كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

فيلمان فلسطينيان عن الحلم والكابوس

أمير العمري

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الخامس والسبعون

   
 
 
 
 

ضمن قسم "آفاق" بمهرجان فينيسيا السينمائي الـ75 عرض الفيلم الفلسطيني "تل أبيب ع نار" للمخرج سامح زعبي، كما عرض في قسم "أيام فينيسيا" فيلم "مفك" للمخرج بسام جرباوي.

ينتمي “تل أبيب ع نار” إلى الداخل الفلسطيني أي فلسطين المحتلة، وقد صنع بدعم مالي إسرائيلي وهو دعم يقدّمه صندوق الدعم السينمائي الإسرائيلي لكل من يصنع فيلما هناك، ومخرجه سامح زعبي درس السينما في الولايات المتحدة ويقوم بتدريس السينما في جامعة نيويورك.

وهذا فيلمه الروائي الطويل الثاني بعد “رجل بلا موبايل” (2010)، أما الفيلم الثاني “مفك” فهو ينتمي إلى الضفة الغربية (رام الله) وأنتج بتمويل أميركي-قطري، وكلاهما عرضا في مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير.

فيلم من داخل الفيلم

تل أبيب ع نار” (حسب العنوان العربي المطبوع على شريط الفيلم) كوميديا سياسية، تسخر من الصور النمطية المستقرة لدى كل من الفلسطينيين والإسرائيليين عن الطرف الآخر، ويستخدم سيناريو الفيلم فكرة الفيلم من داخل الفيلم، أو ما يحدث في مسلسل تلفزيوني فلسطيني يشاهده الإسرائيليون أيضا كل ليلة على شاشة التلفزيون، في تعارضه مع الواقع الذي يعيشه من يشاركون في المسلسل وعلاقاتهم المضطربة المشوبة بالتوتر والشك مع الإسرائيليين، وتدور أحداث الفيلم قبل ثلاثة أشهر من حرب يونيو 1967، وتستمر بعد قيام الحرب.

الشخصية الرئيسية لشاب فلسطيني، هو سلام (قيس ناشف) استعان به منتج المسلسل التلفزيوني الكوميدي بسام (نديم صوالحة)، وهو في الوقت نفسه خاله، للمساعدة في ضبط الكلمات العبرية كونه يجيد هذه اللغة كما يطلب منه أحيانا عمل الشاي والقهوة.

إنه نموذج واضح للكسل والغباء وانعدام الحيلة، لكن هذا كله سيكشف عن عقلية قادرة على التقاط الفرص بعدما يتم توقيفه ذات يوم عند حاجز عسكري إسرائيلي، فهو ينتقل طوال الوقت من الضفة الغربية حيث يتم تصوير المسلسل، إلى القدس حيث يقيم.

وعندما يتوجه سلام بسؤال إلى جندية إسرائيلية عند المعبر عمّا إذا كان من الصواب استخدام تعبير “امرأة متفجرة” بالعبرية على سبيل المديح، تلقي القبض عليه وتسوقه إلى رئيسها الضابط عاصي (يانيف بيتون) المشرف على المعبر، يستجوبه الضابط فيزعم أنه مؤلف المسلسل، بينما هو مكلف فقط بإعادة صياغة أحد المشاهد.

عاصي يبتز سلام ويتفق معه على أن يتركه يكمل كتابة المسلسل مقابل أن يأتيه ببعض الحمص الفلسطيني من النوع الجيد الذي يلتهمه في تلذّذ واضح.

حلقات المسلسل تعرض أولا بأول، والفكرة تقوم على الدفع بامرأة فلسطينية فرنسية جاءت من باريس هي تالا (الممثلة المغربية الأصل لبنى الزبال) من قبل منظمة فلسطينية، وهي تنتحل شخصية يهودية تدعى راحيل لكي توقع في حبائلها الجنرال الإسرائيلي يهودا (يقوم بدوره داخل المسلسل الفلسطيني يوسف سويد)، تحصل منه على معلومات عسكرية مفيدة، ثم بالطبع تقوم في النهاية باغتياله في عملية تفجير انتحارية خاصة، فالفلسطينيون يعتبرون هذا الضابط فاعلا أساسيا ضمن آلة الحرب الإسرائيلية.

سلام المسكين المغلوب على أمره الذي يبدو متلعثما جبانا يحتار في كتابة المشهد الذي كلف به، يشير عليه الضابط الإسرائيلي بضرورة إجراء بعض التعديلات، بل ويتدخل في صياغة المشهد مصرا على ضرورة أن يقوم سلام بإظهار الجنرال في صورة رومانسية، وينصحه بحيلة عملية تسمح للجاسوسة الفلسطينية بالحصول على مفتاح الدرج الذي يحتوي على الوثائق العسكرية الذي يعلقه يهودا في صدره.

تتكرّر اللقاءات عند المعبر بين سلام والضابط عاصي، وتتسع شهية الضابط للتدخل أكثر فأكثر في سيناريو باقي الحلقات مستعرضا أمام زوجته التي أدمنت مع صديقاتها مشاهدة المسلسل، دوره في كتابة المشاهد ويخبرها مسبقا بما سيقع فيه، وهو يريد أن ينتهي المسلسل بالزواج بين الفلسطينية والجنرال الإسرائيلي.

وفي كل مرة يعود سلام إلى طاقم العاملين في المسلسل يحاول إقناعهم بالاستجابة لتلك التغييرات من دون أن يخبرهم بمن يقف وراءها بالطبع، بسبب خوفه ممّا يمكن أن يفعله به عاصي، خاصة بعد أن يصادر بطاقة هويته ويهدّده بعدم إعادتها إليه إلاّ إذا كتب ما يريده.

ترتفع مكانة سلام في العمل بسبب قدرته على التوصل إلى حلول درامية بفضل ما يقدّمه له الضابط الإسرائيلي من نصائح، فيصعد من مجرد مساعد في كتابة السيناريو إلى كاتب للسيناريو بعد أن تنسحب الكاتبة الأصلية احتجاجا على ما ترى أنه قد أصبح نوعا من “الدعاية الصهيونية”.

الحبكة تلتوي وتتفرع كثيرا، كما تمتلئ بالكثير من التعليقات الطريفة الفكاهية كما نرى عندما يقول المنتج إن جعل تالا تتزوج من يهودا في النهاية شبيه باتفاق أوسلو.. “ذلك الوهم الكبير الذي لا يغير شيئا”، أو عندما يطلب الضابط عاصي من سلام أن يجعل الجنرال أكثر رومانسية، كأن يصحب راحيل مثلا في نزهة على متن دبابته أو يعلمها إطلاق النار.

ويبرز المسلسل التناقضات بين جيل النكبة الذي يمثله المنتج بسام الذي يميل إلى التشدّد بعد أن فقد الأمل في الحلول السلمية، وبين جيل سلام الذي يميل إلى السلام والعيش المشترك ويقبل أن يلقنه الإسرائيلي بالحلول التي يرضخ لبعضها حينا بسبب الخوف، وحينا آخر بسبب قناعته بأنها تكفل للمسلسل جذب المشاهدين على الطرفين، وهو الذي يتساءل بصوت مسموع: ألا يوجد من حل وسط بين العنف والاستسلام؟

وفي الفيلم الكثير من المواقف والمفارقات الطريفة المضحكة، ولكن الواضح أنه يمنح الطرف الإسرائيلي قدرة أكبر على السخرية والتعريض بالعرب، ويجعلهم يتمتعون بالذكاء والفطنة وروح المرح، فذكاء الضابط الإسرائيلي هو الذي ينقذ سلام ويجعله يصعد في عمله، وهو الذي يتوصل إلى حل لإنهاء المسلسل من دون أن تنجح عملية التفجير ودون أن يتم الزواج بين الجنرال وبين راحيل (الفلسطينية المتخفية) التي تكون قد وقعت فعلا في حب الجنرال، فسلام يدرك ولو متأخرا “أنه لا في 67 ولا الآن يمكن أن يكون هذا الحل ممكنا.. ليس بعد وأنه يجب أن يتغير الواقع أولا لكي يصبح من الممكن قبول هذا”، وهو ما يعكس يقظة وعي لا تتسق مع تكوين شخصيته، كما لا يستقيم أن تشعر الممرضة مريم بالحب تجاه سلام فجأة بعد أن كانت لا تطيق سماع صوته.

عن التمثيل

بدت الممثلة المغربية البلجيكية لبنى الزبال مفتعلة وجاء أداؤها متسما بالمبالغة الشديدة والافتعال، وحضورها ثقيلا. ولم يفهم أحد لماذا ظلت تتحدث الإنكليزية وهي المقيمة أصلا في باريس، كما كانت تتحدث العربية بطريقة “الخواجات”، بينما تمثل بالعربية والعبرية في الفيلم في دور مناضلة تابعة لإحدى المنظمات الفلسطينية.

حصل الممثل قيس ناشف على جائزة التمثيل في قسم “آفاق” في مهرجان فينيسيا عن دوره في هذا الفيلم، إلاّ أنني أرى أن أداءه جامد، وتعبير وجهه لم يتغير من مشهد إلى آخر، بل ظل طوال الفيلم كئيبا متماثلا بالفعل مع دور الغبي، وكان كعادته يمضغ الكلمات وهو دون شك يحتاج إلى تدريبات على الأداء الصوتي، كما يفتقد أداؤه بشكل عام للحركة والتعبير بالوجه والجسد.

أما ميساء عبدالهادي الموهوبة، فقد ظلمها كثيرا دور مريم الهامشي، ولكونها أكبر من الدور فقد حاولت أن تضفي عليه أبعادا لا وجود لها، فبدت ضائعة في سياق الفيلم، لم ينقذ حضورها سوى فكرة التعبير عن الحب بالبندورة!

بين سجنين

على العكس من “تل أبيب ع نار” تدور أحداث فيلم “مفك” لـ بسام جرباوي في سياق درامي قاتم مقبض، مليء بصور التعبير عن الإحباطات ورثاء الذات الفلسطينية، وهي نغمة نلمحها أيضا على استحياء، في الفيلم السابق.

يبدأ الفيلم من عام 1992، أي عندما كان بطل الفيلم زياد طفلا في حوالي التاسعة من عمره، يلعب الكرة مع أقرانه ويتشاجر ويجرح أحد زملائه بمفك كان يحمله، وفي 2002 يصبح زياد لاعب كرة سلة متفوق ويعاصر الانتفاضة الثانية ويشترك فيها مع غيره من الشباب، ويرتبط بصداقة خاصة مع رمزي الذي يصاب في أحداث الانتفاضة ويفقد حياته ممّا يترك أثره الكبير على زياد.

في الفيلم مشهد طويل لا مبرر له لتشييع رمزي ودفنه، بل وإنزاله القبر والتحليق بالكاميرا من زاوية عمودية فوق القبر المفتوح الذي تستقر فيه الجثة في لقطة مزعجة ومفتعلة من حيث التكوين، ولا مبرر لها أصلا.

وتتردد أخبار في المذياع عن فشل زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول، يتصاعد شعور زياد بالغضب.. يريد الانتقام، ومع مجموعة من أصدقائه يقودون سيارة يستهدفون مستوطنا إسرائيليا يطلقون عليه الرصاص ثم يهربون.

يقبض على زياد بينما ينجو الآخرون، في السجن تستجوبه جندية إسرائيلية تهدّده بإحضار أمه والاعتداء عليها، تخبره أن الرجل الذي أصابوه ولم يقتلوه لم يكن إسرائيليا بل هو عربي.

يصاب زياد بالإحباط، تمر السنون.. بعد 15 عاما أي في 2017 يخرج زياد من السجن من دون أن نشاهد ما تعرض له داخله، لكي يواجه العالم في الخارج: الأهل والشارع والأصدقاء الذين يحتفون به باعتباره بطلا، بينما هو لا يمكنه أن يخبرهم بالحقيقة، يقدّم الاعتذار للرجل الذي أصابه بالرصاص والذي يتقبل الاعتذار بصدر رحب.

تظل ذكرى مقتل رمزي تطارد خيال زياد مع صور أخرى كثيرة ممّا واجهه في المعتقل، يصيبه شعور بالاغتراب عن المحيط، يرفض تسجيل لقاء تلفزيوني تجريه فتاة فلسطينية جاءت من أميركا حيث تقيم، لصنع فيلم تسجيلي عن الحياة تحت الاحتلال.

يتمرد على الطبيب النفسي الذي يعالجه ويرفض فكرة أنه مضطرب نفسيا، وهو يعاني من صداع مستمر وآلام في بطنه، فتاة أخرى صديقة لشقيقته تتودّد إليه، شقيقته تريده أن يتزوجها في أقرب وقت لكي تتاح لها فرصة الزواج بدورها حسب التقاليد العتيقة التي تقضي بأن يتزوج الأكبر أولا.. لا نعرف كيف يمكنه الزواج وهو لا يمتلك ما يؤهله لتأسيس أسرة.

يسند إليه أحد أصدقاء الماضي الذين شاركوا معه في عملية الاغتيال الفاشلة، عملا في شركته تكفيرا عن شعوره بالذنب تجاهه، لكنه يفشل في إنجاز المطلوب وينتهي الأمر بطرده، وفي السوق يتشاجر مع الباعة والشرطي الفلسطيني ثم مع صديقه.

في الفيلم مشهد يدور في “بار” يلتقي فيه الفتاة القادمة من أميركا، زياد نفسه يقول لها إنه لم يكن يتصوّر وجود بار كهذا سوى في الأفلام، نحن نصدقه لأننا لا نتصوّر ولا نصدق وجود هذا المكان ذي الطابع “الأميركي” الصرف في إحدى مدن الضفة الغربية وفي الوسط الفلسطيني المحافظ الذي لا تختلط فيه فتاة بالشباب وتحتسي الخمور علانية!

الفتاة تقول له إن الهدف من فيلمها لفت أنظار العالم للتعاطف مع الشعب الفلسطيني، أما هو فينعى عليها أنها تعيش في أميركا، حيث لا يوجد احتلال بينما قضى هو خمس عشرة سنة في السجن، إنه رثاء الذات مرة أخرى.

نحن أمام دراما سيكولوجية ودراسة لشخصية شاب فقد الأمل بسبب خطأ ما، كان يتعين عليه أن يدفع ثمنه وحده، هنا يدين الفيلم فكرة المقاومة المسلحة بالعنف، لكنه يتحسر على الوضع القائم الذي لا مخرج منه، مع رثاء البلاد التي اضطرب فيها كل شيء وشاع الفساد والفوضى، كما يقول زياد للفتاة التي تصف البلاد بأنها “حلوة وجميلة”.

ليس هناك تطور درامي في الفيلم، بل استغراق في حالة سينمائية وصفية، من خلال أداء نمطي جامد من قبل زياد بكري في دور الشاب المكتئب المشحون بالغضب الذي أصبح يفضل العودة إلى السجن على الاستمرار في العيش في “السجن الأكبر”.. ويبقى التساؤل الأساسي هو: ماذا حدث في السجن لكي يصبح زياد على ما أصبح عليه؟

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

14.09.2018

 
 

نتفليكس بين قوانين فرنسية بالية واعتراف بفينيسيا..

وترشيحاتي لأفلام الجونة

أمل الجمل

يعتبر فوز فيلمي روما - بجائزة أفضل فيلم بمهرجان فينيسيا الخامس والسبعين - وكذلك أنشودة باستر سكروجز بجائزة أفضل سيناريو- انتصارًا مدويًا آخر لشبكة نتفليكس التليفزيونية، ورد اعتبار مضاعفا لها، بعد ما حدث معها في الدورة الماضية من مهرجان كان السينمائي.

كان المدير الفني لمهرجان فينيسيا ألبيرتو باربرا أكثر ذكاء وحنكة ورد لها الاعتبار باختياره ستة أفلام - بعضها من إنتاجها والبعض الآخر من توزيعها - للعرض ضمن مهرجان لا موسترا الخامس والسبعين علي جزيرة الليدو، وهي فيلم الأخوين جويل وإيثان كوين أنشودة باستر سكروجز حيث تعتبر منتجا أساسيا فيه، كما أنها من خمس جهات إنتاج شاركت في صنع فيلم ٢٢ يوليو للمخرج البريطاني بول جرينجراس وهو أحد الأفلام التي كانت تستحق جائزة عن جدارة، لكن الحظ وربما كانت المعضلة في حيرة لجنة التحكيم في تقسيم عدد محدود من الجوائز علي حفنة من الأعمال الرائعة. وبالمناسبة هذا الشريط السينمائي الرائع معروض ضمن أقسام الجونة السينمائي المقام بين ٢٠- ٢٨ سبتمبر الجاري.

وكذلك كانت نتفليكس شريكا أساسيا في إنتاج فيلم الجانب الآخر للريح آخر أعمال العبقري أورسون ويلز الذي رحل قبل أن يستكمله، إذ قامت نتفليكس بترميمه واستكماله كما تتولي توزيعه في إيطاليا، إذ بدأت بعرضه خارج المسابقة بمهرجان فينيسيا- وقد سبق أن خصصنا له مقالاً بموقع مصراوي. كما أنها الموزع الدولي لفيلم روما المقتنص لجائزة الأسد الذهبي، كما تتولي التوزيع الدولي لفيلم سوف يحبونني بعد وفاتي والذي عُرض خارج المسابقة. إلي جانب توزيع الفيلم الإيطالي المهم من مسابقة آفاق "على جلدي" والذي كان يستحق جائزة بدوره.

العنصرية باسم العرض السينمائي

بدأت مشكلة نتفليكس مع مهرجان كان في دورته السبعين عام ٢٠١٧، حيث بدأ الحديث عن رفض منح الجوائز لأفلام أُنتجت خصيصاً للتليفزيون، بحجة أن جمهور السينما سيُحرم من مشاهدتها بدور العرض السينمائي، خصوصا بعد تصريحات رئيس لجنة التحكيم الرسمية آنذاك الإسباني بيدرو ألمودوفار الذي تساءل في استنكار كيف أن أفلامًا سينمائية لن تعرض في دور السينما تشارك في المسابقة، وهو على ما يبدو كان سبباً في حجب الجوائز عن تلك النوعية من الأفلام المنتجة تليفزيوناً.

في العام التالي صدر القرار بعدم مشاركة أي من الأفلام التي تنتجها شبكة نتفليكس في المسابقات من أساسه، وتم التصريح بأنه متاح أمامها فقط العرض في البرامج الموازية، خارج أي مسابقات، فهل حقاً تُعتبر أفلام وأسلوب عمل نتفليكس مُضرة بالسينما كما زعم البعض؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار العروض التليفزيونية المدفوعة الأجر أو العروض التي يتم بثها عبر الإنترنت مُضرة بالسينما؟!

وهل حقاً كان قرار تيري فريمو المدير الفني لمهرجان كان السينمائي مرجعه الضغوط التي تعرض لها من دور العرض السينمائية الفرنسية؟

وهل حقاً قراره جاء بسبب القانون الفرنسي الذي يمنع الموزع أو المنتج من عرض أفلامه بالتليفزيون إلا بعد مرور ثلاث سنوات من عرضها بدور السينما؟

وهل حقاً هذه القوانين تُطبق علي الجميع؟

المراوغة الفرنسية

أياً كانت الإجابة عما سبق، فالحقيقة أن هناك واقعتين حدثتا في الأعوام الماضية تجعلان المرء لا يثق بتبريرات مدير المهرجان الفرنسي، أولها تم عام ٢٠١٦ عندما صرح بأن جنسية الفيلم ستُنسب لمخرجه وليس لجهة الإنتاج مدافعاً عن أحقية المخرج في نسبة العمل إليه، ثم لاحقاً عندما قمت بمراجعة بيانات الإنتاج للأفلام اكتشفت وجود نحو ١٤ عملا من أعمال المسابقة، إما لأنها من الإنتاج الفرنسي الخالص وإما لأن فرنسا كانت شريكاً أساسياً في الإنتاج، مما يلقي بظلال على مسابقة رسمية في مهرجان دولي، إذ لم يحدث هذا من قبل في تاريخ المهرجانات، وأقصى عدد أفلام من المفترض أن يُشارك من الدولة المنظمة في المسابقة الرسمية يجب ألا يتجاوز ثلاثة ليتيح التمثيل الدولي العادل.

من هنا تم توظيف التصريح المخادع بنسبة جنسية الفيلم لمخرجه للتورية على ذلك الخداع. والأمر الثاني حدث هذا العام عندما تم منع العرض الصحفي تحت غطاء آخر ومن دون الاعتراف بحقيقة الضغوط التي يتعرض لها المهرجان من شركات الإنتاج والنجوم الذين تتضرر مصالحهم عندما يهاجم النقاد والصحفيون فيلما متوسطا أو ضعيفا مما يؤثر على استقبال الجمهور له، ومن ثم كان منع العرض الصحفي الصباحي وتأجيله لوقت العرض الجماهيري.

أما في فينيسيا، فقد اعترف المدير الفني للمهرجان بتلك الضغوط، موضحاً أهمية تواجد الشركات الإنتاجية والنجوم لإقامة المهرجان، وفي نفس الوقت اعترف بأن النقاد والصحفيين هم شركاء أساسيون في المهرجان وطلب منهم تأجيل الكتابة والنشر لما بعد انتهاء العرض الجماهيري الأول.

مثلما أدار أزمة نتفليكس بمهارة وحولها إلى مكاسب كبرى في تلك الدورة التاريخية.

إذن الخاسر هنا هو المهرجان الكاني الذي حرم نفسه وجمهوره من مشاهدة مجموعة أفلام بمستوى فني مشهود لها. وإن استمر على هذا المنوال فسيحرم نفسه مجدداً من إحدى نوافذ المستقبل وآفاقه، وهنا نستعيد تعليق المدير الفني لمهرجان فينيسيا ألبرتو باربرا على هذا الأمر قائلا: "في رأيي الشخصي؛ هذا هو المستقبل. علينا مواجهة الحقيقة والاعتراف بأن السوق تغير تماما. صحيح أن أفضل تجربة لمشاهدة فيلم هي في دار السينما مع الجمهور، لا شك في ذلك. لكن أعتقد أيضًا أنه من المستحيل التمسك بهذا الموقف المحافظ أمام كافة المنصات الجديدة المتاحة في السوق".

المستقبل وماهية السينما

صدق باربرا في تصريحه، وهو ما نتفق معه تماماً، ويمكن تشبيه الأمر بالموقف من السينما التجارية، فمهما كان غضبنا وموقفنا منها فلا يمكن محاربتها أو محاولة منعها بحجة أنها لا تخدم المشاهدين وفق المعايير الإنسانية، فمن المعروف أنه لولا السينما التجارية ما استمرت السينما كل هذه العقود، ففي ظل السينما التجارية ومكاسبها يمكن لسينما الآرت هاوس أن تعيش وتتواجد، لأن الأخيرة غير قادرة على الإنفاق على نفسها وتحقيق إيرادات ومكاسب مثل التجارية، هذه حقيقة لا بد من ذكرها والاعتراف بها، شئنا أم أبينا.

هنا يستدعي الأمر أن نناقش أيضاً ماهية السينما من الزاوية التالية: هل هي ما يعرض علي شاشة العرض السينمائي وبداخل دور العرض السينمائي فقط؟!

إذن، هل المسرحيات التي يتم تسجيلها وتعرض بقاعات السينما تُعتبر عملا سينمائيا، أم أنها لا تزال تصنف على أنها مسرح وتنتمي لأبو الفنون؟

هل ما يحكم على فنية العمل هو كونه فيلماً أُنتج تحت مسمي تليفزيوني، بينما آخر منذ بدايته تم التعامل معه على أنه فيلم سينمائي؟

فماذا، إذن، عن تلك الأفلام السينمائية التي ما إن تشاهدها حتى تشعر أنك تشاهد سهرة تليفزيونية؟!

وماذا أيضاً عن أعمال أخرى صنعت خصيصاً للعرض التليفزيوني، لكننا نشعر بأنها منسوجة بوشائج ومفردات اللغة السينمائية، ومنها أعمال وثائقية أنتجتها قنوات تليفزيونية شهيرة، ومنها مؤخراً أفلام أنتجتها نتفليكس، مثل ٢٢ يوليو، وأنشودة باستر سكروجز على سبيل المثال لا الحصر؟!

قوانين عفا عليها الزمن

من غير المعقول أننا ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة، وفي ظل كل وسائل العرض المتاحة، وفي ظل القرصنة على الأفلام التي تواكب التقدم التكنولوجي ذاته، وفي ظل إتاحة الأفلام على الإنترنت، ثم فجأة نكتشف أن دور العرض السينمائي في فرنسا لا تزال تشترط على موزعي ومنتجي الأفلام السينمائية- أو التليفزيونية- ألا يعرضوا إنتاجهم بالتلفاز إلا بعد عروضه السينمائية بثلاث سنوات؟! هذا عبث، وأمر لا يصدق على الإطلاق، فهذا معناه أن المنتج يُعرّض نفسه لخسائر فادحة جراء احتمال تعرض أفلامه للقرصنة خلال تلك السنوات.

هذه الواقعة وما حدث مع نتفليكس يجعلاننا نطالب بتسليط الضوء على ضرورة إعادة النقاش حول القانون الفرنسي الذي يحتاج إلي التطوير، فصحيح أن فرنسا كانت من بين الدول التي تصدت لهيمنة السينما الهوليودية بدعم السينما والفنون وإنتاجهما، ودعم السينما القادمة من ثقافات مغايرة بأسلوب رائع، لكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بأن موقفها الأخير يفتقد الصواب تماماً ويتسم بالجمود، فالقوانين ليست كتب سماوية مقدسة يصعب تعديل نصوصها، إنها قوانين وضعها البشر لتسيير أمور الحياة وفق التطور والتكنولوجيا، وعلى الفرنسيين أن يراجعوا أنفسهم ويعملوا على تطوير قوانينهم.

من روائع الجونة

بالطبع هناك ببرنامج عروض مهرجان الجونة السينمائي- في دورته الثانية الممتدة من ٢٠ - ٢٨ سبتمبر الجاري - مجموعة من الأفلام سمعتها تسبقها إذ إنها حصدت جوائز في كان منها مثلاً: البولندي حرب باردة الفائز بجائزة أفضل إخراج من مهرجان كان السينمائي، دوج مان والذي فاز بطله مارشيلو فونتي بجائزة أفضل ممثل في مهرجان "كان"، كما حصل كلب على جائزة سعفة الكلب غير الرسمية في المهرجان عن دوره في الفيلم، وهو من إخراج ماتيو جارونى. سعيد كما لازارو الحاصل على جائزة أفضل سيناريو بالمناصفة مع الفيلم الإيراني ثلاثة وجوه (3 Faces)، إضافة إلي الفيلم الياباني سارقو المتاجر (Shoplifters) الفائز بسعفة كان الذهبية في الدروة الـ71. ورائعة المخرج الإيطالي ستيفانو سافنوا درب صاموني (Samouni Road)، الحاصل على جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في كان، الفيلم الأسترالي الروائي القصير كل هذه المخلوقات (All These Creatures)، الفائز بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان كان. ومن مهرجان صاندانس الفيلم الدانماركي المذنب The Guilty الحاصل على جائزة الجمهور، وفيلم عن الآباء و الأبناء (Of Fathers and Sons) الفائز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى لأفضل فيلم وثائقي دولي في مهرجان صاندانس.

ترشيحاتي الشخصية

لكني- إضافة لما سبق، وبشكل شخصي، ومن واقع مشاهداتي الفعلية في برلين وكارلوفي فاري وفينيسيا- أرشح لك هنا مجموعة أفلام للمشاهدة وهي:

1-  الفيلم البولندي وجه (Mug) الفائز بـالدب الفضي جائزة لجنة التحكيم الخاصة، ومن إخراج مالجورزاتا سزوموسكا. رجل وسيم ينفض عنه الجميع عندما يفقد وجهه ويتحطم، ويخضع لعمليات تجميل. ردود فعل المجتمع الرأسمالي؛ الأم، والخطيبة، والأسرة، والقرية، الاستثناء الوحيد كان الأخت. مأزق وجودي ودراما رمزية ساخرة بها العديد من المشاهد الكوميدية، رغم سوداويته.

2-  فيلم الوريثتان (The Heiresses) وهو إنتاج مشترك بين باراجواي، وألمانيا، وأوروجواي، والبرازيل، والنرويج، وفرنسا، ومن إخراج مارشيلو مارتنيزي. فازت بطلته آنا براون بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان برلين. اثنتين من النساء تبدأ رحلة تحرر النفسي لإحداهما عندما تُسجن الأخرى، تجربة شعورية مغايرة، حميمة صادقة، تلقي ضوءًا علي المجتمع النسائي في بارجواي بعيون امرأة تضطر للعمل كسائقة لهم.

3-  ذباب الشتاء (Winter Flies) أحد أبرز الأفلام التي نالت الإعجاب والإشادات في مهرجان "كارلوفي فاري ونال مخرجه أولمو أومريزو جائزة أفضل مخرج في المهرجان ذاته. رحلة هروب طفلين مراهقين يجدان في طريقهما فتاة، وخيال واسع في مواجهة السلطة، مع تصوير إبداعي.

4-  "الرجل الذي أدهش الجميع، الذي عرض بمسابقة آفاق فينيسيا وفازت بطلته ناتاليا كودرياشوفا بجائزة أحسن ممثلة عن دورها به، والفيلم من الإنتاج الروسي الإستوني الفرنسي المشترك للمخرجين ناتاشا ميركولوفا وألكسي شوبوف، وقد كتبنا عنه هنا بالموقع ضمن جوائز آفاق فينيسيا.

5-  المرجوحة أو الأرجوحة فيلم لبناني وثائقي مشغول بشاعرية ورقة وقد خصصنا له مقال على مصراوي وقت مهرجان كارلوفي فاري.

6-  نوسا تشابيه للأخوين جيف زيمباليست، ومايكل زيمباليست، والذي يدور من حول واقعة تحطم طائرة الفريق البرازيلي تشباكوين الذي كان علي مشارف تحقيق لقب دولي، إنه عمل سينمائي ملهم، خصوصا للأفراد. شريط وثائقي مؤثر بقوة، يحرك المشاعر ويلمس القلب، لما به من قصة عن الإرادة والفشل والنجاح.

7-  فيلم الجمعية للمخرجة اللبنانية - لأم مصرية - ريم صالح عن نساء روض الفرج.

8-  فيلم مايك لي الأحدث بيتيرلوو الذي عرض بمسابقة فينيسيا والذي اعتبره البعض عمل ملحمي، والذي يتناول واحدة من أشهر مذابح التاريخ البريطاني والتي كانت مجرد تظاهرة سلمية من ستين أف من الرجال والنساء والأطفال للمطالبة بإصلاحات سياسية تضمن التمثيل العادل في مجلس النواب البريطاني، ومنها إقرار حق المرأة في الانتخاب، والاحتجاج ضد تزايد مستويات الفقر.

9-  الفيلم الوثائقي ألوان مائية AQUARELA من التحف البصرية المروعة عن ذوبان الجليد.

10-                "٢٢ يوليو" للمخرج البريطاني بول جرينجراس عن حادثة التفجيرات بوسط أوسلو، والمذبحة التي تم ارتكابها فوق جزيرة أوتويا، وراح ضحيتها ٧٧ من الطلاب والطالبات المعسركين في إجازة هناك على أيدي أحد أطراف اليمين المتطرفين لإرغام الحكومة على طرد المهاجرين وغلق باب الهجرة والتعدد الثقافي.

موقع "مصراوي" في

15.09.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)