ملفات خاصة

 
 
 

زياد الرحباني صانع الأمثال وخباز السخرية السوداء وجاز الانكسارات

المؤرخ الحقيقي لتحولات لبنان ونبض أهله

شادي علاء الدين

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

رحل زياد الرحباني. كان يقيم معي في غرفة صغيرة على سطح المدينة، فيها بيانو عتيق ولغة جديدة وشتائم ونافورة قهوة. لم نكن وحدنا، بل نجحنا في أن نجر المدينة كلها إلى هذه الغرفة، فصارت تتوسع وتتوسع إلى أن صارت هي المدينة بكل ما فيها من أحوال وأخبار وصخب وضجيج وأمل وانكسار.

قيل اليوم إن زياد مات. لا أعرف إذا كان الخبر وصل إلى تلك الغرفة. يجب ألا تعرف كي لا تتقلص وتعود لتكون مساحة ضيقة لا تتسع لأحد، ولا تحضن الأصوات والتجريب والموسيقى والسخرية والرحابة، ولا تصلح لأن تكون بلادا أو وطنا أو أي شيء. لا بأس بالكذب في مثل هذه الحالة، بل قد يكون فعلا نبيلا للحفاظ على مساحة الجمال والموسيقى والحرية في المدينة التي وسّعها زياد لتحتضن الآمال والمخاوف والرغبات والمزاح وكل ما يجعل الناس أحياء وقادرين على الاستمرار والعيش.

سنقفل أبواب المدينة دون موتك يا زياد. لن نتركه يتسلل إليها ويغرقها. سندافع عنها بإحيائك إلى الأبد على طريقتك الخاصة، المضادة للأيقنة، والساخرة من فكرة الخلود. لقد سبق لك أن علمتنا الطريقة، وسنستعملها لكي نمنع رحيلك من الحدوث، بأن نسخر منه ونحوله إلى نكتة، كما كنت ستفعل في استقبال فكرة الموت.

سنخبر عنك ونتحدث من خلالك ونرويك، وسنهاجم السلطات بأدواتك، وسنقتحم زمننا البائس ببهجة جازك الشرقي، وسنعرّف عن أنفسنا بمسرحك، ونكتب بما فاض من أثر لغتك. ولكننا لن ننسخك، بل سنقيم خطوطا تتوازى معك. لن نقتلك بالنبوة الزائفة، بل بشجاعة الرغبة في التجاوز الذي يحتضن تجربتك ويتمثلها في الجديد والكامل والممكن.

نشأ مشروع زياد الرحباني من تصادم عاطفتين عنيفتين متضادتين، هما إعجابه الكبير بأهله وصورتهم، والرغبة الحادة في الاستقلال عنهم وتكوين صوته الخاص

كنت فعلت ذلك، أنت الذي نشأت في بيت مسكون بالصرامة والانضباطية والموسيقى والمسرح، تعرفت مبكرا الى فكرة المعمل وسلطة الأيقنة التي منحت لوالدك "الديكتاتور الموسيقي" والمسرحي الجميل، ولوالدتك السيدة فيروز التي جعلت مشروع الأغنية اللبنانية ممكنا.

تصادم عاطفتين

نشأ مشروع زياد الرحباني من تصادم عاطفتين عنيفتين متضادتين، هما إعجابه الكبير بأهله وصورتهم، والرغبة الحادة في الاستقلال عنهم وتكوين صوته الخاص. لم يكن مشغولا بقتل الأهل، بل بإقامة مشروع متواز معهم يتمثل خلاصة تجربتهم ويأخذها إلى أفق مغاير وجديد. نجح في ذلك بشكل باهر، ولم يكن مجرد رحباني آخر أو استئنافا مملا وتكراريا لتجربة الرحابنة، بل كان ذلك الآخر المتمرد الذي فهم حدود تجربتهما ومعانيها ومراميها وأحلامها وأوهامها، واعترض عليها باختراع أدوات مختلفة وجديدة وخاصة، ينتقدها بشراسة من دون أن يلغيها، ويقيم موازيا لها من زاوية التناقض والاختلاف، وليس التنويع على المنجز نفسه من زاوية الاعتراض.

لم يعترض زياد على منجز الرحابنة من داخله ومن قلب أساليبه ليكون مجرد مجدد ومطور، بل ذهب إلى القطيعة التامة، وبذلك كان مسرحه تفكيكا للأساطير ودفعا للواقع المر إلى الواجهة بفظاظة ومباشرة. لم يؤلف شخصيات، بل لاحقها ووثقها والتقط نبضها ولغتها، ولم يمسرح تلك اللغة، بل نظمها ومنحها إيقاعا وشكلا. كان دائما يلتقط السائد والمعروف والذي يبدو واضحا، فيعيد تعريفه بشكل مكثف وسهل وقابل للاستعمال والتوظيف والتحفظ والانتشار، فيبدو أنه اخترعه، فيصير عمليا صاحبه وينتسب إليه.

المؤرخ الشعبي الوحيد

لذا قد يكون المؤرخ الفعلي الشعبي الوحيد المعترف به لفترة الحرب الأهلية وما تلاها، بكل ما يضطرم فيها من عناوين الطائفية والعداوات والجنون وأثر الحرب والعلاقة مع التراث والأوهام والحدود بين المناطق والسيكولوجيا والخيارات الصعبة والمستحيلة التي يلجأ إليها الناس، واليأس والخراب، وكل ذلك. ولف كل تلك العناصر في بناء مسرحي يحتوي الهشاشات ويبرزها بعنف تعبيري شديد جديد وغير مألوف. ففي مقابل التنظيم الانضباطي الصارم وشبه العسكري لمسرح الأخوين رحباني، والذي يمكن من مشاهدته تلمس أثر التوجيه الصارم لعاصي ومنصور في الوقفات والحركات والديكورات وطريقة التمثيل، وفي طبيعة النصوص نفسها والبنية الغنائية التي تطغى على الحوار، فرش زياد مسرحا فوضويا بريا، فقيرا بالديكورات، وأدخل فيه ممثلين غير محترفين، وركب بناء نصيا شوارعيا يحفل بالعنف والبذاءة، والأهم من ذلك بانعدام البطولة.

يمجد ذلك المسرح، الانكسار والهشاشة والمهزومين الذين يجاهدون للتحايل على ما يفوق طاقاتهم، مثل الحرب والفقر وحتى التراث نفسه، الذي يحضر ثقيلا في هيئة تشبيحية أشبه بالميليشيوي المسلح والغاضب وغير المتزن.

يمجد مسرح زياد الرحباني الانكسار والهشاشة والمهزومين الذين يجاهدون للتحايل على ما يفوق طاقاتهم، مثل الحرب والفقر وحتى التراث نفسه

استولد ذلك الصراع كذلك فيروز جديدة لم تكن ممكنة الوجود داخل منطق الأخوين رحباني. لقد ساق فيروز من السماء إلى الأرض، فصارت شبيهتنا وقريبتنا بلغتها وكلامها وموسيقاها التي قدمها لها زياد. "كيفك إنت" كانت أبرز علامات هذا النزول، لغة وموسيقى وغناء، وفيها غادرت عالم الكنايات والبلاغات والشعرنة المفرطة لكل شيء، لتسكن في عالم يتبنى شعرية رائقة، أليفة، أرضية، مباشرة، حية، واقعية، والأهم من ذلك أنها تستعمل اللغة اليومية العادية وتزج بها في الأغنية، كما أنها تفتح موضوعا غير مسبوق في تاريخ الأغنية العربية، وهو الحبيب المتزوج، والذي صار "عندو ولاد". تدافع الأغنية عن نوع من العاطفة المهزومة، تتبنى رقة الذكريات من دون أمل ولا ألم، مع رشة بريئة من الغزل الذي يبدو مسروقا وعابرا، بينما يبقى الأساسي هو السؤال عن الأحوال بما يتضمنه من هدوء واعتراف بالواقع من دون لوعة.

وفي أغنيات كثيرة دخل الزعل والملل، وكذلك المقاربات الساخرة بين الأمس واليوم، وبين "الكميون" الذي كان رائقا وموزونا بينما بات اليوم مجنونا، وانفتحت فيروز كذلك على التعبير عن رفض الحب كله: "تمرق عليّ، اْمرق، ما بتمرق، لا تمرق"، مقدمة بذلك ولادة جديدة لها كنجمة معاصرة، مع الاحتفاظ بهالتها القديمة. لقد صنع زياد لوالدته تراكما فنيا جعل منها نجمة عابرة للأجيال والأذواق والأزمان، وربما قد يكون من دون رغبة منه قد ساهم في تمكين أيقنتها التي كان يعترض عليها، ولكنه في كل الأحوال جرّ صورتها إلى مقام أرضي مشبع بالعادي والواقعي.

موسيقى الجاز

وفي مشروع الجاز الشرقي، يستكمل زياد البناء على الهش والخسارات. بالنسبة اليه، وكما يعبر في أحد حواراته، فإن الجاز هو موسيقى الذين لم يعودوا يملكون ما يخسرونه. ومن هذا التعريف، كان مشروع الجاز عنده يتكامل ويتآلف مع خطابه المسرحي، ويستكمله ويفتح كذلك على المجال السياسي والطبقي.

وقد حرص على ملاءمة دلالة الخسارة وتضمينها في قلب البنية الموسيقية لمشروع الجاز، فصارت عمليا عنصرا تأليفيا، وليس مجالا تأويليا يمكن أن يحتمل إحالات لا تحصى، بل أمسك بالدلالات من خلال العناصر والخيارات التي تشكل مادة الشغل على موسيقى الجاز الصرفة أو تلك المتآلفة مع نصوص أغان تستحضر معاني الهشاشة والانكسار، وتعاين المرارات بسخرية، وتمارس الهجاء السياسي والنقد الاجتماعي بنوع من السخرية الشرسة والمصبوبة في قالب سلس يسهل الانتشار والذيوع.

حرص على ملاءمة دلالة الخسارة وتضمينها في قلب البنية الموسيقية لمشروع الجاز، فصارت عمليا عنصرا تأليفيا، وليس مجالا تأويليا يمكن أن يحتمل إحالات لا تحصى

لذا حفلت موسيقى الجاز عنده بعناصر خاصة يسهل التعرف اليها، تتجلى في أنه لم يستدمج موسيقى غربية في إطار شرقي، بل ولد نوعا من الصراع والحوار المفتوح بينهما، ومزج بين مقامية شرقية تؤديها آلات العود والبزق، وبين عناصر الجاز الميالة إلى الارتجال وتوظيف آلات النفخ الغربية.

لذا سيطر النقص واللااكتمال كنظام داخل تجربته في الجاز، وهو شكل لا يتعارض مع الجهد الكبير الذي يتعامل فيه زياد مع عمله الموسيقي، بل يتركه يتبلور كخيار قصدي مشرع على استخدامات خاصة للارتجال المقامي والإيقاع المتقطع والمنهك وحوار الآلات. جرّ ذلك الجاز وفق توليفة زياد لأن يكون حاملا للفوضى والتناقضات، ومشبعا بالسياسة، ومنحازا إلى الخاسرين والخارجين على التنميط والاعتراف. جرّه من الصالونية إلى الشارع والمطعم والتظاهرة والكلام اليومي، فصار موقفا مكتمل الأركان، يعيد تمركز هذا النوع في الموسيقى في مجال تعبيري نافر ومشاغب وحافل بالتوتر والقلق والتحدي والسخرية.

المؤثّر الكبير

ذلك النهج أثّر في حشد كبير من الموسيقيين الذين يمكن تلمّس أثر زياد على موسيقاهم، وعلى طبيعة مشروعهم بحد ذاته، حتى إذا كان ينتمي إلى منطقة موسيقية مغايرة، وإلى تجربة شديدة الاختلاف والتناقض مع ما جاء به. أثر زياد، يكمن قبل كل شيء في منطق التعامل مع العمل الفني ككل، وفي دفع التجريب والتحدي وكسر الأنماط والأعراف والمرجعيات إلى الواجهة. ينهل الموسيقيون الشباب من التأسيس الصلب الذي قام به لكل تلك العناصر، والذي منحها ملامح وصفات ومناهج. لذا، وعلى الرغم من ظهور كثير من المستنسخين الرديئين لزياد، والذين يفتقرون إلى أدنى المعايير الفنية، نشأت مدارس فنية ومشاريع وخيارات تتبنى التمرد والتجريب، مثل "مشروع ليلى" و"كايروكي" وفرقة "الراحل الكبير" وغيرهم. لا ينتمي كل هؤلاء إلى نموذج موسيقي واحد، ولا يتبنون نهج زياد في مشروع الجاز، ولكنهم يتبعون خطاه في ما يخص التمرد والتجريب وبناء لغة غنائية وموسيقية لا تردد صدى السائد، بل تخترقه وتسفهه بحثا عن آفاق جديدة للقول والتعيش والتعبير.

صنع زياد لغة صارت بمثابة الأمثال، وباتت أشبه بالتراث الشفهي، فكان مؤرخ البلاد الموثوق به الذي نعود إليه لنعرف ماذا جرى حقا، وماذا سيجري لاحقا

ويمكن كذلك تلمّس أثر لغته ومنطقه في مجال قد يبدو بعيدا جدا عنه، ولكن يمكن ملاحظة مدى تأثيره في تكوين مناهجه، وهو المجال الذي انفجر بقوة في هذه الفترة، وأعني به مجال الراب والتراب والموسيقى الإلكترونية وموسيقى المهرجانات. لغة الراب تتحدث عن المحظور والممنوع وغير المعترف به، وتقدم بأصوات تتمرد على منطق الغناء الشرقي وأصوله، وتذهب إلى تبني الرداءة الصوتية كنسق احتجاج ورفض، وتدفع به إلى الواجهة كنمط جمالي جديد ينسجم مع المواضيع الممنوعة التي تروي قصص الحب الخائب، والإدمان، والهزائم، والفقد، والاكتئاب، وانهيار الروابط الاجتماعية. وفي منطق المهرجانات نعثر على تلك الاحتفالية الزقاقية اللاهية والساخرة والمضطربة، وحتى في نتاج فرقة "كايروكي" نعثر على نمط جديد من "الروك"، بتعبير موسيقي جديد، وكلام يتحدث عن العواطف الممزقة في زمن التسليع، ويبني خطط الفرار والهروب والاحتجاج والغضب، وكذلك تستعيد فرقة "الراحل الكبير" بعد النقد السياسي والاجتماعي عنده وتوظفه في إطار جديد وحي.

ونتلمّس أثر زياد في نتاج الموسيقي الفلسطيني الشاب فرج سليمان، وفي كثير من المسرحيات والأفلام والبرامج، وحتى في المقالات والأعمال الأدبية، ويتجلى بشكل أكثر وضوحا في عروض "الستاند آب كوميدي" التي راجت في الفترة الأخيرة في لبنان والمنطقة، بوصفها النسق الأكثر تعبيرا عما لا يقال، وعما لا يمكن ضبطه. نتلمّس ملامح تجارب كوميدية شابة تحاول بناء خطوط موازية للخط الذي فتحه زياد، مستفيدة من تجربته ومناهجه لتصميم نصوص ذكية، تقارع السلطات وتسخر منها، وتفكك صلابتها بالهزء السيّال المنتشر والسهل الحفظ.

لقد صنع زياد لغة صارت بمثابة الأمثال، وباتت أشبه بالتراث الشفهي، فكان مؤرخ البلاد الموثوق به الذي نعود إليه لنعرف ماذا جرى حقا، وماذا سيجري لاحقا.

 

مجلة المجلة السعودية في

26.07.2025

 
 
 
 
 

آثار على الرمال... زياد وبيروت وراديو صغير

أحمد محسن

أين تذهب الأعوام عندما تنقضي؟ أين تذهب الموسيقى؟ يقول العلماء إنها تتابع طريقها إلى الفضاء. ولكن، مع أنّ الصوت يستطيع تجاوز الغلاف الجوي، أحياناً لا يصل إلى الغرفة المجاورة. في وداعه، أتذكّر غرفتي الصغيرة، في منزلنا القديم في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكيف بدأت صداقتي مع زياد الرحباني عبر أثير "صوت الشعب"، وكيف أصبحت يسارياً، وكيف غادرت الغرفة لاحقاً، ثم غادرت اليسار وعدت إلى الغرفة، ثم خرجت، وعدت، وخرجت، وهكذا... ما زال الراديو في مكانه، لكن الحياة حوله تبعثرت قليلاً

في سنواته الأخيرة، اختار زياد الصمت. ولم يكن هذا الخيار وجودياً لشخصٍ يكاد يكون صوتاً أكثر من كونه إنساناً. لقد كان زياد الرحباني صوتاً في الأساس، اضطر إلى أن يكون شخصاً. وكنّا نحب ذلك الصوت. ارتبكنا أحياناً وكثيراً من سلوك إنساني يستتبعه. لكننا في مكانٍ عميق، داخل أرواحنا المتصدّعة بقذائف الحرب والمفتتة بأسلاك الطوائف، كنّا نعرف أنّه صوت. اختار زياد في سنواته الأخيرة ألا يكون أباً. لمرّةٍ أخيرة وحاسمة، استجمع ما تبقّى له من قوّة، واختار أن ينسحب من أبوّةٍ ما انفكّت تلازمه، لأبناءٍ لم يكونوا أبناءه يوماً، ولم يرِد في حياته أن يكون أباً لهم: اليساريون المهزومون والجالسون في مقاهي الحرب والمهاجرون بعد الذبول، والذين هم مثلي هربوا من الحرب عبر راديو صغير

تعاملنا بمنتهى القسوة مع زياد الرحباني. ويجب أن نشعر بالخجل منه. لم ندعه وشأنه. ولطالما أردنا منه موقفاً أكبر منه ومنّا... لم نكتفِ بذلك، بل ألبسناه قناعاً صلباً هو العبقرية. ولا أعرف بأي عين سننظر إليه الآن، نحن الذين لم نعترف يوماً أنه لم يكن سوى واحدٍ منّا. لماذا لم ينتبه أحد إلى أنه أنفق عمراً شاقّاً وهو يحاول إزاحة القناع الثقيل عن وجهه؟

تعاملنا بمنتهى القسوة مع زياد الرحباني. ويجب أن نشعر بالخجل منه. لم ندعه وشأنه. لم نستمع إلى الموسيقى لبضع دقائق. ولطالما أردنا منه موقفاً أكبر منه ومنّا. وهذا ما زلنا نفعله مع بعضنا البعض، ويفعل بنا هذا ما يفعله. استدرجناه إلى الحرب بعدما انتهت. وبعدما دفنّاها ولوّحت فوق ذكراها النساء بمناديل الأسف، التي سحقتها أبصار الأبطال والمنتصرين. استدرجناه إلى السجالات التي استعجلنا عدّها أخلاقيةً، كشرطٍ غير معلن لكي نعترف بوجوده بيننا. لم نكتفِ بذلك، بل ألبسناه قناعاً صلباً هو العبقرية. ولا أعرف بأي عين سننظر إليه الآن، نحن الذين لم نعترف يوماً أنه لم يكن سوى واحدٍ منّا. لماذا لم ينتبه أحد إلى أنه أنفق عمراً شاقّاً وهو يحاول إزاحة القناع الثقيل عن وجهه؟ لكي يقول ما يريد أن يقوله، من دون أن يتربص به أحد

طوال حياته، أراد أن يمشي. مثل أي أحد منّا، أراد أن يمشي وأن يتحدث. وأن يكون في صفٍ واحد مع عمّالٍ ومياومين وعازفين وأشخاص "عاديين". وقد لا نتفق معه في ما يقوله، وقد نشعر بأنه عدوّ للحداثة ولخطاباتها. ولكن الحداثة ليست طوطماً. وهو حرّ في ما يحب وفي ما يكره. وقد نعجب أنّ الكتائبيين يحبّونه مع أنه بقي منحازاً للفلسطينيين حتى أغلق عينيه أخيراً. وقد نعجب، وقد نسأل. لكن يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا حاربنا موسيقياً؟ لماذا حمّلناه دائماً أكثر من طاقته، وأردنا منه دائماً ألا يكون هو نفسه، بل أن يكون أباً، لنحارب أبوته؟ وما هذا الفراغ الهائل الذي يتركه الآن سوى دليلٍ لكونه كان صوتاً في الأساس

والآن، يعود إلى قلب فيروز لينام. وميس الريم أشبه بدعوة، من أجل الحداثة لا ضدّها. كانت تحديثاً بالغ الأثر في الألحان من دون أن يكون في ذلك انقطاع عن الزمان والمكان، أو عن الروح المتألّمة لنزيف الآخرين. ما أراد زياد الرحباني قوله، والآن يمكن فهمه أكثر، هو أنّ الموسيقى تحمل الحقيقة على ظهرها وفي متنها. تأخذني مَيس الريم إلى طفولتي وإلى المستقبل في الوقت نفسه. آخذها معي أينما ذهبت، وتأخذني إلى فلسطين، وإلى روما أيضاً. وإلى بيروت. هل يمكنني ألا أحبّ ذلك الصوت؟

لم يكن زياد الرحباني عبقرياً. والعبقرية صفة في غاية القسوة. يراد منها إخراج الطابع الإنساني ممن تُطلَق عليهم. ولم يكن حساساً، لأنّ النعت في سياقه العبثي يضمر شيئاً من الاستخفاف. الحساسية صفة بشرية، وهو مثلنا لم يقرر تجاهلها. أنفقها على الموسيقى. ولم يكن نبيّاً، على ما درجت العادة في الأدبيات الصحافية الملوّثة بالنزعات الإسكاتولوجية المشوّهة. ولم يكن قديساً أيضاً

مع ذلك لم يكن عبقرياً. والعبقرية صفة في غاية القسوة. يراد منها إخراج الطابع الإنساني ممن تُطلَق عليهم. ولم يكن حساساً، لأنّ النعت في سياقه العبثي يضمر شيئاً من الاستخفاف. الحساسية صفة بشرية، وهو مثلنا لم يقرر تجاهلها. أنفقها على الموسيقى. ولم يكن نبيّاً، على ما درجت العادة في الأدبيات الصحافية الملوّثة بالنزعات الإسكاتولوجية المشوّهة. ولم يكن قديساً أيضاً. حياته مليئة بالأخطاء، مثل حياة أي أحد. كان موسيقياً بكل بساطة، وهذا يجب أن يكون كافياً لنهدأ ونستمع. وقد كان العالم بالنسبة له، عبارةً عن أصوات مشتتة، فاعتقد طوال حياته أنّ مهمته هي تتبّعها والتقاطها، ومساعدتها في العبور. أليست هذه هي الموسيقى؟ الأصوات التي تأتي وتذهب، ولا نعرف من أين وإلى أين؟

جعلتنا تلك الموسيقى نبتسم، وأحياناً جعلت قلوبنا تنقبض. أراه الآن منهمكاً خلف البيانو ينجز عملاً ضخماً. وقد أراد التأكيد في أكثر من مناسبة، أنّ ما يجمعه بالعالم، وبالعمال وضحايا الاستعمار وما شئنا من أفكارٍ كبيرة، كان يخرج من هناك. من ذلك البيانو. جعلنا الصوت نبتسم. وإذ تبعنا تلك الموسيقى، وجدنا أنفسنا خارج الحرب. لقد كنت واحداً من الذين تبعوا هذا الصوت يوماً، إلى حيث ينتهي، فوجدتني خارج غرفة الحرب المغلقة. بعد كل شيء، كيف يمكنني ألا أحبّ صوتاً كهذا؟ والآن، كيف يمكن لهذا الصمت ألا يكون موحشاً؟ 

عرفت متأخراً أنّ "آثار على الرمال" لم تكن فقط تلك المعزوفة الشهيرة لزياد، وأنّه أعدّها في الأصل، لمسلسل دارمي لبناني، لم تتسنَّ لي مشاهدته. شاهدت الحرب، ولطالما اعتقدت أنّ ذلك كان هو المسلسل. لم تفارقني الموسيقى وأنا أكتب. فالموسيقى في نهاية الأمر لا تغادر الغلاف الجوي. تبقى آثاراً على الرمال. تجيء الموسيقى وتذهب، مثل ذاكرة رمادية، أحياناً مفترسة وأحياناً مُستَسلِمة. مثل جيل كامل يعترف بالهزيمة

اعترف زياد أخيراً باسم كثيرين ونيابةً عنهم. ترك خلفه راديو صغير تبعثرت حوله حياة لا تحتاج إلى توضيب. والبقية في حياة الأحياء.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

 

موقع "رصيف 22" في

26.07.2025

 
 
 
 
 

بعد رحيله.. أبرز محطات الموسيقار زياد الرحباني في السينما

إسراء زكريا

ودع لبنان والعالم العربي، صباح اليوم السبت، الموسيقار والمفكر المسرحي زياد الرحباني، الذي رحل عن عمر ناهز 69 عاما، بعد مسيرة فنية استثنائية امتدت لأكثر من أربعة عقود، عرف خلالها برؤيته النقدية الثاقبة، ومواقفه السياسية والاجتماعية التي لم تعرف المساومة.

ورغم أن بداياته كانت في المسرح والموسيقى، فقد كان له حضور مميز في السينما، حيث شارك في عدد من الأفلام كملحن وممثل، في هذا التقرير.. نستعرض أبرز مشاركاته السينمائية التي عبرت عن صوته الحر المتمرد، وأسهمت في ترسيخ مكانته كفنان شامل ومتعدد المواهب.

"نهلة" (1979)

بدأ زياد الرحباني مسيرته السينمائية بتأليف الموسيقى التصويرية لفيلم "نهلة" للمخرج الجزائري فاروق بلوفة، والذي تم تصويره بين بيروت والجزائر.

يروي الفيلم قصة صحفي جزائري يزور بيروت قبيل اندلاع الحرب الأهلية، ويتتبع حياة مطربة شابة تُدعى "نهلة"، التي تجسد رمز الوطن الحالم المنهار.

وحملت موسيقى الرحباني في هذا العمل طابعا سياسيا وشاعريا، عكست الأجواء العربية المضطربة آنذاك.

"وقائع العام المقبل" (1985)

في فيلم "وقائع العام المقبل" للمخرج السوري سمير ذكري، وضع زياد الرحباني الموسيقى التصويرية لقصة شاب يحلم بتأسيس أوركسترا تمزج بين الموسيقى الشرقية والغربية.

العمل يستعرض صراعات الهوية والتجديد في مجتمع عربي متعب من التقاليد.

وجاءت الموسيقى بلمسة كلاسيكية حداثية، تحاكي التوتر بين الحلم والواقع، وتحمل طموحا جماليا يوازي فلسفة الفيلم البصرية.

"بيروت اللقاء" (1987)

في فيلم "بيروت اللقاء" للمخرج اللبناني برهان علوية، الذي يصور علاقة حب تنمو وسط واقع ممزق بالحرب الأهلية والطائفية، شكلت موسيقى زياد الرحباني صوتا سرديا موازيا للصورة، تجسد من خلاله الانقسام الداخلي، والضياع، والحنين إلى زمن لم يعد ممكنا.

"طيف المدينة" (1992)

في فيلم "طيف المدينة" للمخرج اللبناني جان شمعون، ألف زياد الرحباني موسيقى تصويرية هادئة وحزينة، لتعكس قصة لبناني يعيش في المنفى، ممزقا بين الحنين إلى الجذور وواقع وطن يتغير بلا رحمة.

"متحضرات" (1999)

في فيلم "متحضرات" للمخرجة اللبنانية رندة الشهال، قدم زياد الرحباني موسيقى تصويرية جمعت بين السخرية والمرارة، إذ يرصد العمل حياة بيروت خلال الحرب الأهلية، حين يترك الأثرياء منازلهم للخادمات الأجنبيات، فتتحول المدينة إلى فضاء فارغ من العدالة والانتماء.

"طيارة من ورق" (2003)

في واحد من أبرز أدواره التمثيلية، شارك زياد الرحباني في فيلم "طيارة من ورق" للمرة الثانية مع المخرجة اللبنانية رندة الشهال، حيث قدم شخصية ضابط درزي في الجيش الإسرائيلي.

وتدور قصة الفيلم حول فتاة تقع في حب جندي من الجانب الآخر من الحدود، ما يعكس تعقيدات الواقع والانقسام الداخلي.

إلى جانب تمثيله، قام الرحباني بتأليف الموسيقى التصويرية التي جسدت بعمق تمزق الهوية وانقسام الذات.

"ظلال الصمت" (2006)

في فيلم "ظلال الصمت" للمخرج السعودي عبدالله المحسن، وضع زياد الرحباني موسيقى تصويرية تنسجم مع أجواء العمل، الذي تدور أحداثه في صحراء غامضة تضم مركزا للتحكم بالعقول، معبرا عن المناخ النفسي المشحون بالقمع والعبث والجنون داخله.

من على خشبة المسرح إلى الشاشة الكبيرة

خلال السنوات الماضية، أعيد تقديم بعض من أهم مسرحيات زياد الرحباني بنسخ سينمائية حديثة، منها مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟" التي عرضت عام 2016 في دور السينما، وحققت إقبالا واسعا من أجيال جديدة لم تعاصر العرض الأول. كما تحولت مسرحية "فيلم أميركي طويل" إلى عمل سينمائي يحافظ على رؤية زياد الساخرة والمتشائمة في آن واحد، مقدما طرحا فلسفيا حول الإنسان العربي المهزوم وسط واقع سياسي عبثي.

 

####

 

زياد الرحباني.. نغمة المقاومة بوجه الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان

محمد حسين

توفي الموسيقار اللبناني الكبير زياد الرحباني، اليوم السبت، عن عمر ناهز 69 عامًا، بعد مسيرة فنية استثنائية امتدت لنحو خمسة عقود، ترك خلالها بصمة لا تمحى في الموسيقى في لبنان والعالم العربي.
منذ بداياته، لم يكن زياد فنانًا يكتفي بالجماليات الموسيقية وحدها، بل اختار أن يكون الفن عنده أداة وعي وتحرر؛ فإلى جانب إبداعه الموسيقي، حملت أعماله رسائل سياسية وإنسانية واضحة، عبّرت عن انحياز للقضايا القومية العربية ومجابهة الاحتلال الإسرائيلي
.

تمجيد تاريخ الصمود الفلسطيني

من أبرز ما قدّمه زياد في هذا السياق، تعاونه مع الفنان خالد الهبر في عام 1977 في توزيع أغنية أحمد الزعتر، المستوحاة من قصيدة محمود درويش التي تمجّد الصمود الفلسطيني في وجه الاجتياح.

وتم تسجيل هذا العمل النادر على شريط "كاسيت" ذُكر فيه أن زياد تولّى القيادة الموسيقية إلى جانب التوزيع.

لاحقًا، عاد ليتعاون مع الهبر مجددًا في "مديح الظل العالي" في سنة 1987، وهي أيضًا من قصائد درويش، ووزّعها زياد بمرافقة أوركسترا أثينا، لتخرج بشكل ملحمي عبّر عن شجون المنفى، وجراح الأرض المحتلة.

عائد إلى حيفا.. رواية كنفاني بموسيقى الرحباني

في عام 1982، قدّم زياد الرحباني موسيقى فيلم "عائد إلى حيفا" للمخرج العراقي قاسم حول، المأخوذ عن رواية غسان كنفاني التي تحمل الاسم نفسه. وقد شكّلت الموسيقى عنصرًا روحيًا ومكمّلًا للنص الروائي المؤلم، الذي يعرض حكاية عائلة فلسطينية هجّرت قسرًا من حيفا عام 1948، لتعود بعد عشرين عامًا وتجد ابنها، الذي تركته رضيعًا، قد أصبح مجنّدًا في الجيش الإسرائيلي.

عكست موسيقى زياد في الفيلم تلك المرارة التي حملتها الرواية، وساهمت في تعميق الإحساس بالفقد والانكسار، دون أن تتخلى عن لمسة الأمل المتوارية خلف الحزن، كما لو كانت تقول: ما زالت فلسطين تسكن في الوجدان، حتى لو غابت عن الواقع.

مواقفه من حزب الله وحق المقاومة في لبنان

في تصريحات لقناة الميادين ، كشف الموسيقار اللبناني زياد الرحباني عن رؤيته الخاصة لموضوع المقاومة في لبنان، مؤكدًا دعمه الثابت لمبدأ المقاومة المسلحة في وجه الاحتلال، مع إقراره بتراجع بعض القوى التقدمية عن هذا المسار لأسباب واقعية.

وفي حديثه عن الحزب الشيوعي اللبناني، الذي لطالما ارتبط به فكريًا، أقرّ بأن الحزب لم يعد قادرًا على التفرغ لمشروع المقاومة كما في السابق، مرجعًا ذلك إلى "ظروف داخلية صعبة، وضعف التمويل".

وفيما يتعلق بمشاركته في مهرجان الانتصار عام 2006، الذي أُقيم عقب انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان، دافع الرحباني عن حضوره قائلًا:"كان لا بد من الاحتفال بهذا اليوم، لأن لبنان انتصر بالفعل، ولأن مثل هذه الأخبار لا تتكرر كثيرًا في التاريخ المعاصر، ولا تُمحى بسهولة."

وأضاف مؤكدًا اقتناعه بأن ما حدث في حرب تموز غيّر النظرة الإسرائيلية بشكل جذري، وأعاد ترتيب حسابات الردع.

الوعد الأجمل.. حسن نصر الله وقناعة هزيمة إسرائيل

أما عن مشاركته في مهرجان "الوعد الأجمل"، الذي نُظم بعد اكتمال إعادة إعمار الضاحية الجنوبية، فقال:"ذهبت مع جمهور الناس، وكان الحضور ممثلًا من كل فئات الأجهزة الأمنية. سبب وجودي في المهرجان كان الاحتفاء بإعادة بناء الضاحية بهذه السرعة المذهلة، رغم الدمار الهائل والمجازر التي تعرضت لها."

وحين سُئل عن موقفه من حزب الله والسيد حسن نصرالله، رغم كونه مسيحيًا وعلمانيًا، أوضح الرحباني: "أنا لست من حزب الله، وإنما أنتمي إلى موقع الحزب الشيوعي، الذي يحتاج اليوم إلى إعادة تجديد."

لكنه أعرب في الوقت ذاته عن احترامه البالغ للسيد نصرالله، قائلًا:"السيد حسن نصرالله ليس خطيبًا دينيًا تقليديًا، بل هو أقل السياسيين استخدامًا للاستشهادات الدينية والآيات القرآنية، رغم طول خطاباته، بعكس كثير من النواب."

وأشار إلى أن السيد نصرالله منحه جرعة من الاطمئنان، وأعاد إحياء القناعة بأن إسرائيل ليست قوة لا تُقهر، بل يمكن مواجهتها حين تتوافر الإرادة والإيمان بالمقاومة.

 

####

 

زياد الرحباني.. الموسيقار المتمرد وآراء سياسية صادمة

سوزان سعيد

هزت صدمة الوسط الفني في لبنان والعالم العربي عقب الإعلان عن وفاة الملحن اللبناني زياد الرحباني، نجل الموسيقار عاصي الرحباني، والمطربة اللبنانية الشهيرة فيروز، اليوم عن عمر ناهز 69 عامًا.

عشق الرحباني السياسة تمامًا كعشقه للألحان والموسيقى، ولم يتبنى المواقف المحايدة تجاه القضايا السياسية الجدلية كغيره من الشخصيات العامة، لكي لا يخسر قطاعًا من جمهوره، بل عرف طوال فترة حياته بتصريحاته السياسية المثيرة للجدل ليست في لبنان فقط بل في المنطقة العربية بأكملها، يستعرض التقرير التالي أهم الآراء والمواقف السياسية للملحن الراحل التي تخص الوطن العربي.

وصف بشار الأسد "بالصامد الأكبر"

أثار الملحن الراحل جدلًا واسعًا، عندما صرح في قناة "المنار" التليفزيونية التابعة لحزب الله، بأن بشار الأسد هو "الصامد الأكبر" معربًا عن دهشته بقدرة النظام السوري السابق على الصمود وإدارة البلاد أمام ما وصفه بـ"الحرب الكونية التي تخاض ضد سوريا" وأن الأسد أصبح "أكثر شدة".

وشنّت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، حملة لمقاطعة حفل الرحباني في مهرجان القاهرة للجاز،على خلفية هذه التصريحات، كما قاطع عدد من طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، حواراً مفتوحاً مع الرحباني، نظمه مركز الالتزام المدني وخدمة المجتمع في الجامعة الأميركية في بيروت، ضمن فعاليات مهرجان "التزم بتغيير أفضل"، رافعين لافتات مكتوب عليها "موهوب فنياً.. ساقط إنسانياً" و"عايشة الثورة بلاك وبلا تنظيرك يا ولد"، على غرار أغنيته "عايشي وحدا بلاك وبلا حبك يا ولد"، بالإضافة إلى لافتة أخرى تصفه بـ "الفاشي".

عاد الرحباني ونفى دعمه لنظام بشار الأسد قائلًا "لا أحد يدافع عن نظام الأسد، لكن اللى بيفكروا يغيروه بهذه الطريقة كذابين، دول جايين على السلطة بس، وهيفرجوك على شىء أسوأ من الأسد بكتير، يمكن يجيبوا رفيق حريري تانى يقوم بنفس الدور فى سوريا لمدة عشر سنوات على الأقل علشان ترجع سوريا زي الأول".

الإعجاب بحزب الله كسلاح مقاومة لإسرائيل

في لقائه مع قناة الميادين، علق الرحباني على قدرة سلاح مقاومة حزب الله على تغيير المفهوم السائد بأن "إسرائيل قوة لا تقهر"، لافتًا إلى ازدواجية معايير المجتمع الدولي، الذي يعترض على امتلاك حزب الله للسلاح، ويسمح لإسرائيل في ذات الوقت باستخدام ترسانة عسكرية في إبادة الفلسطينيين داخل قطاع غزة، دون إصدار قرار إدانة واحد.

ولفت الرحباني إلى خطورة امتلاك حزب الله سلاحًا اكبر من الجيش اللبناني، متسائلاً "من يجب أن يسلح الجيش اللبناني، أهو حزب الله أو الحكومات التي تتعامل مع الدولة اللبنانية، ولماذا ترفض الدولة أن تتسلح من روسيا أو من غيرها؟".

التعليق على انتماء والدته "فيروز" لحزب الله

أثار الراحل جدلًا كبيرًا عندما صرح بأن والدته المطربة فيروز معجبة بالأمين العام الراحل لحزب الله حسن نصر الله، دون الرجوع إليه، وتسبب هذا التصريح في غضب واسع داخل لبنان والدول العربية من جارة القمر والتي نأت بنفسها لسنوات طويلة بعد الحب الأهلية في لبنان عن التصريحات السياسية الجدلية تجنبًا لغضب الجماهير.

 

الشروق المصرية في

26.07.2025

 
 
 
 
 

الموت يغيب زياد الرحباني أيقونة المسرح السياسي الساخر

لندن ـ وكالات ـ «القدس العربي»:

توفي الفنان اللبناني زياد الرحباني عن عمر ناهز 69 عاما، السبت، بعد معاناة مع المرض في أحد مستشفيات بيروت تاركا جمهوره وأصدقاءه في حالة صدمة كبيرة، وبعد مسيرة فنية حافلة في الأغنية والكتابة والمسرح السياسي الساخر.

وزياد الرحباني، هو نجل الفنانة فيروز والراحل عاصي الرحباني، ترك خلال مسيرته الفنية الحافلة، «بصمة عميقة في الموسيقى والمسرح».

نعاه الرئيس اللبناني جوزف عون في تدوينة على منصة إكس قائلا «زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة، وأكثر.. كان ضميرا حيا، وصوتا متمردا على الظلم، ومرآة صادقة».

بدوره، قال رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام في منشور على منصة «إكس» ناعيا الراحل: «بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانا مبدعا استثنائيا وصوتا حرا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة».

وأضاف: «الرحباني جسد التزاما عميقا بقضايا الإنسان والوطن. فمن على خشبة المسرح، وفي الموسيقى والكلمة، قال ما لم يجرؤ كثيرون على قوله، ولامس آمال اللبنانيين وآلامهم على مدى عقود».

وتابع أن الرحباني «زرع بصراحته الجارحة وعيا جديدا في وجدان الثقافة الوطنية».

كما رثاه وزير الثقافة غسان سلامة قائلا «كنا نخاف من هذا اليوم لأننا كنا نعلم تفاقم حالته الصحية وتضاؤل رغبته في المعالجة. وتحولت الخطط لمداواته في لبنان أو في الخارج إلى مجرد أفكار بالية لأن زياد لم يعد يجد القدرة على تصور العلاج والعمليات التي يقتضيها. رحم الله رحبانيا مبدعا سنبكيه بينما نردد أغنيات له لن تموت».

ولد زياد عام 1956 ونشأ في عائلة فنية كبيرة، وبدأ مشواره في عمر السابعة عشرة لكنه اختار لنفسه طريقا فنيا مستقلا وناقدا، أقرب إلى نبض الشارع وهموم المواطنين اللبنانيين.

تنوعت أعماله بين التأليف الموسيقي والعزف والكتابة المسرحية والتمثيل وتعاون مع عدد كبير من الفنانين من بينهم والدته فيروز التي لحن لها «سألوني الناس» و«كيفك إنت» و«صباح ومسا» وغيرها.

بدأ زياد مسيرته الفنية مطلع السبعينيات، حين قدم أولى مسرحياته الشهيرة «سهرية». وكتب ولحن لاحقا لوالدته الفنانة فيروز العديد من الأعمال. في العام 1991، غنّت فيروز له «كيفك انت؟» ضمن أسطوانة أثارت جدلا بين من يحبون زياد الرحباني والتجديد في مسيرة فيروز والرافضين لذلك. وحقّق الإصدار نجاحا كبيرا.

ومن الأعمال الموسيقية الأخرى التي لحّنها لوالدته «أنا عندي حنين»، و«حبيتك تنسيت النوم»، و«سلّملي عليه»، و«سألوني الناس»، و«عودك رنّان»، وغيرها من الأغاني التي طبعت مسيرة فيروز الغنائية.

كما قدم الراحل أغان بصوته ذات طابع ساخر أو سياسي، ومنها «أنا مش كافر»، و«راجعين».

أيضا قدم الرحباني برامج إذاعية ومونولوغات مشهورة بصوته، تناولت الفساد والسياسة والمجتمع بطريقة ذكية وساخرة.

وكتب مقالات سياسية واجتماعية في صحف لبنانية بأسلوب ساخر ولاذع.

واشتهر زياد الرحباني بموسيقاه ومسرحياته السياسية والاجتماعية الناقدة. وتميزت مسرحياته بلغتها العامية الساخرة، وبطرحها المباشر لقضايا الحرب، الطائفية، الطبقية، والفساد.

ويعد زياد الرحباني أحد أبرز المجددين في الأغنية اللبنانية والمسرح السياسي الساخر. مزج بين الجاز والموسيقى الشرقية، وقدم أعمالا مختلفة من حيث التوزيع والأسلوب.

كان زياد الرحباني كاتبا وملحنا وموسيقيا ومسرحيا عاشقا للفن. أضحك الجمهور كثيرا بنقد ساخر، لكنه حاكى به الواقع اللبناني المرير من الانقسامات الطائفية والعصبيات والتقاليد. ولم ينج من انتقاداته، لا سيما في سنوات تألقه الأولى، فن والديه التقليدي والفولكلوري.

في العام 1980، حصدت مسرحية «فيلم أمريكي طويل» التي كانت وقائعها تجري في مستشفى للأمراض العقلية نجاحا منقطع النظير، وقد اختصر فيها مشاكل المجتمع اللبناني وطوائفه التي كانت تغذّي آنذاك نار الحرب الأهلية.

في العام 2018، افتتح زياد الرحباني مهرجانات بيت الدين الدولية في استعراض موسيقي لأعمال له وللأخوين الرحباني تخللتها لقطات تمثيلية وتعليقات ساخرة. وقدّم على مدى نحو ساعتين نحو 26 مقطوعة موسيقية وأغنية مع فرقة كبيرة.

 

####

 

زياد الرحباني الفنان “العبقري” غير التقليدي

في الموسيقى والمسرح والحياة

بيروت: (أ ف ب)

 زياد الرحباني الذي توفي السبت عن 69 عاما فنان ومسرحي يصفه محبّوه بأنه “عبقري”، أثرى الموسيقى العربية والعالمية بأعمال مزجت بين أصالة الموسيقى العربية الكلاسيكية والجاز، وتحوّل إلى صوت متمرّد لجيل بأكمله.

اشتهر زياد الرحباني، هو الابن الأكبر للفنانة فيروز والملحّن عاصي الرحباني، خصوصا بمسرحياته التي أنتجها خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وسخر فيها من واقع سياسي اجتماعي شديد التعقيد، ما حوّله من فنان عادي إلى صاحب موقف سياسي.

شكّلت الألحان التي وضعها في مسيرة طويلة امتدّت لأكثر من خمسين عاما، علامة فارقة في عالم الموسيقى العربية، بدأها بأغنية “سألوني الناس” التي لحنها حين كان في السابعة عشرة من عمره وغنّتها والدته أثناء اعتلائها المسرح بينما زوجها الفنان الراحل عاصي الرحباني في المستشفى.

وتلتها عشرات الأغنيات التي رأى كثر أنها أحدثت انعطافة جديدة في مسيرة فيروز، على غرار ألبوم “في أمل” و”كيفك أنت”.

وفي رصيده أغان وألبومات خرجت بصوته وبأصوات فنانين لبنانيين وعرب. فقد غنّت له أيضا الفنانة التونسية لطيفة في ألبوم “معلومات أكيدة”. وكان له مع الفنان اللبناني الراحل جوزيف صقر ألبوم “بما إنو”.

سخر زياد في أغنياته كذلك من الواقع الاجتماعي في لبنان كما في أغنية “أنا مش كافر”، وشكّل ألبومه “هدوء نسبي” بصمة مميزة في عالم الجاز.

اعتبرت أعماله المسرحية مرآة عن بلده الذي مزّقته الطائفية والحرب. وبدأ زياد الرحباني مسيرته المسرحية في “سهرية” (1973) ثمّ “نزل السرور” (1974) و”بالنسبة لبكرا شو؟” (1978).

ولعلّ أشهر مسرحياته “فلم أميركي طويل” (1980) التي تعدّ تصويرا ساخرا لواقع لبنان خلال الحرب الأهلية. وتدور أحداث المسرحية في مستشفى للأمراض العقلية، شخصياته هم مرضى عاصروا تلك الحرب ويشكّلون نماذج مختلفة من المجتمع اللبناني.

بعدها كانت هناك أيضا مسرحيات “شي فاشل”(1983) و”بخصوص الكرامة والشعب العنيد” (1993)، و”لولا فسحة الأمل”(1994).

“رحل العبقري”

بالنسبة للكثير من محبّيه، عبّر زياد الرحباني بسخرية لكن بواقعية صادمة عن هموم يجيل كامل عاصر حربا دامية لم تنته مفاعليها بعد. ورأى كثر في مسرحياته ومواقفه استشرافا للواقع اللبناني السياسي والاقتصادي وعمقا في التحليل، وليس فقط استهزاء به.

وكتبت الممثلة اللبنانية كارمن لبّس التي كانت شريكة حياة الرحباني لوقت طويل وشاركته كذلك في العديد من أعماله الفنية “أشعر وكأن كل شيء انتهى، أشعر وكأن لبنان أصبح فارغا”.

وعلّق الصحافي اللبناني بيار أبي صعب الذي كان كذلك مقربا من الرحباني “إنه زمن ينتهي… زمننا، زمن زياد الرحباني الذي لن يتكرر”.

وقالت الصحافية اللبنانية ضحى شمس التي تعرف الرحباني منذ 30 عاما في اتصال مع وكالة فرانس برس “كان زياد ضميرنا، ضمير المجتمع اللبناني، وأكثر شخص فهم المجتمع اللبناني وكان يعرف إلى أين يتجه هذا المجتمع”، مضيفة بتأثّر “فقدنا قلبنا”.

نعاه كذلك مسؤولون لبنانيون، فكتب رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام “بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانا مبدعا استثنائيا وصوتا حرا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة”.

وقال رئيس الجمهورية جوزيف عون “زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة”.

كما في مسرحياته، لم يتوان زياد الرحباني عن التعبير عن مواقفه السياسية في مقابلاته التلفزيونية، فقد كان يساريا وشيوعيا في بداياته، ومناصرا للفلسطينيين، ومناهضا للطائفية…

وبالإضافة إلى أعماله الفنية، أنتج زياد عددا من البرامج الإذاعية مثل “العقل زينة”، وكتب الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام.

كان له لفترة طويلة عمود صحافي في جريدة “الأخبار” اللبنانية التي نعته بعنوان “زياد الرحباني…رحل العبقري”.

وفي نعيها، كتبت الجريدة “لم يكن قدَر زياد أن يكون مجرّد امتداد لعائلة الرحابنة. لقد اختار باكرا أن يكون انشقاقا ناعما، وصوتا متفرّدا…لكن ابن فيروز وعاصي، لم ينسَ أن يحمل الإرث الموسيقي الهائل من عائلته، ليعيد تركيبه على نحو خاص، فخرجت منه بصمة موسيقيّة تكتظّ بالإبداع والسخرية واليأس والموقف في آنٍ معا”.

 

القدس العربي اللندنية في

26.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004