ملفات خاصة

 
 
 

الموسيقار الذي "تفبرك" في مصر.. حينما تمنى زياد التلحين للشيخ إمام

أشرف غريب

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

في السابع من حَزِيران/ يونيو 1966 وبعد عشرة أيام فقط من تلقيها دعوة رسمية لزيارة القاهرة هي والأخوين منصور وعاصي الرحباني تصدرت فيروز غلاف مجلة الكواكب القاهرية التى كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت الناقد رجاء النقاش تحت عنوان كبير "أهلا فيروز" وفي داخل العدد حوار أجراه في بيروت مندوب دار الهلال محمد رفعت مع جارة القمر علقت من خلاله على الدعوة التي تلقتها لزيارة مصر وقالت: "إنني متلهفة على هذه الزيارة، زيارتى الثانية ( كانت زيارتها الأولى في شباط/فبراير العام 1955) إن الشعب المصري حساس وذواق ويساعد كل فنان أن يتلاقى معه، ولا تنس أننا قضينا شهر العسل في القاهرة، وأن ابننا الأكبر زياد (تفبرك) في القاهرة".

فهل "فبركة" الموسيقار الراحل زياد الرحباني في القاهرة على حد وصف والدته الفنانة فيروز هي التي كانت تدفع والده عاصي الرحباني إلى القول له دائمًا بأن به شلش (عرق) مصري؟ ربما، وقد يكون ذلك عائدًا أيضأ إلى تشرب زياد للتراث الموسيقي المصري عند سيد درويش وزكريا أحمد تحديدًا بالتوازي مع تأثره بمدرسة الرحابنة، ثم ميله لاحقا إلى موسيقى الجاز؟ من الجائز جدا، وربما يكون هذا الوصف للابن من جانب الرحباني الأب راجعًا إلى خفة روح تمتع بها زياد وميل واضح إلى السخرية من كل شيء على غرار ما يفعله المصريون في أقسى لحظات حياتهم.

ومهما يكن فإن هذا الشلش (العرق) المصري كانت له مظاهره وأعراضه في حياة زياد الرحباني، فقد رافق الابن والدته في كل زياراتها إلى القاهرة باستثناء رحلة العام 1989 التي غنت فيها عند سفح أهرامات الجيزة بعد أن حالت ظروف الحرب الأهلية في لبنان دون مرافقته لوالدته، لكنه كان عراب فكرة اختيار أغنية الموسيقار سيد درويش "أهو ده اللى صار" كي تتغنى بها جارة القمر في تلك الزيارة تحية لشعب مصر، فهو الذي أقنعها بتلك الأغنية، وهو الذي راجع كلماتها حتى تتحاشى فيروز أي تربص يمكن أن ينالها لو تم تأويل كلمات الأغنية على غير الحقيقة، وفي حوار تلفزيوني مع الإعلامية المصرية منى الشاذلي أذيع قبل سنوات كشف زياد عن عشقه للموسيقار المصري زكريا أحمد، وأنه وضع له صورة كبيرة في صالون منزله ببيروت دون سواه حتى ظن زائروه أنه أحد أفراد العائلة، وكال الكثير من الإطراء على أغنية "غني لي شوي شوي" التي تغنت بها أم كلثوم من ألحان الشيخ زكريا أحمد في فيلم "سلامة" العام 1944، لكن تركيزه خانه حينما سألته المذيعة عن أقرب ألحان الشيخ زكريا إلى قلبه فقال "القلب يعشق كل جميل" مع أنها من ألحان رياض السنباطي، صحيح أن لزكريا أحمد محاولة سابقة لتلحين كلمات الأغنية ذاتها التي صاغها الشاعر بيرم التونسي، لكن زياد أخذ يؤدي مطلع الأغنية بلحن السنباطي وليس زكريا أحمد، وعلى ذكر كوكب الشرق فإن زياد كان من المقدرين لموهبة أم كلثوم ولطاقاتها الغنائية على الرغم من أنه لا يفضل مدرستها في الغناء.

الشيء اللافت في مسيرة زياد الرحباني التي بدأت وهو في الرابعة عشرة من عمره أنه على مدى مشواره الطويل لم يتعاون مع أى من الأصوات الغنائية المصرية المعروفة اللهم إلا إذا اعتبرنا أن التونسية لطيفة هي مصرية بحكم الإقامة، فقد تعاون معها في ألبوم غنائي قبل سنوات، وكان يستعد لإطلاق ألبومه الثاني معها في مطلع العام المقبل 2026 ومن بين أغنياته اثنتان من تأليف الشاعر الغنائى المصري عبد الوهاب محمد الذي كتب للمطربة المعروفة أغلب أغنياتها السابقة، فيما أعربت المطربة أنغام في أكثر من مناسبة عن أمنيتها بأن تغني من ألحان زياد الرحباني، أما هو فكان معجبًا بصوت شيرين عبد الوهاب، وأبدى استعداده للتلحين لها، وفي إحدى رحلاته للقاهرة قام بزيارتها في بيتها وصاحبها على البيانو وهي تغني أمامه أجمل ما لحن لوالدته فيروز، لكن لا رغبة التي تمنت أن تغني له قد تحققت، ولا فكرة التي تمنى أن يلحن لها قد تحولت إلى حقيقة.

غير أن في مسيرة زياد الرحباني مع المصريين تجرِبة مهمة وفريدة ليست مع أحد الأسماء الكبيرة في عالم الموسيقى والغناء، وإنما مع مطرب وعازف عود ماهر هو الموسيقي السكندري حازم شاهين مؤسس فرقة "اسكندريلا" وقد أثمر هذا التعاون مجموعة من الألحان وضعها زياد، بعضها كانت من كلماته أيضا، وظهور مشترك في الحفلات العامة، ولا تزال الأجيال الحالية تحتفظ في ذاكرتها ببعض من تلك الأغنيات مثل "أميركا مين" و"صفحة جديدة" وهي تجربة مختلفة في كل شيء من أول الكلمات ذات الطابع السياسي المباشر، وصولا إلى الألحان التي نحا فيها زياد بعيدًا عن عالمه التقليدي مفضلًا الشكل الذي اعتبره مستمعوه امتدادًا لتجربة المصريَين الشاعر أحمد فؤاد نجم والملحن المؤدي الشيخ إمام عيسي في الأغنية السياسية التي انتشرت في عقدي الخمسينيات والستينيات، وبسببها بقى الرجلان رهن الاعتقال أكثر من مرة في عهدي الرئيسين المصريين جمال عبد الناصر وأنور السادات، ولم ينكر زياد نفسه هذا التوصيف بل أنه اعتبر حازم شاهين امتدادًا لطريقة أداء الشيخ زكريا أحمد ثم صديقه جوزيف صقر، وكذلك الشيخ إمام عيسى، وحكى أنه كن من المعجبين بالشيخ إمام، وأنه أثناء إحدى زيارات الشيخ الكفيف إلى بيروت حاول أن يسمعه أغنيته الشهيرة "أنا مش كافر" أملا في أن يغنيها إمام بتوزيع جديد يضعه زياد، لكن متعهده – وكان تونسيِ الجنسية – قام بسحب الشيخ إمام من الجلسة على غير رغبة الفنان المصري الذي كان يفضل البقاء والاستماع إلى الأغنية.

 

####

 

بعد سخريته من الحرية: زياد الرحباني شوّه ذاته في مرايا السوريين

علي سفر

بقدر ما عشق السوريون تجربة الرحابنة وصوتهم الراسخ فيروز، أعطوا زياد الرحباني من تقديرهم وتفاعلهم. ولأن كل شيء في سوريا المحكومة من الأسديين يخضع لميزان العلاقات السياسية، فقد تفرد الموسيقار الذي رحل أمس عن السياق الجيد للعائلة مع قصر المهاجرين، حيث يسكن ويدير حافظ الأسد مملكته، منذ دخول جيشه إلى لبنان، تحت عناوين أخوية وعربية عامة.

معرفة عموم الناس بزياد جاءت من الحيز المسرحي، ولا سيما أعماله التي انتشرت على كاسيتات صوتية في البلاد بطريقة علنية، ولم يُعرف للرقابة الرسمية موقف منها، منذ بدأت تصل إلى شرائح من الطبقة المتوسطة في المدن والأرياف المتعددة. لكن شريطًا صوتيًا احتوى اسكتشات كوميدية وغنائية تسخر من الجيش السوري ومن حافظ الأسد، كان تداوله أشبه بالمنشور السري، الذي قد يوقع الشخص الذي يمتلكه بمشكلة مع المخابرات!

في هذا العمل الذي حمل عنوان "بعدنا طيبين.. قول الله"، اسكتش عن شخصين يلعبان الشطرنج، لكن شخصًا ثالثًا يراقب اللعبة، ويقدّم نصائحه العلنية لكل منهما، فينتفضان ضده، ويرفضان حجته بأنه يساعدهما لأنه شقيقهما!

وطبعًا، كان المقصود في هذه التورية سوريا الأسدية، التي فظّع رجال جيشها في قمع اللبنانيين من كل الأطراف، بحجة أنهم يحمون الجميع من الجميع، لكنهم كانوا طرفًا إضافيًا في كل معركة جرت في الحرب الأهلية، وعدوًا لأي مشروع سياسي لا يضع لبنان تحت الوصاية السورية!

قيل إن زياد الرحباني قد سُجن على يد المخابرات السورية بسبب هذا الكاسيت، وسرت هذه الحكاية في أوساط المعارضين السوريين، واستُكملت بالحديث عن أن الأمر استدعى تدخل حافظ الأسد شخصيًا، بعد أن زارته السيدة فيروز طالبةً منه التدخل!

نتحدث هنا عن سرديات شاعت بين نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، لكن المؤكد في حضور زياد السوري يُقسم إلى جانبين:

الأول هو ذلك المتعلق بأغانيه التي قدمها في مسرحياته بأصوات جوزف صقر والمجموعة، وبالأغاني التي لحّنها لأمه ومغنياتٍ أخريات. وهذا حيز لا يمكن تقليب جوانبه، لأنه صفحة واحدة، متخمة بالإبداع الذي لا يُضاهى، المولود من رحمٍ إبداعي تغذّى فيه من مصادر فنية وثقافية هائلة!

ولعل أفضل ما يعبّر عن تواشج السوريين مع التجربة هو أنها ما زالت حاضرة في حيواتهم، ولم تتغير مطلقًا مع تبدلات مواقف زياد!

أما الجانب الثاني، الذي تقودنا إليه وجهة نظره السياسية تجاه العلاقة مع سوريا ومع القوى التي ائتمرت بأوامرها وقامت بتصفية شخصيات تنتمي إلى اليسار اللبناني، الذي شكّل فضاء رؤاه السياسية، فيمكن العثور فيه على اعتراضاتٍ بصوت عالٍ، في سلسلة "العقل زينة" التي قدمها في برنامجه على إذاعة "صوت الشعب" التابعة للحزب الشيوعي اللبناني.

أتذكر أننا، ومنذ نهاية الثمانينيات، حين صار الحضور الأسدي في لبنان جزءًا من المكرّس القمعي الذي يُطبّق على السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، كنا نسمع زياد كأفراد جيلٍ مقموع، يبحث عن أدوات تعبير ذات مقام إبداعي، فوجدنا في الكنايات المغروزة وسط كوميديا الموقف وكوميديا اللغة صوتًا ينطق بما نحتاج، حين نريد أن نسخر من الخطاب الرسمي للسلطة السورية، ونتدرج عبر استخدام تكنيك اللعب بالألفاظ من الأعلى إلى الأسفل، لنصل أخيرًا إلى السخرية من الذات ومن المحيط الضيق حول كل شخص جرب أن يحاكي أسلوبه، مرورًا بتوزيع الضحك على المؤسسات في كل مجالات الحياة، شخص كهذا لا يمكن تصور أنه قد يأتي إلى دمشق ذات يوم، إذ لا يعقل أن ترحب سلطة قمعية ما بشخص حرٍ مثله، وتبعاً لهذا كان الجميع يظن أن ثمة قطيعة بينه وبين سلطة الأسديين، تجعله شخصًا غير مرحب به!

الجموح، واستحالة ترويض الضحك، كانا درس زياد الذي لقّنه للشباب السوري، الذي وجد فيه صورة مختلفة عن نمطية الفنان الملتزم التقليدية؛ فهنا ثمة ديناميكية، لا توفّر أي عنصر حياتي، بل تضم كل شيء في مسار صناعة المشهد النقدي الساخر!

لم تحضر صورة زياد كمناضل في التنظيم الشيوعي، لكن انهيار الاتحاد السوفيتي، وتحوّل كثير من اليساريين إلى صفوف الليبرالية، صار يظهر عنده كجزءٍ من حالة انهيار أكبر، لم يجد طريقًا لمواجهتها سوى أن يصبح شيوعيًا أصوليًا.

وفي مرحلة ما بعد بداية التسعينيات، غاب زياد المتمرد عن المشهد في المجتمع السوري، وحلّت مكانه صورته كمنخرط في شؤون المقاومة، وصولًا إلى تلاحمه في أوقات متقدمة مع تيار "حزب الله"، وقد بقي الأمر غير نافر بالنسبة للسوريين الذين كانوا يؤيدون المقاومة من دون البحث في خلفياتها.

قبل أن تغيّر مرحلة الربيع العربي كل شيء بما يخص زياد في سوريا، حضر الرحباني الراحل في تظاهرة "دمشق عاصمة للثقافة العربية"، في حدث اعتبر استثنائيًا في تاريخ الثقافة السورية، فأحيا حفلات في قلعة دمشق لم يتوانَ كل من يستطيع عن حضورها.

ثم حضر في لقاء تلفزيوني على الفضائية السورية، لم تجد إدارة التلفزيون محاورًا يؤدي المهمة بالنظر إلى ثقل وزنه الفني والإبداعي سوى الممثل بسام كوسا، وكان الموضوع الحاضر في اللقاء هو قدرة الفنان على أن يكون ملتزمًا وناقدًا في زمن الانهيارات، بنبضٍ رثائي للثقافة والفن، وسط التباسٍ كامل حول قدرة الجميع على الصمود في ملامح الخراب العام.

لم تتأخر سوريا عن الانخراط في الثورات العربية، وكذلك لم يتأخر زياد في إعلان موقف مناوئ للثورة، مثله كمثل آخرين تذرّعوا بأسباب شتى لعدم مباركتها أو التعاطف معها.

لكن زياد، الذي استلهم نموذجه وإبداعه الثائرون في أوقات شتى من مراحل تكوّنهم الفكري، لم يكن هادئًا أو رزيناً في تعاطيه مع ثورتهم، بل استخفّ بها، وقرّعها بعبارات قاسية، وكأنه كان يرسل رسائل لمن يتحالف معهم سياسيًا في الواقع اللبناني، ولا سيما "حزب الله".

وفي لقاء تلفزيوني في أولى سنوات الحراك الشعبي المتصاعد، وقبل أن يتعاظم دور الفصائل الجهادية، تحدّث عن الخطاب السياسي المطروح على واجهة الثورة بطريقة بعيدة عن الواقع، وقال: "عندما أقرأ بيان... ما شفت متلو إلا بأفغانستان... عندها أنا مع المخابرات... وكل الشعب السوري معها... وحتى من كانوا مع الثورة غيّروا".

ولم يكترث لغضب الطلاب من سلوكه وتصريحاته في الجامعة الأميركية حين دُعي إليها، وتابع في مسار شيطنة الثورة، وصولًا إلى توصيفه لرئيس نظام البراميل بأنه "الصامد الكبير"!

انهارت صورة زياد بالكامل لدى الأجيال السورية المنخرطة في الثورة، ولم يعد "ابن فيروز" بالنسبة للملايين من النازحين واللاجئين ذلك الفنان الذي احترموه دائمًا، بل صار في الجوقة المؤيدة لقتل السوريين بحجة الخوف من الإسلام السياسي!

يرحل زياد، من دون أن ينتظره السوريون، أو يترقبوا إبداعاته، ويتذكره الفتية الذين صاروا كهولًا من موسيقاه الساحرة، والصرخة الغامضة التي تتكرر: "يا بو علي!" في ألبوم موسيقي قديم.

لكن التشوّه الكبير الذي صنعه هو بنفسه في ملامحه، لم يعد قابلًا للإصلاح، بعد أن صارت المسافة بينه وبينهم مليئة بالسخرية من الدماء، ومن رغبة شعبٍ كامل بالحرية.

 

####

 

زياد عاصي الرحبانيّ: موت العبقريّ الأخير

أسعد قطّان

"كتبوا الدفاتر بإيديهن/وانكتبوا بالدفاتر/والحبّ مسافر بعينيهن/والعمر شراع مسافر" (عاصي الرحبانيّ)

يرحل زياد الرحبانيّ كي يلقي التحيّة على عاصي، وكي يقول له إنّ التراجيديا اليوناتيّة لم تنتهِ فصولها بعد. فالقدر لا ينفكّ يكتب لها فصلًا تلو فصل، وذلك كلّما حسبنا أنّ الستارة قد أُسدلت، والأضواء انطفأت، والمشخّصين رجعوا إلى بيوتهم.

ماذا سيقول له أيضاً يا ترى؟ هل يخبره عن المزهريّة التي انكسرت في الهزيع الرابع من الليل؟ هل يكلّمه على النوطات السحريّة الغافية في غياهب الدفاتر، إذ لم يسقط أيّ منها بعد على خشبة المسرح، وفي المربّع المخصّص للأوركسترا؟ هل يُسمعه القصيدة الأخيرة واللحن الأخير اللذين وضعهما لفيروز الصامتة كي يغويها فتعاود الغناء، كما يغوي الربيع العصافير، فيذرف الوالد دمعتين: دمعةً تحتفي بالإيقاع المتفلّت والنغم المتدثّر بمزيج من صخب وسكينة، ودمعةً تتطاير للقاء بكره في المروج السندسيّة على الضفّة الأخرى.

لعلّ زياد يتسامر اليوم مع الوالد، ويتحدّث وإيّاه عن مستقبل الموسيقى في هذا الشرق بعد رحيل العباقرة: من شيخ الموسيقيّين في وادي النيل محمّد عبد الوهاب إلى سيّد النوطات المجنونة على بحر بيروت زياد عاصي حنّا الرحبانيّ. لعلّهما يسترجعان معاً كلّ التناصّات الشعريّة والموسيقيّة الساخرة التي نثرها زياد في أعماله، من «طلّي اضحكيلو» إلى «مش سامع غنّيّة راحوا»، رافعًا القبّعة لعاصي، كما يرفع صبيّ عظيم القبّعة لوالده العظيم. بلى بلى! لقد كان زياد «ابن أبيه» وسرّ أبيه. لكنّه، مثل العباقرة طرّاً، صاحب موسيقى لا تشبه إلّا ذاتها - موسيقى نتفنّن في وصفها وتوصيفها. ثمّ نكتشف أنّنا لم نقل شيئاً، ولم نصف شيئاً، لأنّها عصيّة على البلاغة واحتمالات اللغة. وما يعصى على اللغة يصبح لغةً في ذاته.

حين كنّا، في يفاعتنا، نستمع إلى الأغاني الرحبانيّة ونسبح في بركة نبيذها، لطالما كنّا نسأل هذا السؤال العجيب الغريب: من هم هؤلاء ال«هم» الذين تسرد هذه الأغنيات حكاياتهم؟ من هم هؤلاء الذين يكتبون الدفاتر وينكتبون فيها؟ من هم هؤلاء الذين «صاروا البيدر/صاروا المصدر/والشمس اللي عم تطلع»؟ من هم هؤلاء الذين تأخذنا أصواتهم في مشوار صوب المدى والنار؟ هل هم العباقرة الذين يشبهون الشمس، لكونهم يغيبون ولا ينطفئون، إذ تظلّ خلايا دماغهم معشّشةً في يوميّاتنا؟ هل هم الأحبّة الذين من دونهم تتحوّل الحياة إلى صقيع وهباء منثور؟ هل هم البشر الذين نحلم بهم، ثمّ ندرك أنّ لا عناوين لهم، إذ لم يولدوا بعد؟ وحدها الأسئلة التافهة لها أجوبة. الأسئلة الكبرى، كما كتب إيريك-إيمّانويل شميت ذات صباح، تبقى أسئلة. وزياد يرحل اليوم آخذاً معه بعض هذه الأسئلة التي أرّقتنا، وأرّقت أباه وأمّه وعمّه ومبدعي عائلته جميعًا، هذه العائلة التي صارت حكايتها أشبه بتراجيديا إغريقيّة لم تنتهِ فصولها بعد.

يموت العبقريّ الأخير تاركًا لنا موسيقاه وشعره ونقده الذكيّ وتعاويذ السياسة في كلماته ولغته المتلوّنة التي تربّى عليها جيل بأسره، وستلهم أجيالاً من بعدها أجيال. ليس بقليل أنّنا عشنا زمن هذا الزياد، فالوجود «يستحقّ لكوننا التقينا» (ريتسوس). وليس بقليل أنّه ترك لنا هذا الجمال كلّه كأنّه لم يمضِ حين مضى، شأنه شأن العباقرة الذين لا يرحلون حتّى عندما يرحلون.

 

####

 

زياد الرحباني: فيلسوف السخرية ومرآة الواقع

سيمون كشر

قليلون هم الفنانون الذين ينجحون في أن يكونوا أكثر من مجرد مبدعين؛ قليلون هم من يتحولون إلى ظاهرة ثقافية وفلسفية، يعكسون نبض مجتمعهم ويشكلون وعيه. زياد الرحباني، هو بلا شك واحد من هؤلاء القلائل. لم يكن زياد مجرد موسيقي أو مسرحي أو كاتب، بل كان فيلسوفاً شعبياً بامتياز، ترجم تعقيدات الحياة اللبنانية والعربية إلى فن أصيل، ساخر، وعميق في آن معاً.

الأصالة الفنية والفلسفية

ما يميز زياد الرحباني قبل كل شيء هو "الجينوينية" أو الأصالة المطلقة. لم يحاول قط أن يقلّد أحداً، ولم يسعَ إلى إرضاء الجمهور بمعاييره التقليدية. كان فنّه ينبع من تجربته الشخصية، من ملاحظاته الدقيقة للحياة اليومية، ومن إيمانه العميق بضرورة كشف الزيف والنفاق. هذه الأصالة هي التي منحت أعماله تلك القوة الهائلة في التأثير، وجعلت المستمع أو المشاهد يشعر وكأنه يتحدث بلسانه، يلامس أوجاعه وهمومه.

كان زياد يتحدث لغة الشارع، يصور شخصيات من لحم ودم، يعكس تناقضات المجتمع اللبناني الذي يتأرجح بين التقاليد والحداثة، بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، بين الحلم والواقع المرير. هذه الأصالة لم تكن مجرد أسلوب فني، بل كانت موقفاً فلسفياً يعكس إيمانه بضرورة الصدق الفني كمرآة للصدق الإنساني.

الفلسفة السياسية: السخرية كسلاح

تتجلى فلسفة زياد الرحباني السياسية في نقده اللاذع والذكي للأنظمة السياسية، للفساد المستشري، وللطبقة الحاكمة التي انفصلت عن هموم شعبها. لكن هذا النقد لم يكن مباشراً أو خطابياً بالمعنى التقليدي، بل كان يتجسد في السخرية المريرة، في الكوميديا السوداء التي تضحك وتبكي في الوقت ذاته.

كان زياد يؤمن بأن السخرية هي أقوى سلاح ضد القمع والاستبداد، لأنها تفضح العبث وتعرّي السلطة. من خلال شخصياته الهزلية ومواقفه الكاريكاتورية، كان يقدم تحليلاً سياسياً أعمق بكثير مما تقدمه عشرات المقالات الصحفية. كان يتحدث عن الحرب الأهلية اللبنانية ليس كحدث تاريخي جاف، بل كجرح مفتوح في الوجدان المجتمعي، وكعبث مستمر يطال كل تفاصيل الحياة. فلسفته السياسية كانت تتلخص في رفضه القاطع لأي شكل من أشكال التسلط، ودعوته الدائمة إلى التفكير النقدي والتشكيك في المسلمات.

الموسيقى: لغة الروح والشارع

موسيقى زياد الرحباني هي نسيج فريد يجمع بين التأثيرات الجازية، والمقامات الشرقية، والألحان الشعبية اللبنانية. لكن الأهم من ذلك، أن موسيقاه كانت دائماً في خدمة النص، في خدمة الفكرة. كانت نغماته تعكس حالة الشخصيات، وتجسد المزاج العام للمشهد، وتضفي عمقاً إضافياً على الكلمات.

لم تكن موسيقاه مجرد خلفية، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من رسالته الفلسفية. كانت قادرة على التعبير عن الفرح والحزن، عن الأمل واليأس، عن الحب والخيانة، بالقدر نفسه من البراعة. كانت موسيقى تعبر عن "لبنان" بتناقضاته وجماله وقبحه، تعزف على أوتار الروح وتلامس وجدان الشارع.

المسرح: مرآة الواقع الاجتماعي

مسرحيات زياد الرحباني هي بلا شك التجسيد الأكمل لفلسفته. من "نزل السرور" إلى "بالنسبة لبكرا شو؟" إلى "شي فاشل" و"فيلم أميركي طويل"، وصولاً إلى "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" و "لولا فسحة الأمل"، كانت مسرحياته تقدم بانوراما حية للمجتمع اللبناني. كانت شخصياته تعكس شرائح مختلفة من المجتمع: المثقفين العاطلين عن العمل، العشاق المحبطين، السياسيين الفاسدين، والناس العاديين الذين يحاولون البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف قاسية.

كان زياد يستخدم المسرح كمنبر لطرح الأسئلة الكبرى حول الوجود، الهوية، العدالة الاجتماعية، ومعنى الحياة في عالم مضطرب. كانت مسرحياته تدفع الجمهور إلى التفكير، إلى التشكيك، إلى رؤية الواقع بعيون مختلفة. لم يكن يهدف إلى تقديم حلول جاهزة، بل إلى إثارة الوعي وتحفيز النقاش. كانت أعماله المسرحية، بكل تفاصيلها من الحوارات إلى الإخراج، تعكس نظرة زياد الفلسفية الشاملة للحياة، حيث كل شيء مترابط ومتشابك.

زياد الرحباني ليس مجرد فنان عابر، بل هو ظاهرة فكرية وفنية عميقة. هو فيلسوف السخرية الذي جعلنا نضحك على مآسينا، ونفكر في عبث وجودنا. هو مرآة عكست بصدق متناهٍ وجهاً من وجوه المجتمع العربي، وقدم لنا فناً لا يزال يرن صداه في أذهاننا ووجداننا، لأنه فن نابع من الأصالة، ومليء بالحياة، ومحمّل بفلسفة عميقة لم تزل صالحة لكل زمان ومكان.

وداعاً...!

 

المدن الإلكترونية في

27.07.2025

 
 
 
 
 

زياد العادي بالبيجامة.. كاسك يا رفيق

باسل رمسيس

نبحث عن الاعتراف مقابل ما نفعله، أيًا كان مجال هذا الفعل. لكنَّ الرغبة في نيل الاعتراف تتعاظم حين يكون الفعل مرتبطًا بالإبداع. لا يبحث الجميع عن الشهرة، أو الجوائز، أو المال، وكل ما تحققه من حضور ونفوذ. في العمق نبحث ونحلم بأن يعترف الآخرون بقدراتنا، بأن ما نفعله متفرد وجديد. لكن هذا الاعتراف مشروط، بالذات إن كان مَن ينتظره مِن الأكثر موهبةً وتميزًا إبداعيًا، ولمعانًا، بأن يأتي ممن يرونه أفضل منهم، أو ممن يرونهم كفئًا لمنحهم الاعتراف.

لا أعرف هل تحدث زياد الرحباني، بصراحته المعهودة عن هذه المسألة فيما يخصه أم لا. لكنها في حالته ربما كانت مؤرقة. لا زيادة على هذا التعبير؛ "مؤرقة"، لأننا لا نعرف، وليس من اللائق تخمين ما كان يعتمل في نفوس الراحلين ما لم يصرحوا هم به. لكن صورة زياد، ابن فيروز والرحابنة، اقترنت في أذهان ووجدان الكثيرين من "الزياديين" بحالة من الزهق، أو الاكتئاب، أو الإسراف في الشراب لتمرير الوقت. دون أن تقترن بها تفسيرات واضحة ونهائية. إنها مجرد تخمينات مِنْ أَحِبَّتِه، اختلطت أحيانًا بقدر من النميمة.

إن كانت مسألة نيل الاعتراف معقدةً أو مؤرقةً في حالة زياد، فلأنه نال الاعتراف مبكرًا، مع أغانيه وأعماله الفنية الأولى، بالذات الموسيقية. اعتراف العمالقة؛ أمه وأبيه وعمه، بالموسيقى المبكرة لهذا المراهق. لكنهم، ولأنهم عائلته، ولأننا نعرف عن زياد روحه النقدية والمشككة، المبتعدة عن اليقينية والارتكان لما هو مريح، ربما لم يكن يكفيه هذا الاعتراف، وربما تعلقت به بعض الشوائب كونه آتيًا من الأقرب إليه، من عائلته نفسها، عائلة الموسيقيين والمسرحيين الكبار تلك.

الثوري العادي جدًا

من ضمن الصور الكثيرة لزياد، واحدةٌ نُشرت قبل سنوات عديدة بالبيجامة في بيته، وليس في عمل مسرحي. مجرد صورة، عنصر بسيط من بين عناصر كثيرة، تجعل الآخرين، عشرات وربما مئات الآلاف، يشعرون بقربه منهم، بدرجة استثنائية من العادية. بأنه من الممكن أن نطرق باب بيته في بيروت، ويفتح لنا، وبعادية بالغة يدعونا للجلوس، ويبدأ في الحديث والاستماع، وربما الشجار، من دون أن يفكر في تغيير البيجامة.

إنه الأب الذي نراه بالبيجامة، حتى بعد مماته، نتذكره جالسًا في صالة البيت بحميمية ودون تكلف، بعادية مطلقة. أو الأخ الأكبر، أو الصديق الأقرب، الرفيق الحقيقي، الذي سينزوي بك للحديث دون أن يفكر في تحسين مظهره بتغيير البيجامة. وكأننا جميعًا دخلنا لبيت زياد، وجلسنا معه، ولا بد أنه كان واعيًا بأن عاديته، وبساطته، وانحيازه لنا، هي بعض المفاتيح التي تُفسّر تحوله لأيقونة فنية وإنسانية وثورية عند الكثيرين، مضافة لقيمة أعماله الفنية.

من أصعب الأشياء أن يتمرد الفرد على عائلته. وأتصور أن الصعوبة تتضاعف مرات لا تُحصى إذا كان هذا التمرد على عائلة حققت النجاح وامتلكت المكانة والشهرة والاعتراف والنفوذ في المجال نفسه الذي اختاره الشخص للعمل والإبداع وخلق الجديد. ليست مسألة تمرد على قالب وتقاليد فنية، بل إنه تمرد يصل للتخلي عن رأسمالها، أن يسير الفرد وحيدًا، ألَّا يرتكن لميراثها وما حققته من نجاحات، وأن يغامر بعيدًا عنها مع كل يوم جديد. بل وأن ينتقدها، ويسخر منها ومن ذاته أحيانًا، نازعًا الأسطورية عنها، محاولًا تقريبها من العادية، من الأرض، من التراب، من التلوث.

إنها نماذج شديدة الندرة، بالذات في المجال الفني المعتمد على تراكم رأسمال النجاحات الفنية الباهرة، والمترجمة لرأسمال مادي ضخم. هذه النماذج القليلة كان أحد أيقوناتها زياد. ولأنها شديدة الندرة فهي تعبر عن درجة بالغة من الشجاعة والفرادة والطموح في الحرية والتمسك بها. ولمجرد وجود هذه القلة نمنحها، نحن المتطلعين إليها، بعدًا أيقونيًا، لا ينفصل عن طهارة التجرد مما هو مريح وحققته العائلة. ورغم هذه التعبيرات؛ "أيقونية"، و"طهارة"، وما تحمله من غيبيات وقداسة رَفَضهما زياد؛ فمجرد وجود أمثاله القليلين يمنح أملًا في عالم مغاير، أكثر حرية وعدلًا، لا يعتمد على الإرث ورأس المال، لا يعتمد على التراكم.

هناك قطاع من جمهور ومحبي زياد يحصرون حبهم له في عمله الموسيقي مع فيروز. لكن "الزياديين" أوسع بكثير من هذا القطاع. أغلب جمهور زياد ومحبيه من اليساريين والتقدميين، الطامحين إلى كسر التابوهات كلها. إنهم محبو زياد الموسيقي والكاتب والمسرحي والإذاعي والمؤدي، وصاحب الحس النقدي الساخر، والسياسي الثوري. طبيعي أن ينتسب أغلبهم لكل أطياف اليساريين والتقدميين والأحرار العرب، فأعماله أشهَرَت دون أي لبس انحيازه لقيم وأفكار التحرر والثورة، ومن المستحيل تناولها بمعزل عن مضامينها، ستكون ساعتها قوالب فنية ميتة، أو محلقة في الفراغ.

تمرد زياد على عائلة العمالقة الموسيقيين والمسرحيين، وأن يختار بوعي تعميق انحيازه السياسي والفكري للضعفاء والفقراء، و"الكفار" كما تقول إحدى أشهر أغانيه، وللمتمردين، هو في جوهره جزء من أيقونة زياد، تعبير عن درجة من الشجاعة والقدرة على التمرد والثورة قلما نقابلها في حياتنا.

إنه الخيار الواعي الذي ربما قاده بطبيعية لأن يكون نموذجًا لهذا الفنان الثوري الرومانسي، المصر على رومانسيته، ورومانسية حلمه، أيًا كان الثمن المحتمل دفعه. متجاوزًا، وبعد أفول زمن الثورات، ليس فقط الجدران التي تحيط بالعائلة، بل أيضًا الجدران التي تحيط بالطبقة، وبالطائفة، وبالوطن المحصور في حدود لبنانية، والجدران المحيطة بالعادات والتقاليد وأنماط السلوك القديمة المستقرة، بل والجدران التي تحيط بقدسية المشروع اليساري نفسه الذي انتمى إليه زياد، ولم يتردد في أن ينزع عنه القدسية، وأن يصيبه بالنقد اللاذع. وأن يكون منحازًا لمفهوم الحرية المطلقة قبل أي شيء آخر.

ليست الحرية الأنانية والفردية، وليست حرية التحليق الفني وكسر القوالب المستقرة، بل حرية من يستحقون الحرية ولم ينالوها يومًا. حقهم وحريتهم في أن يخلقوا عالمًا جديدًا، مُشكلًا من أفراد أحرار، انحاز له وغنّى من أجله زياد، وحاول أن يقدم بعضًا من ضوئه فوق خشبة المسرح. بل واضطر أحيانًا لأن يشهر ملامح من هذا الحلم بكلمات مباشرة في مونولوجاته الإذاعية، في عز الحرب الأهلية اللبنانية، في إذاعة صوت الشعب.

البيجامة في صالون البيت

مسألة الاعتراف المؤرقة للجميع، بالذات في حالة زياد، تجعلني أتخيله مبدعًا لألحان جديدة، ومسرحيات جديدة، ومونولوجات جديدة، بعد أن ثبَّت مكانته ونال اعتراف عائلته واعتراف أهم القامات الموسيقية والفنية التي عاصرها في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكنها رحلت واحدًا بعد آخر.

أتخيله خالقًا للجديد منتظرًا الاعتراف ممن لن يمنحه إيّاه أبدًا لأنه سبق الجميع في الرحيل؛ سيد درويش. وكأن زياد لا يزال يخاطبه أو يناديه، منبهًا لتأثره الشديد به. ليس فقط في الموسيقى، بل أيضًا في الانتماء للناس، للشعب، للثورة وللتمرد. لكن، ولأنني لست موسيقيًا أو خبيرًا في شؤون المسرح أو الكتابة، أتوقف هنا، مع الاعتراف بحقيقة بائسة، أن لا أحد يوازي قامة زياد الرحباني الموسيقية والإبداعية حاليًا في العالم العربي ليمنحه الاعتراف، وليفككه أمامنا لنتعلم منه فنيًا.

الاعتراف الوحيد الذي ناله ويناله زياد مع كل يوم جديد، خلال العقود الأخيرة الماضية، وخلال سنوات كثيرة قادمة، هو اعتراف أحِبَّته، الملايين من هذه القبيلة الواسعة من المنتمين للشعب على امتداد العالم العربي، به. اعتراف بأنه رفيقهم، صديقهم، وبأنه يمنحهم ليس فقط المثال، بل أيضًا، وقبل المثال يمنحهم الونس، الرفقة، والطاقة من أجل التمرد والثورة.

ودع كثيرون زياد يوم 26 يوليو/تموز بكلمة رفيق. ليس لأنهم شيوعيون يودعون شيوعيًا آخر. بل لأنهم يودعون ذلك الفنان الاستثنائي، مرتدي البيجامة، المصر على أن يكون واحدًا منهم، وعلى أن يقدم لهم الفن وكأنه يرفع كأسه أمام رفيق في صالة البيت، في الصالون، ليقول له: كاسك يا رفيقي، محطمًا كل هالات التقديس المحيطة بالموسيقى، جاعلًا كلًا منا ينظر إليه ليرى ذاته، أو جزءًا من ذاته، جزءًا حاضرًا حقيقة في الذات، أو كنا نتمنى وجوده في ذواتنا، منعكسًا في صورة زياد.

من هذه المنطقة نشعر بالحسرة لموت زياد، هذا الذي نناديه باسمه المجرد كأي رفيق حقيقي، لا نحتاج لإضافة اللقب، وبالذات الآن، في الزمن الصعب، وخلال إبادة الشعب الذي انتمى إليه زياد سياسيًا ونضاليًا. فحين يموت رفيقنا المتمرد، الشجاع، الرومانسي، القادر على الكلام والبوح والتفكير والمبادرة، والمغامر في كسر التابوهات، هذا الذي يُشعرنا وجوده بالاطمئنان؛ فإننا سنشعر بالوحدة والحسرة. بأننا أصبحنا أكثر ضعفًا، على امتداد كل مدن وأغلب قرى العالم العربي، حيث يوجد من خاطبهم زياد، وكان رفيقهم دون أن يقابلوه أبدًا. لكنهم لا يملكون سوى أن يقولوا له "كاسك يا رفيق زياد".

 

موقع "المنصة" في

27.07.2025

 
 
 
 
 

موسيقى زياد الرحباني..

حين تتحول النغمات إلى منشور سياسي غاضب

عبد الله فرج

في حوار أُجري معه عام 2018، انفتح زياد الرحباني كما يليق برجل في الـ63 من عمره، يحمل في داخله روح طفل في الرابعة عشرة، يتكلم بجرأة وحرية نادرتين، يعبّر عن رأيه في كل شيء: الفن، الموسيقى، الصحافة، الإعلام الجديد، الرؤساء، السياسات الإقليمية والدولية، العولمة، وحتى عن نفسه، وعن علاقته بوالديه، السيدة فيروز والسيد عاصي الرحباني، اللذين لم يكونا عاديين بأي شكل. بدا كتابا مفتوحا، يجيب على كل سؤال يُطرح عليه دون تردد أو مواربة، كأنه يقطع الطريق على أي تأويل أو سوء فهم قبل أن يبدأ. كان صريحًا إلى درجة تُربك، وربما إلى حد "قلة التهذيب" كما اعتادت أمه أن تصفه، بعبارتها الشهيرة: "بلا مربى".

ابن فيروز وليس ظلها

أن تولد لأبوين فنانين بقامتي فيروز وعاصي الرحباني، فذلك يعني أنك محكوم بالشبه وبالمقارنة، وربما بالامتثال لصورة نمطية معينة. لكن زياد، ومنذ أولى خطواته، قرر أن يكون شيئًا آخر. صحيح أنه كتب لفيروز ولحن لها ألحانا لا تُنسى مثل "عودك رنان"، و"بكتب اسمك يا حبيبي"، و"سألوني الناس" لكنه لم يقف عند حدود الابن الموهوب الذي يكتب لأمه. كان يرى في فيروز أيقونةً، لكنه لم يتردد في معاملتها كـ"مطربة"، تماما كما عرّفها ذات مرة في أحد لقاءاته: "عم بيغنّي مطربتي فيروز"، تعبير يبدو كأنه يرسم حدودا واضحة بين الشخصي والفني، ويؤكد أن فيروز جزء من حياته، لا كلّها.

علاقته بها لم تكن دائما سهلة. خيمت عليها خلافات. لكنها، رغم كل شيء، غنّت من كلماته، واحتفظت بصوته داخل صوتها، كما احتفظ هو بها كصوت لا يشبه شيئًا. يحكي زياد كيف تمكن من الهرب من سلطة البيت وهو بعد في الرابعة عشرة من عمره، كانت الخلافات بين فيروز وعاصي لا يمكن احتمالها، مناوشات يومية وعلاقة تشوبها غيرة الأب التي لا يمكن تحملها، كان يكفي أن يندمج أحد الحاضرين مع جملة غنائية تؤديها فيروز، وأن يعبّر عن إعجابه بعبارة مثل "الله الله"، لتتحوّل الليلة إلى كابوس مزعج لجارة القمر، رغم أنها لم ترتكب ذنبا.

تلك التوترات، التي خيمت على علاقة والديه، دفعت زياد المراهق إلى الهروب من بيت الرحابنة، الذي كان يعجّ بالمسرح والشعر والموسيقى، إلى بيت صديقه ورفيق مسيرته الفنية جوزيف صقر، قبل أن يُكمل الخامسة عشرة من عمره. وهناك بدأ في رسم ملامح طريق فني مختلف، لا يشبه البيت الذي خرج منه، ولا يشبه أحدا سوا.

يكتب مسرحيات ويمثلها يكتب أغنيات ويلحنها وأحياناً يغنيها لو لم يغنها جوزيف صقر، حتى إن إحدى أغنيات فيروز الشهيرة لم تكن لها من الأصل "هدير البوسطة" كانت مكتوبة وغناها جوزيف صقر قبل أن تعجب عاصي الرحباني الذي أصر أن تغنيها السيدة فيروز وهو ما حدث بالفعل.

مثقف متمرد على الجميع

بعدما تمرد زياد على بيت نشأته في كنف عاصي وفيروز، ووسط خلافاتهم اليومية، تمكن من إيجاد صوته الخاص، صوت يتجلى في الموسيقى والكتابة والصحافة والمسرح، استهوته الأفكار الشيوعية فصار سياسيا شيوعيًا، أعلن زياد انتماءه إلى الحزب الشيوعي اللبناني في وقتٍ كان الانقسام الطائفي يأكل كل شيء. تمسّك بفكرة العدالة الاجتماعية، وعادى النظام الطائفي، وانتقد الجميع تقريبًا، من اليمين إلى اليسار، ومن المقاومة إلى اللامقاومة. حتى حلفاؤه لم يسلموا من نقده.

قد يبدو ذلك تناقضًا صارخًا، لكنه في الواقع جوهر شخصيته. فهو مثقف غاضب لا يُراهن على المثاليات، وواقعي لا يعترف بالحلول الوسط. عدوّ للنظام، لكنه في الوقت نفسه مرآة تعكس بصدق تناقضات الناس ومعاناتهم. "أبو الزوز"، كما يحب أن يناديه محبوه، لم يكن مجرد ابن لعاصي وفيروز، بل كان ابن الحرب، ابن الشارع، ابن الأسئلة التي لا تهدأ.

تفجرت مواهبه بالتزامن مع فترة حافلة بالأحداث في المنطقة بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص، حرب السنتين، أو بدايات الحرب الأهلية اللبنانية التي أثرت في كل أبناء جيله وحتى الأجيال الأكبر، فرّ من تمكّن من الهرب إلى خارج لبنان، لكنه ظل في الداخل، يتنقل بين أحيائها، يقدم برامجه عبر إذاعة "صوت الشعب"، ويؤدي مسرحياته التي وصل عددها 7، حيث لم يكن فقط ممثلا عابرا في مسرحه، بل معلّقا سياسيا، وفيلسوف شارع.

نصوصه المسرحية حفلت بالنقد، من "نزل السرور" إلى "فيلم أميركي طويل" وأغنيتها الشهيرة "يا زمان الطائفية"، ومن "بالنسبة لبكرا شو؟" إلى "شي فاشل"، رسم صورة لبنانية مرّة، لكنها مضحكة. هذا الضحك الأسود كان، في الغالب، محاولة للبقاء والتنفس تحت وطأة حرب أهلية بين الطوائف. يجسدها شخصيات مألوفة: البائع، الموظف، المثقف الفاشل، المتدين المتعصّب، الزعيم الفاسد. الجميع يمرّ عبر غربال زياد، والجميع يُعرّى.

موسيقى تمزج بين أرواح العالم

رغم أن أول أعماله الموسيقية كملحن كانت "سألوني الناس" التي ألفها ولحنها وهو بعد في السابعة عشرة من عمره، بروح من الموسيقى الرحبانية، لكنه سرعان ما انفتح أكثر على موسيقات من أنحاء العالم؛ موسيقى تحمل أرواح شعوبها، الجاز والبلوز، والموسيقى الكلاسيكية الشرقية والغربية، سيد درويش وبيتهوفن، وواصل رحلته في المزج بينها على مدار عمره ما بين ألبومات موسيقية منفردة أو ألحان له ولغيره، لكن زياد لم يرَ في الموسيقى مجرد حرفة، بل كانت سلاحًا. كان البيانو بندقيته، والنغمة منشورًا سياسيًا. ففي أواخر السبعينيات، قدّم مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟"، التي بدت كأنها تلخيصٌ عبقري لفوضى الحرب الأهلية، ولعبث الطبقة السياسية، وانكسار الإنسان اللبناني. موسيقاه منفتحة بين عوالم الموسيقى وألوانها، تسخر من التصنيفات: مزيجٌ من الجاز، والمقامات الشرقية، والإيقاعات اللاتينية، والارتجال الأوبرالي، وكأنها تعكس شخصه القلِق، والرافض للثوابت.

هو أيضًا من القلائل والرواد الذين عربّوا الجاز و"شرّقوه" من دون أن يُفقدوه روحه. لم يكن مقلدًا، بل متمرّدًا في كل نغمة. يكفي أن تسمع افتتاحية "اسمع يا رضا" أو مقاطع من "العقل زينة" لتدرك أنك أمام موسيقي يرى العالم من زاوية مختلفة، ولكنها صادقة، صدق دفع البعض حين يسمع السيمفونية الرابعة لبيتهوفن لأن يتذكر على التو أغنية "يا أنا" للسيدة فيروز.

"شو هالجيل!" جيل الحرب

عرف اللبنانيون الحرب الأهلية ككابوس متواصل، أما زياد فعاشها كمادة خام لإعادة التفكير في كل شيء. دمّرته، لكنها غذّته وغذّت أفكاره السياسية. لم يغنّ للحرب ببطولية، بل بالسخرية والتشريح. صوته المتهكم في أغنية "أنا مش كافر" ليس تبريرا دينيا، بل اعتراف سياسي ونقد كامل لكافة الطوائف والمنتمين لها. الحرب عنده ليست جغرافيا ولا طوائف، بل لعبة مصالح تسحق الإنسان وهو وغيره تحت وطأتها، وهو ما شكّل فلسفته ورأيه في الحياة، ربما لم يكن زياد فيلسوفًا أكاديميًا، لكنه بالتأكيد شحن فنونه ومقالاته بأسئلة كبرى: عن الوجود، والحرية، والمعنى، والجنون. في مقابلاته كان كثير التهكم، يجيب بسؤال، أو بسخرية تشبه الحكمة. فـ"شو بدّك بالحكي؟" ليست فقط جملة عابرة، بل صيغة وجودية تختصر حالة شعب خائف من الكلام، ومن المعنى ويبحث عن المضمون والجدوى.

حتى في عز مجده، كان زياد يجلس بين الناس، في المقاهي البيروتية، في الجميزة أو الحمرا، يتأمل الحياة، كأنه أحد شخصياته التي كتبها أو جسدها: منهك، ولكنه ما زال يراقب.

كان زياد الرحباني ظاهرة، لا تشبه أحدا. ابن فيروز الذي أحبّها بطريقته، وعادى العالم بطريقته، وابتكر موسيقاه كما يكتب الإنسان وصيته الأخيرة: صادقة، ناقصة، لكنها خالدة، زياد الرحباني كان أكثر من ملحن وكاتب ومسرحي، كان ظاهرة ثقافية وسياسية، صوتًا لا يهادن ولا يساوم، اختار الفن طريقا، والموسيقى منصة، والمسرح ميدانًا، لفعل نقدي يواجه الواقع بجرأة. رحل اليوم، لكن صوته باق حيا في أغنياته، على خشبة المسارح، وفي أروقة المقاهي اللبنانية، وفي ذاكرة كل لبناني وعربي وأحبه ووجد في أغنياته وإرثه شيئًا من نفسه.

المصدرالجزيرة

 

الجزيرة نت القطرية في

27.07.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني: عبقرية الموسيقى والسخرية والتمرّد

زاهي وهبي - المصدر: الميادين نت

اليوم، ونحن نودع زياداً، نكتشف أن صوته كان نبضاً جمعنا كأجيال متلاحقة. مسرحياته حوّلت وجع الحرب إلى ضحكةٍ مبلسِمة، وأغانيه رسمت لهفتنا وعنادنا وتوقنا إلى الحرية والعدالة والمساواة.

في غرفنا المتواضعة، في خنادق القتال، في ملاجئ الخوف والرطوبة، على هدير الطائرات المعادية وأزيز الرصاص ودوي المدافع، وعلى هدير البوسطة، وعلى صوت فيروز أو جوزف صقر... في كل زوايا حياتنا المرتبكة، كان صوته وموسيقاه، أغنياته ومسرحياته، رفاق الأيام الحلوة والمرّة على السواء.  

من شقته المتواضعة في منطقة الحمرا، حيث رائحة القهوة تختلط بأصوات الجيران وعابري السبيل، كان يعزف على بيانو عتيق أنغاماً معجونة بخميرة الحياة اليومية للناس المسحوقين الذين انتمى إليهم طوعاً لا قسراً. وقبل ذلك بين جدران البيت الرحباني الذي احتضن أحلام لبنان الجريح، وُلدت عبقريته الفذّة وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، لحّن "سألوني الناس" لفيروز، بينما كان والده الأسطوري رهين المستشفى. كانت تلك اللحظة بشارة ميلاد نغم جديد في السمفونية الرحبانية، يحمل رصانة التراث بروحٍ متمرّدة. نغمٌ متفرّد خرج من رحم الألم الخاص المعمّد لاحقاً بالوجع والفقدان ليُعلن أن الإبداع وريثٌ لا يُقهر.  

عبقرية زياد الموسيقية تمثلت في أعماله المختلفة، ولكن بشكل خاص في قدرته على تجديد أسطورة فيروز من دون تمزيقها. ففي التسعينات، قدّم لها "كيفك إنت" وما تلاها من أغنياتٍ نقلتها من أيقونةٍ شبه مقدسة إلى رفيقةٍ حاضرةٍ في قلوب الأجيال الشابة. سحب صورتها من السماء الشامخة إلى الأرض المتعَبة لتصير قريبةً من شباب الزمن السريع، تتكلّم بلغتهم وتغنّي همومهم العاطفية كأنها شابةٌ لا تزال تعيش الحب وحلاواته ومراراته، بل حتى سأم العاشقة ولامبالاتها أحياناً، بصوتها العابر للزمن.  

لكن زياداً لم يكن مجرد ملحّنٍ عبقري. لقد حوّل خشبة المسرح إلى مرآةٍ تكسر أقنعة المجتمع. في "نزل السرور" و"بالنسبة لبكرا شو؟" و"شي فاشل"، مزج السخرية اللاذعة بالوجع الإنساني، فجعل من سائق البوسطة والبائع المتجول أبطالاً يفضحون فساد السياسيين وتناقضات الحرب.  

كانت خفة دمه على المسرح سلاحاً يواجه ثقل دم الساسة، وزيف العلاقات الاجتماعية. ففي "مربى الدلال" حوّل انهيار زواجه إلى هجاءٍ اجتماعي، وفي "فيلم أميركي طويل" جسّد ببراعةٍ ذلك المواطن البسيط الذي يسخر من هوسنا بالغرب. ضحكته كانت رصاصاتٍ مباشرة في الظلم والظالمين.

كنا مراهقين نجمع "خرجياتنا" (مصروفنا اليومي) كي ننزل من ضيعنا وقرانا إلى بيروت ونشتري التذاكر كي نشاهد مسرحيات زياد ونحن نصهل ضحكاً على وجعنا ومآسينا وما ابتُلينا به من آفات الطائفية والطبقية والحزبية الضيقة التي لا ترى أبعد من أنفها الذي صار أطول من أنف "بينوكيو".

وفي غمرة الحرب الأهلية، اخترع زياد مع صديقه جان شمعون ثنائياً أسطورياً في "بعدنا طيبين قول الله". هناك، من ذلك الاستوديو المحاصر بالنار والبارود في قلب الإذاعة اللبنانية، حوّل الأثير إلى خندقٍ للمقاومة بالكلمة. لم يكتفِ بفضح فساد الزعماء والساسة، بل كان صوته صارخاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي وداعماً للمقاومة في الجنوب، وكأن ميكروفونه بندقيةٌ تطلق كلمات الحق.  

كلماته الصادقة عبر أثير الإذاعة اللبنانية (ثم بعد سنوات في إذاعة "صوت الشعب") كانت شجاعةً نادرة، كما كان انضمامه للحزب الشيوعي بعد مجزرة تل الزعتر (1976) تعبيراً عن التزامٍ لا يتزعزع: فلسطين جرحه الأول، ومقاومة الإمبريالية عقيدة لا يتنازل عنها. ظل مع المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في جميع مراحلها وراياتها، في لحظات الانكسار والهزائم وفي زمن الانتصارات، وقف زياد مع الذين حملوا السلاح دفاعاً عن تراب لبنان، معتبراً أن كلمته وفنه سلاحٌ موازٍ في المعركة ذاتها. لذا لم تكن مفاجئة إطلالته في "مهرجان النصر" في الضاحية الجنوبية لبيروت إثر العدوان الإسرائيلي في العام 2006.

ومع رفيق دربه جوزيف صقر (ومع سامي حواط) نسج أغانيَ صارت نشيداً لكل المهمشين. مزج نبرة صوت جوزف الحنون والساخر في آن بألحانه التي زاوَجت بين العود والبيانو، فخلقت لغةً موسيقيةً عابرة للتصنيفات. أعماله وموسيقاه لم تكن مجرد أغنيات، بل هتافاتٌ لحنيةٌ تدعم صمود الناس تحت القصف، وتخلد بطولات المقاومين في القرى المحررة.  

بعد صحيفة "السفير" وجد ملاذه الأخير في جريدة "الأخبار". بكلماتٍ عاميةٍ جريئة، سخَر من انقطاع الماء والكهرباء والطائفية. لكن سخرية زياد كانت دائماً خندقاً مفتوحاً للدفاع عن القضايا العادلة من دعمه الثابت للمقاومة الفلسطينية، إلى مناهضته التطبيع مع الاحتلال، وصولاً إلى سخريته اللاذعة من تفاهة الساسة وزعماء الطوائف.

ظلّ زياد صادقاً مع نفسه حتى الرمق الأخير. حين أثقل المرضُ العضال جسدَه تقوقع في صمته وعزلته، مبتعداً عن الأضواء والمجتمع والناس، كما لو كان يختار بكراهيته المعهودة للرياء والتصنّع أن يودّع الدنيا على طريقته، بعيداً عن الضجيج والابتذال. كان غيابه الطوعي المفعم بالكرامة استمراراً لتحدّيه لكل أشكال الزيف، حتى في مواجهة آلامه ووحدته.

اليوم، ونحن نودع زياداً، نكتشف أن صوته كان نبضاً جمعنا كأجيال متلاحقة. مسرحياته حوّلت وجع الحرب إلى ضحكةٍ مبلسِمة، وأغانيه رسمت لهفتنا وعنادنا وتوقنا إلى الحرية والعدالة والمساواة. برحيله، لم نخسر فناناً عبقرياً فقط، بل خسرنا مرآةً ناصعة رأينا فيها وجوهنا المشوّهة بجمالٍ لا يوصف، وضميراً ظلّ يهتف فينا: "بيقولوا لبنان بلد التعايش.. بس ما حدا عايش".  

بيانو غرفته في الحمرا سيظلّ يعزف من تلقاء ذاته لأنه ساكن في حنايا قلوبنا وذاكرتنا. رحل الجسد المتعَب لكن نغمه صار لحناً في ذاكرة وطن، وضحكةً في عتمة الليل، وصوتاً يهمس في أذن كل ثائر: إنّ الضحك في زمن الموت مقاومةٌ، والموسيقى في زمن القبح ثورةٌ، والسخرية سلاح من لا سلاح له، وأن دعم المقاومة ضد المحتل واجبٌ حتى ولو بمفاتيح بيانو

شاعر لبناني وإعلامي في قناة الميادين.

 

الميادين نت في

27.07.2025

 
 
 
 
 

تفاصيل جنازة زياد الرحباني.. وفيروز تلقي نظرة الوداع الأخيرة

صلاة الجنازة ستكون في كنيسة "رقاد السيدة" في المحيدثة بكفيا في لبنان

لبنان - العربية.نت

أعلنت عائلة الرحباني عن موعد جنازة الفنّان الراحل زياد، الذي سيشيع غدا الاثنين إلى مثواه الأخير، بعد أن فارق الحياة، صباح السبت، عن عمرٍ يناهز 69 عامًا.

ونعت العائلة فقيدها وأوضحت أن موعد صلاة الجنازة سيكون في كنيسة "رقاد السيدة" في المحيدثة، بكفيا في لبنان، في الرابعة بعد ظهر غد الاثنين.

وسينتقل نعش زياد غدا من مستشفى الخوري في منطقة الحمراء وسط بيروت، إلى بلدة بكفيا في المتن، حيث سيقام قداس في الكنيسة.

ومن المتوقع أن تلقي النجمة اللبنانية فيروز نظرة الوداع الأخيرة على نجلها.

كما ستُقام مراسم العزاء في الكنيسة نفسها، يوم الاثنين من الساعة 11 صباحا حتى السادسة مساء، ويُستأنف استقبال المعزّين في اليوم التالي، الثلاثاء، في التوقيت ذاته، بحسب تقارير محلية.

أعلن مستشفى خوري، حيث خضع زياد الرحباني للعلاج، في بيان رسمي، أنه في تمام الساعة التاسعة من صباح أمس، «فارق زياد عاصي الرحباني الحياة. وقد تم إبلاغ العائلة الكريمة على الفور».

وأضاف المستشفى: «إن القدر شاء أن يرحل هذا الفنان الاستثنائي، الذي شكّل بصمة فارقة في تاريخ الفن والمسرح والموسيقى اللبنانية».

وعانى زياد الرحباني من صراع طويل مع المرض، وتحديدا تليّف حاد في الكبد أثر على نشاطه الفني.

ونعاه رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون ورئيسا الحكومة ومجلس النواب نواف سلام ونبيه بري. كما نعاه بكلمات مؤثرة عدد كبير من الفنانين في جميع أنحاء الوطن العربي.

من هو زياد الرحباني؟

وزياد الرحباني هو نجل السيدة فيروز والراحل عاصي الرحباني ويُعد أحد أبرز المجددين في الأغنية اللبنانية والمسرح السياسي الساخر. بدأ مسيرته الفنية مطلع السبعينيات، حين قدم أولى مسرحياته الشهيرة "سهرية".

والراحل الذي ولد في 1 يناير (كانون الثاني) عام 1956 لحن ووزع العديد من الأغاني لوالدته السيدة فيروز، شكلت مرحلة جديدة ومختلفة في مسيرتها الفنية، إضافة إلى تعاونه مع عدد من الفنانين.

كما تميزت أعماله المسرحية بالكثير من النقد السياسي والاجتماعي المصاحب للفكاهة وخفة الظل.

 

العربية نت السعودية في

27.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004