ملخص
كانت الأخبار الواردة من البيت الفيروزي الرحباني تفيد بأن
هالي، شقيق زياد وريما، ابن فيروز وعاصي، يعاني حالا من التراجع الصحي
الفادح، هو الذي ولد معاقا وقضى 67 سنة مقعدا على الكرسي المتحرك، أبكم
ومشلولا... لكن الخبر الصادم الذي حل مثل وقع الصاعقة أفاد بوفاة زياد عن
69 عاما.
كان زياد الرحباني يعيش في الأعوام الأخيرة حالاً من
الاكتئاب أسهم في إذكاء ناره الانهيار المأسوي العام الذي عرفه وما برح
يعرفه لبنان، مما أثر عميقا في صحته النفسية والجسدية وكذلك في إبداعه،
فغرق في نوع من العزلة القسرية، متنقلاً بين بيته الصغير والاستوديو في
شارع الحمراء، وبيت العائلة في الرابية.
كان زياد قد عكف تحت وطأة الاكتئاب الذي ازداد في الأسابيع
الأخيرة، عن التأليف الموسيقي والتلحيني والنصي أو الشعري، وانقطع تقريبا
عن أصدقائه القليلين أصلاً، ويبدو بحسب ما تردد أنه قرر قبل أيام التوقف عن
الأدوية التي كان يتناولها فازدادت وطأة الاكتئاب والألم النفسي.
زياد الرحباني ظاهرة فريدة ومتفردة بنفسها، سواء في
التأليف الموسيقي أو التلحين أو المسرح أو كتابة النصوص والحوارات، لا يمكن
أن تحدها مواصفات أو آراء ومعايير. فنان خارج تخوم التصنيف، يقال عنه عبقري
من دون تردد، في الموسيقى كما في الكتابة الغنائية والمسرحية، كما في
التلحين والعزف.
بدأ زياد الرحباني حياته الفنية محترفاً وليس هاوياً، ولم
ينتظر كثيراً كي تتبلور موهبته الكبيرة، فهو كان في الـ17 من عمره حين أنجز
مسرحيته الأولى "سهرية"، وقد كتبها بنفسه ولحنها وأخرجها ومثل فيها. وفي
العام نفسه وضع لحناً بديعاً تحول إلى أغنية "سألوني الناس" التي وضع
كلماتها الفنان منصور، وأدتها فيروز بمثابة تحية إلى عاصي الذي كان يعالج
في المستشفى بعدما أصيب بجلطة في الدماغ. راجت الأغنية وعرفت نجاحاً
كبيراً، وعام 1974 أنجز زياد مسرحيته الثانية "نزل السرور" التي كانت حدثاً
مسرحياً وغنائياً جديداً، استطاع زياد عبره أن يؤسس هويته المسرحية والفنية
الخاصة جداً.
منذ ذاك التاريخ (1973) لم يتوقف زياد الرحباني عن العمل بل
انصرف كلياً إلى المسرح والتلحين والتأليف الموسيقي، ومن شدة نجاحه في كل
الحقول التي عمل فيها أصبح من الصعب الفصل بين زياد الكاتب والمخرج والممثل
والملحن والمؤلف الموسيقي، فهو واحد في كل ما أعطى وأبدع، وهو واحد في
ثورته المسرحية وثورته الموسيقية.
هموم الناس
ولئن استطاع في مسرحه وحواراته الجميلة أن يقترب من هموم
الناس وشجونهم فإنه في موسيقاه نجح كل النجاح في خلق هوية جديدة للموسيقى
اللبنانية. ونجح أيضاً في الدمج بين الألوان الشرقية والألوان الغربية
ليستخلص نسيجاً موسيقياً باهراً لم يكن مألوفاً من قبل. ومثلما كان طليعياً
في موسيقاه الحديثة كان أيضاً أصيلاً كل الأصالة في ارتكازه إلى الموسيقى
الشرقية والجاز وموسيقى الشعوب.
وأهم ما يميز هذا الفنان الكبير عدم اعتماده على تراث
الرحبانيين، عاصي ومنصور، على رغم كونه سليل هذا التراث. وقد جعله الإرث
الرحباني العظيم أمام تحد كبير: إما أن يغرق فيه ويقلده وإما أن يتخطاه
ويؤسس عالمه الخاص. ونجح زياد الرحباني في رهانه وحقق معجزته الشخصية وأسس
عالمه ولغته وموسيقاه حتى أصبح ظاهرة يصعب أن تتكرر وباتت أصداء
ثورته تتردد في حياتنا.
كان زياد مثار خلاف، بين جمهور يؤيده وجمهور يرفض مواقفه
السياسية، لكن جميع هؤلاء لا ينكرون نزاهته السياسية ونظافة يده والقلب،
وإن أخذوا عليه حماسته المتهورة في أحيان وعناده الفكري وثباته في عصر دائم
التقلب والاضطراب.
الجميع يحبه فناناً بعيداً من السياسة، وينتظرون إطلالاته
بحرارة وشوق، أياً تكن هذه الإطلالات. ولعل خير دليل على هذا الوفاء
للرحباني الابن، النجاح الهائل الذي شهدته حفلاته، كل حفلاته، التي كان
يضطر إلى تمديدها ونقلها إلى أماكن أخرى، بين بيروت الشرقية وبيروت
الغربية، نزولاً عند رغبة الجمهور الذي كان يتدفق ليشاهد زياد ويستمع إلى
أعماله الموسيقية والغنائية. والجمهور هذا لم يتأثر بانتقال الفنان من مكان
إلى مكان، وكأن المكان بذاته لا دلالة له ما دام زياد هو الذي اختاره.
بين بيروت وزياد
كثيراً ما بدت بيروت المدينة أو ما تبقى منها، منذ مطلع
الثمانينيات، تحتاج إلى زياد الرحباني، وستظل في حاجة إليه، فهي لا يمكنها
أن تقوم من دونه، من دون أمسياته الموسيقية والمسرحية وإطلالاته الفريدة
ومقولاته و"قفشاته" الطريفة والساخرة، الجريئة في سخريتها واللاذعة في
نقدها والعبثية في مضمونها.
بيروت بلا زياد مدينة ناقصة. هذا ما يشعر به جمهور زياد،
الذي يؤيد مواقفه والذي يعارضها، على اختلاف المشارب والانتماءات. فمن
يعارض زياد يعارضه بحق ويسعى إلى مناقشته، ومن يؤيده إنما عن قناعة، لكن
الجهتين تستميتان في متابعته فنياً وموسيقياً ومسرحياً بعدما تضعان السياسة
على حدة. ومعروف أن جمهور زياد في المنطقة الشرقية طوال أعوام الحرب كان
كبيراً جداً وشديد الحماسة له على رغم الكراهية التي عممتها الحرب الاهلية.
يصعب تصور بيروت بلا زياد الرحباني. هذا آخر العنقود
الرحباني الحقيقي. فنان هو سليل المدرسة الرحبانية التي انقلب عليها وأعلن
ثورته البيضاء على تراثها العظيم ولكن من داخل هذا التراث. فهو لم يسع
يوماً إلى إلغاء علاقته بالمدرسة الرحبانية حتى وإن افترق عنها باكراً
ليبني عالمه وموسيقاه، متخلصاً من أثرها المباشر الذي يصعب التخلص منه
بسهولة، ومبتعداً من تقليد هذه المدرسة واستغلالها والاتكاء عليها
واجترارها، كما فعل الجيل الرحباني الآخر الذي لم يحقق ربع ما حقق زياد.
أما "مزحات" زياد الرحباني فما كانت لتثمن. أحد أسرار نجاح
مسرحه وحواراته هو في قدرته الفائقة على اجتراح النكات والنهفات، بخفة تامة
وعفوية ذكية وغير بريئة. تلمع له جمل وعبارات من شدة ما تحمل من مزاح، لكنه
مزاح على حافة المأساة. وتخفي بعض ألاعيبه وتراكيبه اللفظية الساخرة
والفريدة كثيراً من الألم الجارح.
"إيه في أمل"
كانت "إيه في أمل" آخر أسطوانة ينجزها الفنان زياد الرحباني
مع المطربة فيروز، وبدت من الثمار الأخيرة التي توجت تجربته الفريدة مع
فيروز. ودرج اسم الأسطوانة هذه على ألسنة الناس في دلالة أن ثمة املا ينتظر
لبنان. هذه الأسطوانة كانت من المفاجآت الجميلة التي اعتادها الجمهور
الفيروزي - الزيادي، وقد توجت هذا التعاون الذي أسس مدرسة فيروزية جديدة،
في ما حملت من خصائص غنائية وموسيقية مدموغة بـ"النفس" الذي تميز به زياد
وبأسلوبه، كما بأداء فيروز المتجدد دوماً، والناهض دوماً برقة وسحر من
أصالة هذه الحنجرة البديعة والمحفوفة بالأسرار.
يمضي زياد في مساره، تلحيناً وموسيقى أو تلحيناً موسيقياً
بالأحرى، مرتقياً بمهمة التلحين إلى مصاف التأليف الذي يتجلى خصوصاً في
"مهمة" التوزيع التي يعد زياد من كبار محترفيه. فالأغاني الجديدة تجدد مرة
أخرى فرصة اللقاء بين فيروز وزياد وترسخ المدرسة الفيروزية "الما بعد"
رحبانية التي أسسها زياد انطلاقاً من فرادة هذا الصوت وخصاله النادرة.
أغنيات تكمل هذه "الرحلة" التي انطلق بها والتي كانت محفوفة
بـ"الأخطار" نظراً إلى طابع المغامرة التي خاضها زياد بجرأة ومراس ووعي فني
تام، والتي جعلت فيروز تطل على جمهورها الرحباني إطلالة جديدة وحديثة.
أغنيات تراوح كما عودنا الاثنان - فيروز وزياد - بين الجو الشرقي والجو
الغربي، بين الطرب والجاز، بين الفلكلور الحديث أو المحدث والغناء المتفرد
بذاته. ووسط هذه الأجواء المتعددة والثرية لا بد من أن يتحاور الصوت مع
الموسيقى، يأخذ منها ويعطيها، تعطيه وتأخذ منه.
وهذا التحاور يكمله تحاور آخر، بين الكلام والموسيقى
والأداء، كما بين الآلات الموسيقية نفسها، الشرقية والغربية، وبين الجمل
الموسيقية والآلات... هذا مناخ من التحاور البهي، المتعدد الوجهات
والأدوات، يصهره الصوت كما الموسيقى، ويبلوره البعد "الغنائي" (أو
الليريكي) الصافي الضارب في صميم الوجدان والذاكرة. والجديد في هذه
الأسطوانة - وهو أصلاً جديد هذا اللقاء - يشمل أيضاً "أحوال" الحب التي
تعيشها المطربة - كمؤدية - والتي ينصهر فيها "الكلام" أو "الشعر" في نار
الإحساس الداخلي المرهف.
تؤدي فيروز هذه الأغنيات كما لو أنها في قلب مشهد درامي
يصنعه الكلام والموسيقى مثلما يصنعه الأسلوب، أسلوب الغناء والتعبير. وإذا
أغمض المستمع عينيه وأصغى يمكنه أن "يرى" الأغنية وكأنها لوحة مرسومة
بالصوت والموسيقى. هذا ما استطاع زياد أن يصنعه بفرادة: لقد منح الأغنية
شكلاً بصرياً خفياً لا يمكن التماسه إلا عبر الإصغاء. إنها أغنيات حب إذاً،
حب درامي ومأسوي ولكنه مشوب بالطرافة والفانتازيا. هذا الحب القائم دوماً
على التخوم، تخوم الفراق أو الوصل، الهجر أو اللقاء، الوفاء أو الخيانة أو
الغدر... وتضاف إلى هذه "الشجون" حال الحيرة والتردد والخوف واليأس
والأمل... ولم يكن عنوان أغنية "إيه في أمل" غريباً عن جو الأسطوانة
بأغانيها كلها. هناك أمل وإن طلع من حال "الملل" كما تقول فيروز، وهذا
الأمل لا بد له من أن يتخطى العلاقة العاطفية ليصبح أملاً وجدانياً شاملاً
وربما إنسانياً، مع أن الأغنية هي أغنية حب أولاً وآخراً. إنها قدرة زياد
على "مقاربة" المعاني والدلالات. أحياناً يحار المستمع إن كان فرحاً أو
حزيناً، يشعر بأنه حزين وفرح في آن واحد. وعندما تردد فيروز "حبيبي حبيبي"
بصوتها الخفيض المشرق والبارق، يشعر المستمع بحال من الوجد الذي تمتزج فيه
الروحانية بالحسية. إنها معجزة هذا الصوت، الذي كلما أمعن في البراعة أمعن
في الإحساس، وكلما واجه لعبة الزمن استعاد وهج ربيعه. إنه فعلاً سر هذا
الصوت، بظلاله الوسيعة و"أمواجه" التي لا حصر لها.
لم تخلُ الأسطوانة من مقطوعات موسيقية جميلة نسجها زياد
تأليفاً وتوزيعاً، وفيها تتمثل أحوال ملتبسة بجمالها، بحزنها وحبورها،
تتهادى حيناً بعذوبة فائقة وإحساس جارح، وتتردد حيناً بإيقاعاتها المتعددة
وأصدائها. مقطوعة "تل الزعتر" عمل موسيقي بذاته وكذلك "ديار بكر"، وكل
مقطوعة تختلف عن الأخرى وتلتقي بها عبر هذا التحاور "الفريد" موسيقى
وعزفاً. أما أطرف ما ضمت الأسطوانة فهي التحية التي وجهها زياد إلى الأخوين
عاصي ومنصور انطلاقاً من أغنية "بكتب اسمك يا حبيبي" التي أعاد كتابتها
وتوزيعها ذاكراً الأخوين وساحة "انطلياس" البلدة التي انطلقا منها إلى
العالم. ولعل هذه التحية هي خير رد أيضاً على الحملة التي قام بها بعض
"المغرضين" للفصل بين عاصي ومنصور. ترى أليست هكذا تكون التحية إلى هذين
الكبيرين؟
سيرة مختصرة
زياد الرحباني، فنان لبناني شامل، ولد في بيروت عام 1956،
وهو ابن السيدة فيروز والموسيقار عاصي الرحباني، الذي شكل مع شقيقه منصور
علامة فارقة في تاريخ الموسيقى والمسرح العربيين. منذ ولادته، نشأ زياد في
بيئة فنية محاطة بالموسيقى والكلمة، مما جعله ينغمس في عالم الإبداع
مبكراً. بدأت ملامح موهبته تتجلى في سن مبكرة، فبدأ يعزف على البيانو
ويرافق والدته في بعض الأعمال الموسيقية، لكنه سرعان ما انفصل بأسلوبه عن
نمط الرحابنة الكلاسيكي، ليشق لنفسه خطاً خاصاً يجمع بين التمرد السياسي
والنقد الاجتماعي واللغة المحكية التي تقرب الجمهور من العمل الفني.
أول ظهور علني لزياد كمؤلف موسيقي كان في عمر الـ17، حين
لحن أغنية "سألوني الناس" التي غنتها فيروز عام 1973، في غياب عاصي عن
العمل إثر أزمة صحية. هذا العمل شكل منعطفاً في مسيرة زياد، إذ أثبت قدرته
على تقديم ألحان متكاملة النضج والعمق. انطلق زياد من ثم ليؤسس مسرحه
المختلف، من خلال أعماله المسرحية التي لاقت رواجاً كبيراً في لبنان
والعالم العربي. من أبرز هذه الأعمال: "بالنسبة لبكرا شو؟" و"فيلم أميركي
طويل" و"نزل السرور" و"شي فاشل" و"لولا فسحة الأمل". في هذه المسرحيات دمج
بين السياسة والسخرية واللغة الشعبية والموسيقى الحية. سياسياً، اتخذ زياد
مواقف واضحة وصريحة، وكان ناقداً للسلطة والطبقة السياسية اللبنانية، وعبر
عن ذلك في مسرحياته ومقالاته وحتى في مقابلاته الصحافية. مال في فترة من
حياته نحو الفكر اليساري، وعبر عن انحيازه للفقراء والمهمشين، مما جعله
قريباً من الجمهور الواسع.
إلى جانب المسرح، قدم زياد أسطوانات موسيقية رائدة مزج فيها
بين الجاز والموسيقى الشرقية والكلمة الساخرة. كتب ولحن أغاني لفيروز مثل
"عودك رنان" و"كيفك إنت" و"شو بخاف"، وتميزت هذه الأعمال بحس تجريبي مغاير
ومعاصر. وتمكن من أن يؤسس مع فيروز مدرسة غنائية جديدة تختلف عن المدرسة
السابقة التي رسخها عاصي ومنصور مع فيروز. زياد الرحباني معروف بمهارته في
التوزيع الموسيقي، واستخدامه آلات غير تقليدية في تقديم الموسيقى العربية
المعاصرة، منها الساكسوفون والغيتار الكهربائي والكيبورد.
عرف زياد أيضاً ككاتب وصحافي، ونشر مقالات سياسية واجتماعية
في الصحف اللبنانية، تميزت بنفس نقدي لاذع، ولغة هجينة تجمع الفصحى
بالعامية، وقدم برامج إذاعية كانت منبراً إضافياً لصوته المختلف. حياته
الشخصية كانت أيضاً مادة للجدل، بسبب مواقفه الجريئة، وخياراته الحياتية
غير التقليدية، التي جعلته في صدام دائم مع التيارات المحافظة. وعلى رغم
ذلك بقي فنه محل إجماع لدى معظم الأطياف السياسية والاجتماعية في لبنان.
خاض زياد أيضاً تجارب في التمثيل، وشارك في عدد من الأفلام القصيرة
والتسجيلات المصورة، مما أضاف بعداً آخر لحضوره الفني. وتعاون مع عدد من
الفنانين اللبنانيين مثل جوزيف صقر الذي ارتبط اسمه بكثير من أغاني زياد.
زياد الرحباني ليس مجرد فنان، بل ظاهرة ثقافية عربية فريدة.
استطاع أن يعبر عن هموم جيله، وأن يمنح الصوت للمهمشين، عبر فن صادق وذكي
وجريء. وإلى اليوم لا تزال أعماله تعرض وتستعاد، وتلهم أجيالاً جديدة من
الفنانين والمبدعين في لبنان وخارجه. |