كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"بيترلو" مايك لي: ديموقراطية بريطانيا المخضّبة بالدم

شفيق طبارة

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الخامس والسبعون

   
 
 
 
 

من واترلو، أرض آخر معارك نابوليون التي مني فيها بالهزيمة العام 1815، ثم أرض مذبحة العام 1819 التي راح ضحيتها 17 شخصاً بالاضافة إلى مئات من الجرحى، ينبثق فيلم "بيترلو"(*) للمخرج البريطاني مايك لي، والذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان البندقية الجاري حالياً.

تتدرّج المذبحة لتصل إلى الذروة، كل تفصيل مرعب يتكشّف ببطءٍ ممنهجٍ على الشاشة الكبيرة، مايك لي لا يتردد في تصوير العنف، الجنون، الذعر والاعتداء. مع كل التفاتة من عدسته يؤكّد على مغزاه: الضحايا ليسو جنوداً، بل مدنيين عاديين. أربعون دقيقة مروّعة من عمر الفيلم الممتد ساعتين ونصف الساعة، نقضيها في أتون المجزرة، لكنّ كل دقيقة من الفيلم تروي ما خلف المجزرة، تفاصيل أدق، أكثر إثارة، صدمات صغيرة عن أسباب ونتيجة المعركة.

يبدأ مايك لي فيلمه بالظروف التي أدت الى المأساة، يبيّن أنها من مفاعيل معركة "واترلو"، كيف تُركت أرض هزيمة نابوليون بونابرت العظيم للبطالة ولأزمة معيشية خانقة ولدت غضباً ومظاهرات، تبعها عنفٌ من جنود الملك ومجزرة بحق المحتجين. "بيترلو" فيلم تاريخي "بسيط"، لكنه يرتكز على بحث معمق وينكب على تفاصيل تقدم بصرامة. عمل يصدح بإدانة للنظام السياسي، يحكي معاناة الشعب البريطاني في ذلك الوقت وتعايشه مع سلطة قضائية قاسية تصدر أحكاماً جائرة، ويخبر عن الفجوة الآخذة في الاتساع بين رأس المملكة وسكانها.

هيكلٌ كورالي يسيطر على الفيلم، هي زحمة شخصيات في المشاهد. خلال ساعتين ونيف، نمرّ على حياة برلمانيين، قضاة، ضباط وجنود الجيش، نشطاء اصلاحيين، جواسيس، صحافيين وعائلات. يأتي الفيلم في إطار روائي منظم وواضح زمنياً، يأخذ وقته ونحن نقدر ذلك، يأخذ وقته لتعريفنا إلى شخصيات "الخطباء" الذين أججوا الروح الثورية: هنري هنت (روري كينير)، القائد والمتحدث باسم الحركة الراديكالية التي تطالب بالإصلاحات وهو يؤدي دور،  الوسيط والمصلح بين الحكومة والشعب، لكنه في الوقت عينه ليبرالي ثري. نتعرّف أيضاً إلى نيللي (ماسكين بيكي)، العاملة القوية ووالدة الجندي الشاب جوزيف (ديفيد مورست) الذي عانى الصدمة إثر معركة "واترلو". شخصيات من قطبي الصراع نتعرّف اليها إذاً من خلال مشاهد الحوار الطويلة مع نمط جاف قليلاً، لتجنّب تقديم مادة وعظية أو درس تاريخي.

اعتمد لي نهجاً سردياً مستفيضاً. يوسع بيكار رؤيته عن قصد، لتشريح الحالة من خلال إكمال الفسيفساء تدريجياً، لنصل إلى الصورة الكاملة. مايك لي ليس مختلفاً في خضمّ السرد التاريخي، هو لا يتجاوز نفسه، هي السينما الواضحة التي عودنا عليها والتي يتلاعب فيها بكل تفصيلة وإيقاع.. الطريق إلى المذبحة مليء بلحظات صغيرة من الحياة الحقيقية للسينما الاجتماعية التي يشتهر بها المخرج. أمّا أبطال مايك لي، فصريحون، بأبيضهم وأسودهم، هؤلاء هم الناس الحقيقيون، هم الصورة الإجتماعية التي ركبها بكلّ دقّة، صابغاً إياها بخصائص المجتمع البريطاني، بالعادات اليومية لسكان واترلو وخصائصهم الأسرية. وهذا هو مايك لي المخلص لنهجة المعتاد: الواقعية الدقيقة في تقديم علاقات إنسانية واجتماعية واضحة وحقيقية والمنظار الاجتماعي بغض النظر عن الزمان الذي تحصل فيه قصصه.

نعيش "بيترلو" بكلّ جوارحنا، رغم كونها لحظة تاريخية بعيدة. انها طريقة هذا المخرج، المباشرة العاطفية والمليئة بالحوارات الحماسية. تغيب المفاجأت السردية. فنهاية الفيلم مُهِد لها تماماً، وهذه سينما مايك لي التي لا تفاجئ الكثيرين بل تمتاز بثباتٍ سينمائيٍ دائم.

لا شكّ أنّ ما رفع قيمة "بيترلو" أكثر، هو التصوير السينمائي من قبل ديك بوب، الذي سبق أن تعاون مع لي سينمائياً. لعب التصوير لعبته، بين الضوء الخافت في الداخل بأضواء الشموع في منازل القضاة مثلاً، فالانتقال الى الوضوح التام في المشاهد الخارجية عند الانتقال إلى المشاهد الجماهيرية في ساحات وشوارع مانشستر.

في "بيترلو" التصق مايك لي، بالمعالجة الاجتماعية الواقعية التي عوّدنا عليها، لكن في إطار غلب عليه العنف والدموية. "بيترلو" هو أكثر من مجرد ومضة عنف في التاريخ الانكليزي نقلت إلى السينما، هو نظرة الى تاريخ إنكلترا بعين مايك لي. ليس الفيلم افضل ما قدم المخرج البريطاني، لكنه بكلّ تأكيد ضمن الأعمال التي تميزه، به وعبره كشف جانباً مجهولاً منه كمخرج، وكشف النقاب عن آماله السينمائية واسعة المدى التي لا تضيق ولا تخطئ أبداً

(*) في 16 آب/أغسطس 1819، في بريطانيا، وتحديداً في مانشستر في سانت بيتر فيلد، حصلت إحدى أكبر المذابح في التاريخ الانكليزي ضد عامة الشعب. يومها، هاجم الفرسان جمعاً من عشرات الآلاف، معظمهم من الطبقة العاملة، فضلاً عن ممثلي الصحافة والبلديات وأعضاء المنظمات التي تناضل من أجل حقوق عادلة. التجمع المسالم كان للمطالبة بإصلاحات سياسية تضمن التمثيل النيابي العادل. روايات الهجوم الدموي كانت مروعة وشغلت الصحافة لفترة من الزمن. 15 شخصاً قتلوا وأصيب المئات. ثارت ثائرة الرأي العام في أنحاء البلاد، فانطلقت شرارة التظاهرات، وكانت مجزرة واترلو نقطة تحول في عملية تقدم وتعزيز الديموقراطية في بريطانيا.

المدن الإلكترونية في

11.09.2018

 
 

فيلم «غروب» للمجري لازلو نيمش…

نذر حرب وانقضاء حقبة تاريخية

فينيسيا ـ «القدس العربي» من نسرين سيد أحمد:

جاء المخرج المجري لازلو نيمش إلى مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الخامسة والسبعين، محملا بتوقعات عريضة من النقاد والجمهور على حد سواء. فبعد فيلمه الروائي الأول «ابن شاؤول» (2015) الحائز جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كان وأوسكار أفضل فيلم أجنبي، الذي زجنا به نيمش في أعماق جحيم المحرقة، فأثار فينا الفزع والرهبة والخوف والألم، والذي قدم لنا نفسه فيه مخرجا جديدا في أوج حرفيته وتمكنه من أدواته، كنا نترقب فيلمه الثاني «غروب» بتلهف كبير يعيدنا نيمش في «غروب» إلى وقت أفول الإمبراطورية النمساوية المجرية في أوائل القرن العشرين، وإلى نذر دمار العالم وسقوطه في حرب لا تبقي ولا تذر، وهي الحرب العالمية الأولى. المكان هو العاصمة المجرية بودابست، التي بدأت تتهدها الفوضى والعنف والسقوط في براثن المجهول المخيف. يقدم نيمش أجواء قاتمة، وخوفا من خطر محدق يتربص بالمدينة، ولكن وسط هذه الأجواء الظلامية الخانقة المليئة بالذعر يضل نيمش الطريق، وتفقد رؤياه وضوحها لتأتي بنيته السردية مفككة مفتقرة إلى ما يجمع عراها ينجح نيمش في الزج بنا مجددا في غياهب عالم تكتنفه الفوضى والفزع، ولكن القصة الرئيسية للفيلم، عن تلك الشابة التي عادت لبودابست بحثا عن ماضي أسرتها ومجدها السليب، وفي محاولة لحل لغز شقيقها الذي لا تعلم عنه شيئا، جاءت مفككة مليئة بالثغرات، فنصبح ونحن نشاهد الفيلم كمن يتخبط في الظلمات بلا هدى، ونضل طريقنا وسط تخبط السرد.

يبدأ الفيلم بوصول إيريس لايتر (يوليا ياكوب) الشابة الجميلة التي يحمل وجهها مسحة من الحزن، إلى بودابست للبحث عن عمل في متجر أنيق للقبعات، تؤمه صفوة المجتمع والعائلة المالكة. يحمل المتجر الأنيق اسم «لايتر»، اسم عائلتها، فقد أسسه والداها قبل حريق التهم المتجر وراح ضحيته والداها وهي رضيعة. لا يقدم نميش تفسيرا لملابسات إحراق المتجر، ولكننا نعلم أن المتجر اشتراه أوسكار بريل (فلاد إيفانوف) الذي احتفظ باسمه القديم وبما اشتهر به وهو صنع القبعات الفاخرة لتتزين بها وتعتمرها صفوة نساء المجتمع. تقدم إيريس نفسها لطاقم المتجر وتطلب العمل، ولكن بريل يرفض طلبها وينصحها بمغادرة المدينة والعودة من حيث أتت ومنذ لحظة خروجها من باب المتجر الأنيق تسقط إيريس في عالم تعمه الفوضى، عالم أشبه بالجحيم، تحاول فتح الأبواب الموصدة لفهم حقيقة ماضي أسرتها ولمعرفة المزيد عن شقيقها الذي لم تكن تعلم عن وجوده شيئا، لكن بدون جدوى. يركز نيمش بلقطاته المقربة المميزة على وجه إيريس وكل ما يحمله من حيرة ويأس وعدم مقدرة على الفهم. 

تعييها سبل فهم الماضي، أو حل ألغازه، وتعيينا نحن أيضا. يسقطنا نيمش في جحيم من الفوضى والتخبط والحيرة، وإن كان لهذا العالم السفلي ما يبرره، بل وما يجعله ضرورة في فيلمه «ابن شاؤول»، إلا أننا نراه مغامرة غير محسوبة العواقب في «غروب». لا يقدم نيمش في «غروب» ما يجعلنا نكوّن أي صلة نفسية بإيريس أو بالعالم الكابوسي الذي تجد نفسها في براثنه، ونجد أنفسنا قد ضللنا الطريق وفقدنا الصلة بالفيلم وعالمه. تواصل إيريس بحثها لتجد في رحلتها شخصيات غرائبية وعالما كابوسيا، ومؤشرات تعدها بالوصول إلى حلول لألغاز لا تحل قط. يسعى نيمش لالتقاط حيرة بلاده وتخبطها، وهي توشك على أن تسقط في براثن حرب عالمية لا تبقي ولا تذر، ولكنه يسقطنا في أتون الفوضى، بدون أن يقدم لنا بعدا إنسانيا نتعاطف معه يضمر الفيلم أكثر بكثير مما يفصح عنه، فنجد شذرات من هنا وهناك تشير إلى توتر العلاقة بين بودابست وفيينا، وإلى نظر أهل المجر إلى فيينا وطبقتها الحاكمة ككيان قامع مخيف، يفتك ببراءة مجرية نراها في فتيات يرسلن إلى البلاط الملكي في فيينا، ولا نعرف لم يرسلن تحديدا، ولكن ما نعلمه أنهن يعدن من هناك جريحات معذبات مشوهات. إنها روح أوروبا المشوهة المعذبة المنقسمة على ذاتها، على أعتاب حرب مدمرة مهلكة. تتقاذف إيريس الأفكار وتدفعها الأيدي في كل اتجاه. جاءت ببراءة صباها إلى موطنها علّها تجد ذاتها أو تعيد صلاتها بماضيها، ولكن بحثها عن ذاتها وعن أسرتها وماضيها لا يفضي إلى شيء سوى المزيد من الحيرة والألم. 

هي كيان معذب مقتلع من جذوره كما هو حال بلادها وأوروبا بأسرها التي توشك على السقوط في حرب كابوسية. يحاول نيمش في «غروب» تصوير طبقة حاكمة مترفة ترفل في الترف وتستلذ بتعذيب من هم أقل منها حظا وتجد متعة في إفساد البراءة والجمال في كل ما يحيط بها، طبقة حاكمة تغيب عن وعيها وسط دخان المخدر، بينما تمور الشوارع بالغضب والعنف الذي ينذر بحرب مقبلة لا محالة. نحاول أن نتعاطف مع إيريس في بحثها، ولكنها تبدو لنا أقرب إلى الرمز منها إلى الشخصية الحقيقية، فتأتينا باهتة غير مؤثرة رغم سعيها المحموم.

####

أفلام مهرجان البندقية السينمائي في رحلة صاخبة نحو جوائز الأوسكار

سبعة أفلام عربية شاركت خارج المسابقة الرئيسية وحصدت ثلاثة منها جوائز

حسام عاصي

البندقية – «القدس العربي» : بعد عرض واحد وعشرين فيلما خلال الأيام العشرة الأخيرة في المسابقة الرئيسية، منح مهرجان البندقية جائزة الأسد الذهبي لفيلم المخرج المكسيكي الفونسو كوارون «روما»، الذي يعود فيه الى بلده مكسيكو سيتي ليسرد قصة مستلهمة من طفولته عن خادمة في بيت عائلة ثرية، يعالج من خلالها الواقع الاجتماعي والسياسي في المكسيك في بداية السبيعينيات. 

وفيلم كوارون الأخير، «جاذبية»، كان عُرض في المهرجان عام 2013 وذهب لاحقا ليحصد جائزة الأوسكار لأفضل فيلم. 

وذهبت جائزة الأسد الفضي لفيلم المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس «المفضلة»، الذي تدور أحداثه في القرن السابع عشر في عهد الملكة آن، ويتناول قصة بنتي عم تتخاصمان للفوز بقلب الملكة.

«المفضلة» هو فيلم يورغوس الأول، الذي اقتبس أحداثه من الواقع، إذ أن أفلامه السابقة على غرار «سرطان البحر» و»مقتل غزال مقدس» كانت خيالية وسريالية.

كما فازت بطلة الفيلم البريطانية أوليفيا كولمان بجائزة كأس فولبي لأفضل ممثلة عن أداء دور الملكة آن. ويذكر أن هذه المرة الثالثة التي تجسد فيها كولمان دور ملكة بريطانية، ولكنها تؤكد أن دورها في «المفضلة» كان مختلفا لأنه كان ساخرا، ولم يتطلب منها التقيد بالتصرفات الملكية.

أما جائزة كأس فولبي لأفضل ممثل فذهبت للأمريكي ويليم دافو عن أداء دور دور الرسام الهولندي فينسينت فان غوخ في فيلم جوليان شنابل «عند بوابة الخلود» عندما كان يعاني من نوبات نفسية في أيامه الأخيرة دفعته لبتر جزء من أذنه بعد شجار مع زميله غوغان.

وحصل المخرج الفرنسي جاك أوديار على جائزة الأسد الفضي لأفضل مخرج عن فيلمه الوسترن الأول «الأخوين سيسترسز»، الذي يحكي قصة شقيقين قاتلين محترفيّن يرسلهما رجل صاحب نفوذ لاغتيال شاب يحمل مادة تكشف حبيبات الذهب في الصخور. 

و«الاخوين سيسترز» هو أول فيلم باللغة الانكليزية للمخرج الفرنسي العريق، الذي فاز فيلمه «ديبان» بالسعفة الذهبية في مهرجان كانّ السينمائي قبل عامين.

سبعة أفلام عربية شاركت في المهرجان في مسابقات خارج المسابقة الرئيسية. ثلاثة منها حصدت جوائز في فئات مختلفة. الفيلمان العربيان اللذان عُرضا ضمن منافسة آفاق حققا جوائز. الأول الفيلم الفلسطيني «تل أبيب على نار»، الذي نال جائزة أفضل ممثل لبطله قيس ناشف، عن تجسيد دور كاتب سيناريو فلسطيني، يتعاون مع ضابط حرس حدود اسرائيلي، الذي أوقفه على نقطة تفتيش، في كتابة سيناريو مسلسل تلفزيوني شعبي لكي يتفادى تحرشه به.

والثاني كان الفيلم السوري الروائي «يوم أضعت ظلي»، الذي توّج بجائزة أسد المستقبل. ويتناول الفيلم الواقع السوري في بداية الصراع هناك عام 2012 من خلال سرد قصة أم ترافق أخا وأختا في البحث عن أنبوبة غاز في بلد مجاورة لتتمكن من تحضير وجبة طعام لابنها وتجد نفسها عالقة في طرف المدينة المحاصرة بين الحكومة والمعارضة.

كما فاز فيلم سوري آخر وهو الوثائقي «ما زال يسجل» للمخرجين، سعيد البطل وغيث أيوب، الذي عُرض في فئة نقاد الأسبوع بجائزة الجمهور لأفضل مساهمة تقنية. ويتابع الفيلم أحداث الصراع السوري منذ انطلاق المظاهرات الشعبية عام 2011 حتى تفاقمها الى حرب ضارية بين جهات مختلفة عام 2015. الفوز بجائزة في المهرجان هو عجينة السكر للفيلم، وذلك لأن مجرد المشاركة فيه تعتبر إنجازا في حد ذاته، إذ أن أفلامه حصدت جوائز الأوسكار دون الفوز بجوائزه، ما عدا «شكل الماء»، الذي اقتنص جائزة الأسد الذهبي قبل أن يتوّج بالأوسكار العام الماضي. وحسب النقاد فان معظم أفلام هذه الدورة من المهرجان تستحق أوسكار في فئة أو أخرى.

من هنا تنطلق أفلام المهرجان في رحلة صاخبة بالحملات الدعائية الى جوائز الأوسكار، تتوقف خلالها في عدة محطات أولها مهرجان «تورتنو السينمائي»، الذي افتتح فعالياته يوم الخميس الماضي، ويستمر لمدة عشرة أيام يعرض خلالها أكثر من مئتي فيلم، ومن ضمنها ستة أفلام عربية.

القدس العربي اللندنية في

11.09.2018

 
 

"يوم أضعت ظلّي": الخوف من كلمة مبروك

عدنان حمدان

لم يعُد دخول فيلم سوري مهرجاناً عالمياً في سنوات الثورة، أمراً غريباً، ولكن أن يصل فيلم سوري إلى مهرجان البندقية السينمائي العريق فهذا يشكّل حدثاً يستحق الوقوف عنده والإيمان بدور متنامٍ للصناعة السينمائية السورية، رغم اعتمادها على جهود فردية وغياب أي مناخ للسينما الحرة داخل دمشق. 

قبل أيام، فاجأ فيلم "يوم أضعت ظلي"، للمخرجة سؤدد كعدان، الوسط الفني السوري والعربي، حين ربح جائزة أفضل أول فيلم في مهرجان البندقية. يروي العمل قصة "سنا" التي تخرج من منزلها باحثة عن أسطوانة غاز في محيط مدينة دمشق، حيث تلتقي بناشطين في سيارة، بعد هرب سائقها من جنود نقطة التفتيش، لتجد نفسها معهم في مواجهة آثار ما تركته الحرب المريعة. تضيع "سنا" في رحلة تستمر ثلاثة أيام في ضواحي دمشق، لتكتشف أن الناس بدؤوا يفقدون ظلالهم خلال الحرب. 

وخلال رحلة الفيلم إلى البندقية، بعد عدة مشاركات سينمائية، اعترض الأمن السوري طريق الممثل سامر إسماعيل، بطل الفيلم، ومنعه من مغادرة الحدود السورية، نظراً لصدور قرار إذن السفر على المعابر الحدودية صباح يوم السفر. وسامر، الذي تمنّى عبر منشور خلال افتتاح المهرجان وجوده مع صناع الفيلم، عبّر عن فرحه بالجائزة فكتب: "ألف ألف مبروك سؤدد جائزة أفضل أول فيلم في مهرجان فينيسيا.. بتستاهلي ومبروك إلنا فيكي". وشريكة سامر في الفيلم الممثلة سوسن أرشيد كتبت: "مبروك يا سؤدد جائزة أفضل فيلم للمرة الأولى، خبر بيفرح قد الدنيي بعد كل هالتعب". 

أما صديقة سؤدد، الممثلة كندة علوش، فقد نشرت صورة لعدد من صناع الفيلم، وكتبت قائلة: "مليون مبروك للفيلم السوري "يوم أضعت ظلّي" فوزه بجائزة أحسن فيلم أول للمخرجة الصديقة سؤدد كعدان.. سؤدد زميلة المدرسة والمعهد شكراً أنك وصلت صوتنا للعالم، مبروك لحبيبتي وأختي سوسن أرشيد ومبروك لكل صناع الفيلم". 

وكعادته، أضاف الممثل مكسيم خليل صبغة الوطنية على منشوره فكتب: فيلم (يوم أضعت ظلي) ما بدي بارك.. بدي أشكر من القلب صناع الفيلم والمخرجة لأنه حطيتو "سوريا والسوريين" بالواجهة الفنية متل ما منحب.. ونشالله ياللي جاي أحلى". 

من ناحية أخرى، فقد ممثلون سوريون كثر ظلهم حقاً حين تجاهلوا الإنجاز السينمائي السوري، وغابت منشورات المباركات على صفحاتهم، رغم أنهم ناشطون وحاضرون في أي إنجاز سينمائي عربي. إلا أن عقلية الذعر الأمني ما زالت ترعب الفنانين الموالين من التعبير ولو بكلمة مباركة، فكيف سيهنئون فيلماً لم يمر تحت يد الرقابة السورية؟ ولم يُشِد ببطولات الجيش وانتصاراته، كما يعتقدون. 

هو فرح سوري منقسم على نفسه، كـ "سنا" بطلة الفيلم، تهرع في شوارع العاصمة فلا تشاهد إلا أشباه ظلال تتحرك بذعر، من دون أن تترك أثراً يذكر. فحتى كلمات المباركة باتت تفقد أثرها إذا لم تخرج حقيقية من دون أي اعتبار إلغائي.

العربي الجديد اللندنية في

11.09.2018

 
 

سؤدد كعدان تُضيِّع ظلّها في دمشق

فينيسيا ــ محمد هاشم عبد السلام

بعد 4 أفلام وثائقية قصيرة وطويلة، بدأت إنجازها عام 2008، أخرجت السورية سؤدد كعدان أول روائي طويل لها بعنوان "يوم أضعتُ ظلّي" (2018، إنتاج مشترك بين "مُؤسّسة الدوحة للأفلام" و"أكروباتس" و"ميتافورا ـ فضاءات ميديا")، المعروض في برنامج "آفاق" في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والفائز بجائزة "أسد المستقبل ـ لويجي دي لورنتيس"، التي تُمنح لأفضل مخرج/ مخرجة واعد، عن العمل الأول أو الثاني. 

فيه، حاولت سؤدد كعدان القبض على الروح الهاربة للإنسان السوري، التي اختفت ولم يعد هناك انعكاس لظلّها، لفرط ما كابدته من أهوال ومصاعب. ولعجزها عن القبض على تلك الروح، ولصعوبة المهمّة أيضًا، حاولت الاقتراب منها أو ملامستها، ثم عرض تلك الحالة الفريدة، التي يختفي فيها ظلّ الإنسان، والتي هي بمثابة استعارة لفقدان البشر لأنفسهم وذواتهم وأرواحهم وكراماتهم وأمنهم بسبب الحروب، حتى وإن لم يصابوا بأذى، وبقوا على قيد الحياة. 

للاقتراب من تلك الروح الضائعة، اختارت كعدان عمدًا أن تدور أحداث فيلمها هذا في بدايات الثورة السورية، بين عامي 2011 و2012، قبل أن تتطوّر الأمور وتتعقد وتتشابك وتتداخل وتختلط في ما بينها، وتمضي إلى ما آلت إليه الآن. في محاولة الاقتراب تلك، لم يكن أمامها سوى إنجاز فيلم ذاتي، يحكي عن هواجسها ومخاوفها ورؤيتها، ويعكس حالتها النفسية ومعاناتها الشخصية قبل فرارها من سورية نهاية 2012. 

بخلاف الرؤية ذاتية الطابع، والاستعارة الروحية لفكرة اختفاء الظلّ، قدّمت سؤدد كعدان ما هو مُغاير لما قدّمته أفلام روائية تناولت الحروب عامة، والثورات العربية خاصة. اختيارها إنسانيّ بحت. لا طغيان للسياسي، ولا انحياز إلى طرف. فالانحياز الأساسي هو إلى الإنسان السوري الذي عاش ويعيش عذابات الحرب تلك، وعانى ويُعاني آلامًا ومواجع، وإنْ تأتي العذابات من تفاصيل بسيطة، كالبحث عن ماء وكهرباء وغاز مثلاً. 

يروي "يوم أضعتُ ظلّي" قصّة الصيدلانية سناء (سوسن أرشيد) وابنها خليل (أحمد مرهف آل علي)، اللذين يهرعان في صباح أحد الأيام إلى شقتهما، كي يلحقا المياه والكهرباء قبل انقطاعهما ليغسلا ملابسهما. لكن الانقطاع يحدث سريعًا. وعبر مفردات حياتية صغيرة كتلك، تُبيّن كعدان كيف أن الحياة يُمكن أن تتحوّل إلى كابوس مريع يُهدّد المرء بفقدان أمنه وسلامته وحياته، أو بفقدانها فعليًا. هذا ما يحدث مع تطوّر الأحداث الممتدة، في الفيلم، على 3 أيام فقط. 

ذات مساء، وأثناء تحضير سناء وجبة عشاء لابنها، تفرغ قارورة الغاز، ما يؤدّي بهما إلى عدم تناول أي طعام. في اليوم التالي، تنتظر سناء طويلاً لاستبدال قارورة الغاز الفارغة، قبل أن تصل سيارة تابعة للجيش ويأخذ الجنود القوارير كلّها، ما يدفع الشقيقين جلال (سامر إسماعيل) وريم (ريهام الكسار) إلى الاحتجاج، ثم يتفقان مع سناء على اقتسام الثمن الباهظ لسيارة أجرة يستقلونها للحصول على قوارير الغاز من مكان آخر بعيد. 

تدريجيًا، تنكشف ملامح الشقيقين: جلال ذو شخصية مندفعة وثائرة وساخطة، شاهد بعينيه كيف ضُرِب شقيقه وعُذِّبَ، قبل أن يموت؛ وريم، الأكثر سخطًا منه، تُحاول الوقت كلّه أن تضبط نفسها، وتُذكِّر شقيقها بأنها لا هي ولا والدتها ترغبان في أن تفقده هو الآخر. لذا، تحاول تهدئته دائمًا كلّما ثار غضبه. في الطريق إلى ذلك المكان البعيد، يظهر أمامهم حاجز. المُشكلة أن مع سائق سيارة الأجرة كاميرا تحتوي على تسجيلات تؤدي به إلى التهلكة إن عثر عليها الجنود، فيهرب بالسيارة إلى الأحراج. في النهاية، يترك الجميع في مكان مجهول وسط مزارع الزيتون خارج دمشق، ويختفي. 

بعد تلك المقدّمة المكثّفة، التي تشهد تأزّم أوضاع الشخصيات، تبسط سؤدد كنعان مساحات أكبر لتقديم كلّ واحدة منها بدوافعها ومخاوفها: سناء مهمومة بضرورة العودة إلى ابنها، وإنْ من دون قارورة الغاز. ريم، العدائية إزاء سناء في بداية لقائهما، تحاول الحفاظ على جلال، والبقاء قريبة منه قدر الإمكان، كأنها تشعر بما سيحدث له. جلال، الذي يفلح في الحصول على قوارير وعلى سيارة تقلّهم إلى دمشق، يختفي بعد نفاد الوقود. 

بحسّها الأمومي تجاه ريم، وبرغبتها الحادّة في العودة إلى ابنها بأي شكلٍ من الأشكال، تبحث سناء عن سيارة تعيدهما إلى دمشق، أو عن شخصٍ للمساعدة؛ وأيضًا عن جلال. تصل إلى قرية صغيرة، وتتضح لها صعوبة العودة بسبب إغلاق الطرقات. تعود إلى ريم، وتبيتان معًا في منزل إحدى الأسر في تلك القرية. هناك تعلمان بالمسيرات وبسقوط شهداء من أبناء القرية، وبحفر النساء للقبور، فتشارك سناء في حفر القبور قبل أن تنتقل إلى معالجة الجرحى، وتلتحق ريم بالمُظاهرات، فتعيش تجربة تهزّ كيانها. لاحقًا، تعثران على جثة جلال. في اليوم الثالث، تعودان إلى دمشق، وتذهب كلّ واحدة منهما في طريقها: ريم مع جثمان شقيقها، وسناء إلى طفلها مع قارورة الغاز. 

لن تنتهي الأمور عند هذا الحدّ، فالمسارات الدرامية تكشف مطاردة مليشياويين لسناء بعد هجوم المسلّحين على الصيدلية، وتتطوّر الأحداث بأشكالٍ مختلفة.

العربي الجديد اللندنية في

12.09.2018

 
 

جوائز "آفاق" بمهرجان فينيسيا وجواهر سينمائية أخرى

أمل الجمل

المدهش في الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان فينيسيا السينمائي - التي استمرت أحد عشر يوما من ٢٩ أغسطس وحتى ٨ سبتمبر الحالي - أن تعدد الأفلام السينمائية الجميلة، فنيا وفكريا، لم يقتصر فقط علي مسابقته الرسمية، ولكنه امتد لأقسامه وبرامجه الموازية، فمثلاً في مسابقة "آفاق" شارك فيلم "النهر" للمخرج أمير بايجاتزن والذي نال جائزة أفضل إخراج، وكان يمكنه عن استحقاق التواجد بين الكبار من أمثال لانثيموس وجاك أوديارد والأخوين كوين.

نجوم ونجمات خسرتهم الجوائز

لكن، ربما، رأت إدارة المهرجان أن تمنح الفيلم السابق "النهر" فرصه أوسع وحظاً أوفر كي ينال نصيبه من الجوائز حتى لو كان ذلك بعيداً عن المسابقة الرئيسية التي تنال عادة الاهتمام الأكبر وتسليط الأضواء، فالعدد المحدود للجوائز والمنافسة الشرسة ربما كانت ستتسبب في ظلمه تماماً. وما من شك، أن الأمر كان محيرًا للجنة التحكيم بالمسابقة الرسمية ليس فقط بين جوائز الأفلام، ولكن أيضاً بين الممثلين والممثلات، فمثلاً جائزة أفضل ممثل التي اقتنصها وليم دافو والتي استحقها عن جدارة، مع ذلك كان آخرون ينافسونه عليها بقوة ومنهم مالا يقل عن ستة ممثلين استحقوها أيضاً عن جدارة منهم بطلا "شقيقا الأخوات" جون كريستوفر رايلي وجواكين فينيكس، إلى جانب بطلي الفيلم الألماني "لا تنظر أبداً بعيداً" توم شيلينج وزباستيان كوخ، وبطلي فيلم "الإخوة الأعداء" ماتياس شوينارتس ورضا كاتب.

كذلك، يتكرر الأمر مع الممثلات خصوصا باولا بيير بطلة الفيلم الألماني "أبدا لا تنظر بعيداً" بأدائها المؤثر المشحون بالعاطفة والارتباك والتحمل والغضب، أو بطلات فيلم "المفضلة" إيما ستون، وراشيل وايتز، تماما كما بطلة فيلم "روما" ياليتزا أباريتشيو بأدائها العفوي البسيط، وبطلة "غروب" جولي جاكاب بقدرتها على تجسيد الإرادة الصلبة بعينيها، وبطلتي فيلم "ساسبيريا" داكوتا جونسون، وتيلدا سوينتون، كذلك بطلة فيلم "العندليب" إيسلينج فرانسيوسي كانت تستحق جائزة الأداء.

الوعي بنشر الثقافة السينمائية

رغم كل ما سبق، وبعيدا عن الجوائز فليس هناك من شك، أن الفائز الأكبر بالجائزة الحقيقية هو الجمهور من الشعب الإيطالي ومن النقاد والصحفيين القادمين من كافة أنحاء العالم الذين يكاد يقترب عددهم من الأربعة آلاف، بخلاف جمهور غفير أو بالأحرى حشود من الجمهور الإيطالي، فمن الأمور اللافتة هذا العام تزايد أعداد من يحملون "بادجات" بألوان كالأخضر والأصفر وغيرها من الألوان التي لا تخص الصحفيين والنقاد أو صناع الأفلام. إنهم رجال ونساء، شباب وكهول، من الأفراد العاديين من الشعب الإيطالي القادمين من مدن بعيدة، أو من أعضاء النقابات الشغوفين بالفن السابع بدرجة مثيرة للدهشة والبهجة.

مهرجان فينيسيا هو أقدم مهرجان في العالم فقد تم تنظيمه لأول مرة عام ١٩٣٢ بهدف زيادة السياحة والترويج السياحي لمدينتهم عن طريق استجلاب النجوم والنجمات، ولم يكن في مخططهم الاهتمام بالسينما آنذاك. لكنهم على مر السنوات أثبتوا اهتماماً وشغفا حقيقيا بالسينما رغم أنهم يُوظفون كل تفصيلة بالمهرجان لتحقيق مزيد من الإيرادات، حتى الكتالوج الذي تمنحه المهرجانات الكبرى مثل "كان" و"البرليناله" مجاناً لكل من دفع ثمن الأكريديتشن" هنا في فينيسيا يُباع بثلاثين يورو.

يتجلى ذكاء إدارة المهرجان هذا العام في الأسلوب الذي أفادوا به أبناء شعبهم - وهم يحصدون الأموال ويواصلون الحفاظ على شهرة مدينتهم - من ذلك الاحتفال السنوي العريق، فلم تكتفِ بإصدار "كارنيهات" أو "بادجات" لهم، حتي لو كانت هذه الكارنيهات ليس لها الأولوية وتنتظر المقاعد المتبقية بعد دخول الصحفيين والنقاد، لكن المنظمين للمهرجان عملوا أيضاً على توفير عدد من العروض المجانية بصالات محددة استفاد من الأجانب أيضاً، إلي جانب توفير بعض عروض الأفلام بأسعار رمزية تبلغ خمسة يوروهات للتذكرة الواحدة بدلا من ١٢، أو تقديم تخفيضات حيث تتضمن التذكرة الواحدة فرصة مشاهدة عدة أفلام تصل خمسة أحياناً، وتوفير دعوات في شباك مخصص لعشاق هذا الفن لمن يبادر ويسرع بالوصول إليها، فهناك أناس يأتون فجراً، وآخرون بلغ بهم الجنون للمبيت أمام بعض الصالات أو قرب الريد كاربت الذي يعتليه المشاهير.

حشد جماهيري غير عادي

اللافت أن أغلب هؤلاء الإيطاليين، الذين تراهم في الممرات أو أثناء الانتظار في الطوابير أمام القاعات، أو على متن الحافلات والباصات المائية، والذين تسمعهم طوال الوقت يتناقشون في الأفلام هم مشاهدون عاديون، أي أنهم لا يكتبون في صحف أو مجلات أو أي من المواقع الإلكترونية. إنهم يشاهدون من أجل المتعة والثقافة وفقط، ويحسب لإدارة المهرجان تخطيطها لزيادة العدد وتحقيق الاستفادة القصوى من مشاهدة هذه الأفلام، فقد كان أمرا لافتاً عندما أهبط من "قاعة الصحافة" بالطابق الثالث حيث تتواجد هناك أيضاً قاعة سينما "بيرلا ٢" فأجد أمامها طابورا طويلا يمتد في شكل ملتوٍ، وعندما أهبط للطابق الأول حيث قاعة سينما "بيرلا" أجد طابوراً آخر طويلا يمتد حتى خارج المبني. وعندما أعبر الباب وقبل أن أهبط المنحدر مجددا إلي قاعة سينما "دارسينا" أنتبه إلى طابور ثالث أكثر طولا يمتد أمام قاعة سينما "كازينو"، لدرجة تجعلني أشعر أن فيلما مهما قد فاتني فأفتح البرنامج اليومي وأنقب عن اسم الفيلم وجنسيته في هذا الموعد لكني أنتبه أن لدي أحد أفلام المسابقة بقاعة "دارسينا" وعليَّ أن ألحق به، فأسرع الخطي لأجدني أمام ثلاثة صفوف متجاورة تمتد عشرات الأمتار لتتقاطع مع جمهور ونقاد وصحفيين منتظرين أمام قاعة صالة "جرندا".. فأقول لنفسي: "يا الله على الجمال.. أمر مدهش بصحيح.. من أين جاءت كل هذه الأفواج من البشر؟!

أمر آخر لافت لا بد من الإشارة إليه؛ فجميع المهرجانات العريقة في العالم تترجم الأفلام المعروضة داخل احتفالياتها بلغتها المحلية ليستفيد أبناء وطنها، لكن هذا العام وفرت إدارة مهرجان فينيسيا ترجمة إنجليزية مصاحبة لعدد كبير جدا من الأفلام الناطقة بالإنجليزية، وهو أمر كان غاية في الروعة خصوصا مع الأفلام الأمريكية التي يبتلع أبطالها الحروف أثناء النطق، أي أنها لم تكتفِ بتوفير الترجمة للغة الإيطالية لجميع الأفلام - حتي يستفيد الجمهور الإيطالي بالأساس - مع توفير ترجمة إنجليزية للأفلام الناطقة بلغات أخرى، ولكنها فكرت في الجمهور والصحفيين الأجانب أيضاً والاستفادة الأكبر من دورة تاريخية استثنائية.

أشعة مانتا

أما أهم الأفلام التي نالت جوائز في "آفاق" فقد ذهبت جائزة أحسن فيلم إلى "مانتا راي" أو "أشعة مانتا" MANTA RAY للمخرج كرابن راو، والفيلم من الإنتاج التايلاندي الفرنسي الصيني المشترك.

على أحد شواطئ قرية بتايلاند يعثر صياد على لاجئ مُصاب وفاقد الوعي، وأبكم، يعالجه ويمنحه اسماً وبيتاً وصداقة. كان الصياد في ذلك الوقت في حالة مزرية لأن حبيبته هجرته، لكن الصديق الجديد اللاجئ والأخرس يُعيد إليه الرغبة في الحياة، وينفي عنه وحدته. لكن ذات يوم يختفي الصياد في البحر، ويبحث عنه اللاجئ طويلاً من دون جدوى، وتمر الأيام ثم تعود الحبيبة بعد أن فقدت مأواها. هنا لا تتوقف الحياة، بل تمارسها مع الصديق وتصنع منه نسخة مطابقة لحبيبها الصياد حتى لون الشعر الأصفر، وذات مساء يعود الصياد فتنقلب الأوضاع. تعود الحبيبة للصياد ويخرج اللاجئ باكيا وينام في الغابة مُغطياً جسمه وشعره بالطين لساعات قبل أن يلقي بنفسه في البحر. فهل كان بكاؤه على نفسه، ووحدته واغترابه الجديد أم علي خيانته غير المقصودة لصديقه الصياد؟!

هنا، سرد القصة لا يعنى أنك شاهدت الفيلم. فالبطل هنا لا ينطق بكلمة واحدة، وما حكيته هو إحساسي أنا بالفيلم، وفيلمي أنا الذي شاهدته بعيوني، وقد ترى أنت فيه أشياء أخرى، فغموض الفيلم يحتمل تأويلات، فالإنسان عندما يشعر بالوحدة يبحث عن رفيق، ولديه استعداد أن يستحوذ على ممتلكات الرفيق ليقضي على وحدته، كذلك أحياناً يتمنى الإنسان عودة أشياء وتحقيق أمنيات لكن لو تحققت لن تكون في صالحه.

هنا، للفيلم خصوصية واضحة، بأجواء متفردة مغايرة، الأداء متوازن وغامض، بإيقاع معبر عن حياة الناس، مع جماليات تصوير خاصة ومميزة للمكان وأهله وللطبيعة. وذلك رغم أن مشهدا السوق عندما كان الحبيبين يسيران فيه لا نرى منه شيئا سوي أشياء ضبابية وهو مقصود إخراجيًا لتكثيف عزلة الاثنين، ولأن محتويات السوق ليست مهمة في حد ذاتها.

النهر

حصل فيلم "النهر" لأمير بايجاتزن على جائزة أحسن إخراج وهو من الإنتاج المشترك بين كازاخستان وبولاند والنرويج.. يُعتبر الفيلم إحدى التجارب المميزة جدا والمختلفة في مجال الإخراج وعلى مستوى الكتابة التي تبدو أقرب إلى عالم المسرح، لكنها مع ذلك تظل سينمائية بامتياز. وهى تجربة فيها شيء من روح المخرج الدانماركي الشهير لارس فون ترير.

أبطال الفيلم الرئيسيون خمسة إخوة، بزي واحد كأنهم نسخ مكررة، متفاوتو الأعمار، مع ظهور متقطع للأم العطوفة والأب شديد القسوة المشغول بأعمال لا نراها، فتلومه الأم قائلة: لقد تعلموا لعبتك، لكنهم قريبا سيلعبون ألعابهم هم. أشعر أنهم سيصبحون مجرمين. "لكن الأب لا يبالي فيكلف كبيرهم بتعليم الأصغر القراءة والكتابة. مثلما يُكلف الأولاد بمهام وواجبات ومَنْ يتهاون فيها يضربه ويعذبه بقسوة حتى أنهم يفكرون في قتله.

إنهم يعيشون في عزلة تامة، في صحبتهم كلب يحرسهم، وكروان يغني لهم. نراهم يلعبون بمرح، أو يعملون بجد في صناعة قوالب طوب الطمي، أو ينطقون ببضع كلمات بسيطة. بيتهم يستقر في منطقة منبسطة بجوار الجبل، وعلى مسافة منهم يوجد النهر الذي سوف يزورنه ذات يوم ويؤثر عليهم. لكن حياتهم تنقلب فجأة عندما يزورهم صبي من المدينة يُقال أنه ابن العمة، معه آيباد يشاهدون عليه الصور والفيديوهات ويسمعون الموسيقي. هنا ينفرط العُقد، وينحل الترابط، فينسون كل المتع التي كانوا يعيشونها، ويُصبح كل منهم - باستثناء الأكبر - علي استعداد للتخلي عن كل ما يملك حتي لو كان يفيد الآخرين ليحصل على الآيباد ويقلد صبي المدينة، إنها الحرب الرمزية بين الإنسان والتكنولوجيا، فمن ينتصر في هذا الصراع وهل تنجو إنسانية البشر؟!.

بعد أن كان الإخوة الأربع لا يخشون أو لا يحترمون الأخ الأكبر، ويعتبرونه مثل الأم دافئًا وحنونًا ولا يؤذيهم. هنا في تلك اللحظة سوف يعرف كيف يجبرهم على هذا، كي يحافظ على رباط الأسرة في مواجهة هذا الزائر الغامض. وهنا أيضاً سيكون الاختبار الذي يتعرض له كل فرد في تعامله مع تلك التراجيديا التي لا تجعلك تذهب بعيدا عنها لحظة واحدة.

أحسن سيناريو لـ"جينبا"

نال الفيلم الصيني "جينبا" Jinpa للمخرج بيما تسيدن - والذي كتبه أيضاً بنفسه - جائزة أفضل سيناريو في مسابقة "آفاق". شريط بسيط جدا يدور في يومين عن رجل يقود شاحنة في يوم عاصف اسمه "جينبا"، عندما تهدأ العاصفة يسمع كلمات أغنيه أوبرالية عن "اليوم الجميل والشمس المشرقة علي الجبين بعد يوم عاصف"، لكن فجأة تقفز إحدى النعاج تحت العجلات وتموت. الرجل يعتبر ذلك فألاً سيئًا، ولا يتخلى عن الحيوان الميت باحثاً عن خلاص روحه ودفع فدية أيضاً. في الطريق يلتقى بشاب اسمه "جينبا" أيضاً يبحث عن رجل قتل أباه منذ عشرين عاماً عندما كان طفلاً. يركب معه إلى أقرب نقطة لمحطته ويهبط.

في اليوم التالي يذهب قائد الشاحنة للبحث عن الشاب جينبا، فيجلس في حانة يستمع جزءاً "فلاش باك" عنه من وجهة نظر المرأة صاحبة المكان، ثم يذهب إلي بيت الرجل الذي سيتم قتله فيجده حياً ونرى "فلاش باك" آخر عن لقائه بالشاب يبدو لنا أنه من وجهة نظر قاتل الأب، لكن الحقيقة أنه من وجهة نظر الراوي العليم، فهنا نُدرك لماذا بقي الرجل على قيد الحياة؟! ولماذا قرر فجأة العفو والمغفرة؟! وكيف كان شعور قائد الشاحنة لو كان في الموقع ذاته؟!

الرجل الذي أدهش الجميع

الحقيقة أن فوز ناتاليا كودرياشوفا بجائزة أحسن ممثلة عن دورها بالفيلم الروسي الإستوني الفرنسي المشترك "الرجل الذي أدهش الجميع" للمخرجين ناتاشا ميركولوفا وألكسي شوبوف جعلني أتساءل؛ هل كانت الجائزة لأداء الممثلة أم للشخصية الدرامية؟! صحيح أن الأداء الموفق المبهر لا يمكن فصله عن الدور الدرامي والشخصية.. لكن عندما تكون هناك ممثلاث أخريات قدمن أدوارا لافتة ولا تقل عن نفس المستوي إن لم تكن تتفوق، هنا يثور التساؤل السابق مجدداً.

في تقديري إن لجنة التحكيم انحازت للشخصية الدرامية المتسامحة، القادرة على التعاطف والغفران. فالبطلة هنا زوجة حامل عاشقة لزوجها، وأم لصبي ترعاه برفق، كما تفعل مع أبيها المسن الذي أصبح يفعل أشياء طفولية غير مسؤولة أحياناً.

يتورط الزوج الذي يعمل حارسًا بالغابة في حادث قتل دفاعاً عن النفس ويتم تبرأته، لكن فجأة نكتشف أنه أعد العدة للرحيل، لأنه مصاب بالسرطان في آخر أيامه، فيرتب الأمور حتى يسهل الأمور على زوجته بعد وفاته، لكنها لا تستسلم. تبكي ترجوه أن يستعين بطبيب آخر. تطلب المعونة من أهالي القرية فيتبرعون كل بما يقدر عليه لتذهب الزوجة مع زوجها لطبيب كبير، تفعل ذلك من دون علم الزوج، ما يجعله يشعر بالحرج في صمت، لكن لا الطبيب الكبير ولا السحر يأتي بنتيجة.

فجأة يستيقظ الرجل ويغير هويته البيولوجية، مرتديا ملابس النساء وواضعاً الماكياج، في محاولة غامضة، غير مفهومة تماماً، لكنها تفتح الباب - على مصراعيه - لغضب العائلة وأهل القرية، مثلما تثير التساؤلات التي قد تختلف إجاباتها باختلاف كل متلقٍ خصوصا أن البطل لا ينطق بكلمة واحدة منذ أتي ذلك التصرف، لكن رد فعل الزوج المتابين والمتضارب وغير المتوقع في المشهد الأخير يجعلنا نبكي تأثراً، وربما لهذا حصدت الجائزة.

موقع "مصراوي" في

12.09.2018

 
 

«روما» قصيدة ملحمية عن قوة النساء في وحدتهن

فينيسيا (إيطاليا) - أمل الجمل

في نهاية الأمر لا بد من القول إن الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان فينيسيا السينمائي كانت دورة تاريخية، واستثنائية ليس فقط في تاريخ المهرجان ولكن أيضاً مقارنة مع المهرجانات الكبري العريقة مثل كان وبرلين - إذ جمعت عروضاً سينمائية لافتة بتوقيع مخرجين كبار مثل جاك أوديار، والأخوين جويل وإيثان كوين، ويورغوس لانثيموس، مايك لي، آموس جيتاي، أمير كوستاريتشا، أوليفييه ألسايس، تيرانس ماليك، بول جرينجراس، لازلو نيميس، وآخرين. كذلك شهدت الدورة عرض فيلم لم يكمله أورسون ويلز خلال حياته لأسباب مالية وفنية بعنوان «الجانب الآخر للريح». وما استتبع ذلك من أحاديث عن شبكة نتفليكس وتكريمها في مهرجان البندقية ورد الاعتبار لها - خصوصاً بعد مأزقها مع مهرجان كان- وعرض 6 ستة أفلام من إنتاجها وتوزيعها، ونيل اثنين من هذه الأعمال جائزتين من أهم جوائز البندقية وهما جائزة الأسد الذهبي لفيلم «روما»، وجائزة السيناريو لشريط الأخوين كوين «أنشودة باستر سكروجز».

نساء حاضرات

مرة أخرى لم تغب قضايا النساء عن العديد من أفلام هذه الدورة خصوصا منها المتعلقة بالثأر والانتقام والمقاومة، لكنها شهدت غياب النساء المخرجات في المسابقة الرسمية ربما باستثناء شريط واحد هو «العندليب» nightingale الذي تُوّج بجائزتين؛ الأولى نالتها مخرجته وهي جائزة لجنة التحكيم الخاصة، والثانية جائزة مارشيللو ماستريوني لبايكالى جانامبار كأفضل ممثل شاب. في المقابل اقتصر حضور المرأة المخرجة بكثافة على مسابقة «الواقع الافتراضي» الذي يُعتبر هو المستقبل للسينما والمعتمد على التصوير بزاوية ٣٦٠ درجة بأسلوب لا يتحقق في الواقع الحقيقي، حتى أن البعض كتب يقول: «فينيسيا تقول للنساء.. إما أن تسبحوا أو تغرقوا».

أما على صعيد السينما العربية التي شاركت بسبعة أفلام كانت جميعها في البرامج والمسابقات الموازية، وعلى رغم أي تحفظات على المستوى الفني لها، فقد نالت ثلاث جوائز؛ الأولى جائزة العمل الأول للسورية سؤدد كعدان عن «يوم فقدت ظلي»، والثانية نالها الفلسطيني قيس ناشف (جائزة أفضل ممثل) عن دوره بفيلم «تل أبيب على نار» والاثنان شاركا في مسابقة «آفاق»، كما نال الوثائقي السوري «لسه عم تسجل» جائزة آخرى من أسبوع النقاد.

سبعينات روما المكسيكية

ونتوقف هنا عند الفيلم الفائز بالأسد الذهبي وهو بالطبع «روما» للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون - صاحب «غرافيتي» -. فالفيلم ينطلق من لقطة طويلة يتم فيها تنظيف بلاط الممر في أحد المنازل من بقايا مخلفات الكلب. في نهاية اللقطة نرى صورة طائرة محلقة في السماء منعكسة على المياه المتبقية على البلاط في إشارة واضحة لإنعكاس العام على الشخصي، وبعدها نتعرف على الخادمة «كليو» التي تقوم بالتنظيف، والتي تعيش حياة تبدو هادئة مستقرة - في بيت بحي اسمه «روما» بالمكسيك -، مع أسرة من الطبقة المتوسطة مكونة من زوجة تُدعى «صوفيا» وأطفالها الأربع، والزوج الذي نراه مرتين فقط، والجدة الدافئة الحنون. إلى جانب خادمة أخرى اسمها عديلة.

يتقدم السرد في خطين متوازيين؛ الشخصي المتأثر بقوة من الوضع العام، بل المدموغ به، بدءاً من أن الخادمة كليو تفقد جنينها أثناء تظاهرات الطلبة وعملية القمع التي تعرضوا لها عام ١٩٧١ ومقتل ما يزيد عن ١٢٠ منهم على أيدي ميليشيات استأجرتها الشرطة. كما أن الرجل الذي ارتبطت به كليو كان نذلاً وتنكر للجنين في أحشائها واتضح أنه أحد أفراد تلك الميليشيات.

هنا، تسير حكاية كليو التي تواصل أشهر الحمل بمحاذاة مأزق سيدتها من الطبقة المتوسطة. فالأخيرة هجرها زوجها وأصبحت وحيدة، تحاول جاهدة أن تحافظ على تماسك عائلتها وتحقيق السلامة النفسية لأطفالها، على رغم اعترافها للخادمة بمشاعرها قائلة: «نحن النساء وحيدات، وسنظل وحيدات مهما قالوا لنا من أشياء».

ربما لذلك نشعر بالتضامن القوي بين المرأتين، التضامن الذي يبدو واضحاً في التصرفات؛ فعندما تعترف كليو بالكارثة التي وقعت فيها - وهي الحمل من دون زوج يتحمل تلك المسؤلية - لا تطردها صوفيا، بل تحتضنها وتصطحبها إلى المستشفى للاطمئنان على صحتها هي والجنين. وهذا الدعم والمساندة التي تقدمها صوفيا لخادمتها لا يأتي من فراغ، فالسيناريو يرسم لنا ملامح تلك المرأة الشابة كليو بحب كبير، وكأنها لم تكن خادمة عادية، فهي تعامل الأطفال كأنهم أبناؤها برقة وحنان جعلهم يحبونها ويريدونها معهم باستمرار حتى في لحظات مرحهم واستمتاعهم بالحياة.

إنها شخصيات حقيقية من لحم ودم، أتت من عالم المخرج ومن سنوات طفولته. كما يؤكد كوارون في أحد تصريحاته معرباً عن اعتزازه وسعادته بحصوله على الجائزة في يوم عيد ميلاد بطلته كليو التي أثرت في حياته، وساهمت في تنشئته وغرست فيه حباً كبيراً. ربما لذلك تم تصوير شخصيتها وكأنها القلب المضيء والنابض بالحيوية لهذا العمل، الذي يُعد قطعة حميمة من مسيرة مؤلفه، ومن حياته؛ هو الذي يقول لنا أن تلك الفترة التاريخية هي ما شكّل وجدانه وهويته، على رغم أنها كانت مخيفة على المستوى الاجتماعي.

مفاتيح الشخصيات

في «روما» يتضافر الإخراج بكافة عناصر العمل ليقدم لنا قصيدة سينمائية عذبة مشحونة بالعواطف والانفعالات، والمرح والضحك، والخوف، والمسؤولية التي تتحملها النساء في شجاعة. إنه قصيدة سينمائية مفعمة بالتفاصيل التي لا تخلو من رؤية للتكوين الطبقي لذلك المجتمع في السبعينات؛ تفاصيل نراها في المطبخ، أو في العلاقة بين الزوجين، وبين الخادمتين، أو بين الخادمة وسيدتها، وبينها وبين الأطفال، وبينها وبين الجدة في مشاهد تبدو ملحمية أحياناً كثيرة، وذلك من خلال غرس التفاصيل الرقيقة المعبرة، المحملة بالمعاني القريبة والبعيدة، فكل لقطة وكل صورة بكافة تفاصيلها تعلو ببناء الفيلم وتصعد به درجات فوق درجات حتي نصل لختام العمل ونصعد مع بطلته إلى المنتهى.

يحفل الفيلم إلى هذا بجماليات تصوير ساحرة بالأبيض والأسود، تشتغله حركة الكاميرا الترافلنغ الهادئة المنسابة حيناً، والثابتة المنتظرة طويلاً لأهدافها من البشر. كل هذا مع موهبة لافتة في تصوير ورسم ملامح الشخصيات، فتتجلى مفاتيح قراءتها من مشاهدها الافتتاحية، وأسلوب تقديمها. فمثلاً شخصية الشاب الخسيس الذي تخلى عن كليو والذي شارك في التظاهرات تم تقديمه للمرة الأولي على شاشة الفيلم في المطعم عندما كانت كليو وزميلتها تتناولان الطعام وتركت بقايا الكولا فانتظر هو حتى خروجهما من المطعم ليسرق تلك البقايا ويبتلعها، قببل أن يقترض بعض النقود من رفيقه ليعزم كليو. ولاحقاً نبتلع مع البطلة صدمة فراره من قاعة العرض السينمائي عندما علم بخبر الحمل. ثم نكرهه أكثر عندما يُهدد كليو ويصفها بـ»الخادمة القذرة»، نكرهه ليس فقط بسبب خساسته وانحطاطه ولكن أيضاً لأننا في الطريق وأثناء تدفق شريط الفيلم نقع في حب غامض لتلك الفتاة الصلبة الجميلة التي يتدفق منها الحنان والرقة، والتي لا تتخلى عن إنسانيتها وقت المحنة التي مرت بها، ونتأمل طويلا في اعترافها الباكي لاحقاً.

ولا يمكن أن ننسى كذلك المشهد الذي تقدّم فيه شخصية زوج صوفيا الطبيب من المشاهد الطريفة التي تشي بسماته الدقيقة في شكل لافت. أما شخصية صوفيا وتعاملها مع السيارة الكبيرة واحكتاكها بالجدران وبالسيارت فكانت تحمل مفداراً من ملامح شخصيتها في تعاملها مع الحياة، إضافة إلى مشهد الحانة وانكسار الكأس عندما كانت إحدى النساء تحتفل بالعام الجديد وتتمني الحياة المفعمة بالصحة لجنين كليو. لحظتها عندما ينكسر الكأس نتوقع حدوث مكروه ما للطفل القادم. على رغم ذلك، فلا هذا المشهد، ولا غيره من المشاهد التنبؤية الآخرى أتى ليُقلل من قوة الفيلم أو جماله الفيلم، لأن أسلوب السرد وأداء الشخصيات وإيقاع الفيلم وخصوصية أجوائه الفنية بامتياز تحملنا على أمواجه وتجعلنا نستمتع به.

الحياة اللندنية في

14.09.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)