كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ثلاث تحف سينمائية عالمية في مهرجان فينيسيا

أمير العمري

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الخامس والسبعون

   
 
 
 
 

فعاليات الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا تشهد مرور ثلاث تحف سينمائية ستدخل دون شك تاريخ السينما، حيث تجمع بينها التجارب الأكثر طموحا لمخرجيها الذين ينتمون إلى ثقافات وخلفيات فنية مختلفة.

فينيسيا (إيطاليا) – تثبت الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا أنها ستكون عن حق “دورة تاريخية” بتميزها الواضح ببرنامج يحفل بالتحف السينمائية وباهتمام القائمين على المهرجان بتحقيق التوازن الدقيق بين الأنواع المختلفة: ما بين الفيلم التاريخي والخيالي وفيلم الرعب والويسترن والدراما الاجتماعية والسياسية.

بعد التحف السينمائية التي شاهدناها خلال الأيام الماضية ضمن فعاليات الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا، مثل “روما” للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، و”أنشودة بستر كرودجز” للأخوين كوين، جاءت ثلاث تحف أخرى ستدخل دون شك تاريخ السينما، يجمع بينها كونها التجارب الأكثر طموحا لمخرجيها الذين ينتمون إلى ثقافات وخلفيات فنية مختلفة.

أول هذه التحف فيلم “بيترلوو” Peterloo للمخرج البريطاني مايك لي (75 عاما) الحائز على “الأسد الذهبي” في فينيسيا عام 2004 عن “فيرا دريك”، والمعروف بأفلامه التي تدور في محيط الدراما الاجتماعية النقدية، لكنه ابتعد عن دراما القاع الاجتماعي عندما قدم قبل خمس سنوات فيلم “مستر تيرنر” عن حياة الرسام البريطاني جوزيف تيرنر من القرن التاسع عشر، وهذه المرة آثر أن يعود إلى التاريخ يستلهم منه، ليس بغرض الهروب من الواقع، بل لفهم مغزى دروسه وتأثير أحداثه على الوضع القائم في الحاضر.

النخبة والعامة

يستلهم مايك لي من الأحداث السياسية الصاخبة التي أدت إلى المأساة الإنسانية التي وقعت في مانشستر في القرن الثامن عشر، حيث يتعرض فيلمه إلى الصراع الطبقي والنظام السياسي الفاسد المستبد الذي يستخدم القانون الذي يصنعه لخدمة مصالح المنتمين إلى الشريحة العليا، ويعري ويفضح التكوين الاجتماعي الظالم، ويكشف دموية وتفاهة “النخبة” البريطانية وشراستها في التعامل مع “العامة”، وكيف قاومت هذه النخبة بشراسة أي محاولة للتغيير وقمعت في مذبحة دموية “الربيع الإنكليزي” الذي تمثل في حركة الاحتجاج الكبرى التي نظمها الإصلاحيون في مدينة مانشستر عام 1819، رغم أنها كانت أساسا حركة سلمية رفض زعماؤها أي محاولة لتسليحها لحمايتها من العنف المنتظر من جانب السلطة.

وكانت هذه الحركة تستلهم من الثورة الفرنسية التي أطاحت بالنظام الملكي في فرنسا، لكن طموحها لم يتجاوز أكثر من الحصول على بعض الحقوق الطبيعية مثل حق التصويت للجميع (كان قاصرا على طبقة اجتماعية معينة) والتمثيل النيابي لمختلف المقاطعات (لم تكن مانشستر مثلا بجميع بلداتها ممثلة في البرلمان).

مايك لي يستلهم في فيلمه "بيترلوو" من الأحداث السياسية الصاخبة التي أدت إلى المأساة الإنسانية التي وقعت في مانشستر في القرن الثامن عشر

ويصوّر مايك لي بمهارة وباستخدام أرقى ما وصلت إليه تكنولوجيا الصورة وما بلغته موهبته في العمل مع الممثلين مع القدرة على السيطرة على المجاميع الضخمة، ملامح الفترة التاريخية بمنتهى الدقة كالأزياء والإكسسوارات والديكورات.. إلخ، ويرصد تنامي حركة الاحتجاج على مستوى الريف وبين الأفراد، كما ينتقل بين الريف والمدينة، وبين ممثلي الطبقة الحاكمة وأفراد الشعب من الأسر العمالية الفقيرة، ويعيد الاعتبار لدور المرأة وما قدّمته من تضحيات هائلة في تلك الفترة تمثلت في العمل المنظم ضمن حركة الإصلاح، ويكشف شراسة الطبقة الحاكمة في الدفاع عن مصالحها ورفض تقديم أي تنازلات.

ويجيد لي من خلال السيناريو البارع رصد التصاعد التدريجي، على المستويين النفسي والسياسي، وصولا إلى التجمع السلمي الذي ضم نحو 60 ألف شخص في ساحة القديس بطرس في مانشستر، حيث لجأت السلطة إلى استخدام القوة، وأطلق رجال الجيش النار فقتلوا بوحشية 15 شخصا وأصابوا مئات آخرين.

رسالة فيلم مايك لي واضحة، وهي أن الطبقة الحاكمة لم يكن من الممكن أن تقدم أي تنازل إلاّ بالمواجهة العنيفة على غرار الثورة الفرنسية، وأن قرار رفض التسلح الذي تصدى له الزعيم الكاريزمي للإصلاحيين القادم من العاصمة لندن هنري هنت كان قرارا خاطئا، خاصة وأنه يكشف انتماء هنت إلى طبقة كبار ملاك الأراضي، وميله إلى التساهل مع “المؤسسة”.

كانت حركة الاحتجاج المطالبة بالإصلاح قد نشأت في أعقاب النصر على جيش نابليون بونابرت في ووترلوو (الذي نشاهده في بداية الفيلم)، بعد أن شعرت أسر الجنود الذين ضحوا بحياتهم في الحرب القاسية مع فرنسا، بأنها في حاجة إلى الحصول على حقوقها المهضومة من جانب السلطة، وجاءت تسمية الفيلم “بيترلوو” على غرار “ووترلوو”، كما لو كان قتال الأعداء في الخارج مرادفا لقتال الشعب في الداخل.

سحر الويسترن

التحفة الثانية التي تجعل الدورة الـ75 من المهرجان دورة إعادة اكتشاف سحر أفلام “الويسترن”، هي فيلم “شقيقا الأختين” The Brothers Sisters وهو ثاني تحف الويسترن التي نشاهدها في المسابقة بعد تحفة الأخوين كوين “أنشودة بستر كرودجز”.

وهذا أيضا أكثر أفلام مخرجه الفرنسي جاك أوديار طموحا، والمفارقة أنه أول أفلامه الناطقة بالإنكليزية وأنه يخوض منافسة كبيرة من خلال هذا النوع، أي الويسترن مع تاريخ سينمائي أميركي حافل بتحف الويسترن التي جاءت من هوليوود.

ورغم أنه فيلم أميركي يتوجه للسوق الأميركية أساسا، إلاّ أنه شأن الأعمال العظيمة في الفن، يتجاوز أميركيته ويصل إلى العالم على غرار أفلام الإيطالي سرجيو ليوني التي تجاوزت الحدود واستقرت في ذاكرة السينما.

ولكن على حين كانت أفلام ليوني (الإسباغيتي) تروي قصصا تحمل مغزى سياسيا ضمنيا يرتبط بالاتجاه النقدي الاجتماعي في سينما الستينات الإيطالية، يدور فيلم أوديار القادم من مجال الفلسفة الفرنسية حول “ثيمة” الحياة والموت، الوجود ومغزاه وهدفه، ماذا يمكن أن نفعل بأنفسنا؟ وهل يمكن للمرء أن يتوقف عمّا يفعله، ويوقف دائرة الشر الجهنمية التي يندمج فيها لأنه لا يملك شيئا آخر يفعله، أم أنه مدفوع بقوة لا يملك لها دفعا تدفعه نحو مصيره؟

وقد اجتهدنا في ترجمة عنوان الفيلم، فليس معروفا بالضبط من هما الأختان وهل هما أختان أم أخوات، لكننا نعرف منذ البداية أن لدينا شقيقين هما بطلا الفيلم: “شارلي” و”إيلي”، يقوم بالدورين جواكيم فينيكس وجون ريلي، في مباراة تمثيل رائعة تذكرنا بأداء بطلين من أبطال عصر الويسترن الذهبي: جيمس كوبرن وكارل مالدن.

الشقيقان قاتلان محترفان يعملان لحساب شخصية غامضة، رجل صاحب نفوذ من الطامعين في الاستحواذ على الثروة في أميركا 1851 يدعونه “الكومودور”، وهو يرسلهما لتعقب رجل يدعى هيرمان وارم (يقوم بالدور ببراعة كبيرة ريز أحمد) وهو رجل نحيف وقصير وأسمر، سنعرف في ما بعد أنه صيدلي وأنه اكتشف مادة يمكن عند خلطها بالماء أن تكشف حبيبات الذهب في الصخور.

وهدف الشقيقين ليس اغتيال الرجل، بل الحصول أولا على سر هذه المادة، وهما يقتفيان أثره وصولا إلى الطرف الأقصى في الغرب الآخر، أي المحيط الذي يتطلعان إليه للمرة الأولى في حياتهما، لكن هناك رجلا آخر هو المخبر الخاص “موريس” الذي كلفه الكومودور بأن يسبقهما ويجمع المعلومات عن هذا الصيدلي، ونحن نستقبل الفيلم من خلال ما يدوّنه من نصائح وتعليمات يتركها وراءه للشقيقين اللذين لا يعرفان شيئا عن الحياة الحديثة ويصبح اكتشاف فرشاة معجون الأسنان أمرا مدهشا بالنسبة لهما.

على حين يبدو شارلي رغم شجاعته ومهارته الواضحة في التصويب، محدود الأفق، نافد الصبر، أحمق، يميل لحسم الأمور باستخدام العنف، يبدو إيلي أكثر ميلا للعزلة والتأمل والتطلع إلى الماضي، بل إنه يطرح على شقيقه قبل أن تكتمل المهمة، فكرة التقاعد والعودة إلى البلدة الأصلية، إلى أمهما التي غابا عنها طويلا بعد أن فقدا الأب (هناك أيضا قصة مأساوية تتعلق بالأب ومصيره).

وفي أحد المشاهد يقول إيلي لشقيقه “ما فائدة الوجود إن لم يكن له معنى؟”، والحقيقة أن من أجمل عناصر الفيلم الحوار المكتوب ببراعة، وهو بعيد عن المباشرة ويبدو طبيعيا ومتسقا مع الشخصيات ويعكس معالم الاختلافات بينهما.

سياق السرد تقليدي يسير إلى الأمام، ويحتوي الفيلم على كل عناصر الويسترن التي نعرفها جيدا: البحث عن الذهب، المبارزات بالأسلحة والمطاردات بالخيول، القتل الجماعي داخل البار ثم الهرب في اللحظة الأخيرة، لحظات اليأس ومفاجآت التحوّل من القوة إلى الضعف وإلى المرض والموت، وانقلاب الحلم إلى كابوس.

هناك مقاومة مستمرة لفرق الأشرار التي يبعث بها الكومودور لقتل الشقيقين بعد أن يعقدا اتفاقا مع الصيدلي على اقتسام الذهب الذي سيعثران عليه، لكن لا وجود هنا للهنود الحمر ولا للبطل المنتصر، بل يبدو البطلان كما لو كانا يخوضان المغامرة الأخيرة لهما التي ستفضي في النهاية إلى مصير مختلف تماما.

ولا توجد في الفيلم امرأة سوى العاهرة التي يريد أن يقضي معها إيلي وقتا طيبا، لكنه يريدها أن تقوم بتمثيل دور رومانسي لا تقدر عليه حتى يمكنه تقبيلها فقط، وهناك المرأة التي أطلقت اسمها على بلدة من بلدات الغرب الأميركي وهي المتحكمة في الأمور، تمتلك البار التقليدي، ولكنها ليست امرأة تماما فهي تتنكر في ملامح رجل، تدير عصابة من الخارجين على القانون، وتعمل على التخلص من الشقيقين، لكنها تواجه مصيرا تعسا.

يتمتع الفيلم بالجاذبية الشديدة من الناحية البصرية: التصوير البديع للطبيعة الأميركية في الغرب، عمق مجال حركة الكاميرا التي تشي بالتوتر والقلق، الألوان التي تتسق مع المزاج النفسي للمشهد والتحوّلات التي تحدث عند الشخصيتين مع تقدّم الحبكة، فهذا عمل متكامل يحقّق متعة المشاهدة، وعمق الفكر، ولعله لا يقل قوة وجمالا عن الفيلم الكلاسيكي الشهير “العصبة المتوحشة” لسام بكنباه.

بوابة الأبدية

التحفة الثالثة هي فيلم “عند بوابة الأبدية” At the Eternity Gate للأميركي جوليان شنابل (66 عاما) الذي يقدّم أفضل أفلامه وأكثرها قربا إلى نفسه وهو الرسام أصلا، عن الرسام العظيم فنسنت فان غوخ.

يتناول الفيلم الأيام الأخيرة في حياة الفنان خلال فترة إقامته في أرل Arles بجنوب فرنسا: معاناته من أجل فهم الطبيعة وتصويرها، علاقته المضطربة بالناس ورغبته في الابتعاد عنهم، شعوره المحموم باقتراب النهاية، ولذلك كان يرسم بسرعة وينجز أعمالا كثيرة جدا، واضطرابه العقلي وقضاؤه فترة في مصحة للمرضى العقليين، مشاعره الدينية وحسه الذاتي بالتقرب من الله عن طريق الفن، وفي الفيلم مشهد رئيسي يدور خلاله حوار ممتع بين الفنان والقس حول الفن والإنسان والحياة والموت والجمال والقبح.

يجعل شنابل فيلمه يبدو كما لو كان مصوّرا في لقطة طويلة واحدة ممتدة تعكس التوتر والقلق والاضطراب النفسي والعذاب الذي تعاني منه الشخصية، باستخدام الكاميرا المتحركة الحرة، التي تجوس بين الأشجار، ترصد عزلة الفنان وجنونه، تصوّر كيف تستبد به الرغبة في التمسك بصديقه غوغان معه في عزلته بعيدا عن صخب المدينة، إلى درجة أن يقطع أذنه ويرسلها إلى غوغان بعد أن يصر على العودة إلى باريس “لقد أصبحت الآن فنانا راسخا أريد أن أقترب من الناس”.

ويصوّر الفيلم جوانب من علاقة فنسنت بشقيقه ثيو تاجر اللوحات الذي كان يعطف عليه ويدعمه ماديا قبل أن يقر بعبقريته كفنان.

ويدور في الفيلم حوار بين غوغان وفنسنت، يعترض خلاله غوغان على الاستخدام المكثف للألوان من جانب فان غوخ ويصف رسوماته بأنها أقرب إلى أعمال النحت، كما ينصحه بالتقليل من اندفاعه وسرعته في الرسم بينما يبدو الفنان مدفوعا إلى الانتهاء من أكبر كم من اللوحات، فعلاقته بالطبيعة متنفسه الوحيد، وهي التي تجعله يظل على قيد الحياة، وهو يقول للقس “إن الله خلقه لكي يرسم”، وعندما يسأله القس “وهل تسمي لوحة كهذه فنا؟ أليست عملا قبيحا؟”، يقول له الفنان إن الله أراده أن يرسم ربما لكي يتذوّق لوحاته جمهور سيأتي في ما بعد، ويقول إن وجوده أمام المناظر الطبيعية يجعله يشعر بأنه أمام بوابة الأبدية.

هذا عمل بديع من الناحية البصرية، يريد مخرجه أن يحاكي أجواء عالم فان غوخ التشكيلية، وقد وفق مخرجه وفريق إنتاجه في محاكاة اللوحات الأشهر من أعمال الفنان الكبير.

وفي الفيلم الكثير من لوحات فان غوخ، أما ما يجعل الفيلم عملا كلاسيكيا معاصرا كبيرا إلى جانب السيناريو المتقن المتوازن الذي كتبه شنابل مع جان كلود كاريير، فهو الأداء العبقري للممثل الأميركي وليم دافو في واحد من أعظم أدواره منذ أن بدأ مشواره في عالم التمثيل، لكن مشاهدة واحدة لهذا الفيلم الكبير لا تكفي.

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

06.09.2018

 
 

اللآلئ السينمائية تعصف بالمشاعر في فينيسيا الماسي

أمل الجمل

منذ اليوم الرابع من الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان فينيسيا - الممتد من ٢٩ أغسطس وحتى ٨ سبتمبر - وهناك كل يوم، على الأقل، فيلم أو اثنان يعتبران من الجواهر السينمائية بداخل المسابقة الرسمية التي تضم ٢١ فيلماً تشهد منافسة حامية بين مجموعة من روائع السينما. ليثبت لنا مع توالي العروض والمشاهدة الفعلية أن هذه الدورة هى دورة غير عادية ولا يمكن اعتبار وصفها بـ"الاستثنائية" بأنه وصف به مبالغة، بل إنه صادق تماماً، إذ يصعب تكرارها في أي مهرجان آخر، وحتى مهرجان فينيسيا نفسه يصعب أن يتكرر معه الأمر، فهناك تصريح لمدير المهرجان ألبرتو بربرا مفاده أنه كل عشر سنوات يمكن للمرء أن يري مثل هذه المجموعة من الأفلام الاستثنائية.

رغم ما سبق لا يمكن إنكار أن أسلوب المدير الفني للمهرجان وسياسته الذكية لعبت دوراً كبيراً في تشكيل هذه الدورة، وقدرته على جمع كل هذه الأسماء من المخرجين اللامعين، بكل هذا الثراء والتنوع في الموضوعات والجغرافيا والتي تجعلنا نتساءل ماذا سيكون مصير الدورة القادمة من مهرجان كان السينمائي بعد أن استحوذ فينيسيا على كل هذه التحف السينمائية؟!. ذكاء ألبرتو أيضاً جعله يستفيد من أخطاء مهرجان كان وتصرفاته المتغطرسة غير المدروسة - ليس فقط مع الصحفيين وإلغاء العروض الصحفية ولكن أيضاً مما حدث مع شبكة نتفليكس، ولهذا الحديث موقع آخر بعد أن نحكي عن بعض من الأفلام الجميلة.

عند بوابة الأبدية

الرسام الهولندي المثير للجدل فينسنت فان جوج واحد من الأسماء المغرية لكثير من المخرجين فبعد عدد من الأفلام التي صنعت من حوله ظهر في العام الماضي فيلم يعتبر تحفة سينمائية تاريخية يصعب أن نذكر اسم فينسنت دون أن نتذكرها، إنه فيلم "حب فينسنت" للمخرجين دوروتا كوبيلا، وهوج ويلشمان والذي فيه يحاولان فك لغز موته، والتحقيق الفني في ملابسات تلك الحادثة غير المقنعة من زاوية صعوبة تصديق أنه كان انتحاراً، حيث كانت الطلقة في المعدة. وتم من خلال السرد الشيق والجذاب والممتع جدا بصرياً المرور على محطات وشخصيات بحياة فان جوخ، إلى جانب الاستعانة بفريق كبير من الرسامين لإنجاز ٦٥ ألف لوحة تكون إطارا للأحداث.

بفينيسيا أيضاً هذه الدورة شاهدت فيلماً عن فينسنت فان جوخ بعنوان "عند بوابة الأبدية"At the Eternity Gate للمخرج الأمريكي جوليان شنابل، والذي قام ببطولته وليم دافوا بأداء نكاد معه في كثير من اللحظات أن ننسى شخصيته الحقيقية ونصدق أنه جوخ.

يتناول الفيلم الفترة الأخيرة من حياة فان جوخ عندما كان في جنوب فرنسا يحاول أن يرسم هناك، يحاول أن يفهم الطبيعة، يبحث عن سرها الأبدي، يندمج معها، لينسي نفسه ويهرب من أفكاره والأصوات التي تحاصره، واضطرابه العقلي الذي بسببه دخل المصحة النفسية مرتين هناك، لا يمنح الفيلم مساحة كبيرة لعلاقته بأخيه إذ يكتفي بمشهدين فقط لكنهما يعبران عن قوة العلاقة الراسخة والعاطفية بينهما، ودعم ثيو لأخيه مادياً ونفسياً، يهتم الفيلم أيضاً بعلاقته مع جوجان وارتباطه به والنقاشات الحادة المتوترة بينهما، ودعوة جوجان له بأن يرسم ببطء ومن دون تعجل، لكن فينسنت يري أن الانتهاء بسرعة يريحه نفسيا وعقلياً، وعندما يخبره بعودته إلى باريس ليكون قريباً من الجمهور والناس بعد أن أصبح مشهوراً يصاب فينسنت بأزمة نفسية حادة ويقطع أذنه ليرسلها هدية إلى جوجان لعله يتراجع عن قراره، وهو الأمر الذي يزيد الحياة سوءا معه ويعجل بدخوله المصحة.

التصوير بالفيلم أحد جوانبه الخلابة، فقد عصف المخرج بمشاعرنا عندما قام بتصوير وليم دافو وكأنه جزء من الطبيعة لا ينفصل عنها في كثير من الأحيان، جعلنا أيضاً - وبسبب زوايا التصوير وحركة الكاميرا - نتماهى مع الطبيعة وحقولها وأشجارها التي يطوح بها الهواء. كذلك عمله على "تراك" الصوت في محاولة منه لتجسيد ذلك الاضطراب العقلي الذي كان ينتاب فينسنت في بعض اللحظات خصوصا عندما يتعرض للخوف، وهو ما يتبدى بوضوح بعد صدمة رحيل جوجان.

سيناريو الفيلم الذي يمسك بأنفاسنا - والممتع بصرياً - زاخر بالحوارات الخصبة المغرية الآخاذة والمثيرة للإعجاب حول الفن، والله والدين، والمسيح، وغربة الفنان، حول كيف أنه من المحتمل أن فان جوخ جاء في التوقيت الخطأ، جاء لجمهور لم يكن قد خُلق بعد. الحقيقة أن حوارات الفيلم يمكن تدريسها وسماعها أكثر من مرة باستمتاع وبهجة كبيرة.

توالي التحف السينمائية

من بين التحف السينمائية التي توالت في الأيام الماضية والتي تندرج ضمن الـ٢١ فيلما التي تتنافس على جائزة الأسد الذهبي بقوة - فإلي جانب "أنشودة باستر سكروجز" للأخوين كوين و"المفضلة" للمخرج لانثيموس، هناك "شقيقا الأخوات" للمخرج الفرنسي جاك آودريارد في تجربة جديدة على عالمه حيث يسرقنا بإبداعه المرهف، برشاقتة اللافتة، وإن بعذوبة وقسوة في آن واحد إلي عالم الويسترن والكاوبوي، ليطرح تساؤلات عن المصير الإنساني والوجود، ثم تأتي تحفة "ساسبيريا" التي يمكن أن نتحفظ على بعض تفاصيلها لكنها في النهاية عمل قوي آخر عن الفن والقهر.

أما الفيلم الألماني "لا تنظر بعيداً أبداً" never look away والمعنى الأدق وفق أحداث الفيلم لا تُبعد نظرك أبداً عن الأشياء الحقيقية الصحيحة لأنها جميلة، فأعتبره واحداً من أقوى الأعمال السينمائية فرغم أنه يتجاوز الثلاث ساعات لم أشعر بالوقت وكنت أتمنى ألا ينتهي الفيلم أبداً، وهو يستحق مقالًا خاصًا به خصوصا أنه من توقيع الألماني فلوريان هينكل فون دونرسمارك صاحب التحفة السينمائية عن سلطة القهر وتعذيب الفنان المعنون بــ"حيوات الآخرين.

"غروب"

Sunset "الغروب" هو عنوان فيلم المخرج المجري لازلو نيمس الذي عصف بشواطئ الريفيرا قبل ثلاثة أعوام بأول أفلامه الروائية "ابن شاؤل" وحصد عنه الجائزة الكبرى للمهرجان ثم الأوسكار.

هنا بفيلمه الأحدث "غروب" يعود لازلو إلى أوروبا في بداية القرن الماضي وتحديدا عشية الحرب العالمية الأولى، ففي عام ١٩١٣ تعود إلى بودابست فتاة شابة نحيفة تمتلك في عينيها إرادة العالم وإصراره، تعود إلي محل والدها "لايتر" ذلك المحل الشهير الذي بلغت سمعته الأرجاء في تصميم القبعات الملكية والراقية، لكن الجميع كانوا يكرهون المحل ويشعرون معه بالرهبة ويريدونه أن يختفي. والدا الفتاة توفياً في الحريق الضخم الذي نشب في المحل بينما كان عمرها سنتين فقط، الآن هى شابة يافعة جاءت للمكان مجدداً بعد أن قرأت إعلان عن وظيفة به، عندما تعلن عن هويتها تسبب صدمة وفزعاً للآخرين الذين يحاولون إبعادها وإعادتها إلي حيث كانت عندما تم تهريبها صغيرة لتفلت من تلك المجازر.

رحلة البحث الجهنمية التي تنغمس فيها الفتاة تقودها لمعرفة أن لها أخاً، واسمه يصاحبه رهبة وخوف كبير يصل لحد الفزع، والذعر. الكثيرون يحذرونها من عدم البحث عنه، وعدم الذهاب إلي مكانه، لكنها كمن يقودها مصيرها وقدرها لا تبالي بأحد، ولا أحد أيضاً قادر على أن يمنعها.

قوة الفيلم ليس فقط في القصة التاريخية التي قد ترمز إلى مأزق الحضارة الأوروبية التي بعد أن بلغت كل هذا التقدم والازدهار أخذت تتهاوى وتخوض الحروب الكبرى، ولكن قوته تكمن أيضاً في تصويره الحشود والأفراد، وجعلها - أي الحشود - في أحيانٍ كثيرة فقط صورة ضبابية تؤطر وجه البطلة وجسدها، أو تؤطر المكان الذي تسير فيها الفتاة الشابة. تكمن قوته في السرد الرشيق المعبر عن مخاطر العنف والانخراط في سلسلة الدم الجهنمية التي تجعل الإنسان بعد أن كان يبحث عن أخيه ليحتضنه يجد نفسه فجأة مع إنسان غريب لن يتورع عن قتله بجنون ليحمي نفسه. تكمن قوته كذلك في رسم الشخصيات الغامضة التي تبدو كلماتها وكأنها تحمل معانى ملتبسة، وفي المونتاج الذي يقفز بانسيابية وقوة بين الأماكن والشخصيات فعندما تصر الفتاة الشابة على الذهاب إلي مكان ما ممنوع عليها نحن لا نرى - في أغلب تلك المشاهد - كيف خاضت تلك العقبات وتجاوزت كل ما هو ممنوع، وكيف لم ينجح حراسها في منعها، أحياناً كثيرة نراها وقد وصلت إلى غايتها، أو وهى في الطريق إلى غايتها، بإصرار في عينيها يحجب عنها عدم تصديق قدراتها الخارقة، ويجعلنا نحبس أنفاسنا على مدار ساعتين وربع الساعة من دون أن نشعر بالوقت.

موقع "مصراوي" في

06.09.2018

 
 

مهرجان فينيسيا يعرض فيلمين جديدين للإسرائيلي عاموس غيتاي

أمير العمري

رسالة عاموس غيتاي تحمل اعترافا بمعاناة الفلسطينيين وإدانة لما تفعله إسرائيل في غزة عبر نسيج سعري سينمائي.

شاركت في الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا السينمائي التي تختتم في الثامن من سبتمبر الجاري ثلاثة أفلام من إسرائيل، وفيلمان من فلسطين أو على الأقل يمثلان مخرجيهما الفلسطينيين، أحدهما من الضفة والثاني من داخل الأرض المحتلة، أي إسرائيل.

 فينيسيا (إيطاليا)قدّمت الدورة الـ75 لمهرجان فينيسيا السينمائي ثلاثة أفلام من إسرائيل، أولها الفيلم الإسرائيلي الروائي الطويل “تعرية” للمخرج أرون شاني، وهو فيلم من نوع الدراما النفسية لا علاقة له بالصراع العربي الإسرائيلي، ثم هناك فيلمان للمخرج الشهير عاموس غيتاي الذي عرف بأفلامه المثيرة للجدل والتي تنتمي إلى الموجة “النقدية” في السينما الإسرائيلية، أي تلك التي تعترف بالمأزق الذي تعيشه إسرائيل بسبب احتلالها الأراضي الفلسطينية، وما يترتب على هذا الاحتلال من تداعيات سياسية واجتماعية وسيكولوجية مدمرة تظهر الشخصية الإسرائيلية في عيون العالم كشخصية عدوانية تتبنى نفس السياسات العنصرية العنيفة التي عرفها اليهود وعانوا منها في أوروبا تحت الاحتلال النازي وفي ألمانيا النازية.

عاموس غيتاي الذي يتمتع بصداقة شخصية مع مدير مهرجان فينيسيا ألبرتو باربيرا، يعود إلى المهرجان ليشارك خارج المسابقة الرسمية، بل وخارج مسابقة قسم “آفاق” بفيلمين، أولهما فيلم قصير بعنوان “رسالة إلى صديق في غزة” (34 دقيقة)، والثاني الفيلم الطويل “ترام في القدس” (94 دقيقة) Tramway in Jerusalem.

ومن فلسطين حضر أولا فيلم “تل أبيب ع نار”، وهذا حرفيا اسمه بالعربية كما أراده مخرجه سامح زعبي، وهو من مخرجي الداخل (الإسرائيلي) من مواليد الناصرة، درس السينما في نيويورك ويقوم حاليا بتدريس السينما في جامعتها ويقيم في حي بروكين.

وفيلمه من تلك الأفلام التي يتعاون فيها الفلسطينيون والإسرائيليون وتحصل على تمويل إسرائيلي من الجهات الرسمية مثل صندوق الدعم السينمائي الإسرائيلي والمجلس الإسرائيلي للسينما، ويشارك فيها ممثلون فلسطينيون يسمونهم، بل ويطلقون هم أيضا على أنفسهم (عرب إسرائيل، وليس فلسطينيي الـ48 كما ينبغي)، لكن هذا موضوع آخر معقد.

أما الفيلم الفلسطيني الثاني، فهو من الإنتاج الفلسطيني ويمثل الضفة الغربية (رام الله) وهو فيلم “مفك” للمخرج بسام الجرباوي وبطولة زياد ركري.

تجريبية غيتاي

عاموس غيتاي ينتصر لفكرة أن يظل "الترام" يجمع الجميع من دون سؤال الهوية والانتماء العرقي، فهو يرى أن القدس يجب أن تكون هي الهوية

عاموس غيتاي المهموم دوما ببحث إشكالية العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، هو خير من يعبر عن عقدة الشعور بالذنب التي تتجسد عند شريحة ما من مثقفي اليسار في إسرائيل تجاه التعامل الإسرائيلي الرسمي مع الفلسطينيين داخل وخارج الخط الأخضر، يصوّر في فيلم “رسالة إلى صديق في غزة” فكرة تجريبية خالصة تتسق مع أسلوبه الشكلاني، يريد من خلالها أن يصنع نسيجا شعريا سينمائيا، استنادا إلى مرجعية شعرية عند كل من الطرف الفلسطيني ممثلا في شعر محمود درويش أساسا، ورواية إميل حبيبي الشهيرة “المتشائل” ومن الطرف الإسرائيلي في أشعار يتسار سميلانسكي، ومقال للكاتبة الإسرائيلية أميرة هاس كانت قد نشرته في صحيفة “هاراتس” توجه فيه اتهاما إلى القوات الإسرائيلية التي تفرض حصارا على قطاع غزة، وتتعامل بقسوة مفرطة مع المحتجين الفلسطينيين.

يقرأ الأشعار والمقال في الفيلم أربعة من الممثلين: اثنان من الجانب الفلسطيني هما مكرم خوري وكلارا خوري، واثنان من الجانب الإسرائيلي هما هيلا فيدور وعاموس غيتاي نفسه الذي يظهر كثيرا في الفيلم في مقاطع أخرى، ينصت ويهز رأسه استحسانا لما يستمع إليه.

والمقاطع المختارة من شعر محمود درويش تصوّر الحالة الفلسطينية الوجودية، وتفضح العنف الإسرائيلي المجنون، والمقاطع من رواية إميل حبيبي تصوّر حالة العبث المجنون التي تعكس المأزق المشارك، ومقال أميرة هاس الذي يحمل عنوان “كنت فقط أنفذ الأوامر: ماذا ستقول لأبنائك؟”، يسخر من الفكرة المتكررة التي كان يستخدمها النازيون بعد سقوط النازية تبريرا لممارساتهم الإجرامية بدعوى أنهم كانوا فقط “ينفذون الأوامر”.

يمزج الفيلم بين مقاطع القراءات الشعرية والأدبية وبين صور من الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة، ولكن في سياق أسلوب غيتاي التجريبي الذي يرغب في جعل فيلمه يرتفع إلى مستوى القصيدة، فهو يستخدم الانتقال الناعم والمزج بين اللقطات، ويركز بوجه خاص على وجوه الممثلين لتقريب المتفرج من انفعالاتهم وإحساسهم بالكلمات وإيقاعها.

والفيلم الذي يتخذ شكل القصيدة التي تتداخل فيها الصور مع المعاني التي تعبر عنها مقاطع الأشعار (كثيرا ما نسمع صوت محمود درويش أيضا)، يتخذ عنوانه من الرسالة الشهيرة التي كتبها الكاتب الفرنسي ألبير كامي عام 1943، أي خلال الحرب العالمية الثانية بعنوان “رسالة إلى صديق في ألمانيا”، ولكن على حين كانت رسالة كامي تحمل إدانة للألمان، تحمل رسالة غيتاي اعترافا بمعاناة الفلسطينيين وإدانة لما تفعله إسرائيل في غزة.

ترام القدس

مكرم خوري وشاعرية فلسطينية في "رسالة إلى صديق في غزة"

على غرار هذا الأسلوب نفسه يصنع غيتاي فيلمه الثاني “ترام في القدس” داخل الترام الذي يربط بين أحياء مختلفة من مدينة القدس، تتناوب على ركوبه شخصيات مختلفة من الإسرائيليين والفلسطينيين، يتوقف عند المحطات التي توجد في شرق المدينة وغربها، نسمع أسماءها تعلن من جهاز التسجيل الآلي داخل القطار.

وفي لقطة متوسطة يحصر غيتاي كل شخصية من الشخصيات التي تظهر، تتكلم، تغني، وأحيانا تتحاور أو تواجه مأزقا ما، ويستخدم غيتاي عددا من الممثلين، منهم من يقوم بدوره الحقيقي في الحياة في سياق تسجيلي، ولكن في قالب كوميدي ساخر يعكس عبثية التناقضات القائمة، وهوس الشك والتشكك، والرغبة المحمومة في إثبات التفوق وتبرير الذات، وإبراز الجرأة الفلسطينية والثقة التي تتحدى النسق الأمني الهش بصلابة مدهشة.

الكاميرا لا تكاد تتحرك كثيرا داخل الترام، بل تظل مركزة على الشخصية التي تواجهها بحيث ترصد انفعالاتها، ويبدو هناك نوع من الارتجال في الحوارات الطريفة التي تتردد على ألسنة الشخصيات بلغات عديدة مختلفة منها العبري والعربي والإنكليزي والفرنسي.

وفي أحد أفضل مقاطع الفيلم يظهر الممثل الفرنسي الشهير ماتيو أمالريك يقرأ أولا على ابنه الطفل الصغير (وهو ابنه الحقيقي) مقاطع مما كتبه غوستاف فلوبير عن القدس في سياق علماني مناهض للطابع الديني الذي اتخذته المدينة وأصبح سمة مميزة لها.

ولكن سرعان ما يحاصر الممثل الفرنسي رجل وزوجته من الإسرائيليين من راكبي الترام، يوجهان إليه الكثير من الأسئلة المدفقة المندفعة قبل أن يستمعا لإجاباته وقبل أن يكمل فكرة واحدة، وتدور الأسئلة حول القدس وإسرائيل، وما أعجبه فيها. وعندما يأخذ الرجل في الحديث عن جمال الطقس والمناظر الطبيعية، تحدثه المرأة في مونولوغ محموم عن قوة البحرية الإسرائيلية، وعن الصواريخ الحديثة التي يمتلكها الجيش، وكيف أنه عندما ينطلق الجيش في مهمة ما لا يعود إلا منتصرا، فهذا مكتوب عليه وإلاّ حدث ما لا تحمد عقباه.

الرجل يستمع وهو في حالة ذهول ونفور ممّا يسمع، لكنه يتحلى بالأدب الجم بينما يلهو ابنه غير عابئ بما يدور من حوله داخل القطار، وفي لحظة ما تشعر أن الرجل (الذي يتحدث بالإنكليزية هنا) أصبح يخشى عواقب تلك الهستيريا التي لا تعرف حدودا.

وكلما وجها إليه سؤالا أخذ هو يتحدث عن الطقس وزرقة مياه البحر، لكنهما يعودان طوال الوقت إلى التغني بالقوة الإسرائيلية، يريدانه أن يعترف ويقر بحق إسرائيل في استخدام القوة، وهو يتهرب بوضوح من هذا الموضوع، وكأن الإسرائيليين يعكسان شعورا ما بالخوف من نظرة الآخر الغريب إليهما، ويرغبان في “تبرير” العنف الإسرائيلي أمام الزائرين.

وفي مشهد آخر من فيلم “ترام في القدس” تظهر الممثلة الفلسطينية ميساء عبدالهادي التي تشارك أيضا في التمثيل في الفيلم الفلسطيني-الإسرائيلي “نار ع تل أبيب”، تقف مع صديقة لها في أحد جوانب العربة، يشتبه فيها ضابط أمن يظهر فجأة يريد الاطلاع على هويتها.

تقول إنها تحمل الجنسية الهولندية وتعطيه جواز سفرها الهولندي، لكنه لا يصدقها فيطلب منها التحدث بالهولندية، لكنها تقول إنها لا تعرف الهولندية، لكنها هولندية الجنسية فلسطينية الهوية تقيم في القدس، ويستمر هذا الحوار العبثي إلى أن يشعر الضابط باليأس فيعيد إليها وإلى صديقتها جوازي سفرهما.

سؤال الهوية

سينما التكفير عن الذنب الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين

في مشهد آخر يصعد إلى الترام شاب فلسطيني ينتقل بين الراكبين، وهو يغني إحدى أغاني الراب الفلسطينية التي تسخر منهم ومن الاحتلال والقمع ويتغنى بفلسطين، ويؤكد أن النصر سيكون حليفا لهم في النهاية، كل هذا والإسرائيليون الجالسون الذين يصب عليهم اللعنات ويسخر منهم ومن جيشهم ومن حماقاتهم من خلال كلمات “الراب” الفلسطيني، لا يفقهون شيئا لأنهم لا يعرفون اللغة العربية.

وهناك أيضا الشاب الفلسطيني الذي تتشكك فيه شابة إسرائيلية تريده أن يبتعد عنها بينما هو لم يلمسها أصلا، وهي تسأله عن لهجته وتسخر منه عندما تعرف أنه “عربي”، وتخرج من جوفها كل أشكال الغضب والحقد والعنصرية ويأتي ضابط الأمن لكي يعتقله وينزله من القطار، ثم نشاهد كيف تندمج مجموعة من “دراويش” يهود الحساديم في ترديد أغانيهم التي يفرضونها فرضا على راكبي الترام دون أن يشعروا بوجودهم، ثم نرى رجلا آخر يهوديا تستبد به الرغبة فجأة فيريد أن يضاجع زوجته داخل الترام، لكنها تصده وتوقفه.

ترام” عاموس غيتاي رغم ما يعرضه من تناقضات، يبدو من ناحية الشكل كما لو كان قطارا خاصا لأبناء الطبقة الوسطى (رجال يصطحبون نساءهم اللاتي يرتدين الملابس الفخمة ومعاطف الفراء، كما لو كنّ ذاهبات لقضاء سهرة في المسرح)، بل وحتى النماذج الفلسطينية التي تظهر داخل العربة تبدو ميسورة الحال، ومن ناحية اللغة والشكل والأسلوب يبدو الفيلم كما لو كان يدور في برلين العشرينات، لا في إسرائيل الزمن المضارع، لكن التجربة طريفة وتتميز بروح المرح والسخرية السوداء، والفيلم بوجه عام يضيف زاوية جديدة إلى سينما غيتاي الذي لا يكف عن التجريب.

إنه قطار رمزي أكثر منه واقعيا، فهو يعكس رؤية غيتاي “اليوتوبية” التي سبق أن عبر عنها في عدد من أفلامه السابقة، وهي أن يتمكن كل سكان مدينة القدس من العيش معا في المستقبل في سلام، على أن يقبل كل منهم الآخر، في اختلافه الديني أو العرقي عنه، على أن يظل “الترام” يجمع الجميع من دون سؤال الهوية والانتماء العرقي، فهو يرى أن القدس يجب أن تكون هي الهوية.

أما الفيلمان الفلسطينيان، فهما يقتضيان منا وقفة في مقال قادم.

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

07.09.2018

 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي:

{وليمة} من الأفلام الروائية في مهرجان فينيسيا

فان غوخ {يعود} إلى الشاشة الفضية من «بوابة الأبدية»

فينيسيا: محمد رُضـا

بين مئات الأفلام التي تعرضها المهرجانات الكبرى الثلاثة، هناك دوماً أعمال تتحدث عن الفن والفنانين. تعكس حياة شخصياتها المتباينة ومفاهيم تلك الشخصيات حيال أعمالها أو، على الأقل، تعكس فترات لمعانها ومهنها المختلفة.

بعض هذه الأفلام روائي، وبعضها الآخر تسجيلي أو وثائقي. منها ما هو حول فنانين رحلوا، وبعضها الآخر حول من لا يزال حياً بيننا.

مهرجان فينيسيا، هذا العام لا يختلف، في هذا الشأن، عن أي مهرجان آخر، موفراً، لمن يرغب، أفلاماً تسجيلية وروائية عدة حول الفن وعلاقته بالفنان والحياة عموماً. من بينها خمسة أفلام شاهدها هذا الناقد لاستعراضها هنا.

At Eternity’s Gate

عند بوابة الأبدية

كان الرسام ڤنسنت ڤان غوخ موضوع الكثير من الأفلام عبر سنوات التاريخ. من أوائل تلك الأفلام «شهوة الحياة» لفنسنت مينيللي (1956) الذي قام كيرك دوغلاس ببطولته، ومن آخرها فيلم الرسوم البولندي - البريطاني «حب ڤنسنت» لدوريتا كوبيلة (2016). بين الفيلمين هناك «فنسنت وثيو» لروبرت التمن (1974) والفيلم التلفزيوني «البيت الأصفر» الذي تم إنجازه سنة 2007.

الفيلم الجديد من إخراج جوليان شنابل، وهو رسّام نيويوركي ومخرج أفلام، من بين أفضل أعماله الفيلم الذي حققه قبل 22 سنة حول الحياة القصيرة للرسام النيويوركي جان ميشال باسكيات. في «عند بوابة الأبدية» يرسم شنابل بالكاميرا ما يواكب الرسم بالريشة. هذا عندما تتولى الكاميرا الانسياب في المشاهد الطبيعية التي يحاول ڤان غوخ (يؤديه جيداً وليم دافو) نقل إيحاءاتها وجمالها على قماشته. هنا يذكر الفيلم بأسلوب ترنس مالك في العمل، لكن بنسبة أقل جمالية. الكاميرا ذاتها في حركة دائمة. محمولة وتنتقل بطلاقة (مفتعلة أحياناً) لالتقاط ما يحلو لها تصويره.

يتابع الفيلم بمشاهد كتبها جيداً الفرنسي جان - كلود كارييه حالة ڤان غوخ القلقة وازديادها خلال تلك السنوات القليلة. علاقته المهنية مع بول غوغان (أوسكار آيزاك) والحميمة مع شقيقه ثيو (روبرت فرَند). في مجملها لم تكن حياة سهلة، بل بالغة التوتر، وشنابل ينقلها على هذا النحو أيضاً.

Nice Girls Don’t Stay for Breakfast

اللطيفات لا يبقين للإفطار

هذا العنوان الغريب مأخوذ من أغنية وردت في فيلم «الريف الرائع» (The Wonderful Country) غنّـتها جولي لندن في فيلم لروبرت باريش من بطولة روبرت ميتشوم (1959). ميتشوم، وليس ليندون، هو موضوع هذا الفيلم التسجيلي - الوثائقي عن الممثل الذي تمتع بكاريزما البطولة والشخصيات التي لعبها. ميتشوم (1917 - 1997) ظهر في أكثر من مائة فيلم ويتذكره المعجبون بأدواره في «نهر بلا عودة» و«ليلة الصياد» و«من الماضي» و«كايب فير» وسواها.

فيلم المخرج بروس ويبر معني بإحياء ذكرى الممثل وإلقاء تحية سينمائية لائقة تناسب تاريخه وشخصيته.

والمخرج يصيب في معظم ما يهدف إليه ويميط اللثام عن أحداث مشهورة (دخول الممثل السجن لحيازته الماريوانا)، وأخرى أقل شهرة (مطاردة إليزابيث تايلور له وهي شابة). هناك مقابلات مع الراحل ومع ممثلين تحثوا عنه (ليام نيسون، جوني دَب…) ولمسات حانية لممثل استحق كل شبر من المكانة التي استحوذها.

The Other Side of the Wind

الجانب الآخر من الريح

هذا هو أحد الأفلام التي كابد المخرج الراحل أورسن وَلز لأجل تحقيقها. استمر تصويره سنوات بسبب نفاد التمويل وانتظار تمويل جديد. مات ولز (سنة 1985) من دون أن ينجزه، ومرّت 48 سنة على البدء به قبل أن يكمله المخرج فرانك مارشال.

يستمد هذا الفيلم أهميته من هذه الحقائق، بالإضافة إلى قيمة المخرج في السينما عموماً، لكن إذا ما تجاهل الناقد هذه القيم وعاين الفيلم كما هو تبدّى له عملاً مضطرباً وقائماً على قدر من التجريب وتوزيع اللقطات وما تنتمي إليه من مشاهد وحكايات على نحو ممزق. يذكّـر بفيلم «المواطن كين» (1941) الذي كان أول أعمال وَلز السينمائية (وأفضلها) من حيث إنه يتابع حياة شخص معين ذي سُلطة، لكن الفيلم السابق، على تنوّع مدارسه، كان منضبطاً تحت هيمنة الفكرة والأسلوب، في حين أن الفيلم الجديد - القديم الذي يتحدث عن مخرج (يؤديه المخرج الفعلي الراحل أيضاً جون هيوستون) يريد إنجاز فيلم يبدو غامضاً له ولسواه، تجريبي النزعة وغامض الأجواء قياساً.

Friedkin Uncut

فريدكن كاملاً

ينبري المخرج الإيطالي فرانشسكو زيبل لتقديم المخرج الأميركي ويليام فريدكن، في هذا الفيلم التسجيلي، كسينمائي جدير بالاحتفاء به رغم أن أفلام فريدكن ليست متوازية في حسناتها ولا سيئاتها، وبعضها مهم أكثر مما هو جيد. يؤازر فريدكن في مهمة إلقاء الضوء على حياته المهنية وبعض الخاصة. وللتأكيد على دور فريدكن في السينما يتوجه المخرج زيبل إلى وليم دافو وكونتين تارنتينو وفرنسيس فورد كوبولا وإيلين بيرستن للمشاركة في إلقاء التحية المناسبة. يحيط الفيلم بتاريخ صاحب «طارد الأرواح» و«فرنش كونكشن» و«كروزينغ» من بين أخرى، لكن «فريدكن كاملاً» يبقى عملاً من باب التبجيل لمخرج حقق أعمالاً رديئة عدة.

The Great Buster: A Celebration

بستر العظيم: احتفال

بين كل عظماء السينما الكوميدية ليس هناك من تساوى مع بستر كيتون في فنه، وإن تجاوزه تشارلي تشابلن في الشهرة وفي عنايته بنقل واقع اجتماعي (يدلف لما هو سياسي) من خلال بعض أفلامه. المخرج هنا هو بيتر بوغدانوفيتش (الذي نراه في «الجانب الآخر من الريح» ممثلاً)، وإذا ما كان هناك من ميزة خاصّـة في فحوى قيام بوغدانوفيتش بتحقيق هذا الفيلم عن ذلك الكوميدي العبقري، فهي في أن بوغدانوفيتش ملم بالسينما من الداخل والخارج وبتاريخها كيفما نظرت إلى ذلك التاريخ. فيلمه هذا أفضل ما تم تحقيقه عن الكوميدي (هناك الكثير) على أكثر من صعيد، بينها طريقة ترتيب الفيلم لينقل ما هو خاص بما هو سينمائي. في النطاق الثاني يعرض لنا المخرج مشاهد من أهم ما أنجزه كيتون مخرجاً وممثلاً من أفلام.

####

شاشة الناقد

July 22

July 22

> إخراج: بول غرينغراس

> تمثيل: أندريا دانيلسن لاي، بوناس غرافلي، جون أويغاردن، ماريا بوك.

> دراما | الولايات المتحدة – 2018

> تقييم: (جيد)

في الثاني والعشرين من يوليو (تموز) 2011 أقدم اليميني النرويجي المتطرف أندرس برافيك (أندرس دانيالسن لاي) على قيادة شاحنة بيضاء صغيرة محمّـلة بالمتفجرات دخل بها مرآب مبنى حكومي غير بعيد عن مبنى رئاسة الوزراء،، ثم تركها هناك وسار مبتعداً عنها. بعد قليل تنفجر مخلفة قتلى وجرحى وحرائق.

من هناك يتوجه برافيك إلى جزيرة أوتويا الصغيرة، حيث يمضي أكثر من مائة طالب وطالبة نزهة بإشراف مدرسيهم ومسؤوليهم الذين نصبوا للغاية خيماً في باحة الموقع. يقود سيارة أخرى. يجتاز جسراً ويصل إلى حيث «العبّـارة» التي ستقله هناك. حال وصوله يقتل إحدى المدرسات ورئيس الأمن، ثم ينطلق ليفتح النار على الجميع. النتيجة 77 قتيلاً وعشرات الجرحى، ثم جروح بدنية ونفسية وعاطفية لا تندمل تركها في ذوات الضحايا الناجين.

يمارس بول غرينغراس التوليف الذي برع به دوماً. لا يضيع أي وقت وعوض أن يتناول الفيلم العملية الإرهابية التي نفذها أندرس بدافع تطهير البلد من الغرباء والمسلمين (كما يرد في الفيلم) في ساعتيه، يقرر إنجاز تصوير الواقعة في أقل من نصف ساعة بقليل، ثم الانصراف لمتابعة المحاكمة التي أقيمت لأندرس الذي استسلم حال وصول قوات البوليس الخاصة وتطويقه.

ينتقل الفيلم بين مقابلاته مع محاميه ثم دخوله مداولات المحكمة وكل ما يرتبط بها بين حياة أحد الناجين فيلجار (غرافلي) الذي أطلق عليه برافيك خمس رصاصات استقرت في جسده، لكنه بقي حياً. بعد العمليات الجراحية يخرج من المستشفى معطوب العين وأعرج وضعيف القدرة البدنية. حياته كلها انقلبت رأساً على عقب وهو، بعد تردد، يوافق على مواجهة برافيك في قاعة المحكمة، وشهادته تتسبب في الحكم على المجرم بالسجن مدى الحياة.

يكشف الفيلم عن جانب عاطفي من شخصية المخرج غرينغراس لم نره من قبل كذلك عما جعله أحد أمهر الرواة في سينما اليوم، معتمداً على التوليف السريع والمضي في خط مستقيم من السرد الموحي بالأفكار والمشاعر. غرينغراس لا يمزح ولا يقلل من تأثير الحادثة الإرهابية ولا يتبرع بموقف مغاير لما تدينه القيم والقوانين. ليس الأمر دفاعاً عن الإرهابي ولا حتى هو قابل للجدال. ولقطع دابر الاعتقاد بذلك يدخل حكاية عاطفية تبقى صغيرة وغير مفتعلة بين أندرس وناجية أخرى بسمات شرق آسيوية اسمها لارا (سيدا ويت). يستخدم منها المخرج ما يحتاج إليه فيلجار لينفض عن نفسه الشعور بالإحباط والهزيمة.

«يوليو 22» دراما منقولة عن الواقع ترفع من شأن القانون ورقي الممارسات الإنسانية في مواجهة عنف الإرهاب وقبحه.

####

سنوات السينما

Nosferatu (1922)

جذور سينما الرعب ذات الفن والرسالة

عندما تقدم المخرج فردريش ولهلم مورنو من أرملة الكاتب برام ستوكر للحصول على موافقتها لتحقيق رواية زوجها «دراكولا»، امتنعت وهددت برفع قضية. في محاولة لتفادي هذا الوضع، غيّـر المخرج الألماني عنوان الفيلم من «دراكولا» إلى «نوسفيراتو»، كما في الرواية الأصلية. رغم ذلك اضطر لاحقاً إلى إتلاف نسخ الفيلم بعدما لجأت أرملة الكاتب إلى القضاء. من حسن الحظ أن الإتلاف لم يشمل النسخ التي كانت غادرت ألمانيا إلى دول أخرى؛ لذلك لا يزال الفيلم حيّـاً وتأثيره اليوم قوياً كما كان دوماً.

أصل كلمة «نوسفيراتو» في الكلمة اليونانية «نوسوفوروس» Nosophoros، ومعناها ناقل العدوى. وحين يكتب بعضنا عن أن كلمة نوسفيراتو تعني مصاص دماء، أو أنه مجرد تنويع لكلمة دراكولا، فإن هذا ليس دقيقاً؛ فاسم الشخصية هنا هو «كونت أورلوك» الذي يسكن قصراً بعيداً يرفض الجميع الاقتراب منه باستثناء هاتر (غوستاف ڤون وانغنهايم)، ذلك الموظف البسيط في وكالة عقارات الذي يطلب منه التوجه إلى ذلك القصر ليأخذ توقيع الكونت أورلوك (ماكس شرَك) على عقد بيع مبانٍ متداعية قديمة في البلدة. هاتر مضطر إلى المهمة الخطرة؛ لأن زوجته التي يحب إلين (غريتا شرودر) عليلة. هناك مشهد فراق طويل بينهما قبل أن يستقل هاتر العربة.

سائق العربة ينقله إلى منزل يقع في الريف وصاحبه وزوجته يتوجسان شراً من هاتر بعدما أفصح عن مقصده وينصرفان وآخرون إلى الدعاء. ذئب يحوم ليلاً. شعور غامض وفزع مدهم ثم ها هو هاتر يواصل الرحلة في اليوم التالي. لكن أورلوك يريد زوجة هاتر، وسوف يزورها ليمص دمها ويتركها مريضة. من ناحيته، يحاول هاتر إيقاف هذا الاعتداء واستعادة زوجته.

«نوسفيراتو» جذور فيلم الرعب ذي الفن والرسالة عكس غالبية أفلام الرعب التي تهدف فقط لإثارة الفزع بوسائل مباشرة وعقيمة. لكن هذا الفيلم، كما حال أفلام رعب رائعة أخرى مثل «لمعان» لستانلي كوبريك أو «برام ستوكرز دراكولا» لفرنسيس فورد كوبولا، يصر على التعامل مع الحكاية المرعبة كمدخل طروحات نفسية وفكرية عميقة بإطار فني لا يتنازل عن شروطه التعبيرية.

«نوسفيراتو» عبارة عن اختيار لقطات. كل لقطة تتجانس مع الأخرى لتأليف العالم الذي تدور فيه. الحياة كئيبة حتى من قبل وصول الكونت أورلوك للسكن في البلدة التي يعيش فيها بطل الفيلم غير المنتبه في البداية إلى الخطر المحدق بزوجته. حين يقرر الكونت أورلوك تغيير مكان سكنه من الجبال القاصية، حيث يكمن قصره إلى المبنى المهجور، يستخدم سفينة بحرية ودخلها محمولاً في تابوت، لكن إذ حط الليل خرج ونشر الطاعون الذي قضى على كل ركاب السفينة وطاقمها.

الفيلم أيضاً فيلم أحلام. ليس فقط أن مصاص الدماء نوسفيراتو كان ينام طوال النهار ثم يستيقظ ليلاً كما دراكولا، بل إن الضحية التي قصد مص دمائها كان عليها أن تنام أيضاً. نوسفيراتو سيأتيها وهي نائمة؛ ما قد يعني، باستدارة كليّـة، أنها قد تكون - بدورها - شاهدت حلماً بطله مصاص الدماء نتيجة رغبة جنسية غير محققة.

أحد أهم مشاهد «نوسفيراتو» هو ذاك الذي يحمل فيه مواطنون تابوت نوسفيراتو من غير علمهم بهويته. الكاميرا تتدلى من نافذة عليا وهي ترقب التقدم البطيء لحملة النعش. حركتها وزاويتها وتوقيت المشهد من بين تلك المشاهد المنفذة بدراية. لكن هذا هو حال الفيلم بأسره أيضاً. تلك المشاهد الطويلة لرحلة هاتر إلى القصر. فصل المشاهد الذي يخرج فيها نوسفيراتو من قبره منقضاً على طاقم السفينة ناشراً الخوف والجنون مدهم وخطير. والأهم أن الفيلم نُـفذ بتلك الدراية المبكرة لتأثير السينما، صامتة وغير ملوّنة، الانطباعي والوجداني على المشاهد، وبالتالي كيفية استخدام الكاميرا لمنحها الفن الذي تنتمي إليه.

####

المشهد

صورة مخادعة

> الفيلم الذي ينال جائزة أولى من مهرجان برلين أو كان أو فينيسيا يحظى باهتمام الجمهور الكبير، وقد يمضي في طريقه صعوداً إلى أن يقطف جوائز أخرى عالمية.

> وسواء نال الفيلم أو لم ينل الجائزة الأولى في أي من هذه المهرجانات، فإن حقيقة دخوله مسابقة المهرجان أو حتى عرضه خارج المسابقة هو احتفاء به وبصانعيه. احتفاء يحظى باهتمام ألوف الإعلاميين العالميين. أولئك الذين يكتبون لمطبوعات مثل «دير شبيغل» و«نيويورك تايمز» و«لوموند» وسواها من أعرق الجرائد والصحف، أو يمثلون محطات تلفزيونية شهيرة من حول العالم.

> لا أعني أن المهرجانات الأخرى من سان سابستيان إلى روتردام ومن سانتا باربرا إلى ريو دجينرو أو لندن لا تجد ما تعرضه أو لا أهمية لما تجمعه وتطرحه في برامجها الحافلة. هي مهرجانات مهمّـة تقف في الصف الثاني مباشرة وهو صف غير متأخر، بل مساند أساسي في عملية رواج هذه الصناعة التي لا تزال ضخمة ومثرية وذات أهمية بالغة.

> لماذا، والحال على ما سبق ذكره، سيهتم المخرج أو المنتج أو من له الكلمة العليا في أي فيلم جيد التوجه إلى مهرجانات أخرى؟ لماذا سيترك ما تم ذكره من مهرجانات أولى، وفوقها تورونتو، وصندانس، وسان فرانسيسكو، ومونتريال، وموسكو، وبوسان، وسيدني، وطوكيو وغيرها، ويؤم مهرجاناً عربياً؟

> سيفعل ذلك إذا كانت إدارته منظمة وتاريخه عريق والمدينة التي يُقام فيها المهرجان لها جاذبية خاصة. أو أن فيلمه يناسب جداً المهرجان المنتخب. أهم من ذلك أن تعني الجائزة الأولى (أو سواها) قيمة تمتد لما بعدها.

> المشكلة أن هذه المسائل المطروحة هنا معروفة وموافق عليها. رغم ذلك تجد بعض مسؤولي المهرجانات الجديدة في عالمنا العربي يتصرّف كما لو أنه يدير مهرجان «كان» نفسه. هذا في الوقت ذاته الذي تأتيك فيه أخبار الرعب التي تصاحب عادة كل مهرجاناتنا.

> لا أمل في أن يعترف أي شخص بالواقع ولا بالأخطاء؛ لذا تستمر الأحوال على ما هي عليه حتى إشعار قد لا يقع.

م. ر

الشرق الأوسط في

07.09.2018

 
 

نجم هوليوود جيف غولدبلوم يفاجئ ركاب محطة قطار بعزف على البيانو

لندن – رويترز:

واجه نجم هوليوود جيف غولدبلوم ديناصورات وكائنات غريبة في أفلامه، لكنه أظهر مهارة مختلفة تماما.. العزف على البيانو.

فقد فاجأ بطل فليم «حديقة الديناصورات» (جوراسيك بارك) وفيلم «عيد الاستقلال» (إندبندنت داي) ركاب محطة قطارات «سانت بانكراس» الدولية في لندن بعزف مقطوعة موسيقية من ألبومه المقبل على بيانو عام.

وتجمع حشد حول غولدبلوم، 65 عاما، الذي سجل ألبومه ( كابيتول ستوديوز سيشنز) مع فرقته أوركسترا ميلدريد سنيتزر، وصفق الحاضرون.

ومن المقرر أن يصدر الألبوم في نوفمبر/ تشرين الثاني.

القدس العربي اللندنية في

07.09.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)