينتظره السوريون، أو يترقبوا
إبداعاته، ويتذكره الفتية الذين صاروا كهولًا من موسيقاه الساحرة، والصرخة
الغامضة التي تتكرر: "يا بو علي!" في ألبوم موسيقي قديم.
لكن التشوّه الكبير الذي صنعه هو بنفسه في ملامحه، لم يعد
قابلًا للإصلاح، بعد أن صارت المسافة بينه وبينهم مليئة بالسخرية من
الدماء، ومن رغبة شعبٍ كامل بالحرية. |