ملفات خاصة

 
 
 

معجم زياد الرحباني:

لغة ضد اللغة ومُتخيَّل الشباب والتمرّد

محمد حجيري

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

(*) أثير الكثير من السجال حول عمل فيروز وزياد الرحباني "ولا كيف". والسجال الذي حصل لم يكن منفصلاً عن كون فيروز تشكل جزءًا من المتخيل الجماعي، وزياد يشكل جزءًا من "المتخيل التمردي" الشبابي إذا جاز التعبير. المتخيل الذي رسخ في الوعي الجماعي هو أن فيروز "سفيرة لبنان إلى النجوم" أو هي في مقام "القديسة"!

والمتخيل الذي سجله الشباب في أذهانهم هو أن زياداً في تمرده هو مثالهم الخالد وملهمهم والمعبر عن أمزجتهم، وهو قادر على فعل النكاية والتحدي وقادر على المغامرة بما يثير حماستهم. إذا ما استشرف زياد الأوضاع السائدة، عبر مسرحياته وأغانيه وضعه البعض في مرتبة "النبوة"، في مثل ما يصنف بعض الشعراء أنفسم. في "أطفال الطين" يقول الشاعر المكسيكي اكتافيو باث: "الشعر هو الحد بين الكلام البشري والكلام الإلهي«. فيروز، في المتخيل الجماعي على هذه الشاكلة، والأرجح أن زياداً على هذه الشاكلة أيضاً، رغم أن الكلام في مسرحه وأغانيه هو من لحم ودم. مؤيد ومعارض لنعد إلى حيث بدأنا، فغداة صدور "ولا كيف" هبت الأقلام بين مؤيد ومعارض، بين مرحب ومتزمت، بين جيل يجد أن الجديد الذي غنته فيروز "لا يليق بتاريخها" جيل يعتبر أن هذه الأغاني هي نزول للملكة من برجها العاجي إلى نسيج الكلام اليومي الرصيفي او الرابي (نسبة إلى أغاني الراب)، أو بمعنىً آخر قال أحد الكتاب إن فيروز كانت تظهر في أغانيها القديمة مثل "ملكات الأساطير بالديباج والحرير والحلى" وهي في "ولا كيف" تبدو في "الجينز الممزق" و"تجرجر حنيناً خلف صوتها". لا نتوخى العودة إلى مضامين النقاشات كلها، ولا نسعى إلى قراءة متأخرة لكاسيت فيروز الأخير، جل ما نتوخاه هو الكتابة (وبشكل مبسط) عن معجم زياد الرحباني اللفظي/ الفناني، لنقل إن لكل شاعر مفرداته القليلة التي تشكل بنية لقصائده.

زياد الرحباني في معجمه القليل ينزع إلى تحويل الكلام إلى مجرد رجع للحن أو مجرد مسافة كلامية، وهي محاولات تملك بحق اقتراحًا جديدًا في الأغنية فهو "استبدل الكلام ماحيًا المسافة بين الحقيقة والوهم بالحوار المدهش" على حد تعبير أحدهم. لا شك أن زياداً شاب بتفكيره ويسعى غالباً إلى ما هو جديد في الموسيقى والغناء، وهذا لا يعني بالطبع الانقطاع عن التراث، ذلك أن التراث قابل لأن يكون جديدًا، وكل جديد في الحياة هو موضع تساؤل، موضع مفاجأة أو موضع اعتراض وتأييد، بين نفور وترحيب، لكن سرعان ما يصبح المفاجئ من الكلاسيكيات والنافر من المألوف أو "الكيتشي". فلزمن كانت أم كلثوم هي المسيطرة في بيروت، وفي العالم العربي، لأن في صوتها الحشمة والتهذيب، لم يكن الغناء الجبلي حاضراً.. في بيروت، لم يكن يدخل البيوت إلا مع انتشار التلفاز، فالبعض كان يعتبر الأغاني الفيروزية دعاية للحياة الجبلية، فهي تكرر الكلام عن الجبل وجماله، وهو الأمر نفسه في صباح التي سخّرت إمكاناتها لغشاعة الذوق الجبلي اللبناني بين الناس وإقناعهم به، لكن فيروز كانت أكثر حضوراً في هذا الدور فهي تحمل "الأيديولوجيا اللبنانية" وهي من علاماتها، من يتكلم عن مكونات لبنان لا بد أن يذكر فيروز. ومن يتحدث عن الظواهر الشبابية سيتطرق إلى زياد الرحباني، وهذه معادلة بسيطة، فيروز تنشد الخرافة والبحر والجبل والتجارة والثقافة والتعايش، والأخوان رحباني يمثلان المكان على المعاني بشخوص وأدوار، وصوتهما هو فيروز الذي يشكل ضرباً من الحلم، والأحلام وفق فرويد هي تمثيل الرغبة المتحققة. 

رفيقة الصباح 

فيروز جعلت من إشاعة اللغة العامية الجبلية همها الأول، واتصل إنشادها بمسرح بعينه وتخصص إيقاعها لاماكن دون غيرها، أغانيها "الضيعاوية" في جانب منها لم تكن تعني ابن بيروت في شيء، في حين كانت "مونولوغات" عمر الزعني هي التراث الذي احتمى به الذوق البيروتي من الغناء الجبلي كما يعبر البعض. في البدء لم تكن فيروز مرغوبة في المدينة، لكن سرعان ما أصبحت رفيقة الصباح، انطلقت شعلتها من الجبل لتمتد الى الساحل والسهل والجوار والصحراء، كانت متهمة بالتخريب لكنها صارت من رموز الأصالة. وإزاء هذا ليس غريباً أن يتهم الرحباني الابن بـ "التخريب" فهذا من البديهيات، ويشكل في مضماره مديحاً له. فزياد نفسه يروي أنه عندما غنت فيروز في باريس في الثمانينيات، وكان قد اشترك معها ببعض أغنيات جديدة لحنها وبتوزيع جديد لبعض الأغاني القديمة للرحابنة، خرج الجمهور المتذمر وهو يقول: "ما هذا شو عاملين بفيروز، درامز وآلات نفخ وجاز"، و"كيفك انت" و"يارا"!! بمعنى أين الشرقي أين القانون والناي والدف، مع العلم أن الدف كان موجوداً" ولكنه لم يكن يطرق كل الوقت، وعلماً أن "يارا" من كلمات سعيد عقل وألحان الأخوين رحباني، وهي أقدم أغاني الرحابنة الذين وصلوا بالتجريب إلى نوع من التلحين. وفي أغنيات مثل "يارا" حيث البيانو آلة رئيسة في هذا النوع من التلحين، حيث كانت آلة البيانو غريبة استعمارية شيطانية عند العرب المتزمتين من زاوية تراثية وقتها اتهموا الرحابنة بالقضاء على التراث. والحال أن الحكاية هذه معبرة، إيماءة إلى أن كل محاولة فنية تسعى إلى لغتها الخاصة، من منطلق تجديدي، تطلع في وجهها كافة النعوت والصفات والالقاب، الجاهزة لمثل هذه الصفات.

 يطاول الكلام عن فيروز والجبل والمدينة، التجديد والتخريب، إلا أن ما يسترعي انتباهنا في سياق قولنا هو الوقوف المتمادي في تجربة زياد الرحباني إلى جانب الكلام اليومي الحافي، الذي تبين منذ أعماله الأولى من حديثه عن "الخس" و"عيون عليا" و"الليرة" وجمع "الحديد" بـ "الحنان" من مواضع الغرام وصولاً إلى "الكميون" و"الزيتون" و"لايت". إلى غير ذلك مما يبدو للوهلة الأولى من مفارقات وحسب، طرافة بالطبع، فيما هو، مع تنامي التجربة وتأكدها، عمل مستديم على الكلام اللبناني، على تجديد عباراته وألفاظه وموضوعاته أيضاً.

زياد الرحباني في العمل المتمادي على اللغة السارية، نراه يفككها يجددها في آن، معولاً على لغة "صافية" "مركبة" ومشغولة، ولو أنها تنهل بوجهٍ خاص من سجالات لغوية شبابية مدينية، ذلك أن زياد معروف بالتقاط أحاسيس ومشاعر وأفكار العامة عبر التفاصيل الدقيقة، كتب لغة الشارع وكتب لغة ضد الأب: فهو في مسرحية "شي فاشل"، لغة ضد اللغة، لغة زياد الرحباني ضد لغة الرحابنة، لغة من الواقع ضد لغة "لبنان الحلو" و"جبل الغيم". بالطبع لا تبعد مسرحيات زياد عن كلمات أغانيه التي يرصد فيها ما يجري وأميناً في الوقت نفسه لرؤيته. أغانيه مغمسة بعناصر هذا العالم الكوميدي الساخر، ألحان تحمل في طياتها الحكمة الشعبية الساخرة، ينفذ عبرها زياد إلى ما يقوله الواقع الاجتماعي، يقف أمام عالم ينهار، يفضح بالسخرية الطرب الكلاسيكي العادي عن الوظيفة فكأنه يبدع ما يمكن بالطرب "الضد". 

الحب من لحم ودم

لم يحتج زياد إلى أصوات غنائية عظيمة، لكن أغنيته لطالما بحثت عن صوت، جوزف صقر استعمل صوته على مقدار اللحن، كان جزءاً من اللحن، عرف زياد وعرف هو كيف يلعب بالطرب ضد الطرب، بالطرب الفكاهي والساخر ضد الطرب الجامد إذا جاز التعبير. السامع لكم من الأغاني العربية عليه أن يلاحظ أن هناك أغنيات قليلة استطاعت المرأة عبرها أن تخاطب الرجل بندية، فالأغنية المتداولة تقول للرجل: "مستنياك يا روحي كثير" والانتظار حب "الغلابة"، إنه الدوران حول الذات بالأحرى، حب الذات للذات، ذلك أن "الحب" كما يعيشه العرب في أغانيهم "التقليدية" هو وقوف على الهجر والفراق، حب من دون علاقة، يترنح بين عبارة "حياتي عذاب" و"الحب كله نعيم". مع زياد الرحباني الأغنية هي لعبة الكلام، الحب من لحم ودم، وبين الرحباني الابن والرحباني ثمة تباينات بالطبع، يلاحظ محمد سويد أنه "في أغاني الرحباني الابن، يطل الحب غبطة يكتنفها ترقب وتوجس وريبة مما هو الآن ومما هو البعد والآتي". الأغنية الزيادية هي التحايل المتخم بالمعنى، أو تفكيك الكلام وإعادة تركيبه ليخترق اللغة، كلمات بسيطة تبدو نابعة من صميم اللحن، تلخص الحالة العاطفية بين شخصين وبوجهٍ خاص عند المرأة. 

زياد في معجم أغانيه يلخص الحالة الواقعية، الحالة العاطفية والأمثلة لا تعد ولا تحصى في نتاجه، من "كيفك انت" إلى "مربى الدلال" العام 1975، يوم كان يغازل بالواقعية، إلى "بلا ولا شي بحبك" إلى حوارات بارات الليل (هو عارف إنك جميلو ومن حظو قاعدة مقابيلو) و"ان فار شي فو". أغانيه لها مدلولها الحسي. النظرة الساخرة في كاسيت "ولا كيف" يأتي كلام الحب، والعلاقة العاطفية على أكثر من صورة، وتتواصل الحالات لتكون مرآة جيل يحب على طريقته؛ أي من دون أوهام واحلام وإسقاطات. يأتي زياد حاملاً لواء مناصرة المرأة من دون تبجح، المرأة بكل تجلياتها والظروف التي تسيطر على حياتها. فهي تارة عاشقة متيمة تصرح بحبها للحبيب الغائب في "ورق الخريف"، أو هي تلك العاشقة تخاف النوم قبل سماع صوت حبيبها "شوف بخاف". أو هي تقول: "بتحبني يمكن ما بتحبني" إنه القلق، لكن الأغنية تكمل "حبني بس حبني" لأن "كل الاشيا بتنتهي فيك" وإذا ما حل الخلاف بين الحبيبين تقول له: "بتحكي فوقي... بحكي فوقك... شو رح تستفيد". "حاجة تنفخ دخنة بوجي.. ولو بدخن لايت" ثم نجدها تنتفض ترفض حبه وتؤكد "في غيرك ناس جداد في شي تاني". ثم "تنذكر ما تنعاد" "بس انساني" إنها النظرة الساخرة المتهكمة التي تقول للحبيب إنه يستحق العقاب، أو هي علاقة ندية ولا تنزلق إلى راية "حياتي عذاب" و"حبك نار" (العبد الحليمية).

كلمات زياد جزء من المتخيل الشبابي، هي التجسيد لمعنى العلاقة بين الكلام اليومي والشعر الجميل بالطبع. هي نتاج صخب المدينة وحساسيتها ووقعها المتسارع وواقعيتها في الحب والحياة بعيداً عن القرية الجبلية وأخلاقها والاحلام التي تكتنف مناخها والقمر والحب العذري تحت العريشة، أو على المفرق.

(*) مقال كتب العام 2002 ونشر في صفحة "سفير الشباب"، نستعيده هنا في يوم رحيل زياد الرحباني عن 69 عاماً بعد صراع مع المرض.

 

####

 

زياد الرحباني: في وقت فراق

محمد حجيري

بمعنى ما، كان امتداداً لسيد درويش وعمر الزعني، وخليطاً من موسيقى الشعوب، لكن بلغته وأسلوبه المتفرد

مات زياد الرحباني "أيقونة الشباب اللبناني"، الصوت المتمرد، كثر صدموا بالخبر، ذهلوا، صدموا، صمتوا، أبوا أن يصدقوا "الخبر العاجل"، قالوا "معلومات غير مؤكدة"، ولكن الخبر كان "معلومات أكيدة" عنوان ألبوم لطيفة التونسية الذي لحنه زياد. عدم تصديق الخبر بديهي فغالباً ما يكون موت النجوم الأساطير موضع شك، الشخصيات الراسخة في الوجدان، يصبح رحيلها من الأمور الصعبة والقاسية، ويتحول نوعاً من قصص درامية وحتى تراجيدية. والموت في هذا الزمن الخاوي والرديء في لبنان، كأنه قناع لموت عام، لموت الأشياء والمعاني والتفاصيل. "تركني على الأرض رواح" قال الفنان خالد الهبر، و"في وقت فراق"، إذا ما استعرنا الأغنية الفيروزية.

كثر لم يصدقوا خبر موت زياد، لأن زياد في الوجدان بقي شاباً لا يشيخ ولا يهرم، كما مارلين مونرو بقيت صورة لإغراء شاب، وكما جيمس دين بقي صورة للممثل الشاب قبل أن يصرع بحادث سير، وكما نجم البيتلز جون لينون بقي شاباً وقد قتله أحد معجبيه. زياد الرحباني"فتى الموسيقى المدلل" كما وصفه الشاعر عباس بيضون،  بقي شاباً لأنه قدم موسيقى فتية ولغة فتية في المسرح، قدم كل عبقريته في زمن فتوته وشبابه من مسرحية "سهرية" إلى تعاونه مع حازم شاهين في "أمريكا مين"، ومن "صديقي الله" إلى "بما إنو"، ومن "سألوني الناس" إلى "بلا ولا شي"، صنع أسطورة لإبداعه ومسرحه ومقطوعاته الموسيقية وشخصيته وعلاقته بفيروز وعاصي واليسار واليمين والسهرات وحتى النساء والحب الفاشل والواقع السياسي. كان بارعاً في ألعابه اللغوية وحرتقاته وقفشاته النقدية والتهكمية التي غدت أمثولات شبابية، صنع معه جيلاً كاملا من الفنانين والباحثين عن الأحلام والمعنى، لكن الموت سرقهم تباعاً، من جوزف صقر إلى زياد بو عبسي ورفيق نجم...

وضع زياد بَصمَته عبر أقواله ولغته وجازه وموسيقاه، وفي جانب منه كان امتداداً لسيد درويش وعمر الزعني، وكان خليطاً من موسيقى الشعوب لكن بلغته وأسلوبه الخاص، صارت لغة شبابية وتمردية وتهكمية ومسرحية وتلفزيونية، حتى فيروز أخذها إلى لغته الممهورة بتوقيعه و"صبحي الجيز".

زياد الرحباني من الفنانين الذين رافقوا حياتنا في يومياتنا وسهراتنا في ليالي الحمراء، أو ولد فنه مع ولادتنا، فصرنا نحن "جيل زياد"، نحاول أن نترصد كل شيء يصدر عنه، كل شيء يقوله، نضحك "علمياني" من أقواله أو نتأثر بكل شيء يحكيه، كأنه رفيقنا وعلى طاولة المقهى، قال زياد، وحكي زياد. هو حكاية موسيقية، عبقرية، ابن عاصي فيروز من جهة، وصار شيوعياً وفي محيط الحركة الوطنية في مرحلة، مطاردًا من اليمين اللبناني، ومطاردًا من النظام السوري بعد كاسيتات "قول الله بعدنا طيبين"، مبدعاً في "ع هدير البوسطة و"أبو علي الأسمراني" و"ميس الريم" و"نشيد الأممية" و"تل الزعتر"، و"فيلم أميركي طويل" و"اما مش كافر.

في السنوات الأخيرة، حصل شيء من التصدع والترهل في مسار زياد، شيء من الشح الإبداعي، قلّ إنتاجه الفني بل ندر. هي ظروف الإنتاج الصعبة وظروف البلد القاسية. صار زياد يحلم بالهجرة إلى روسيا، ويبحث عن مكان يجل الموسيقى في زمن الاستهلاك. لم يكن يريد أن يغني في الخليج وغنى، وكثر كلامه المزاجي والتعسفي والاعتباطي، ربما بدأ هذا المسار منذ منتصف التسعينيات (وحتى من قبل ذلك)، من بعد رحيل الفنان جوزف صقر الفاجع وكثرة إطلالاته التلفزيونية والإذاعية وتحوله إلى كاتب مقال في بعض الصحف وتمجيده العسكر وستالين، وتبنت بعض الأقلام نظرياته، لا ينسى المتابعون مقالة جوزف سماحة الطويلة في جريدة "الحياة" بعنوان " السياسي وأنظمة القيم من خلال مسرحية لبنان 2003: زياد الرحباني أم رفيق الحريري؟ ربما فوضى البلد أخذت زياد إلى حيث لا يريد، انشغل بالتصريحات السياسية والمحاور ولعبة المؤامرات، تصرف بفجاجه في بعض حفلاته بسبب خلافات مع بعض المنظمين، تأخر عن هذه الحفلة وغاب عن تلك، زار الرئيس نبيه بري أكثر من مرة، ولم يكن على ود مع زعماء آخرين، كان سهلاً أن يقول المرء إن الفنان  يمارس مزاجية أحياناً، ولكن كان صعباً فهم هذه المزاجية، وعلى هذا صار جزءاً من الاصطفاف اللبناني البائس، انشغل الجمهور بأقواله بين مؤيد ومعارض.

 

####

 

شربل داغر: مع زياد الرحباني حين نسي اسم أمّه

المدن - ثقافة

كان مقالي الأسبوعي عن مسرحية "نزل السرور" لزياد الرحباني، والذي جعل البعض يتحدث عني، مقالًا احتلَّ صفحة بكاملها (في صحيفة "السفير" المحتجبة)، تحت عنوان يقترب من الآتي: "الخيال الشعري لا يغيِّر الواقع". غير أنني اعترضتُ على العنوان، إذ قلبَه بلال الحسن، مدير التحرير آنذاك، وجعله يتعين في النفي، فيما سقتُه في صيغة توكيدية. هذا ما أبلغتُه به صباح الاثنين، فأفادني أن العنوان يماشي "سياسة الجريدة"، في حين أنني قلتُ له بتلقائية فاجأتني: لكن عنوان المقال، كما وضعتُه، يماشي مسار المسرحية ومراميها. هزَّ الحسن رأسه، وتابع العمل على أوراقه. عندما توجهتُ إلى مكتب ابراهيم عامر، ضحك ضحكته المحببة والطيبة: ها أنتَ تتعلم بسرعة... معك حق. أداة النفي، "لا"، لا تصلح في عنوان مادة صحفية، إلا إذا أتتْ في تصريح منسوب إلى أحدهم. خرجتُ من مكتبه منشرح الصدر، من دون أن يفهم زملائي أسباب الانشراح، إذ إن استدعاء مدير التحرير لزميل يعني، في الغالب، توجيه اللوم أو غيره له.

عُرضت مسرحية "نزل السرور" في سينما "أورلي" في نهاية شارع عمر عبد العزيز، النازل إلى شارع الجامعة الأميركية، في أول الموسم الفني، في خريف العام 1974. شعرتُ بشيء من الاعتزاز والفائدة ما إن وصلتِ الدعوة إلى المكتب في الجريدة، لكوني أتنعم بهذا السبق على بقية الزملاء، وأتنعم بحضور عمل لزياد الرحباني بعدما انطلقتْ شهرته منذ عمله الأول والسابق: "سهريَّة". 

وجدتُني، ليلتها، قريبًا من سعيد عقل نفسه، إذ، بعد دقائق قليلة من بداية المسرحية، تقدمَ صوب صفِّ المقاعد الذي حللتُ فيه، شابٌّ مع قنديله الكهربائي الصغير بصحبة عقل وقامته العملاقة. أجلسَه في مقعد شاغر، في حين بدا التذمر على عقل في تلك القاعة السفلى من السينما، التي تحولت إلى صالة مسرحية في هذه المناسبة. لم يمضِ الشاب بقنديله، ليعود أدراجه، داعيًا عقل للالتحاق به من جديد: أجلسَه في نهاية المطاف في الصف الأمامي.

كانت المفاجأة القوية، بعد دقائق من بداية المسرحية، أمام مكتب استقبال زبائن الفندق، عندما ظهر: زكريا (أي زياد نفسه)، مجيبًا بلكنة غريبة، متلعثمًا في نطقه، بجُمل متقطعة، عن أجوبة الموظف. ثم انفجرت الصالة بالضحك، عندما سألَه (لتدوين اسمه في السجل) عن اسم أمه، فلم يُحسن جوابًا، ثم لا يلبث أن يكرره عليه، في الوقت الذي كانت فيه فيروز تتصدر الصفوف الأمامية، وتضحك معنا على الأرجح.

غير زميل ناقشني في مضمون مقالي الأسبوعي، وهو ما كان يحصل أول مرة في "السفير" معي. فقد استوقفني، في المسرحية، كونها تتماشى بهذا القدر من التجاوب والتفاعل مع مجريات "الخارج" السياسي والاجتماعي: تتحدث عن صخب "الثورة" المتدافع من "الشارع" إلى "داخل" الفندق، ومن التظاهرات إلى المسرحية، لا سيما مع شخصيَّتَي: عبّاس وفهد. كما استوقفني فيها بوجهٍ خاص القصة المسرحية إذ انتقلتْ من القرية إلى المدينة، وهذا ما كان يحدث (في تقديري) أول مرة في المسرح الغنائي، ولا سيما مع ابن "الأخوين الرحباني"، اللذين دَشَّنا وأكَّدا هذا النوع المسرحي-الغنائي، مع فيروز وصباح ونصري شمس الدين. كما أثار أحد الزملاء أنني أتحدث عن ظهور شخصية أرمنية أول مرة في المسرح اللبناني.

كانت السنة ضاغطة بشواغل ومسؤوليات مزيدة، فيما كنتُ أتحقق، مع مسرحية زياد وغيرها، من كون "الثورة" بلغت المسرح، فكيف لا تبلغ البلد نفسه !

"كنا "غرباء"، لا نمضي الكثير من الوقت في المبنى (الإذاعة اللبنانية، صيف 1976). هذا ما كنتُ أشعر به أكثر من جوزف سماحة، إذ كان مروره سريعًا، ثم ينتقل إلى مبنى "السفير" القريب. ما خفف من هذا الشعور البغيض هو حلول زياد الرحباني مع جان شمعون في المبنى، ولساعات وساعات، لا سيما منذ فترة بعد الظهر.

عملَ الرحباني مع شمعون على كتابة حوار يومي بينهما للبثِّ في الإذاعة. هذا ما لفتَ الانتباه إلى وجودنا المفاجئ في الإذاعة، وكان له أثرٌ أكبر ممّا جرى في "تلفزيون لبنان"، حيث بادر موظفون إلى السيطرة عليه بدورهم، من دون أن يعرفوا نجاحات الرحباني الشاب. فقد كانت "إطلالات" الممثل غسان مطر التلفزيونية، المسائية على وجه الخصوص، أقرب إلى عمل إذاعي بصوته العالي والعريض، في حديثه عن "الثورة الملتحمة".

بات وجود زياد سببًا كافيًا لي، لانتظاره، والجلوس معه. كان بسيطَ التعامل، وإن كان قليلَ الكلام. لا علامات لـ"النجم" الذي صار عليه، في مشيه، وجلسته، وحواره، وتعامله الهين مع أناسٍ يكاد لا يعرفهم، لكنه يحفظ أسماءهم، ويناديهم بها مثل جار مع جاره.

هكذا دعاني إلى الأكل معه في مطعم يقع في طابق علوي من المبنى عينه، بل إلى شرب "العرق". كان قلَّما يمدُّ يدَه إلى الصحون القليلة الممدودة فوق طاولتنا. جلستُ معه، وأكلتُ وشربتُ، من دون أن يعرف اسمي. وما إن ناداني جان باسمي، وعرف زياد بقية اسمي، ضحكَ ضحكة عامرة: مقالُكَ عن "نزل السرور" استوقفَني

إلا أن هذا الزياد الأليف، "العِشراوي"، كان مختلفًا، ما إن يقعد على الكرسي أمام البيانو. هذا ما حصل في استديو سفلي في المبنى. كنتُ أدندن مقطعًا من قصيدة، أقرب إلى نشيد، بعد أن انتهيتُ من كتابتها: "الشرق يصحو"؛ بل كنت قد وضعتُ لها ما يقرب من اللحن؛ فكان أن استعادها زياد منّي، وقلبَها قلبًا مدهشًا، حتى صار لها قوام موسيقي وغنائي. لم أصدِّق ما جرى أمامي بلمح البصر. ابتعدتُ لعدة أمتار عنه. تركتُه وحده مع البيانو. لعله لم يتنبه لابتعادي، إذ راح يلاعب النوتات بخفة مذهلة، أشبه بطيران فراشة أو عصفور، في حين كان ما يتصاعد من تلك الأنامل الخفيفة يقترب من النظم الحر في الطيران".

(*) من السيرة الذاتية لشربل داغر، الجزء الثاني بعنوان: "الخروج إلى الشارع".

 

المدن الإلكترونية في

26.07.2025

 
 
 
 
 

الخروج من حقل ألغام قضية الدروز على متن "طيارة من ورق"

عصام زكريا

تعرفت على "مشكلة الدروز" للمرة الأولى منذ أكثر من عشرين عامًا عندما شاهدت فيلم طيارة من ورق، للمخرجة اللبنانية الراحلة رندة الشهال، على شاشة المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية ضمن عروض مهرجان القاهرة السينمائي.

أذكر التفاصيل جيدًا؛ ليس فقط لأن الفيلم كان مختلفًا وجريئًا مقارنة بما اعتدنا عليه في أفلامنا العربية، لكن أيضًا بسبب الجدل الذي أثاره فور نهاية عرضه.

ترك الفيلم بداخلي كثيرًا من المشاعر والأسئلة التي تحتاج إلى وقتٍ وتفكير لهضمها وتحديدها، ولكن لأن التفكير ليس أفضل خصائصنا؛ راحت الآراء والاتهامات تتطاير عقب عرض الفيلم من قبل بعض "النخب" الصحفية والنقدية والسينمائية التي شاهدته!

ترايلر فيلم طيارة من ورق، إخراج رندة الشهال (2003)

وراء قناع الحب

يروي الفيلم قصة حب بين فتاة عربية وجندي إسرائيلي على الحدود الفاصلة. وفي مثل هذا النوع من قصص الحب غير المتوقعة/unlikely couples، توجد عادةً خلفيات طبقية أو سياسية أو طائفية تُسبب تعثر الحب. وفي حالة "طيارة من ورق" فإن الخلفية هنا هي أزمة الوجود وأزمة الهوية، التي تعاني منها الأقلية الدرزية الممزقة والمبعثرة على جانبي الحدود السورية الإسرائيلية.

ولو أننا من المخلوقات التي تسعى للمعرفة، ولو أننا نسأل ونبحث، أو على الأقل نشاهد الأفلام، لكنا وفرنا السنوات التي تضيع والدماء التي تهدر، ولفهمنا، من بين أشياء كثيرة تحتاج إلى الفهم، صعوبة ودقة وضع الدروز السوريين، ولربما كنا مزجنا المعرفة بالتفكير والتدبر والتدبير مسبقًا لما يحدث اليوم وسوف يحدث غدًا، من فتنة ودمار وتقسيم!

أفلام لإعمال العقل

رندة الشهال واحدة ممن يبحثون عن المعرفة، ولا يخجلون من السؤال، ولا يتورعون عن مواجهة جمهورهم وحكامهم بالمعرفة والأسئلة. فخلال حياتها القصيرة (1953- 2008) قدمت المخرجة والمؤلفة اللبنانية عددًا من الأفلام المتميزة التي طالما حصدت الجوائز، وأثارت غضب رقباء وأحزاب ومؤسسات وأفراد.

أبدت رندة، المنتمية لأسرة يسارية مثقفة، اهتمامًا بالسياسة في كل أفلامها، مُركّزةً على أزمة العقل العربي. صنعت أفلامًا تسجيلية مهمة عن الحرب اللبنانية الأهلية والتطرف الديني، وفيلمًا عن الشيخ إمام. كما صنعت عددًا من الأفلام الروائية من أشهرها شاشات الرمال (1991)، ومتحضرات (1999)، إلى جانب آخر أعمالها "طيارة من ورق" الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم من مهرجان فينيسيا.

في "طيارة من ورق" تعالج رندة الشهال قضية الدروز من خلال قرية مُتخيلة تقع على الحدود اللبنانية الإسرائيلية تسكنها أقلية درزية. بالطبع تقصد الجولان، ولكنها غالبًا تجنبت تسمية الجولان تجنبًا للرقابة السورية، في وقت كان فيه لبنان مستباحًا من تدخلات وعملاء النظام السوري.

أذكر أنني عندما زرت لبنان في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكانت أولى زياراتي لبلد عربي. ظننت أن بإمكاني الحديث بحرية عن كل شيء، حتى ذكرت اسم سوريا بشكل عفوي، ليتوتر كل المحيطين بي، ويتلفتون حولهم وكأنني ذكرت اسم لورد فولدمورت.

ممزقون بين الحدود

نتتبع مشيةَ لمياء، الصبية ذات الخمسة عشر عامًا، على الخط الفاصل بين الجولان المحتل وذلك الخاضع للسيادة السورية، بفستان العُرس بينما الأهل على الجانبين يغنون ويحتفلون.

ولكن عند وصولها إلى بيت عريسها، سامي، تخبره بأنها اضطرت إلى الانصياع لرغبة أهلها، وأنها لا تستطيع أن تتزوج شخصًا لا تحبه، ليخبرها بأنه اضطر بدوره إلى قبول الزواج ليرضي عائلته.

منذ المشاهد الأولى، التي تُصوِّر أفراد العائلات الدرزية وهم يتبادلون الأحاديث في الميكروفون عبر السياج الحدودي، تلمس تكاتف هذه الأقلية الريفية ذات التقاليد والعادات العريقة، التي تربطها هوية عرقية ودينية وثقافية شديدة القوة، لكن الجغرافية السياسية المحيطة بها تمزقها تمامًا، وهو ما يتضح عبر مسار الفيلم بشكل جلي.

الفرد العادي، قليل الإمكانات والوعي، لا يختار الجغرافيا ولا الجانب السياسي في الصراع، وإنما يجد نفسه فيه. ولكن لأن الدروز من الأقليات المترابطة جدًا، مثل الأكراد والنوبيين والأمازيغ؛ فيحتفظون بعلاقات القربى رغم الجغرافيا والسياسة والانتماء الوطني. هذا التمزق بين الجنسيات والانتماءات الوطنية المختلفة هو جزء من المكون الدرزي الذي يجب أن يفهمه أي سياسي.

صحيح أن الجنسية والوطن مكون أساسي للهوية، ولكن الانتماء للأقلية ذات اللغة والعقيدة والعادات والتقاليد بل والقوانين الخاصة بها، أمر لا يمكن المطالبة بإغفاله. وعندما نرى مشاهد الدروز "الإسرائيليين" وهم يعبرون الحدود عنوةً، رغبة منهم في الذهاب لدعم أقاربهم الذين يتعرضون للقتل الطائفي في سوريا، يمكن أن نفهم دوافعهم.

السير في حقل الألغام

في الفيلم، يتفق لمياء وسامي على عدم إتمام الزواج، وينفصلان في هدوء لتعود إلى أسرتها في الجزء العربي.

ولكن، وفي مسارٍ متوازٍ، هناك على الحدود برج مراقبة دائمًا ما يوجد فيه مجند درزي إسرائيلي، ولمياء الحائرة وغير المستوعبة لهذه الظروف المحيطة بها أشبه بطفلة تهوى اللعب بالطائرات الورقية التي تحلق في السماء ولا تعترف بالحدود. في أحد المشاهد المبكرة في الفيلم تسقط طائرتها الورقية بين الحدود فتذهب لاستعادتها غير مدركة للمخاطر، ولكن الجندي الشاب يصيح محذرًا إياها من الألغام.

رغم أنه ولمياء لا يتبادلان الحديث تقريبًا، نلحظ الإعجاب المتبادل. وحين تعود إلى بيت أسرتها يراودها حنين إلى الشاب، وتشعر أنها تحبه، وتحلم بلقائه مجددًا. ولكن لاحقًا حين تقرر في مشهد ليس من الواضح إذا كان حلمًا أم حقيقة، أن تعبر الحدود مجددًا لتلتقي به، تتعثر في حقل الألغام وتنفجر.

بين الطائفية والهوية

أثبتت السنوات أن النهايةَ المأساويةَ التي تُجسِّد وضعًا إنسانيًا وسياسيًا قلما تعرَّض له سياسيونا ومفكرونا الأفاضل؛ نهايةٌ دراميةٌ عبقريةٌ.

فالألغام هي الموضوعات المسكوت عنها. والقنابل الموقوتة التي نتحاشى ذكرها علنًا، وعلى رأسها الطائفية وقمع الأقليات والمختلفين وأزمات الهوية التي يجد الكثيرون أنفسهم فيها؛ إنما تنهش جسد البلدان العربية.

ليس الدروز فقط، بل معهم فلسطينيو الـ48 والبدو وغيرهم. وهي أمور تبدو كامنة ولكنها قابلة للانفجار في لحظة، كما حدث في سوريا، وقبلها في لبنان والعراق والخليج ومصر بأشكال ودرجات مختلفة.

المستوى الفني الممتاز للفيلم أهله للفوز بجائزة فينيسيا، بالرغم من أن بعض المتحذلقين أيامها، وكالعادة، أرجعوا فوزه لموضوعه "التطبيعي"!

وما زلت أذكر، رغم مرور أكثر من عشرين عامًا، وجه الصبية الجميلة البريئة التي أدت دورها فلافيا بشارة، وموسيقى الفنان الراحل زياد رحباني، الذي يُمثل في الفيلم أيضًا.

لم تحضر رندة الشهال العرض على ما أذكر، ودخلت خلال السنوات التالية في صراع امتد لسنوات مع المرض، منعها من إتمام فيلم كوميدي بفريق عمل نسائي عالمي كانت تعمل عليه لسنوات.

أقول لو أن "طيارة من ورق" وغيره من الأفلام المثيرة للعقل والمناقشة، عرضت على نطاق واسع لمثقفين وجمهور أكثر استعدادًا للمعرفة، لربما كانت ستساهم في إنقاذنا من حقل الألغام الذي نعيش فيه.

 

موقع "المنصة" في

26.07.2025

 
 
 
 
 

"شكراً جداً جزيلاً"

سمر عبد الجابر

رنا اقتربت من المسرح وأخذت صوراً كثيرة لك ولفيروز وكانت في قمة سعادتها وحلمها يتحوّل إلى حقيقة. ليلتها، هطل مطرٌ خفيفٌ ونحن نغادر المسرح، رافقنا طيلة الليل إلى البيت... ليضيف سحرًا فوق السحر.

كنت تعزف الجاز في البار والناس لا يتوقّفون عن الكلام. توقفت عن العزف، وقلت عبر المايكروفون: "إذا في حدا عميحكي شي للتاني والتاني وما عم يسمعه، يخبرنا لنعطيه المايكروفون". فضحك الناس، وتوقّفوا عن الكلام.

شكراً على الموسيقى والأغاني، على المسرحيات والمقاطع الساخرة. شكراً على اللغة - لغة زياد - التي يتقنها من أدمنك وحفظك عن ظهر قلب، لغة أصبحت رسمية بيننا، نتعلّمها ونتحدّث بها.. لغة لا يفهمنا بها من لم يعرفك. شكراً لأنك صنعت لنا فنًّا نشعر بانتماءٍ حقيقي إليه، فنلتقي تحت رايتك، ونصبح أصدقاء مع كل من يحبك مثلنا، نصبح أقرب... لأنك تجمعنا. شكراً على السهرات التي كنا نجتمع فيها حول مسرحياتك، والرحلات التي رافقتنا فيها أغانيك. شكراً على الضحك الذي كان يخرج من قلب القلب، وعلى الحماسة التي كانت تتملكنا ونحن نتسابق لشراء تذاكر حفلاتك، وعلى الفرح الذي كنت تمنحنا إياه فوق المسرح. شكراً على موسيقى وكلمات فيروز، تلك اليد التي تربّت برفق على أرواحنا المكسورة طيلة الوقت.

*

عام 2000

على مسرح بيت الدين، رأيتك للمرّة الأولى.. وغنّت فيروز "صباح ومسا".. فعلاً كان "شي ما بينتسى".. 

*

عام 2004

على مدرّجات جامعة بيروت العربية وفي المقاهي حولها، كنّا نجتمع لنستمع إليك... مجموعة من الشباب والشابات، فلسطينيون ولبنانيون تجمعنا فلسطين ومحمود درويش وأحمد قعبور وخالد الهبر ومارسيل خليفة وفيروز وزياد الرحباني...

كنا نستمع إليك مرة بعد مرة ونضحك في كل مرة كما لو أنها الأولى. نردّد أغانيك ونتسلّى بتحويلها إلى أغانٍ باللهجة الفلسطينية.

شكراً لأنك كنت جزءاً من وعينا الأول، من شبابنا الغاضب والحالم، ولأنك كنت من معلّمينا الأوائل.

*

عام 2006

قرأت "صديقي اللّه" فذهلت باكتشاف الطفل الشاعر فيك. وأنشأت مدوّنتي وسمّيتها "هدوء نسبي" على اسم مقطوعتك.

*

عام 2009

كنت تعزف الجاز في البار والناس لا يتوقّفون عن الكلام. توقفت عن العزف، وقلت عبر المايكروفون: "إذا في حدا عميحكي شي للتاني والتاني ما عم يسمعه، يخبرنا لنعطيه المايكروفون". فضحك الناس، وتوقّفوا عن الكلام.

شكراً على الموسيقى العبقرية، وخفة الدم.

*

عام 2010

كان لألبوم "إيه في أمل" وقعٌ لا يُنتسى... سمعنا الأغاني مراراً وتكراراً ولم نملّ. تحدّثنا عنها طويلاً وتبادلنا الآراء. ولم نصدّق حين رأينا إعلان الحفلة في بيروت. حجزنا التذاكر وانتظرنا بكل ما نملك من صبر. شاهدنا فيروز وهي تغنّي وتهزّ الدفّ، وكنا نحن في الجمهور نحلّق أعلى وأعلى.

رنا اقتربت من المسرح وأخذت صوراً كثيرة لفيروز وكانت في قمة سعادتها وحلمها يتحوّل إلى حقيقة. ليلتها، هطل مطرٌ خفيفٌ ونحن نغادر المسرح، رافقنا طيلة الليل إلى البيت... ليضيف سحرًا فوق السحر.

شكراً على "إيه في أمل" وتلك الليلة التي كانت أشبه بالحلم.

*

عام 2014

كنت محظوظةً لأشاهد لك عرضاً في صيدا أثناء إجازتي. كنّا قريبين جدّاً من المسرح وكنت، كما عادتك، قريباً جدّاً من قلوبنا...

ومثلما كنا نترقّب مسرحياتك وأغانيك على المسارح وعلى راديو صوت الشعب، كنا ننتظرك أيضاً على الشاشات، نتابع مقابلاتك بشغفٍ كبير. ننتظر منك كلمةً لنضحك، ولحناً لنطرب.

شكراً على: "العقل زينة"، "شي فاشل"، "فيلم أميركي طويل"، "نزل السرور"، "أنا مش كافر"، "شو عدا ما بدا"، "يا زمان الطائفية"، "بلا ولا شي"، و"إيه في أمل"...

*

شكراً لأنك علمتنا السخرية من الطائفية، ومن الرأسمالية... وعلمتنا السخرية في الحبّ، ذاك الذي يختلف عن الحبّ الذي تعلّمناه في ديزني وهوليوود... ذاك الحبّ المؤلم بواقعيته، والمخفّف بسخريتك منه... الحبّ الذي تساعدنا أغانيك على تخطّيه حين ينتهي. شكراً لأنك أعطيتنا كل ما أعطيتنا، ولأننا عشنا في زمنٍ أتاح لنا فرصة أن نرى فيروز وزياد معًا على المسرح.

*

نحزن اليوم بقدر ما أضحكتنا. نحزن فوق حزننا على انكساراتنا الكثيرة، وعجزنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، وآلامنا التي تتراكم منذ عقود ولا تنتهي. 

نحزن لأننا ونحن نسترجعك، ندرك كم ماتت فينا أشياء كنت قد أحييتها فينا ذات يوم.

*

شكراً على كل ما علمتنا إياه، وكل ما تركته فينا من أثر. شكراً على العمق والخفّة. شكراً على كل هذا الجمال الذي تركته لنا.

شكراً على النوستالجيا التي لن تفارقنا يوماً، ونحن نعيد اكتشافك مرة بعد مرة.

شاعرة من فلسطين

 

مجلة رمان الثقافية في

26.07.2025

 
 
 
 
 

وفاة الفنان اللبناني زياد الرحباني عن 69 عاماً..

خسارة مدوّية للثقافة العربية

ناديا الياس

بيروت- “القدس العربي”: بألم كبير، تلقّى اللبنانيون نبأ وفاة الفنان اللبناني الكبير والعبقري زياد الرحباني، عن عمر ناهز 69 عامًا، بعد صراع مع المرض.

وقد عبّر كثيرون عن حزنهم العميق لهذا الرحيل المفاجئ، وتناقلوا صوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مرفقة بعبارات الأسى على هذه الخسارة الكبرى للفن والثقافة اللبنانية والعربية، إذ كان صوتًا حرًا سلّط الضوء على الظلم والمهزلة، وهزم الصمت بالكلمة والموقف.

زياد الرحباني، المولود في 1 كانون الثاني/يناير 1956، هو نجل السيدة فيروز والموسيقار الراحل عاصي الرحباني، وتميّز كأحد أبرز المبدعين اللبنانيين في الموسيقى والمسرح، إلى جانب كونه كاتبًا مسرحيًا، وملحنًا، وناقدًا سياسيًا، ومعلقًا إذاعيًا، وصحافيًا لامعًا.

عُرف بانتمائه اليساري وتأييده لفكرة المقاومة، وظل داعمًا للقضية الفلسطينية، ومناهضًا للنظام السياسي التقليدي في لبنان. تمحورت أعماله حول نقد الواقع اللبناني والاجتماعي والسياسي بأسلوب ساخر ومباشر، ما أكسبه جمهورًا واسعًا في لبنان والعالم العربي.

اشتهر الرحباني بمسرحياته الثورية التي أصبحت من كلاسيكيات المسرح اللبناني، وتناقلتها الأجيال بحب واهتمام، ومن أبرزها: “سهرية”، “نزل السرور”، “حاجة فاشلة”، “بالنسبة لبكرا شو؟”، “فيلم أمريكي طويل”، “لولا فسحة الأمل”، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” وغيرها.

استمدّ مادته المسرحية من قاموس الحياة اليومية، وقدّم شخصياته بلغة الناس وبموهبة كوميدية نادرة، جعلته يبرز كممثل فكاهي متمكّن يعرف كيف يختار أدواره بما يتماشى مع شخصيته وقدراته.

بدأ زياد مسيرته الفنية في سن مبكرة، حيث كتب ولحّن لوالدته فيروز، وشكّل الركيزة الثقافية الثالثة بعد والديه، مقدّمًا رؤية جديدة للمسرح العربي المعاصر جمعت بين الموسيقى، والكوميديا، والسياسة، والجرأة.

ورغم انسحابه النسبي من الحياة الفنية في السنوات الأخيرة، ظلّ يحتفظ بمكانة رفيعة لدى جمهور واسع من المثقفين ومحبي الفن الأصيل.

ومن المقرر أن تصدر تفاصيل مراسم التشييع خلال الساعات المقبلة، بمشاركة والدته فيروز، وشقيقته ريما، وشقيقه هلي.

وقد نعاه لبنان الرسمي والفني والشعبي، حيث أعرب رئيس الجمهورية العماد جوزف عون عن “ألمه لغياب الفنان الكبير زياد الرحباني، الذي غيّبه الموت بعد مسيرة فنية استثنائية تركت بصمتها العميقة في وجداننا الثقافي.”

وقال: “زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة، بل أكثر من ذلك، كان ضميرًا حيًّا، وصوتًا متمرّدًا على الظلم، ومرآةً صادقة للمعذّبين والمهمّشين. كان يكتب وجع الناس، ويعزف على أوتار الحقيقة بلا مواربة. ومن خلال مسرحه الهادف وموسيقاه المتقدة بالإبداع، التي تنقلت بين الكلاسيك والجاز والموسيقى الشرقية، قدّم رؤية فنية فريدة وفتح نوافذ جديدة في التعبير الثقافي اللبناني، بلغ بها العالمية وأبدع”.

وأضاف رئيس الجمهورية: “لقد كان زياد امتدادًا طبيعيًا للعائلة الرحبانية التي أعطت لبنان الكثير من نذر الجمال والكرامة، وهو ابن المبدع عاصي الرحباني والسيدة فيروز، سفيرتنا إلى النجوم، التي نوجّه لها اليوم أصدق التعازي، وقلوبنا معها في هذا المصاب الجلل، نشاركها ألم فقدان من كان لها أكثر من سند. كما نعزي العائلة الرحبانية الكريمة بهذه الخسارة الكبيرة”.

وختم بالقول: “إن أعمال زياد الكثيرة والمتميزة ستبقى حيّة في ذاكرة اللبنانيين والعرب، تلهم الأجيال القادمة وتذكّرهم بأن الفن يمكن أن يكون مقاومة، وأن الكلمة يمكن أن تكون موقفًا. فليرقد زياد الرحباني بسلام، ولتبقَ موسيقاه ومسرحياته النابضة بالذاكرة والحياة، نبراسًا للحرية ونداءً للكرامة الإنسانية”.

كما نعاه رئيس الحكومة نواف سلام، كاتبًا: “بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانًا مبدعًا استثنائيًا وصوتًا حرًّا ظلّ وفيًّا لقيم العدالة والكرامة. زياد جسّد التزامًا عميقًا بقضايا الإنسان والوطن. من على خشبة المسرح، وفي الموسيقى والكلمة، قال زياد ما لم يجرؤ كثيرون على قوله، ولامس آمال اللبنانيين وآلامهم على مدى عقود. بصراحته الجارحة، زرع وعيًا جديدًا في وجدان الثقافة الوطنية. أتقدّم من القلب بأحرّ التعازي لعائلته، ولكل اللبنانيين الذين أحبّوه واعتبروه صوتهم”.

وكتب وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة عبر حسابه على منصة “إكس”: “كنا نخاف من هذا اليوم، لأننا كنا نعلم تفاقم حالته الصحية وتضاؤل رغبته في المعالجة. وتحولت الخطط لمداواته في لبنان أو في الخارج إلى مجرد أفكار بالية، لأن زيادًا لم يعد يجد القدرة على تصور العلاج والعمليات التي يقتضيها. رحم الله رحبانيًا مبدعًا سنبكيه، بينما نردد أغنيات له لن تموت”.

أما الممثلة اللبنانية كارمن لبّس، التي ارتبطت بعلاقة مع زياد الرحباني، فقد وشّحت صفحتها بالسواد، وكتبت بأسى: “ليش هيك؟ حاسة كل شي راح… حاسة فضي لبنان”.

 

القدس العربي اللندنية في

26.07.2025

 
 
 
 
 

نصف قرن من الإبداع - وفاة الفنان اللبناني زياد الرحباني

صلاح شرارة أ ف ب، رويترز، د ب

تنوعت أعماله بين التأليف الموسيقي والعزف والكتابة المسرحية والتمثيل، يعد زياد الرحباني أحد أبرز المجددين في الأغنية اللبنانية والمسرح السياسي الساخر. اليوم بعد نحو نصف قرن من النشاط الفني غيّبه الموت ونعاه قادة لبنان.

بعد مسيرة فنية تركت بصمة عميقة في الموسيقى والمسرح، توفي الفنان والملحن والمسرحي  اللبناني زياد الرحباني عن عمر يناهز 69 عاما، في أحد مستشفيات بيروت اليوم السبت (26 يوليو/ تموز 2025)، بعد معاناة مع المرض تاركا جمهوره وأصدقاءه في حالة صدمة كبيرة.

قادة لبنان ينعون الرحباني ويقدرون دوره الكبير

ونعاه الرئيس اللبناني جوزاف عون في تدوينة على منصة إكس قائلا "زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة، وأكثر.. كان ضميرا حيا، وصوتا متمردا على الظلم، ومرآة صادقة".

وكتب رئيس الوزراء نواف سلام "بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانا مبدعا استثنائيا وصوتا حرا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة. زياد جسد التزاما عميقا بقضايا الإنسان والوطن". وأضاف "من على خشبة المسرح، وفي الموسيقى والكلمة، قال زياد ما لم يجرؤ كثيرون على قوله، ولامس آمال اللبنانيين وآلامهم على مدى عقود".

كما رثاه وزير الثقافة غسان سلامة قائلا "كنا نخاف من هذا اليوم لأننا كنا نعلم تفاقم حالته الصحية وتضاؤل رغبته في المعالجة. وتحولت الخطط لمداواته في لبنان أو في الخارج إلى مجرد أفكار بالية لأن زياد لم يعد يجد القدرة على تصور العلاج والعمليات التي يقتضيها. رحم الله رحبانيا مبدعا سنبكيه بينما نردد أغنيات له لن تموت".

ابن فيروز وعاصي يختار طريقا مستقلا

وزياد الرحباني هو نجل الفنانة فيروز والمؤلف الموسيقي والمسرحي والشاعر الراحل عاصي الرحباني. ولد عام 1956 ونشأ في تلك العائلة الفنية الكبيرة، وبدأ مشواره في عمر السابعة عشرة، لكنه اختار لنفسه طريقا فنيا مستقلا وناقدا، أقرب إلى نبض الشارع وهموم المواطنين اللبنانيين.

تنوعت أعماله بين التأليف الموسيقي والعزف والكتابة المسرحية والتمثيل وتعاون مع عدد كبير من الفنانين من بينهم والدته فيروز التي لحن لها "سألوني الناس" و"كيفك إنت" و"صباح ومساوغيرها.

واشتهر زياد الرحباني بموسيقاه ومسرحياته السياسية والاجتماعية الناقدة. وتميزت مسرحياته بلغتها العامية الساخرة، وبطرحها المباشر لقضايا الحرب، الطائفية، الطبقية، والفساد.

كان زياد الرحباني كاتبا وملحنا وموسيقيا ومسرحيا عاشقا للفن. أضحك الجمهور كثيرا بنقد ساخر، لكنه حاكى به الواقع اللبناني المرير من الانقسامات الطائفية والعصبيات والتقاليد. ولم ينج من انتقاداته، لا سيما في سنوات تألقه الأولى، حتى فن والديه التقليدي والفولكلوري.

ويعد زياد الرحباني أحد أبرز المجددين في الأغنية اللبنانية والمسرح السياسي الساخر. مزج زياد بين الجاز والموسيقى الشرقية، وقدم أعمالا مختلفة من حيث التوزيع والأسلوب.

ما لا تعرفه عن زياد الرحباني؟ ـ الجزء الأول

مسيرة فنية بلغت نحو نصف قرن

بدأ زياد مسيرته الفنية مطلع السبعينيات، حين قدم أولى مسرحياته الشهيرة "سهرية". في العام 1980، حصدت مسرحية "فيلم أميركي طويل" التي كانت وقائعها تجري في مستشفى للأمراض العقلية نجاحا منقطع النظير، وقد اختصر فيها مشاكل المجتمع اللبناني وطوائفه التي كانت تغذّي آنذاك نار الحرب الأهلية.

كتب زياد الرحباني ولحن لاحقا لوالدته الفنانة فيروز العديد من الأعمال. أبرزها "كيفك إنت"، "ولا كيف"، "عودك رنان". كما لحن أيضا لغيرها من الفنانين الذين عملوا معه. كما ألّف العديد من المقاطع الموسيقية.

في العام 2018، افتتح زياد الرحباني مهرجانات بيت الدين الدولية في استعراض موسيقي لأعمال له وللأخوين الرحباني تخللتها لقطات تمثيلية وتعليقات ساخرة. وقدّم على مدى نحو ساعتين حوالي 26 مقطوعة موسيقية وأغنية مع فرقة كبيرة.

تحرير: عارف جابو

 

موقع "دويتشه فيله" الألماني في

26.07.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004