ملفات خاصة

 
 
 

زياد... و"قبلة الوداع" لمصر

القاهرة - ياسر خليل

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

المصريون افتقدوا زياد الرحباني منذ آخر حفل له مع المطربة لطيفة، والذي كان بمثابة "قبلة وداع" لجمهوره في مصر.

ترك خبر وفاة الموسيقار والمسرحي الكبير زياد الرحباني حالة تمزج بين الحزن العميق على غيابه، والشعور بالتقدير البالغ له كحالة إنسانية وفنية فريدة.

تجلّت هذه الحالة في مصر من خلال صور عدة، منها ما ظهر في عبارات الرثاء التي نشرها فنانون وكتّاب وشخصيات عامة، ومنها ما تجلّى في فيض عناوين الأخبار التي بثّتها وسائل الإعلام المصرية على مدار الساعة.
لكن أكثر الصور لفتاً للانتباه ولمساً للمشاعر، جاءت في كلمات بسيطة تفوح منها رائحة الحب العفوي، كتبها أشخاص بعيدون عن الأضواء، يسطرون في صفحاتهم الشخصية كلمات تلقائية، وكأنما يسجلون خواطرهم لأنفسهم، وربما لعدد محدود من الأصدقاء والمتابعين
.

حضور ظلّ كامناً في القلوب، رغم غياب الرحباني لسنوات عن حفلاته الأسطورية في مصر، وندرة ظهوره في وسائل الإعلام المحلية.

الناقد الفني عماد يسري يرسم الصورة الذهنية التي بقيت راسخة في عقول كثيرين، وكانت دافعاً لحالة الحزن والتقدير في آنٍ، ويقول لـ"النهار": "زياد الرحباني، مجدّد وفيلسوف موسيقى العصر الحديث، الملهم، والثائر، الساخر بآرائه دائماً، الذي ترك في وجدان الشعب العربي ذكريات خالدة، لا تُنسى".

صورة عفوية

في الصورة العفوية التي رسمتها كلمات محبّيه، لم يُقدَّم الرحباني كابنٍ للأسرة الفنية العريقة التي صنعت مجداً إبداعياً خالداً في لبنان والعالم العربي بأسره، ولم يُركَّز كثيراً على كونه نجل الموسيقار والمسرحي والشاعر المبدع عاصي الرحباني، وابن جارة القمر فيروز، التي لا يزال صوتها الشجي يشدو في ربوع مصر.
ظهر زياد الرحباني فرداً متفرّداً، يقول: "ها أنا ذا"، حالة إنسانية وفنية استثنائية، معشوق بكل تفاصيله، بثورته، وبحزنه المتجلّي في عينيه
.

في إحدى جنبات الصورة العفوية، رسمت سيدة مصرية مشاعرها بكلمات بسيطة على صفحتها الشخصية في موقع "فايسبوك"، ,تحمل الصفحة اسم "أمولة القاضي". أرفقت السيدة مقطعاً صوتياً للرحباني يتحدث فيه باللهجة اللبنانية العامية، المحببة لكثيرين هنا. وكتبت: "هذا التراك كان بداية معرفتي بصوت زياد الرحباني، منذ سنوات وله معزّة خاصة في قلبي، ومن بعده أحببت صوته، بكل بساطته وصدقه، وحتى نشازه أحياناً".

وفي تدوينة تحت عنوان "زياد الرحباني... رحل الصوت الذي كان يشبهنا"، كتب صحافي الفيديو إبراهيم رياض على "فايسبوك": "لم يكن زياد الرحباني مجرد ابنٍ لفيروز وعاصي، ولا مجرد امتداد لعائلة صنعت مجد الأغنية اللبنانية، بل كان حالة فنية وإنسانية نادرة، صاخبة، حالمة، ساخرة، وغاضبة... تماماً كما نحن".

"قبلة وداع"

يواصل يسري حديثه، ويشير إلى أن المصريين افتقدوا زياد الرحباني منذ آخر حفل له مع المطربة لطيفة، والذي كان بمثابة "قبلة وداع" لجمهوره في مصر.

أُقيم الحفل قبل نحو سبع سنوات، وحضره كوكبة من نجوم الفن الكبار والصاعدين، وقد حظي بإقبال واسع من الجمهور، رغم ارتفاع أسعار تذاكره، إذ جاء بعد غياب المبدع اللبناني لسنوات عن إقامة حفلاته التي كان ينتظرها جمهوره المصري بشغف.

ونشرت الفنانة لطيفة تغريدة تنعى فيها الرحباني، قالت فيها: "أحببت الفن والإبداع من خلال أعمالك، خسارتنا كبيرة جداً. كم كان عندي أمل أن يكون كل شيء على ما يرام، لكن قدر الله وما شاء فعل. حزن كبير يا أغلى من عرفت في حياتي".

 

####

 

زياد الرحباني... انتفاضتان وإبادة

فلسطين- مرال قطينة - المصدرالنهار

كم كنّا بحاجة إلى زياد لنكسر حواجز الوعي بين الاحتلال والحرية، بين الممنوع والمرغوب، والمسموح و"التابو".

لم يكن زياد الرحباني فناناً عادياً؛ كان مختلفاً بفنه، وبكونه ابن فيروز وعاصي. كان متمرداً على كل القوانين والأنظمة الدينية والاجتماعية، وعلى كل ما يمكن أن يكون "عادياً" في هذه الحياة. لم يكن يوماً من القطيع، لا كإنسان ولا كفنان. كان متميزاً، له فلسفته الخاصة، وكان مزيجاً من تشي غيفارا وكارل ماركس. كان ذلك الطيف الخفيّ الذي يخترق الوجدان سريعاً.

كم كنّا بحاجة إلى زياد لنكسر حواجز الوعي بين الاحتلال والحرية، بين الممنوع والمرغوب، والمسموح و"التابو". كان مزيجاً من الكوميديا السوداء والسخرية من واقع مرير، ومن الاصطفاف مع المظلومين والمضطهدين في مواجهة كل السلطات الشمولية والأنظمة الديكتاتورية. كان صادقاً، حقيقياً، لا ينافق أحداً، وله رؤيته الخاصة في الحياة، والحرب، والطائفية المقيتة، والعنصرية. نقل مشاعره بصدق، وتأثّرنا به وعشنا تفاصيله في فصل جميل من حياتنا. أحببناه لأنه زياد... "أبو الزوز" كما ناداه محبّوه، بحكم العِشرة، واستحق هذا اللقب المحبّب لأنه القريب البعيد.

بدأت معرفتي بزياد في عمر مبكر، لأسباب كثيرة، من أهمها أن المذياع الذي كان رفيق العائلة لا يُغلق أبداً. في منتصف ثمانينيات القرن الماضي – كم يبدو ذلك بعيداً! لكنه الأمس القريب – لم تكن هناك شبكة عنكبوتية تقرّب المسافات وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة.

كنّا نستمع لإذاعة "مونت كارلو" من باريس، فدغدغت أغنيات زياد الحواس وألهبت المشاعر الثورية. ومع بداية الانتفاضة الأولى واشتداد حدتها أواخر عام 1987، بدأ وعيي السياسي يتشكّل سريعاً؛ ووسط حركة العصيان المدني التي عمّت الضفة الغربية والقدس وإغلاق المدارس، كان لا بد من إيجاد روتين مختلف لحياتي.
كنت أحمل كتبي وملفاتي، التي كنت أستلمها سراً من المدرسة، وأشقّ طريقي إلى مكتبة رام الله العامة، حيث أقضي يومي أدرس وأقرأ وأبحث بين الكتب
.

في الطريق، كنت أمرّ مباشرة بـ"ساوند أوف ميوزك"، أحد أشهر محال بيع الأسطوانات والكاسيتات الموسيقية في رام الله، وكان يملكه الراحل توفيق البومباشي، صاحب الذوق الرفيع. كنت أسأله عن آخر الإصدارات، فكثير من الألبومات آنذاك كانت ممنوعة، نشتريها خلسة، بلا غلاف أو طابع يدل على محتواها، ومنها ألبومات زياد الرحباني، ومارسيل خليفة، وأحمد قعبور، والشيخ إمام. وبعد الشراء، كنت أضع الكاسيت في "الوكمان" الذي أهدتني إياه جدتي من الولايات المتحدة. كانت ثنائية جوزيف صقر وزياد رفيقتي اليومية.

حتى في أيام الإضرابات أو منع التجوال، كنت أتسلّق الشجرة خلف البيت، وأجلس بالساعات مع كتبي، وكان زياد رفيقي هناك أيضاً. أستمع لكل ما يمكن الحصول عليه من أغنياته ومسرحياته.

في الانتفاضة الثانية عام 2000، وفي مرحلة النضوج، لم يغب زياد عن وجداني. كنت أبحث عنه أكثر، أغنيات، مسرحيات، مقابلات. أذكر أننا كعائلة انتظرنا لقاءه الطويل مع الراحلة جيزيل خوري، الذي استمرّ ست ساعات على حلقتين، وكان حديث الناس لأيام.

بعد انتقالي إلى باريس، كانت مسرحيات زياد رفيقة نهاية الأسبوع: "نزل السرور"، "فيلم أميركي طويل"، "ميس الريم"... كانت تخفف من وطأة الغربة وتترك تلك اللمسة التي تشعرني بالانتماء إلى مكان وثقافة رغم البعد. ببساطة، لم يغب زياد يوماً، كما لم تغب السيدة فيروز عن صباحاتنا.

ولا ننسى أن كثيراً من الفرق الموسيقية الفلسطينية تأثرت بفلسفة زياد ونهجه، أبرزهم فرج سليمان في أغنيته "إسا جاي"، وألبومه "أحلى من برلين".

اليوم، في زمن الإبادة الجماعية والنكبة المستمرة، تحولت كلمات زياد: "أنا مش كافر، بس الجوع، والذل، والقهر كافر"، إلى عنوان فصل كارثي نعيشه وسط حرب ومجاعة تجاوزت 22 شهراً. تجد تلك الكلمات متجلّية في كل مكان. واقعية زياد السريالية تطفو وسط إيديولوجيا التعتير، في بلدٍ كله مهزوز.

الكلمة واللحن... رفقة أجيال

يقول الصحافي الفلسطيني في إذاعة "مونت كارلو" يوسف حبش، لـ"النهار": "عندما استضفنا زياد في برنامج ’هوى الأيام‘، بدأت أستعيد الذكريات تدريجاً. الأغاني التي سمعتها أول مرة كانت في جامعة بيرزيت، خلال فترة العمل الطلابي، خصوصاً أثناء إضراب الطعام دعماً للأسرى. أغنية ’أنا مش كافر‘ ظلت ملتصقة بذاكرتي".
ويتابع حبش: "أغاني زياد وكلماته الناقدة للواقع اللبناني والعربي وارتباطها بالقضية الفلسطينية رافقتنا في تكوين هويتنا الوطنية. حتى عندما التقيته في باريس، وأثناء تبادلنا سريعاً للكلمات، لم أتذكر أن لقاءنا كان في بيروت، وكان الشعور وكأنني ألتقيه للمرة الأولى". ويضيف: "اليوم مع عودة الذاكرة بقوة لكل ما يمثله لنا زياد، أذكر صورته على المسرح في شارع الحمرا، حيث دعيت من بعض الرفاق في الحزب الشيوعي اللبناني لحضور ذكرى جمول والاحتفال المركزي". ويتابع: "كان زياد حاضراً يومها، وكان شعوراً ممزوجاً بين الفرح والترقب بكل الحواس. أن تكون حاضراً لتسمع كل كلمة، وكل تنهيدة ونفس، وكل نقد موسيقي، وكلمات تحملك من المكان الذي عشت تستمع فيه لصوته لتراه أمامك بصوته وجسده وصورته. إنه شعور مختلف
".

ويستذكر حبش: "في ختام الحفلة، قدّم زياد فرقة موسيقاه عبر طوائفهم، شيعي، سنّي، درزي، مسيحي أرثوذكسي وكاثوليكي... في نقد صريح للطائفية اللبنانية. وعندما ذكر الأرثوذكس، أشار إلى جورج حبش ووديع حداد، ليختم بذكر فلسطين ومبادئها وقيمها".

كان زياد حالة تربوية وفنية وفكرية لن تتكرر، كما كثير من الرموز اللبنانية والعربية اليسارية. للأسف، رحل زياد ولم يلتقِ جورج، وجورج لم يلتقِ زياد. هل في ذلك مغزى؟ بالتأكيد، فلبنان احتضن جورج، وسيودّع زياد، وبينهما فلسطين، واليسار، والمنطقة، وكل القيم التي تربّينا عليها... ستبقى حيّة، بوجودهم، وبرحيلهم.

 

####

 

"همسات" زياد الرحباني لناديا تويني عن حرب لبنان

شربل بكاسيني - المصدر: "النهار"

شعر ناديا تويني وفلسفة زياد الرحباني وثّقا قساوة الحرب.

بيروت، 1980. المدينة خلّعتها الحرب، حطّمتها، سحقت شيئاً من روحها. يجول المخرج الراحل مارون بغدادي في شوارعها برحلة، محاولاً فهم هذا اللبنان المتصدّع من خلال صوت شاعرة مرهفة، ميلانكوليّة، هي ناديا تويني. الكاميرا مرآة لجيل ضائع يبحث عن خلاصه وسط الأنقاض.

واسم الفيلم القصير "حنين إلى أرض الحرب". وغسان تويني، يوم كان مندوباً للبنان لدى الأمم المتحدة، شاء أن يعرضه أمام أعضائها. "كان الفيلم مصوّراً قبل فترة، إلا أنّه كان محجوزاً وممنوعاً لأنّه ضدّ الحرب"، يقول في كتابة "سرّ المهنة وأسرار أخرى" (دار النهار للنشر)، "نعم لأنّه ضدّ الحرب، يفضح تخريبها لبيروت ولبنان ويبشّر بعودة الحياة".

بعد وفاة ناديا (1983)، أعاد مارون طرح الفيلم على غسان. كانت الشاعرة التي هشّمت الحروب والمآسي روحها قد كتمت أمره عن زوجها خشية ألّا يوافق على مجازفتها هكذا بصحّتها وسلامتها. و"حنين إلى أرض الحرب" توسّع وصارت مدّته ساعة ونصف ساعة، وصار اسمه "همسات". شارك في السيناريو والنص الشاعر أنسي الحاج، وفيه أحاديث حيّة مع عدد كبير من الأدباء والفنانين ورجال الأعمال... ومنهم زياد الرحباني.

"توحي الحوادث اللبنانية أموراً ثمّة صعوبة في معالجتها، كون الظروف ما زالت مستمرّة"، يقول زياد على حافة البيانو. وناديا وبغدادي يصغيان، والحرب دائرة. "إذا أخذ أحدهم مشكلة وأراد معالجة كل جوانبها لتكون واقعية ضمن مسرح واقعي، يشعر أنّ ثمّة ما لا يمكن أن يقوله، بكلّ بساطة". هكذا شاء زياد المتمرّد أن يختصر فلسفته لمقاربة الواقع المأزوم مسرحيّاً. يلفت لى أنّ "التسمية والأسماء لا تزال صعبة، وثمّة حالة من الفوضى المسلّحة في البلد، وحالة من اللاديموقراطية الناتجة من هذه الفوضى، بعكس التصوّر أنّ الحرّية موجودة". الحرّية في عينيه كانت "تميل إلى الفلتان أكثر من كونها حرّية قول حقيقية"، ولا يتصوّر "أنّ أيّ طرف يتقبّل الحقيقة ويقوم بردّة فعل على الذي يُقال له".

زياد يُمثّل الشعب البسيط الغارق في الأزمات. كان مسرحه صوت المستضعفين والمأزومين و"الطفرانين" الذين لا يملكون شيئاً. "ثمّة حالة من الضياع مطبوع بها أيّ شخص منّا"، قال أمام كاميرا بغدادي، "ولم تعد تعرف حقّاً كيف تحوّل مجرى الأحداث. الوضوح قبل الحرب فاق الوضوح في الفترة هذه، وتشعر أنّ مواقع الأفرقاء معرّضة بين لحظة وأخرى للانقلاب نحو العكس تماماً".

ويقول زياد: "المستقبل لا أراه أصلاً". وتنتقل الكاميرا إلى ناديا التي تُعاين أشلاء بيروت. وغسان تويني يتذكّر أنّه "لما عُرض الفيلم على التلفزيون اللبناني للمرة الأولى، وفي مرّات تالية، كان له ولا يزال أثر بالغ". وشعر ناديا تويني وفلسفة زياد الرحباني وثّقا قساوة الحرب، وفيلم مارون بغدادي لا يزال يُعرض، و"نتفليكس" أتاحت مشاهدته قبل سنوات، وما زلنا نتأمّل به لفهم الحاضر والماضي.

 

####

 

"دقيقتين من وقتك"...

المصدرالنهار - د. محمّد ماجد *

لم أكن أفهم شيئاً ولكنّني حفظت الأشرطة عن ظهر قلب، فقد استمعت إليها كلّما هدر مولّد الكهرباء، ومولّد الحرب الأهليّة يهدر كلّ يوم، إلى اليوم، وإن بأشكال مختلفة!

كان المولّد الكهربائيّ الخاصّ بأحد الفنادق في الحمراء يقع تحت نافذة غرفة نومي، لم يكن يومها كواتم صوت، وكانت الكهرباء تزورنا في المناسبات، وكانت حربٌ أهليّة.

لم أكن أستطيع النوم، ولم تكن يومها وسائل متقدّمة لسدّ الآذان بسمّاعات Active Noise Cancellation ولذلك كان هدير مولّد الكهرباء والحرب الأهليّة ضيفيّ الدائمين.

 كان هناك اختراع اسمهWalkman  وهي مسجّلة صغيرة بسمّاعات أذن كبيرة. صمّدت من مصروفي شهوراً لأشتريها. وكان ثمّة أشرطة لا واحد منها يشبه الآخر، مخبّأة في صندوق قديم ومكتوب عليها: بعدنا طيّبين قول ألله! سألت أبي فقال: هذه أشرطة ممنوعة لزياد الرحباني!

ممنوعة؟ سأسمعها كلّها!

كانت الثمانينيّات، وقد مضى على تسجيل هذه الحلقات في الإذاعة اللبنانيّة تحت القصف، عشر سنوات، هكذا عرفت لاحقاً. صوتان في الأشرطة: شابٌّ ظريف بلكنة المنطقة الشرقيّة وكهل طريف بلكنة زحلاويّة لذيذة، زياد الرحباني وجان شمعون.

"أنا شايفتك قاعد مش صامد... إيه صامد عالقاعد! وفي زبالة بتحطّ كولونيا! وكولومبوس يسرد في جزيرة ويقول: ألله يلعن السّاعة اللي اكتشفتك فيها! وفنّانين لبنان، يا عيني على فنّانين لبنان! أهل الأريحة والأريحيّة... وقهوة الهورس شو اللي عم يكبكبو فناجين القهوة... واختلط الحابل بالنّابل، سوريّا بتبعتلك ردع ومصر بتبعت فلافل!".

لم أكن أفهم شيئاً ولكنّني حفظت الأشرطة عن ظهر قلب، فقد استمعت إليها كلّما هدر مولّد الكهرباء، ومولّد الحرب الأهليّة يهدر كلّ يوم، إلى اليوم، وإن بأشكال مختلفة!

ثمّ اكتشفت ثلاثة أشرطة صفراء لدى بائع على العربة: "فيلم أميركي طويل"! ما إن قرأت زياد الرحباني على غلافها حتى اشتريتها وانضمّت إلى مجموعة الواكمان، ولم أقتنع أنّ رشيد هو نفسه زياد وإلى الآن أظنّه كان الحكيم، بيار جماجيان. ثمّ أدركت لاحقاً أنّ زياد هو رشيد والحكيم معاً!

وتوالت الاكتشافات: كلّ كلمة قالها أو عزفها زياد صارت معي وفي أذنيّ... لدرجة أنّني كدت أشارك بتمثيل مسرحيّاته مع طلّاب الجامعات لولا انشغالي بالعمل، فقد كنت أدرس قبل الظهر وأعمل بعده.

زياد الرحباني كان يقولني في كلّ شيء... حتّى إنّه كان يقول ما سأقوله حين أكبر وأفهم الحياة أكثر... كنت من قلّة يفهمون أنّ زياد ليس ظاهرة طريفة فحسب، وليس مجرّد معلّق ساخر على الأحداث. هو صاحب فهم عميق لما يجري، فهم نابع من روح شفيفة تخلو من العقد، وعقلٍ مثقّف موسوعيّ ورجلٍ مبدئيّ عنيد. كنت أستمع إلى مسرحيّاته المسجّلة على أشرطة وأرسم بنفسي الديكور ووجوه الشخصيّات، وأذوب شوقاً لأشاهد مسرحيّة منها... حتّى أعلن عن مسرحيّة "بخصوص الكرامة والشّعب العنيد"، فشاهدتها 10 مرّات في مسرح البيكاديلليّ وأختيها: "لولا فسحة الأمل"، و"الفصل الأخير". لم أفهم كلّ شيء، ولكنّني فهمت أنّه يقول الكثير، وأنّ كثيرين لم يفهموا ما يقول، ومع ذلك ينتقدون بعنف... من الأمور التي لم أفهمها إقحام الكهرباء في عمل مسرحيّ رؤيويّ، أليست تفصيلاً في بناء الوطن؟ وأدركت لاحقاً أنّها مجرّد رمز يكثّف العقليّة التي ستدير البلاد عقب الحرب الأهليّة، التي انتهت فصولها مطلع التسعينيّات وبدأت فصولاً جديدة لا تنتهي. وذهبت للقاءاته الحواريّة حول المسرحيّات الجديدة ولم يتسنّ لي تقبيل زياد في جبينه، وإلى الآن أفهم المزيد كلّما شاهدت وسمعت ما كان يقول، وأقول في نفسي سيأتي يوم أجتمع فيه، فلا أزعجه بالثرثرة وإنّما أكتفي بتقبيل جبينه.

في ساحة رياض الصّلح، متضامنين مع الإضراب عن الطعام لموظّف لم يلتفت إليه أحد، جاء زياد! كان حلماً تحقّق! كنت كطفل في غرفة ألعاب ولديه دقائق ليختار اللعب التي يحبّها، فإذا كلّ اللعب يحبّها، فيعجز عن الاختيار! كنت يومها مشغولاً بفكرة الشيوعيّة المؤمنة، فسألته... قال لي: القيم الإنسانيّة نفسها! بعد سنوات طويلة، وقبيل الانهيار الكبير، رأيته في مقهى بالأشرفيّة، هجمت عليه بلا وعي سائلاً: أريد دقيقتين من وقتك! أجاب، ممسكاً ظهره من ألم ظاهر على وجهه: دقيقتين؟ شو قلال الدقيقتين؟ أدركت يومها أنّ زياد يستعدّ لتوديعنا... صار شديد الحساسيّة تجاه الوقت... غادرته خجلاً، فأردف معتذراً: ظهري عم يوجعني... وقلت في نفسي: كنت أريد أن أقول لك: نحتاجك فلا ترحل... أرسلت له في إحدى الحملات التي تطالبه بتأليف مسرحيّة جديدة: أرجوك يا أستاذ زياد، ألّف مسرحيّة واعرضها وسوف أشاهدها كلّ يوم! قيل لي إنّه ابتسم... ثمّ اعتذر عن مسرحيّة جديدة لن تبصر النّور، لعلّه اكتفى بمسرحيّة تكتب نفسها كلّ يوم في هذا الوطن الذي أنكره أبو الزلف في "شي فاشل".

اليوم صار لكلمات زياد في أذنيّ طعم مختلف، وحين أضع السمّاعات لأستمع ما يقولني فيها، وعلى الرّغم من التطوّرات التقنيّة والتقدّم الحضاريّ والـ Active Noise Cancellation فقد صرت أسمع هدير مولّد الكهرباء مزعجاً أكثر، وهو يهدر كلّ يوم، على إيقاع الحروب الخفيّة والظاهرة، وصوت زياد يخفت باستمرار، لأنّني حين أسمعه اليوم، وغداً، وكلّ يوم، لا أتوق ليوم ألقاه فيه، يوم ليس في ظهره ألم، فأقبّل جبينه، وأقول له: لا أحتاج دقيقتين من وقتك، أحتاج كلّ وقتك، لأنّنا نعيش، تماماً، كما وضعت في مسرحيّة "الأمل"، فوق فسحة الصرّاف، ساعةً لا تعمل... صرنا، يا زياد، نعيش خارج التّاريخ.

* باحث ومؤلّف تربوي

 

####

 

زياد في قلوب اليساريين التونسيين: رفيق النضال والفكرة

تونس-كريمة دغراش - المصدرالنهار

كانت ألحان زياد الرحباني لعقود طويلة رفيقة الصباحات وكل الأوقات، وكل الأجيال؛ بل إن كثيرين اعتبروه حالة فنية استثنائية، رأوا فيها أفراحهم وأمانيهم وانكساراتهم، والصوت الذي رافقهم في فجر كل هزيمة ومساء كل خيبة.

في تونس أيضاً، كان صباح السبت حزيناً؛ فرحيل زياد الرحباني لم يكن حدثاً عادياً بالنسبة للتونسيين، خصوصاً لمثقفي البلد ونخبه اليسارية، الذين تشاركوا معه رؤاه الفكرية والسياسية.

هناك، كانت ألحان زياد الرحباني لعقود طويلة رفيقة الصباحات وكل الأوقات، وكل الأجيال؛ بل إن كثيرين اعتبروه حالة فنية استثنائية، رأوا فيها أفراحهم وأمانيهم وانكساراتهم، والصوت الذي رافقهم في فجر كل هزيمة ومساء كل خيبة.

"سألوني الناس عنك"...

زياد، اليساري الشيوعي، لم يكن استثناءً في الفن فقط، بل كان حاملاً لهموم وطنه وكل الوطن العربي. لذلك كان وقع خبر رحيله ثقيلاً على يسار تونس، الذي كان قد احتفل قبل ساعات فقط بعودة جورج إبراهيم عبد الله إلى لبنان.

وعن هذا الرحيل يقول الأمين العام لحزب العمال التونسي حمّة الهمامي، لـ"النهار": "لا أخفي أنني عشت يوم الجمعة يوماً جميلاً، بمناسبة تحرير جورج إبراهيم عبد الله، رفيق القناعات ورفيق النضال... لكن ها أنا أعيش لحظة حزن، لأنني أفقد رفيقاً أيضاً من لبنان الحبيب... زياد الرحباني، ابن الحزب الشيوعي اللبناني، الذي تجمعني به نفس القيم التحررية والإنسانية التي كرّس لها موسيقاه ومسرحه وكتاباته، من خلال معالجة قضايا وطنه وقضايا شعوبنا، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني".

أنيس زمن الديكتاتورية

علاوة على الإجماع على أن زياد كان حالة فنية استثنائية، تحدّثت نخب تونس بإطناب عن "زياد المسيّس، الذي حمل هموم وطنه".

يقول الهمامي إنه تابع معظم أعمال زياد الفنية والمسرحية وكتاباته، مؤكداً أنه كان صوت الفقراء والمظلومين والمسحوقين، كما تابع "مواقفه الجريئة الداعمة للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية".

ويضيف: "لا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أنسى أنني في أعسر سنوات السرّية التي عشتها زمن الديكتاتورية في تونس، كان زياد الرحباني أنيسي عبر صوت والدته السيدة فيروز، التي كانت تشدو بألحانه".

ويختم: "طوبى لك يا زياد، يا أخي في الإنسانية، وقد أدّيت ما عليك من واجبات الإنسان تجاه شعبك، وتجاه فلسطين، وتجاه الإنسانية جمعاء... وتلك واجبات الشيوعي الأصيل، الذي لا يساوم... ألست القائل ذات يوم، وأنت بين شيوعيي لبنان: "لم يخرج من الحزب (الشيوعي) إلا من كان يجب أن يخرج... الشيوعي لا يخرج من الحزب إلا إلى السجن أو البيت...". وها أنت تغادر حزبك الذي ظل متمسكاً بمبادئه، إلى البيت الأخير، وأنت تحفظ قناعاتك الكبرى التي لم تتغير... وداعاً... وداعاً... سيظل طيفك يرفرف بيننا من خلال ما أبدعت... وذلك هو معنى الخلود الحقيقي".

بعض من هذا الشرق الموجوع

بدوره، يقول الإعلامي التونسي عماد دبور، لـ"النهار"، إن زياد لا ينتمي فقط إلى عائلة مبدعة وفن مختلف، بل هو "علامة فارقة في نوتة الموسيقى الشرقية عموماً، واللبنانية خصوصاً".

ويضيف دبور، الذي عرف زياد عن قرب وسبق أن التقاه في حوار مطول في منزله: "إنه صاحب نكتة بثقل مقال أكاديمي في وسط حزن كئيب؛ فقد كان قادراً على أن يختزل هموم الدنيا وأفراحها وتعقيدات الحرب والسياسة بجملة ولحن".

ويتابع: "زياد كان شيوعياً مؤمناً، وأرثوذكسياً أحبّ صلاة أمه ومقولات السلام... هو بعض منّا، من هذا الشرق الموجوع؛ وخبر موته يشبه عبارة "كذّب عياش" (من أغنية تلفن عياش")".

نهاية تشبهه

رشا التونسي، الكاتبة التونسية التي كانت قريبة من عائلة الرحباني والسيدة فيروز، تحدّثت لـ"النهار" عن زياد كما عرفته.

تقول إنه، وعلى عكس ما يعتقده الجميع، لم يكن مغروراً، بل كان خجولاً ومنعزلاً.

تضيف أنه كان جريئاً في فنه ومواقفه، لكنه رغم ذلك لم ينزلق يوماً إلى الابتذال أو البذاءة، لأنه كان فناناً مثقفاً ومسيّساً. وتعتبر أن رحيله خسارة للفن في لبنان وكل العالم العربي: "لا أحد قادر على ملء الفراغ الذي سيتركه. كان شيوعياً، لكنه قبل ذلك كان وطنياً".

تشير التونسي إلى أن زياد، رغم مواقفه الجريئة، كان الرجل الذي أحبه جميع اللبنانيين، وحزنوا لرحيله على اختلافاتهم.
وتختم مؤكدة أن وفاة زياد تشبهه: "فقد رفض العلاج، وتمسّك برفض حياة لم تكن تعني له الكثير... كان رحيله يليق به وبشخصيّته القلقة
".

 

####

 

أن تنجذب إلى خصمك... "ظاهرة" زياد!

نبيل بومنصف - المصدرالنهار

ليس مغالاة إن قلنا أنه في تاريخ السير الفنية والرموز العملاقة للفن اللبناني العابر إلى عوالم العرب والعالمية، لم يشهد هذا التاريخ من يشبه ظاهرة زياد الرحباني.

كانت الساعات القليلة التي أعقبت انتشار الخبر الصادم بوفاة زياد الرحباني وحدها كافية للدلالة على ما لا يحتاج إلى اثبات حقيقة فنان غدا أسطورة ثالثة من عبقرية والده وموهبة والدته الأيقونية . لذا بقدر عمق الصدمة لم يكن غريبا، ولن يكون غريبا أبدا ، ان يكون الحزن الجمعي على الفنان الخارق بهذا الحجم الجارف. ولكن المسألة "الأخرى" الموازية هي ما تعني اللبنانيين والمدققين على ضفة باردة لحدث رحيل رمز أسطوري في المكانة الشعبية، عنينا بها الوجه السياسي والعقائدي الملازم لفنه الخارق، وهذا الجانب لا يقل أهمية بما يستلزم الكثير من التدقيق.

فليس مغالاة ان قلنا انه في تاريخ السير الفنية والرموز العملاقة للفن اللبناني العابر إلى عوالم العرب والعالمية، لم يشهد هذا التاريخ من يشبه ظاهرة زياد الرحباني وما أحدثه في عمق الواقع السياسي والطائفي والحزبي عموما منذ صار رمز مدرسته الفنية المقترنة بعقيدته اليسارية الجذرية يجمع بينهما مزاج الشخص العابث. لم يسبق ان عرف اللبنانيون رمزا فنيا يحدث فيهم تمزقا كبيرا بين الانجذاب والإعجاب بفنه وشخصه وكونه ابن عاصي الرحباني وفيروز ، وبين الانقسام السياسي الحاد الذي كان يضع زياد في مواجهة وخصومة بل وعداوة مع الفئات اللبنانية المناهضة لأيديولوجية زياد اليسارية. بذلك، تشكلت الظاهرة النادرة التي لم تنطبق على سيرة أي رمز او "أسطورة " فنية لبنانية التي تحفل بالرموز ولكن فقط على خلفية المسار الفني والشخصي والكاريسماتي وليس على أي خلفية سياسية عقائدية معها.

حتى ليمكن القول ان "التركيبة" الخاصة التي صنعها زياد لنفسه حين خرج من الحلقة العائلية الرحبانية وانتقل جغرافيا ومكانيا وعقائديا إلى بيروت الغربية بكل ما كانت "الغربية" "والشرقية" تختزنان وتختصران الصراع والانقسام والعداوة وحتى الحرب نفسها بواقعها الملموس المدمر ، هذه التركيبة صنعها في المنحى السياسي الأيديولوجي بكل مزاجه الجارف. ولكن المسألة لا تقف بدلالاتها هنا بل هي في ظاهرة ان ينجذب الخصم الحاد المختلف مع زياد إلى زياد بانفصام هائل يحدثه صاحب هذه الظاهرة . ولا يمكن في ذلك، ما دامت أيام ما بعد رحيل زياد الرحباني تشهد "انفجارا" غير مسبوق في المد الإعلامي الهائل لتغطية الرحيل واستعادة كل مسار صاحب السيرة الأسطورية، تجاهل ان زياد الرحباني شكل اختبارا نادرا لقدرة غالبية لبنانية ساحقة بلا شك على ان تجتذب إلى خصم ولا تقبل فقط بخصمها.

هكذا كان هذا الاختبار في فرادته لان زياد العقائدي كان مستفزا جدا وحادا حتى في سخريته العبثية التي كانت تغلف حدة خصومته "للمعسكر الاخر". لذلك والأيام أيام حيرة مصيرية وغموض كبير في مسار لبنان قد ترانا نذهل حين نسترجع اكبر إنجازات زياد الرحباني خلال سنوات الحرب وبعدها حين كانت حقائق الانقسام الداخلي تختلط اختلاطا كبيرا مع حروب ونزاعات الخارج بما يفجر الصراع التاريخي حول مسببات الحرب في لبنان . كان زياد ولو ابدع في فيلم أميركي طويل على خلفيته اليسارية يمعن كرفاق عقيدته اليسارية في البعد الطائفي والمناهضة لليمين بما يرسخ مفهوم الحرب الاهلية .توفي البارحة زياد الرحباني "الأسطورة الخالدة" فوق بحر انقسامات بلده ولكنه اخترق دوما هذا الانقسام التاريخيّ المستدام كما لم يفعل احد!

 

####

 

لبنان يخسر زياد الرحباني… ابنه العنيد الذي أحبّه على طريقته

واشنطن - جهاد بزي - المصدرالنهار

كان ليكمل دائرة المجد في العام 1994 لو اعتزل حينها. كان ليكمل تلك الدائرة في أي لحظة يقرر الخروج من الكادر. لحسن حظنا أنه لم يفعل...

كان يغيب دائماً، لكنه لطالما عاد بعد غيابه. تراه يعبر المسافة القصيرة بين رصيفي شارع الحمرا، بشنطة كتف كبيرة، وعينين تختبئان في الشارع من العيون التي عن غير قصد تلتصق به وتظل تلاحقه إلى أن يختفي، قبل أن يظهر على خشبة مسرح أو شاشة تلفزيون، بعينيه المبتسمتين، بسخريته اللاذعة.

ودائماً كان يعود في الوقت المناسب تماماً لنفي الاستنتاج بأن زياد الرحباني لم يعد لديه ما يقوله، وأنه انتهى. هكذا فعل في السنة الرابعة على سقوط الاتحاد السوفياتي. ظهر في "حوار العمر" مع الإعلامية الراحلة جيزيل خوري على الـ"أل بي سي" ليقول إن الشيوعية باقية، وإنه هنا ليبدأ من جديد. وضج البلد بابن فيروز وعاصي وهو يخرج هذا الخروج المدوي من الإذاعة والكاسيتات إلى الشاشة، وليس أي شاشة، بل تلك المحسوبة على خصومه الأيديولوجيين، وقد ذهب إلى عقر دارهم ليجادلهم، فما كان منهم إلا أن فتحوا الهواء له لحلقة ثانية أطول من الأولى وأكثر حدة، أثارت ضجة أكبر.

كم كان عمره في العام 1994؟ ثمانية وثلاثون عاماً. لو أنه اعتزل في تلك السنة، لما نساه الناس بعدها أبداً. فقد ترك لهم مسرحياته الثلاث الخالدة، يحفظونها جملة جملة، وأغنية أغنية. وترك لهم برامجه الإذاعية، وألبوماته العظيمة. وقبل كل ذلك، وبعده، كان قد قدم للناس أحلى هداياه، فيروزهم ذاتها، بلغته، بجملته الموسيقية المطلقة العذوبة، وبكلامه المحكي الذي كان أبلغ الشعر فيه خلوه من التكلف الشعري. فيروز التي قالت في الثمانينيات إنها تثق به كملحن كبير، لم تعطه ثقتها بقدر ما نافسته في التجريب وفي خفة الدم التي يروى أنه ورثها منها. لو اعتزل في العام 1994، لكان في أرشيفه لفيروز أغانٍ مثل قديش كان في ناس، وسألوني الناس، وحبيتك تنسيت النوم، وألبوم معرفتي فيك، و"كيفك إنت"، أي، ببساطة، الأغاني التي تقع الآن في أعلى لائحة الاستماع إليها، وفي أجملها، بحسب مريدي زياد، وهؤلاء ليسوا قلة، ولا من جيل دون جيل.

مثل أمه أيضاً، احترف زياد الفن ولداً، ومثلها، بدت الموهبة هبة مجانية من السماء وتلقائية، كأنهما لا يبذلان جهداً في صنع هذا الجمال. ومثلما أحب الناس فيروز لمرة ثم لم يتوبوا عن حبها بعد ذلك، أحبوا زياد. اجتمعوا على حبه ليس لأنه ابن الثنائي الأيقوني، بل لأنه لم يقدّم نفسه يوماً بصفته ابنهما، بل لطالما بدا متخوفاً من أن شهرتهما قد فرشت له طريقه إلى الفن. هي متلازمة القلق عند الموهوب، يكون أول المشككين بإنتاجه الإبداعي وأشده قسوة عليه، يظن دائماً أنه لا يستحق الثناء ولو كان صادقاً ولا يستأهل الحب ولو كان من القلب.

واللبنانيون من قلبهم أحبوا زياد الرحباني. مع أنه، على العكس من والدته المقدسة لديهم، انحاز في الحرب الأهلية للبنان دون آخر، ولفكرة ضد أخرى، وكان طرفاً مفوّهاً وأحسن ما حصل لليسار اللبناني الذي أتى إليه ابن العائلة الملكية فنياً ليصير صوته الأعلى والأكثر تأثيراً. ومع أنه جاهر بالعداء للمعسكر المقابل، لم يستطع هذا كرهه، أولاً لأن زياد الرحباني كان إلى تلك الدرجة صادقاً في انتمائه إلى شيوعيته، وثانياً لأنه لم ينتم يوماً إلى طائفة، وثالثاً لأن من المستحيل أن يكره لبناني الأستاذ رشيد، أو الأستاذ نور، أو زكريا، أو أياً من الشخصيات التي لعبها على المسرح، والتي لم يكن فيها يوماً يسارياً أو يمينياً، بل لبناني عادي سحقته عبثية الحرب ومتاهات المجتمع اللبناني.

من المستحيل ألا نقع في حب من يضحكنا. والساخر بالفطرة كان مثال الشخص المهضوم الذي يطيب للناس الاستماع إليه، مع أنه لم يكن يوماً كوميدياً ولم يقدم نفسه بصفته كذلك. كان صاحب مشروع لا يمكن اختزاله بوصفه فنياً او اجتماعيا أو سياسياً. ربما يمكن تسميته باسمه، "زيادياً". مشروع عنيد في نقده القاسي للشعب اللبناني ولعيوبه العامة، الطائفية منها والاجتماعية. وبالعناد نفسه، حارب الاستسهال السياسي، حتى لو أتى من الأخوين الرحباني. حارب الاختباء خلف التورية والامعان في الخيال والانفصال عن الزمان والمكان وفي عدم تسمية الأشياء بأسمائها وخلف "الغريب" وخلف "حب اللبناني المطلق لأخيه اللبناني". وكان لامعاً إلى درجة أن خطابه السياسي المباشر هذا لم يكن للحظة رديئاً، لأنه عرف كيف يغنيه وكيف يمسرحه، وقد جذب إليه رفيقات ورفاق عمل، موسيقيين وممثلين ومغنين، مؤمنين به وموهوبين مثله، خلدّوا عباراته وجعلوا الأجيال تتعاقب على تردادها، عن قصد حيناً، وعن غير قصد أحياناً، وقد اندمجت لغته، من حيث لا ندري، بمفرداتنا وحكينا اليومي.

كان ليكمل دائرة المجد في العام 1994 لو اعتزل حينها. كان ليكمل تلك الدائرة في أي لحظة يقرر الخروج من الكادر. لحسن حظنا أنه لم يفعل، وإلا لخسرنا كل ما سيعطيه في العقدين الأخيرين لفيروز، وخسرنا عودته إلى مسرح البيكاديللي، ومهرجانات بيت الدين، وحفلاته. لخسرنا وجوده نفسه، كما هو، بمهارته في الوضوح في الموقف وعدم خوفه من قول رأيه كما هو، مهما كان مستفزاً، ما دام يؤمن به، وما دام لا ينافق ولا يهادن.

لكننا خسرناه. انسحب إلى موته بعد غياب طويل تاركاً في كل واحد فينا ركناً خاوياً في ناحية من القلب. هو الحب الذي من الله، أعطيناه له على اختلافنا واختلافاتنا. زياد الرحباني الذي كان درساً أولياً لا بد منه لمطلق مراهق كي يخرج من جماعته ويصير فرداً، هو نفسه زياد الذي شكّل الذائقة الفنية لأجيال متعاقبة، وشكّل رؤيتها للبنان غير الذي فرضته جماعاتها عليها. لبنان محني الظهر بأثقاله التي لا تحتمل، وبعنفه العميق، لكنه أيضاً لبنان الرقيق الذي بكى من طرفه إلى طرفه، ابنه الكبير، وأحد أهم أسبابه القليلة لفخره بنفسه.

لن يعود هذه المرة على خلاف ما تعوّدنا منه. خسرنا زياد الرحباني، وهي خسارة شخصية حميمة لكل واحد فينا. غيابه حزننا اللبناني العام، محبين ومريدين وأصدقاء ورفاق. لكنه، قبل ذلك حزن خاص في عائلته، وحزن صافٍ في قلب أمه، حبيبتنا حبيبتنا، نخاف حتى من سؤالها أي حال أنتِ فيه.

 

####

 

"سألوني الناس"... واللحن الذي بكى زياد هذه المرّة

إسراء حسن - المصدر: "النهار"

"بيعزّ عليي غني يا حبيبي... لأول مرة ما منكون سوا".

تتخدّر الروح في العادة عند سماع خبر مرتبط بالموت، فكيف إذا كان الفقيد شخصيّة أحببناها من دون أن نلتقيها، شخصية كانت تسكننا من دون أن نستوعب تماماً متى بدأت تقيم فينا؟ أعلم أن الموت حق لا يُرد، ولا اعتراض عليه، لكنّ مشاعر الفقد لا تعترف بالمنطق. إنها تستيقظ في كل مرة تخسر فيها الحياة أحد أولئك الذين صنعوا من الفن ملاذاً.

رحل زياد الرحباني. والرحيل هنا ليس خبراً عابراً، بل نبش لذاكرة لا تريد أن تنام. قد لا أكون من الذين عاشوا زمنه المسرحي، أو حضروا مسرحياته في زمن الحرب، أو التقوه وجهاً لوجه، لكنني مثل كثيرين شعرت بأنني أعرفه، تماماً كما نعرف أنفسنا حين تتعب، أو حين تتذكّر أن فيها نبضاً لا يزال يقاوم.

لطالما بدا زياد إنساناً قبل أن يكون فناناً، متعباً في بعض الأحيان، حادّاً في أخرى، وحنوناً في غالب الأحيان أيضاً من دون أن يقول ذلك حرفياً. زياد هو ذاك الصدق الذي لا يساوم. ولعلّ هذا ما يجعل وداعه وجعاً خاصاً.

لا أدري لمَ استوقفني، في زحمة كل ما قيل عن زياد، ما يُعتبر من أكثر الحقائق المعروفة عنه: أنه لحّن أول أغنية لوالدته السيدة فيروز، وكانت "سألوني الناس". قديمة هي هذه المعلومة، لكنّها بالنسبة لي توقّفت عند محطة شخصية جداً.

لـ"سألوني الناس" مكانة خاصة في قلبي. كانت شقيقتي الصغرى، سارة، هدية من السماء، ومَن علّمتني أن بعض الأغاني ليست مجرّد ألحان بل طقوس حياة. حين اشتدّ عليها المرض الخبيث، كانت تلك الأغنية ملاذها. لم تؤمن بسحر "نامي يا صغيرة" عندما كانت تحاول تهدئة طفلتي الباكية، بل كانت تختار "سألوني الناس"، وكأنها تعرف أنّ في صوت فيروز، وفي لحن زياد، ما يتجاوز الطبطبة العادية إلى بلسم خفيّ لقلوب قلقة وموجوعة، وكانت الأغنية تنجح دائماً.

غنّت سارة تلك الأغنية في عزّ وجعها، إلى أن غابت. ولم أعرف سرّ هذا التعلّق بها حتى قرأت ذات يوم أن الأغنية ولدت من قلب ألم، حين مرض عاصي الرحباني ودخل المستشفى. كتب منصور الرحباني كلمات تشبه الرسائل الخفية من فيروز إلى شريك عمرها، وغنّتها فيروز بعد أن غاب عاصي عن المسرح للمرة الأولى.

لحن الأغنية كان من توقيع زياد، ابنها، الذي كان لا يتجاوز السابعة عشرة. أما التوزيع فكان من نصيب الياس الرحباني. عائلة من وجع وموسيقى وأمل. ومن هناك، بدأت أغنية تؤاسي كل من عرف الفقد.

اليوم، أبكي سارة كما بكت فيروز عاصي. واليوم، أبكي زياد الذي جعلنا نبكي بطريقة جميلة، لا تنهكنا، بل تُشعرنا أن الحزن فن أيضاً. واليوم، أسمع الأغنية من جديد، وأشعر أن زياد لحّنها لي أنا أيضاً، ولكل من فقد شيئاً لا يُعوّض.

في رحيل زياد، أعود إلى اللحظة الأولى التي التقيت فيها الأغنية، ولا أملك سوى أن أردد مع فيروز: "بيعزّ عليي غني يا حبيبي... لأول مرة ما منكون سوا".

 

####

 

الأردنيون ينعون زياد الرحباني:

"برحيله انكسر خاطرنا"

عمّان - محمد الرنتيسي - المصدرالنهار

"من يترك لنا ’سألوني الناس’ وهو في السادسة عشرة، لا بدّ من أنه وُلد وفي قلبه موسيقى بحجم السماء".

ما إن تم الإعلان عن وفاة الفنان اللبناني البارز زياد الرحباني في بيروت، حتى سارع العديد من الأردنيين إلى التعبير عن صدمتهم وحزنهم، وهو ما تجلّى في منشوراتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي.

ورغم أن الرحباني لم يُقم حفلات رسمية في الأردن، ولا تربطه علاقات واسعة أو لافتة بالوسط الفني الأردني، إلا أن لأعماله مكانة خاصة في قلوب محبّيه في المملكة، وخصوصاً أنه ابن السيدة فيروز، التي تحظى بعشق نادر النظير بين الأردنيين.

"قلبي أوجعني"

وبكلمات تقطر حزناً وأسى، تتحدث المطربة الأردنية مكادي نحاس إلى "النهار" عن وفاة الرحباني، قائلة: "الخبر نزل عليّ كالصاعقة".

نحاس، التي تُعد من أبرز رموز الأغنية التراثية، وسبق أن التقت الرحباني في منزله في بيروت عام 2000، تضيف: "نحن جيل تربّى على موسيقى زياد وأعماله المسرحية، وظل يشكّل لنا حالة نعيشها ونتنفسها، كما شكّل وعياً وثقافة لا مثيل لهما".

ورغم علمها المسبق بمرضه، تقول: "الخبر نزل عليّ كالصاعقة. قلبي أوجعني. برحيله انكسر خاطرنا، وغاب الأمل بأعمال فنية عظيمة، خصوصاً في ظل ما نحن فيه اليوم من انحطاط فني، إلا من رحم ربي، وهم يعدّون على أصابع اليد الواحدة".

وتلفت إلى أنها تعتبر نفسها "محظوظة" لأن الفرصة سنحت لها بلقائه، مستذكرة: "عندما سألته إن كان بمقدوري أن أغنّي، قال لي: أنتِ اللي لازم تغنّي. وطبعاً تغيّرت حياتي منذ تلك اللحظة".

وتختم حديثها بالقول: "زياد فنان شامل وعبقري، وكانت أعماله تتنبأ بالمستقبل، ولم يكن من الممكن فصلها عن السياسة، خصوصاً في بلد مثل لبنان الذي شهد حرباً أهلية، بالإضافة إلى الحرب الإسرائيلية، وكل الصراعات السياسية التي لا تزال قائمة إلى اليوم. وبرأيي، الفنان الحقيقي يجب أن يكون منخرطاً في السياسة، متابعاً لها، وأن يكون له موقف مما يحصل".

"ولد وفي قلبه موسيقى بحجم السماء"

من جهته، يرى رسّام الكاريكاتير ناصر الجعفري أن "الرحباني جسّد حالة نبوغ وإبداع استثنائية في عالمنا العربي؛ فهو موهبة عبقرية تفتّحت وأثمرت في سنٍ مبكرة للغاية"، مضيفاً: "من يترك لنا ’سألوني الناس’ وهو في السادسة عشرة، لا بدّ من أنه وُلد وفي قلبه موسيقى بحجم السماء".

ويتابع: "زياد، الذي صهر طبقات المجتمع بصوت فيروز، وجعل ’صبحي الجيز’ يخرج من حارات الفقر والحرمان ليعانق صفاء صوت سفيرة النجوم، لم يكن مجرد موسيقار، بل كان فناناً وموقفاً".

ويقول الجعفري لـ"النهار": "كان زياد سيّد التجريب الموسيقي؛ مزج بين موسيقى الجاز والأنغام الشرقية بأسلوب عبقري أعاد تعريف هوية الأغنية العربية المعاصرة. لم تكن ألحانه مجرد أنغام، بل مشاهد درامية تنبض بالتمرّد، تكسر القوالب التقليدية، وتفتح أبواباً جديدة أمام المستمع".

ويضيف: "شخصيته الحوارية الساخرة كانت امتداداً لفنه؛ إذ أطلّ في مقابلاته بجرأة وذكاء، ليواجه الواقع بنقد لاذع وروح فكاهية جعلت منه صوتاً حراً وسط صخب السياسة والانقسامات".

ويختم بالقول: "برحيل الرحباني، خسر العالم العربي أحد آخر أعمدة الأغنية الراقية في زمن تتراجع فيه الكلمات والموسيقى أمام موجات الابتذال. الغياب اليوم أكثر وجعاً، لأننا فقدنا فناناً كان قادراً على جعل الفن مرآة حقيقية للحياة. زياد علامة ثبات سياسي وعبقرية موسيقية مشرقيّة رسمت ملامح لبنان الأجمل، لحناً وكلمة".

"عاش حياته كما يريد"

من جهته، يقول الكاتب والقاص نادر رنتيسي إن "زياد الرحباني كان موسيقياً استثنائياً بلا شك، ولا يمكن حتى لأشدّ المناوئين له سياسياً، والمختلفين الكثر معه، إلا الاعتراف بأنه أحد أعظم الأسماء الموسيقية خلال الخمسين عاماً الماضية".

ويضيف لـ"النهار": "كان يمكن لزياد أن يترك إرثاً موسيقياً أكثر كثافة، لكن السياسة المتقلبة، والحياة السينمائية التي فضّلها على الهدوء والاستقرار اللذين يحتاجهما الفنان، فضلاً عن مزاجه العاصف، كلّ ذلك للأسف أفقد الموسيقى العربية كماً مفترضاً كانت في أمسّ الحاجة إليه، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة التي شاع فيها التلوث والنشاز".

ويتابع: "لكن زياداً عاش حياته كما يريد، لا كما يعيشها الموسيقيون المعروفون بالانضباط والهدوء. عاش ناقماً، ساخطاً، لاذعاً، وبالطبع أخطأ كثيراً. لكن، من كان يجرؤ أن يدلّه على الصواب؟".

 

####

 

زياد الرحباني كما عرفه فائق حميصي:

قال كل شيء في "بالنّسبة لبكرا شو"

إسراء حسن - المصدر: "النهار"

"زياد هو ابن فيروز وعاصي، ولم يفعل ذلك تميّزاً، بل لأنّها كانت رسالته الداخلية، أن يكون متميّزاً"

لم يكن الممثل والمخرج المسرحي فائق حميصي مجرّد ممثل وقف إلى جانب زياد الرحباني في عمله المسرحي الأيقوني "بالنسبة لبكرا شو"، بل كان إحدى ركائز ذلك النص الحيّ الذي ما زال يردّده اللبنانيون إلى اليوم، تماماً كما لو كُتب بالأمس.

في رحيل زياد، يعود حميصي إلى تلك الذاكرة التي ما زالت تسكنه، كأنها لم تغادر الخشبة يوماً، ويكشف في حديثه لـ"النهار" عن علاقة شخصية وإنسانية عميقة.

يقول: "نشعر بالحسرة وحتماً الألم موجود في الداخل. لكنني شخصياً أؤمن بأن الناس، وخصوصاً الفنانين، يأتون إلى هذه الدنيا، يؤدّون أغنيتهم، ويرحلون. هذه ليست بأيديهم، بل بأيدي الزمن. زياد غنّى أغنيته، وغنّى لنا نحن أيضاً، وأدخلنا عالماً جديداً، فريداً، وخاصّاً به. عالمه مدهش، لم يستطع أحد أن يشبهه. هو ابن فيروز وعاصي، ولم يفعل ذلك تميّزاً، بل لأنّها كانت رسالته الداخلية، أن يكون متميّزاً".

ويتحدّث عن ابتكار زياد الموسيقي: "الذين يفهمون في الموسيقى يدركون كيف كان زياد يبتكر. حين يبدأ الآخرون العدّ الموسيقي: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة... كان هو يدخل من 'اثنان'! كان يُربك الأذن الموسيقية المتعوّدة على النمط، ليخلق شعوراً جديداً. يُغنّي بصوت طبيعي، بسيط، وكان يحبّ أن يُلحّن لجوزيف صقر، لأن صوته طبيعي، لا يصعد كثيراً ولا ينخفض كثيراً، يواكب النغمة بعفوية. هذا ما يجعل مدرسته مختلفة".

عن "بالنسبة لبكرا شو"، المسرحية التي أدّى فيها حميصي دور الشاعر "أسامة"، يقول: "اليوم، كثير من اللبنانيين، وحتى غير اللبنانيين، يعتبرون المسرحية مدرسة قائمة بذاتها".

ويستعيد ذكرى حوار بينه وبين زياد بعد انتهاء العرض: "سألت زياد: ما الذي ستفعله الآن؟ فأجاب: قلتُ كل شيء في المسرحية".

ويتابع، مستذكراً بدايات زياد المسرحية: "قدّم "سهرية" و"نزل السرور" وكان لا يزال يُجرّب، إلى أن وصل إلى مسرحية "بالنسبة لبكرا شو". كتبها في زمن الحرب، وكان الجمهور يقطع الحواجز من أجل حضورها. دخلت المسرحية قلب الحياة الاجتماعية في ذلك الزمن".

ويكشف جانباً إنسانياً من علاقته بالعائلة الرحبانية: بعد عرض المسرحية، دخل علينا عاصي وفيروز، وتوجّه عاصي إلى زياد قائلاً: بدي آخدو منك (يقصدني)، لا تكتب له دوراً جديداً، خليه معي. وهو ما حصل، إذ عملت مع السيدة فيروز ورونزا وملحم بركات في مسرحية "الربيع السابع".

ويتابع: "عشتُ في منزل العائلة خلال عملي معهم على المسرحية. كنتُ أنام في غرفة زياد عندما كان يبيت في المنزل العائلي الثاني في بيروت. صار زياد صديقي، وصرتُ صديق العائلة، وكنتُ أعرّج على زياد في منزله في بيروت خلال الحرب".

عن سؤال "بالنسبة لبكرا شو؟"، يقول حميصي إنّه لا يزال معلّقاً: "في المسرحية، كان السؤال مفتوحاً، ولا تزال إجابته معلّقة حتى اليوم، لأنّه سؤال عن واقع مأزوم، عن مستقبل ضائع. زياد وضع إصبعه على الجرح: الكرامة ضاعت، القيم ضاعت، كل شيء صار يُباع ويُشترى".

ويختم حميصي شهادته قائلاً: "التقيتُ بزياد منذ فترة، ربّت على ظهري. لم يكن ناوياً أن يتوقف عن العمل. هذا الكلام منذ نحو سنتين. جلسنا في زاوية في المسرح، وكان يتحدّث عن مشاريع موسيقية. لم يكن الإحباط ممّا يعمل عليه، بل الإحباط من النفس البشرية... من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق. لم يَعُد هناك قيمة للبشر ولا للأحلام".

 

####

 

لبنان تحت صدمة رحيل الخارق زياد الرحباني

المصدرالنهار

بدا لبنان كله مصدوماً وتحت وطأة غياب هذه القيمة الفنية الجبارة.

مع الرحيل الصادم لزياد الرحباني لم يعد لبنان كما كان في يومياته السياسية والأمنية والاجتماعية الرتيبة المملة، إذ بدا لبنان كله مصدوماً وتحت وطأة غياب هذه القيمة الفنية الجبارة، بلا أي تمايز وتمييز وتفريق. صار الحدث المدوي هو غياب صادم مفاجئ بالنسبة للبنانيين ولو انه صدم اقرب المقربين منه ولكن من غير ان يفاجئهم لأنهم كانوا يعرفون درب معاناته الصحية وتعاظم خوفهم المتدحرج عليه لفرط ما اشتد مرضه فيما هو يعاند طويلا زرع كبد له كان لا بد منه لنجاته من المصير المحتوم. ضج كل لبنان بالصدمة وسرعان ما انهمرت مكان الصدمة موجات كثيفة من الشهادات بالعبقري الراحل في ترجمة ضخمة للإجماع اللبناني حول تقديره الهائل. وإذ تبين ان زياد حضر مساء الجمعة إلى مستشفى فؤاد خوري القريب من منزله في الحمراء فانه لم يمض اكثر من ليلته الأخيرة حيا اذ توفي في الساعة التاسعة من صباح امس السبت 26  تموز 2025  عن 69  عاماً.   

ومن اكثر الشهادات تأثيراً في الراحل الخارق روى وزير الصحة غسان سلامة في الحديث الذي نشره معه موقع "النهار" بعد ظهر امس الصفحة الموجعة من معاناة زياد مع المرض، مؤكداً أن الراحل كان بحاجة إلى زرع كبد، "وهي عملية معقّدة تتطلّب انتظاراً طويلاً، ومتابعة طبّية دقيقة، وأيضاً وجود الكبد المناسب للزرع، وهو أمر قد يطول انتظاره في كثير من الحالات"، بحسب تعبيره. وكشف سلامة أنّ "زياد لم يكن حاسماً في موقفه من العلاج، بل "كان متردداً، بين قبول هذه التجربة الطبية الصعبة وبين رفضها، كانت أفكاره في الفترة الأخيرة متناقضة حيال الموضوع. هو بنفسه عبّر عن هذا التردّد". كما كشف الوزير سلامة أن محاولات جديّة جرت لإقناع زياد بمتابعة العلاج عبر الدائرة الأقرب من أصدقائه: "كانت تتم عبر مجموعة من الأصدقاء المقرّبين منه. هم الذين كانوا يتواصلون معه، ويبحثون في شأن العلاج. وكانت تصلني أفكار كثيرة منهم حول ما يمكن فعله".

هؤلاء الأصدقاء، بحسب سلامة، "ظلّوا إلى جانبه حتى اللحظات الأخيرة، وكانوا يبذلون جهداً كبيراً لإقناعه بمتابعة العلاج". وترقب اللبنانيون إعلان العائلة لموعد الجنازة التي ستقام لزياد وسط مشاعر التعاطف الهائل مع أيقونة لبنان والعالم العربي السيدة فيروز خصوصا نظرا للمخاوف العارمة عليها جراء هذه المصيبة القاصمة. وقد حدد موعد وداعه في الساعة الرابعة من بعد ظهر الاثنين في كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة بكفيا على ان تقبل التعازي يومي الاثنين والثلاثاء من الحادية عشرة قبل الظهر إلى السادسة مساء.  

بإزاء هذا الحدث الصادم تهمشت التطورات السياسية والأمنية ولو ان الجنوب سجل جولة تصعيد ميدانية جديدة أسفرت عن سقوط أربعة قتلى امس. ففي المقلب السياسي، اعلن ان رئيس الجمهورية العماد جوزف عون سيتوجه الاثنين المقبل الى الجزائر في إطار زيارة هي الاولى له منذ انتخابه حيث سيجري محادثات مع المسؤولين الجزائريين. وبدوره زار رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، ظهرا رئيس مجلس النواب، نبيه بري في عين التينة. وتناول البحث شؤوناً برلمانية، لا سيّما مشاريع القوانين الإصلاحية التي أحالتها الحكومة إلى المجلس النيابي، وفي مقدّمها مشروع قانون استقلالية القضاء، ومشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي. كما أطلع الرئيس سلام الرئيس بري على نتائج زيارته الرسمية إلى باريس ولقائه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وما تخلّلها من تأكيد فرنسي على دعم لبنان في مختلف المجالات، بالإضافة إلى تأكيد العمل على التجديد لقوات اليونيفيل في إطار الحفاظ على الاستقرار في الجنوب. وقال سلام ردًّا على سؤال عن صحّة الحديث عن منطقة عازلة في الجنوب تطالب بها فرنسا والولايات المتحدة: "ما سمعت هالشي أنا". كما تابع الرئيس بري تطورات الاوضاع العامة والمستجدات خلال لقائه مستشار رئيس الجمهورية العميد أندريه رحال.

في الوضع الميداني جنوبا اتسمت الساعات الأخيرة بسخونة لافتة اذ استهدفت أولا  غارة إسرائيلية سيارة على طريق الطويري- صريفا في قضاء صور، أدّت الى سقوط قتيل. ولاحقا، أعلن المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي أن "طائرة لسلاح الجو هاجمت في جنوب لبنان وقضت على المدعو علي عبد القادر إسماعيل والذي عمل قائداً في ركن قطاع بنت جبيل في حزب الله". وقال عبر "إكس": "كان المدعو إسماعيل ضالعاً في محاولات إعادة إعمار قدرات حزب الله في منطقة بنت جبيل حيث شكلت أنشطته خرقاً للتفاهمات بين إسرائيل ولبنان".

وعصرا افيد بأن مسيرة استهدفت بصاروخين منزلاً في بلدة دبعال في قضاء صور وهرعت سيارات الاسعاف الى المنزل المستهدف عند ساحة البلدة. وسقط بنتيجة الغارة قتيلان.

كما حلقت مسيرة إسرائيلية من نوع "هيرمز ٩٠٠"، على علو متوسط، فوق اجواء عربصاليم، حبوش، والوادي الأخضر. كما أفيد عن تحليق الطيران المـسير على علو منخفض جدا فوق اجواء انصار، الزرارية، عبا، جبشيت، الخرايب، وبريقع فيما حلقت مسيرة إسرائيلية على علو منخفض فوق عدد من بلدات قضاء صور  وصولاً إلى ضفتي الليطاني في منطقة القاسمية.

 

النهار اللبنانية في

27.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004