كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

حكايات فينيسيا:

سينما المدينة التاريخية

محمد هاشم عبد السلام

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الخامس والسبعون

   
 
 
 
 

عرّفها الشاعر البريطاني اللورد بايرون (1788 ـ 1824) بـ "المدينة الخرافية"، واصفًا إياها بكونها "أحد أكثر الأماكن سحرًا وتأثيرًا في القلوب". صاحبة حضارة عريقة تمتدّ في مجالات مختلفة. قدّمت للعالم أبرز الأسماء وألمعها في ميادين عديدة، لا تزال تتردّد لغاية اليوم. في الموسيقى، هناك غويسيبي تارتيني (1692 ـ 1770) وأنطونيو فيفالدي (1678 ـ 1741). تشكيليًا، هناك "مدرسة فينيسيا" العريقة، وجاكوبو روبوستي المعروف أيضًا بجاكوبو تينتوريتّو (1518 ـ 1594) وباولو كالياري المعروف بباولو فيرونازي (1528 ـ 1588) وتيزيانو فيتشيليو الملقّب بتيتيان (1488 ـ 1576). 

إنها المدينة الإيطالية فينيسيا، أو البندقية. نظرًا إلى جغرافيتها وتكوينها الفريد وعمارتها المُتميزة، كانت ولا تزال مُلهمة أدباء كثيرين، تناولوها كخلفية لأعمالهم، أو حيّزًا مكانيًا تدور فيه الأحداث برمّتها. 

ينطبق الأمر على السينما، وإن بدرجة أقلّ. ربما يُعزى هذا إلى التاريخ القصير نسبيًا للسينما، مُقارنة بتاريخ الأدب والموسيقى وفنون أخرى. مع ذلك، يمكن القول إن غالبية الأنواع السينمائية اتّخذت من المدينة خلفية لها، أو كانت المدينة نفسها "مكانًا" تجري فيه بعض الأحداث، أو معظمها، إنْ تكن الأفلام رومانسية، أو أفلام رسوم متحركة (أفلام تحريك). لكن هذا التناول لم يكن عميقًا ومُكثفًا، بل سياحيًا واستعراضًا للجمال المشهدي للمدينة القديمة، أكثر من أي شيء آخر. 

برزت المدينة في أعمال فنية رصينة لكبار الأدباء، منذ الإنكليزي ويليام شكسبير (1564 ـ 1616) إلى مواطنه إيان ماك إيوان (1948)؛ كما ظهرت في أفلام مُخرجين مهمّين، كالأميركي أورسون ويلز (1915 ـ 1985) والإيطاليين لوتشينو فيسكونتي (1906 ـ 1976) وفيديريكو فيلّيني (1920 ـ 1993) وغيرهم. أفلام جاسوسية وإثارة وتشويق ومغامرة، كما في سلسلة جيمس بوند مثلاً. وهي ظهرت في أفلام حبّ ورومانسية وكوميديا، لمخرجين غربيّين عديدين، كستيفن سبيلبيرغ (1946) وأنتوني مانغيلا (1954 ـ 2008) وستيفن سودربيرغ (1963) وبول شرايدر (1946) ووودي آلن (1935) ولوك بوسّون (1959) وغيرهم. 

لكن، في مقابل الاهتمام الغربيّ بها، لم يكترث الإيطاليون بها كثيرًا. هذا كحال الأدب، إذْ لم يشتغل أدباء إيطاليون كثيرون عليها في نصوصهم وأعمالهم، باستثناء كارلو غولدوني (1707 ـ 1793) وإيتالو كالفينو (1923 ـ 1985)، على نقيض الغربيين، إذْ "خلّدها" شكسبير في مسرحيتي "عطيل، أو مستنقع فينيسيا" (1604)، و"تاجر البندقية" (1605). للعملين سحرهما من دون شك، فالأول (جزءٌ من الأحداث يدور فيها) يُبيّن إلى أي مدى كانت المدينة مُنفتحة على الأعراق والأجناس كلّها، كمدينة أو دوقية أو جمهورية، من الصين إلى أميركا اللاتينية. "عطيل" أفريقي أسمر البشرة، جاءها كمُرتزق يحارب بأجرٍ، وصار لاحقًا قائدًا لأسطولها. المُشكلة أن الأمور تتعقّد عندما يُقرّر عطيل اختطاف دزدمونة، ابنة أحد أعضاء مجلس الشيوخ، ويفرّ معها ويتزوّجها، من دون تناسي مجريات الأحداث اللاحقة بالفرار أو المرتبطة به. 

العمل المُلهِم هذا مثيرٌ لحماسة كثيرين، اقتبسوه سينمائيًا مرات عديدة. أبرزهم أورسون ويلز والإيطالي فرانكو زيفريلّي (1923)، الذي صنع نسخة أوبرالية منها عام 1986. اقتباس ويلز (1951) فاز بالجائزة الكبرى في الدورة الـ50 (23 إبريل/ نيسان ـ 10 مايو/ أيار 1952) لمهرجان "كانّ" السينمائي، مُناصفة مع الفيلم الإيطالي Due Soldi Di Speranza لريناتو كاستيلاّني (1913 ـ 1985). اقتباس استغرق تصويره 3 أعوام، وصدرت منه مُؤخرًا نسختان مُرمّمتان: واحدة صوَّرَها ويلز، وأخرى تدخّلت فيها الشركة المنتجة "ميركوري ـ سكاليرا فيلم"، فعدَّلتها أو نقَّحتها، أو بالأحرى "شوَّهَتها". 

المُثير للانتباه أن ويلز صَوَّر مشاهد قليلة جدًا في مدينة فينيسيا، إذْ إنه اختار مدنا مغربية لتصوير المشاهد، بالإضافة إلى بعض المدن الإيطالية الأخرى، مُوحيًا ـ بفضل ديكورات ألكسندر تراونر ـ أنها البندقية الأصلية. 

رغم أنها منتمية إلى نوع "الدراما الهزلية"، إلا أن موضوع "تاجر البندقية" (دارت احداثها كلّها في المدينة نفسها) شديد العمق والطرافة. مع هذا، فهي لم تُقتَبس كثيرًا للسينما، مُقارنة بـ"عطيل". المسرحية معروفة حبكتها. الجديد أن مؤرّخين أثبتوا أن شكسبير لم يكن صاحب فكرة اقتطاع جزء من لحم بشري مقابل دَين، إذْ سبقته أدبيات أخرى إلى هذا الموضوع. وهذا أيضًا مُنسحبٌ على فكرة جَعْل المُغامِر يستدين المال للقيام برحلة بهدف غزو قلب المرأة الثرية. ذلك أنّ شكسبير دمج القصتين إحداهما بالأخرى، وصاغ "الحبكة" بأسلوبه، مُضفيًا بعدًا عميقًا وتأمّلاً في طبيعة النفس البشرية. ورغم اقتباس "تاجر البندقية" سينمائيًا منذ عشرينيات القرن الـ20، إلا أنّ النسخة الأكثر نجاحًا هي تلك التي أخرجها البريطاني مايكل رادفورد (1946) عام 2004 بالعنوان نفسه، علمًا أن لآل باتشينو (1940) أداءً رائعًا في تقديم شخصية شايلوك، المُرابي اليهودي. 

أورسون ويلز نفسه اقتبس المسرحية، وأنجز تصوير نصف فيلمٍ تقريبًا فالتعثر المالي حال دون اكتمال المشروع. لاحقًا، سيزعم ويلز سرقة "نيغاتيف" المُصوَّر، لكن ما تبقى لن يتعدّى 36 دقيقة، سيجري ترميمها وعرضها في الدورة الـ72 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2015) لمهرجان فينيسيا، بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لولادة المخرج. 

"عبر النهر وباتجاه الأشجار" (1950) ليست من أبرز روائع الأميركي إرنست هيمنغواي (1899 ـ 1961)، لكن أحداثًا كثيرة فيها تدور في فينيسيا ومُحيطها. هيمنغواي عاشقٌ لفينيسيا، أقام فيها فترات طويلة، وكتب عنها بناءً على تجربة شخصية بحتة، كما يفعل دائمًا في غالبية أعماله. فهو هائمٌ بالكونتيسة الشابّة أدريانا إيفانسيتش (18 عامًا)، ابنة فينيسيا، حين كان هو على مشارف الخمسينيات من عمره. كان الأمر كارثيًا في المدينة، لذا حاول تعطيل طباعة الترجمة الإيطالية للرواية. مع ذلك، صدرت في النهاية، لكنها لم تُؤفلم إلى أن اقتبسها مارتن كامبل (نيوزيلندا، 1943) مؤخّرًا، والمشروع لا يزال لغاية الآن في مرحلة ما بعد الإنتاج، ولم يُعرف موعد عرضه في المهرجانات أو في الصالات السينمائية. 

رغم هذا كلّه، فإنّ أشهر لقاء بين الأدب والسينما المعنيَّين بفينيسيا، وأندر لقاءاتهما الناجحة لغاية الآن، يتمثّل برائعة الألمانيّ توماس مان (1875 ـ 1955) "موت في فينيسيا" (1912)، التي اقتبسها فيسكونتي عام 1971، صانعًا في الاقتباس السينمائي تعديلات طفيفة على الرواية. في النهاية، فإن مُعالجته السينمائية لم تُجافِ الأصل. أما أبرز التعديلات، فمتمثّلة بتحويل بطلها الكاتب آشنباخ (الرواية) إلى مؤلّف موسيقي (الفيلم). طبعًا، فإنّ أحداث الرواية والفيلم معروفان. لكن اللافت للانتباه بخصوص هذين العملين أنه يندر أن تدور أحداث رواية في فينيسيا وتبتعد عن القلب التاريخي والسياحي للمدينة. كما لم يحدث أن صُوِّرَت أعمال سينمائية في "الليدو" أو في غيرها من جُزر فينيسيا. 

في فندق "غران دي بان" في "الليدو"، حيث كان آشنباخ يقضي عطلته في هدوء متأمّلاً الحياة والفن وحياته بشكل عام، صَوَّر فيسكونتي فيلمه هذا. لم يتخيّل أحدٌ ما سيكون عليه مصير الفندق العريق، الذي استضاف نجومًا كثيرين كانوا ضيوف مهرجان فينيسيا، فهو مُغلق منذ أعوام عديدة بسبب ترميمه، وكان يُفترض بافتتاحه أن يحصل قبل 3 أعوام، بعد تحويله إلى مبنى يضمّ شققًا فندقية فاخرة. لكن، لغاية الآن، لا تزال الأقمشة تكسوه، حاجبةّ واجهته وما في داخله عن عيون المارّة. يُذكر أن الفندق، وهو أحد المعالم التاريخية للجزيرة، استُخدِمَ في تصوير مشاهد عديدة في "المريض الإنكليزي" (1996) للبريطاني أنتوني مانغيلا ـ المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكندي مايكل أونداتجي (1943) صادرة عام 1992 ـ باعتباره "فندق شيبرد" في القاهرة، الذي احترق في يناير/ كانون الثاني 1952، أثناء ما يُعرف بـ"حريق القاهرة". 

فعليًا، يصعب حصر الأعمال الفنية كلّها التي تناولت مدينة فينيسيا، أو اتّخذت منها مسرحًا لأحداثها. لكن اللافت للانتباه أن شخصية تاريخية عظيمة كالرحّالة والمُستكشف ماركو بولو (1254 ـ 1324)، المولود والمتوفّى في فينيسيا، لم تجذب كبار الأدباء، باستثناء الإيطالي إيتالو كالفينو في "مدن لا مرئية" (1972)، أو المخرجين، لتناولها وقراءة حياتها. بدرجة أقل، ينطبق الأمر على جياكومو كازانوفا (1725 ـ 1798)، الذي لم يُصنع عنه الكثير، بل تمّ تناول الجانب الفضائحي في حياته، واختُزل شخصه في علاقاته النسائية، رغم المعالجة الفريدة التي اعتمدها فيدريكو فيلّيني في تناوله تلك الشخصية الدرامية الثرية والمُثقّفة والفريدة من نوعها، والتي تتحدّث لغات عديدة، والتي مارست أعمالاً كثيرة، وعاشت في بلدان مختلفة، وماتت غريبة عن وطنها. هذه شخصية مولودة في "جمهورية فينيسيا"، لكنها لم تأخذ حقّها بعد. 

بعد الاطّلاع على سيرته، يتبيّن أن كثيرين تغاضوا أو تغافلوا عن تناول قصّة هروبه من زنزانته، بحفره إياها بإزميل وملعقة. الملابسات الطريفة التي صاحبت هروبه كفيلة بصنع فيلم أو كتابة عمل أدبي يمتلكان تشويقًا وإثارة كبيرين.

العربي الجديد اللندنية في

31.08.2018

 
 

البندقية ٧٥ – "روما":

ألفونسو كوارون يعود إلى الحضن الدافئ

البندقية - هوفيك حبشيان

أحد التحديات التي يواجهها المخرج المكسيكي غييرمو دل تورو، رئيس لجنة تحكيم الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان البندقية (٢٩ آب - ٨ أيلول)، هو ان ينصف فيلم "روما" لمواطنه وصديقه ألفونسو كوارون الذي عُرض أول من أمس في المسابقة الرسمية، من دون ان يكون منحازاً له بحكم الصداقة التي تجمعهما.  

كثرٌ يدركون صعوبة المهمة، وكان هذا محلّ سؤال خلال المؤتمر الصحافي من أحد الصحافيين الحاضرين في الموسترا. مهما كان خيار صاحب "شكل المياه"، فلن ترحمه سهام النقد. فاذا أسند جائزة إلى صديقه، فسيُقال انها مسايرة و"طبطبة" على الظهر، وفي حال امتناعع عن ذلك، سيُقال ان كوارون كان ضحية هذه الصداقة. العلاقة بين الرجلين متينة: في تشرين الأول الماضي، كان كوارون برفقة دل تورو في مهرجان لوميير (ليون)، وشاهدناه يراشقه بالصور خلال لقائه المعجبين.

نستعجل ذكر مسألة الجوائز ونحن فقط في اليوم الثالث لعروض المسابقة التي تتضمن ٢١ فيلماً، والسبب اننا خرجنا من "روما" مع هذا الاحساس العميق بأن من الصعب الاّ نسمع أحد أعضاء لجنة التحكيم ينادي كوارون إلى المسرح ليلة الختام، السبت ٨ أيلول. فـ"روما" واحد من أجمل ما حققه منذ بدئه صناعة الأفلام في العام ١٩٩١. "روما" فيلم منمنمات. تفاصيل. اجتهاد لقراءة سياسية واجتماعية من منظور ذاتي بحت. كوارون أدرك جيداً ان الحقيقة في تلك الأماكن الصغيرة. نصّه ينزلق ببطء شديد، ولكن أكيد، إلى هدفه. أشياء كثيرة تجتمع في "روما" لتجعل منه عملاً يستحق المشاهدة. انه بورتريه لعائلة، لبلد، جردة حساب حياة، حصيلة فهم آخر للسينما يفضّل المناكفة على الصدام.  

بعد 17 عاماً من انطلاقته في فينيسيا مع "وأمّك أيضاً"، وبعد خمسة أعوام من افتتاحه الموسترا بـ"غرافيتي" (فاز عنه بـ"أوسكار" أفضل مخرج)، يعود كوارون إلى المهرجان الذي كانت له مساهمة كبيرة في تكريسه وتكريس جيل من السينمائيين المكسيكيين، وإعادة الاعتبار إلى السينما المكسيكية عبر فتح نافذة على صنّاعها (دل تورو، ريغاداس، اسكالانته، إينياريتو). هذه العودة هي كذلك عودة إلى الينبوع، أي إلى المسكيك، التي هاجرها كوارون سينمائياً منذ ٢٠٠١، تاريخ خروج "وأمك أيضاً"، ليصوّر أفلامه بعيداً منها، وها ان مدينة مكسيكو الباهرة المعششة بالحكايات وعتق الزمن الذي نكاد نشتمّ رائحته، تحتضنه مجدداً، ويا له من حضن! أما زمناً، فهي عودة إلى السبعينات، وهذا يعني ان الحقبة مرتبطة بشكل مباشر بطفولة المخرج المولود في ١٩٦١ وبصباه، وكذلك بالذكريات التي عاشها في مسقطه.

ليس ما هو أجمل من النحو الذي يصوّر فيه كوارون مكسيكو القديمة، مع عظمتها وانحطاطها، ماسكاً بهذه التحديقة التي فيها شيء من التعلّق بالماضي الذي لا يتحوّل إلى حنين مريض. العالم الذي يرسمه كوارون هو عالم نساء. نساء يُدرن شؤون منزل بورجوازي كبير وأموره، من تربية الأولاد والاهتمام بهم إلى تدبير أشياء الحياة اليومية ومستلزماتها. هناك الأب والأم وأولادهما الأربعة، وهناك الجدّة والخادمة كليو، معشوقة الأولاد، التي هي عرضة للتلميحات التي تشير إلى اصولها (من السكّان الأصليين)، لكنها مع ذلك معتبرة وتجد عند مشغّليها الاحترام الذي تستحقه. كوارون استوحى من شخصية البايبي سيتر التي كانت تهتم به عندما كان طفلاً ليضع شخصية كليو

يتسلل الفيلم إلى حميمية كلّ واحدة منهن على حدة؛ الأم البورجوازية (مارينا دو تافيرا) حتى النخاع، ثم الخادمة كليو (ياليتسا أباريسيو) التي يكاد الفيلم ان يكون فيلمها. فقصّتها هي الأقوى وحضورها الأشد تعبيراً والأكثر قدرة على ان تكون الشاهدة. كليو تجد نفسها حاملاً بعد أن يتخلى عنها حبيبها. والفيلم يوثّق اليوميات برقّة لامتناهية، محاولاً فهم ظروف كلّ شخص واستيعابه، ويصوّر كذلك كيفية عبور سيدتين تتحدران من بيئتين اجتماعيتين مختلفتين، التحديات كافة. بتفانٍ ينتمي إلى زمن آخر، تعبر السيدتان الأزمات برأس مرفوع وكرامة لا تشوبها شائبة. في هذا المعنى، الفيلم دراسة لهذه الشخصيات العزيزة على قلب المخرج، في مدينة شهدت قمعاً للطلاب المتظاهرين في العام ١٩٧١ على يد الجيش المكسيكي، فتم قتل نحو من ١٢٠ منهم في مجزرة عُرفت بمجزرة "كوربوس كريستي" ("جسد المسيح")، ولا تزال ذكراها ماثلة عند كثيرين من أبناء جيل كوارون الذي كان في العاشرة عندما وقعت. هذا الحدث ليس سوى خلفية للحكايات الفردية المتداخلة. وهنا يكمن جمال النصّ الذي يجيد كيف ينتقل بين العام والخاص، بين المشهدية العريضة والصورة الكبيرة، بين التفصيل السطحي ولحظة تاريخية تلازم الذاكرة الجمعية، مع ذلك الاحساس الذي يلح بأن شيئاً ما يتأكل تحت الجلد.

ما علاقة روما بالموضوع؟ هي ببساطة اسم الحيّ الذي شبّ فيه كوارون وأمضى جزءاً من حياته بين أزقّتها. في حين ان الكادرات والزوايا تذكّرنا ببعض من أفضل أفلام المعلّم المكسيكي أرتورو ريبستاين. فخيار الأسود والأبيض (٦٥ مم) من شأنه ان يحيلنا على "الواقعية الإيطالية الجديدة"، وهذه ليست الغمزات السينيفيلية الوحيدة في فيلم يمكن القول عنه انه شخصي جداً. شغل كوارون المناصب الحيوية كافةً، من الإخراج إلى السيناريو فالتصوير والمونتاج. في البندقية، تحدث كوارون عن التقاط الحياة (صوَّر بالتسلسل الزمني الفعلي لمجرى الأحداث)، وهذا ما يفعله بروعة وبصيرة وبلاغة وطرافة قد تجعل الكثير من السينمائيين يحمرّون خجلاً ويشعرون بالحسد.

النهار اللبنانية في

31.08.2018

 
 

نجوم هوليوود يفتتحون الدورة 75 لـ«فينيسيا»

كتب: ريهام جودة

افتتح الفيلم الأمريكى «الرجل الأول» First Man للمخرج دميان تشيزيل فعاليات الدورة 75 لمهرجان فينيسيا السينمائى الدولى أمس الأول، بحضور بطله «رايان جوزلينج»، الذى يجسد خلاله شخصية رائد الفضاء نيل أرمسترونج، ويشاركه بطولته «كلير فوى»، وأثار عرض الفيلم ردود أفعال جيدة لدى النقاد الذين وصفوه بـ«دراما مذهلة ومثيرة للإعجاب»، بينما تلقى مخرجه «دميان تشيزيل» ترحيبا حارا من قبل مسؤولى المهرجان الذين رددوا «أهلا بعودتك»، وذلك بعد عامين من مشاركة «تشيزيل» بفليمه السابق «لالا لاند» الذى حاز جوائز عالمية عديدة.

وشارك فى حضور حفل الافتتاح عدد من مشاهير هوليوود منهم الممثلة الأسترالية ناوومى واتس، عضو لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، والأمريكية إيما ستون، وعارضة الأزياء جورجينا رودريجيز، صديقة اللاعب كريستيانو رونالدو، وعارضة الأزياء لوتى موس، بينما أكد المخرج المكسيكى جوليرمو ديل تورو، رئيس لجنة التحكيم، أن الدورة 75 للمهرجان تعرض أفلاما قوية ومؤثرة لكل عشاق السينما فى العالم.

المصري اليوم في

31.08.2018

 
 

الحظر المرحب به في فينيسيا.. و"الرجل الأول"

أمل الجمل

كان الوقت مبكرًا جدًا لكن القاعة - التي تضم ١٤٠٩ مقاعد - كانت ممتلئة عن آخرها ويكاد الجميع يحبس الأنفاس طوال عرض الفيلم - حتى وإن خرج في النصف الثاني منه عدد قليل جدًا من الصحفيين والنقاد لا يكاد يتجاوز العشرة. فالأحداث كانت مليئة بالتوتر الذي غرسه مخرج العمل بذكاء وإحساس عال على فترات متباينة من شريطه السينمائي الجديد، وكأنه بفريق عمله بأكمله يعزف مقطوعة موسيقية يعرف أثناءها تحقيق التوازن بين مساحات للقلق والتشويق والإثارة وبين أخرى للتأمل وتنفس الصعداء، مخرج يعرف متى يجعل آلاته الموسيقية تعزف همساً، ومتى تصدح عالياً بقوة ترفع من ضربات القلب.

بذلك الإيقاع افتتحت الدورة الخامسة والسبعون من المهرجان الفينيسي العريق أول عروضها للصحفيين في الثامنة والنصف من صباح ٢٩ أغسطس - وللنجوم وصناع السينما وضيوف المهرجان في السابعة مساء ذات اليوم - بفيلم "الرجل الأول" للمخرج داميان تشازيل والذي سبق له قبل عامين أن افتتح المهرجان نفسه بفيلمه الموسيقي الجميل "لا لا لاند" والذي حصد ست جوائز أوسكار من إجمالي ١٢ ترشيحا من بينها جائزة أفضل مخرج وكان عمره ٣١ عاماً فقط.

الموت المحتمل

هذه المرة أيضاً يقوم بالبطولة ريان جوسلينج - بطل "لا لا لاند" - والذي قدم شخصية بعيدة عن دوره مع فيلم تشازل السابق. هنا، الشخصية لرجل الفضاء الشهير نيل أرمسترونج الذي كان أول من سار على سطح القمر عام ١٩٦٩، وليس أول من صعد للقمر فقد سبقه الروس إلي ذلك. قدم جوسلينج أداءً متقناً ومختلفاً، لكنه في حالات قليلة نادرة، ربما مرتين أو ثلاثة، كان "الراكور" الخاص بالانفعال المرسوم على الوجه يبدو مختلفاً بين حالته في المركبة أثناء حركة عنيفة أو قلق أو بذل جهد وبين لقطة أخرى تالية في نفس الموقف والوجه يبدو في حالة استرخاء أو لا يتناسب مع اللقطة والحالة السابقة.

رغم الطابع العلمي والجاد للشخصية لكن السيناريو - الذي كتبه جوش سينجر والمقتبس عن كتاب "الرجل الأول؛ حياة نيل أرمسترونج" للمؤلف جيمس هانزن - حاول الجمع والمزج بين الحياة الشخصية والحياة العملية العلمية بكثير من مخاطرها وتفاصيلها المرعبة، ما منحه طابعاً إنسانياً وقدرة على التعاطف معه، وأضفي عليه تقديراً لمدى فداحة الخسارة التي واجهتها أُسر رجال الفضاء الذين راحوا ضحايا تلك المحاولات منذ العام ١٩٦١، حيث فقد العديد من الأبناء والزوجات عوائلهم، كانت الخسارة ليست فقط مادية ولكنها أيضاً نفسية إذ كانوا يعيشون وهم يشعرون بأنهم عرضة للموت المفاجئ في أي لحظة. صحيح هناك متعة الاكتشاف المبهرة المتوهجة في بعض اللحظات في حياة هؤلاء الرواد الفضائيين، لكنهم كانوا يذهبون وكأنهم راحلون إلى الموت المحتمل، من دون أن يغفل السيناريو المعارضة المجتمعية لمثل تلك المحاولات والرحلات الفضائية المكلفة فتطرق للهجوم الشديد عليها من قِبل دافعي الضرائب، والأثرياء نظرا لتكلفتها الباهظة.

الجانب الإنساني

ولتدعيم هذا الجانب الإنساني نرى مشاهد عديدة للبطل مع عائلته، كأنه يحتمي بدفئهم من مخاطر الفضاء، وهو في ذات الوقت عاشق لمهنته، مخلص لها، لكن الأثر النفسي القوي الذي لن يمحوه شيء يظهر مع مرض ابنته ثم وفاتها، هل كان لذلك أثر على إرادة أرمسترونج؟ خصوصاً عندما نلمح نظرته في عزاء زميله الذي فُقد في إحدى تلك الحوادث، نرى تأمله للطفلة ابنة الرجل الراحل ويشرد، وبعدها لا يقدر على المكوث بالمكان، كذلك بعد خبر وفاة ثلاثة آخرين من أصدقائه وزملائه في حادث احتراق مركبة الفضاء قبل إقلاعها في ثوان معدودة من دون أي قدرة على إنقاذ أرواح هؤلاء العلماء.

لا يغفل السيناريو التوتر - حتى وإن بشكل مباشر – الذي منعه من التحدث مع أطفاله قبيل الرحلة الأشهر، ومحاولة إخفاء هذا القلق المشوب الخوف في إعداد حقيبة السفر، ثم ملاحقة زوجته له وهى أيضاً مشحونة بالتوتر، فتهاجمه وتصر على أن يبلغ أطفاله بنفسه عن احتمال عدم عودته من مهمته هذه. ثم أخيرا إلقاء تلك "الإسورة" التي تخص طفلته المتوفاة على سطح القمر عقب خطواته الأولى التي يومها سيُعلن للعالم أنها "قد تكون خطوة بسيطة لإنسان، لكنها قفزة هائلة للبشرية."

بالطبع استعان المخرج بمشاهد وثائقية، لكنه مزجها بإحساس وانسيابية مع تلك المشاهد الروائية حتى لا نشعر بالتنافر، أو الخروج عن الأجواء والحالة النفسية. كما أن المخرج قدم لقطات خاطفة لتحقيق القفزات الزمنية إذ تدور الأحداث بين عامي ١٩٦١ و١٩٦٩، وهو أثناء ذلك يستخدم الحمل الجديد للتعبير عن مرور الزمن، أو الانتقال لسكن جديد يتبعه حديث بين الزوجة والجارة، أو ظهور الرضيع وقد أصبح طفلا في السادسة.

حظر توافقي

اللافت أن الصحفيين والنقاد لم يتذمر الكثير منهم بخصوص قرار إدارة المهرجان بحظر التعليقات أو عمل مراجعات على جميع الأفلام التي سيتم تقديمها، وإرجاؤها حتى موعد العرض العام، بل على العكس رحب بعضهم، وعبروا عن تفهمهم لقرار الحظر الذي فرضته إدارة مهرجان فينيسيا عليهم، فقد وجدوا ذلك حلاً مثاليا في التعامل مع تلك الأزمة من دون اعتراضات تكاد تُذكر، وسوف تثبت الأيام القادمة إذا ما كان بعض الصحفيين سيغامر باختراق الحظر، ويعرض الصحفيين جميعاً للحرمان من العروض الصحفية التي تقام عادة في الثامنة والنصف صباحاً؟ أم أنه سيكون هناك نوع من العقاب الفردي؟ أو أن الجميع سيلتزم خصوصا بعد سابقة مهرجان كان السينمائي الماضي بإلغاء كافة العروض الصحفية قبل العرض العام الجماهيري، وإن أرجع المهرجان الكاني الأمر حينذاك إلي أنهم يصححون مفهوم ”العرض الأول“ الذي يقام للجماهير مساء في حضور صناع العمل ونجومه خصوصا بعد الأزمة التي تسبب فيها فيلم ”الأم“ بطولة جنيفر لورانس وخافير بارديم العام الماضي ما جعل مخرجه دارين أرونوفكسي يبدو هجومياً في المؤتمر الصحفي الذي أعقب الفيلم.

قوة وخطورة النقد

يبدو جليا أمرين؛ الأول التأثير القوي - غير الهين - للكتابات النقدية والصحفية عقب العروض الصباحية ويبدو بوضوح أنها تُؤثر علي نسبة حضور الأفلام من الجمهور العام، والأمر الثاني هو تلك الضغوط الممارسة من قبل جهات الإنتاج. والأمر الثاني مرتبط بالأول أشد الارتباط وإلا لماذا مارست الاستوديوهات والنجوم والموزعين ضغطوا علي إدارات المهرجانات لتغيير سياسة عروض الأفلام خصوصا للصحفيين في وقت مبكر؟ بالطبع واضح أنهم يفعلون ذلك لأجل حماية الأفلام من المقالات النقدية المبكرة التي يمكن أن تسبب ضررًا كبيرًا للأفلام.

####

بالصور.. نيللي كريم تصل فينيسيا وسط الأمطار

كتب – بهاء حجازي:

نشرت الفنانة نيللي كريم عبر حسابها الشخصي بموقع إنستجرام صور لها بعد وصولها مدينة فينيسيا الإيطالية لحضور فعاليات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي.

وظهرت نيللي كريم في الصورة بشمسية، و بإطلالات جذابة بألوان زاهية، وفستان أحمر طويل، وعلقت نيللي على الصور" أنها تمطر في فينيسيا".

وكانت الفنانة نيللي كريم شاركت في الدورة الثالثة والسبعين في لجنة تحكيم "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، في مسابقة "آفاق"، التي ترأسها المخرج الفرنسى روبيرت جيان، وضمت في عضويتها الممثلة الإيطالية فالنتينا لودفيني والناقد الأمريكي جيم هوبر مانو والمخرجة الكورية موون سوري والمخرج الهندي شايتانيا تماهاني والناقد الإسباني جوزي ماريا.

####

سوء الأحوال الجوية يوقف عرض "A Star is Born"

بمهرجان فينيسيا

كتب- مروان الطيب:

يوم عاصف بفعاليات اليوم الثالث لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في دورته الـ75 لهذا العام، حيث تسبب سوء الأحوال الجوية في مشاكل تقنية خلال العرض العالمي الأول لفيلم الموسيقي والرومانسية "A Star is Born" والذي يعرض خارج المسابقة الرسمية للمهرجان.

ووفقاً لموقع "Deadline" تعرضت الصالة الخاصة بعرض الفيلم إلى عدد من صعقات البرق ، والتي تسببت في العديد من المشاكل الخاصة بجهاز عرض الفيلم، وقد بدأت اللحظات الأولي للفيلم وسط حماس الحضور، إلى جانب نجم ومخرج الفيلم برادلي كوبر الذي قام بتحية الجمهور وشكرهم على تواجدهم بالعرض العالمي لفيلمه.

الفيلم تدور أحداثه حول ممثلة مغمورة تقع في غرام موسيقي محترف يقوم بمساعدتها للوصول إلى الشهرة والمجد، والفيلم من المقرر عرضه تجارياً مطلع شهر أكتوبر المقبل.

ويذكر أن ، فيلم "A Star is Born" يمثل التعاون الأول بين النجمة العالمية ليدي جاجا والنجم العالمي برادلي كوبر، والذي يمثل الفيلم أيضاً تجربته الإخراجية الأولي.

موقع "مصراوي" في

31.08.2018

 
 

جبروت المرأة يجتاح مهرجان فينيسيا

أمير العمري

فيلم "المفضلة" يسعى إلى الكشف عن دناءة السلطة، وتدني من يديرون الأمور من وراء الستار، وتفاهة الاستبداد أيضا.

فيلمان كبيران من أفلام المسابقة الرسمية في الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا جذبا الأنظار بقوة ودفعا بالحرارة والحيوية مع بداية عروض المسابقة التي انطلقت الخميس في تنافس لم يشهده المهرجان العريق منذ سنوات، مع وجود عدد كبير من الأسماء المرموقة في عالم الإخراج وأساسا من عالم “سينما المؤلف” أي المخرج صاحب الرؤية السينمائية الخاصة.

فينيسيا (إيطاليا) – قدّم مهرجان فينيسيا السينمائي الجمعة فيلمين أنتجا قبل حملة “أنا أيضا” التي ظهرت بعد الكشف عن أعمال التحرش الجنسي في هوليوود، ولكنهما في الوقت نفسه يمكن اعتبارهما مثالين على ذلك الاهتمام الكبير الذي أصبح السينمائيون يولونه لإبراز دور المرأة في السينما بعيدا عن صورتها التقليدية كزوجة أو عشيقة أو صديقة، أو كسلعة تكميلية.

يأتي إلى المسابقة متمردا على مهرجان كان الذي دأب على المشاركة فيه المخرج اليوناني المرموق يورغوس لانتيموس (45 سنة) الذي فتح أمامه فيلم “ناب الكلب” (2009) ومن بعده “الألب” (2011) الباب للخروج من عالمه المشغول بعبثية الواقع اليوناني المعاصر، لكي يخرج أفلاما أخرى ناطقة باللغة الإنكليزية تكون أكثر قبولا لدى الجمهور الغربي. وبعد “سرطان البحر” (2015)، ثم “مقتل غزال مقدس” (2017)، ها هو يعود اليوم بفيلم شديد الاختلاف عن كل أفلامه السابقة، وهو فيلم “المفضلة” The Favourite.

والفيلم الجديد لا شك أنه يعتبر من أكثر أفلام لانتيموس قربا إلى الجمهور العريض، وقد قوبل بحماس كبير في عرضه الصحافي ثم بعد العرض العام بالمهرجان، وفيه يعود لانتيموس إلى بريطانيا القرن الثامن عشر، إلى عهد الملكة آن من خلال كوميديا تدور داخل أروقة البلاط الملكي، تشيع فيها المؤامرات والدسائس، وتدور حول شهوة السلطة والرغبة في السيطرة والتنافس الشرس بين امرأتين، تتطلع كل منهما إلى أن تحظى بمكانة الوصيفة المفضلة لدى الملكة آن التي كانت تعاني منذ وقت مبكر من اعتلال صحتها. وينتقل الفيلم من الرغبة في الاستحواذ على رضاء الملكة إلى التدني الأخلاقي والسقوط في سياق سردي تقليدي إلى حد كبير (وهو ما يجعل مهمة الجمهور سهلة هذه المرة مع لانتيموس بعيدا عن رموزه الصعبة) يسعى إلى الكشف عن دناءة السلطة، وتدني من يديرون الأمور من وراء الستار، وتفاهة الاستبداد أيضا.

ملكة بين امرأتين

تقوم بدور الملكة آن الممثلة البريطانية أوليفيا كولمان التي تقبض على الشخصية بتناقضاتها بكل قوة وبراعة في التجسيد والتقلب من الضعف الشديد والتردد والتلعثم إلى العنف والشراسة واليقظة، ومن الشراهة في الأكل والجنس الشاذ، إلى السقوط في الغيبوبة ثم العودة إلى القبض على مقاليد الأمور، ومن الحب الشديد والتمسك الطفولي إلى الانتقام البشع.

إنها تبدو في لحظة مجرد طفلة صغيرة في حاجة إلى من يتولى أمورها، فهي حتى لا تستطيع السير ويضعونها بصعوبة على مقعد متحرك، وفي لحظة يمكن أن تغضب وتصب اللعنات على الجميع.

آن مريضة بقرح في ساقيها، لا تقوى على السير بشكل طبيعي، مترهلة مفرطة في السمنة بسبب إدمانها تناول المشروبات المسكرة والحلوى والأكل في منتصف الليل، وهي تعتمد بالدرجة الأساسية في تسيير أمور المملكة على “الليدي ساره تشرشل” أو “دوقة مارلبورو” (رتشيل ويتز)، التي تقيم علاقة خاصة مع الملكة تستولي من خلالها على عقلها وقلبها إلى درجة أنها تناديها باسمها المجرد آن، وتصدر لها الأوامر وتنهرها.

نموذج آن رغم الجوانب الكوميدية في تصرفاتها وشخصيتها، تكمن فيها أيضا جوانب تراجيدية، فهي قد حرمت من الأبناء، وقد أنجبت لزوجها 17 طفلا لكنهم ماتوا جميعهم، وأصبحت تسريتها الوحيدة تقريبا التي تعوضها عن غياب الأطفال، 17 أرنبا تحتفظ بها داخل أقفاص في غرفة نومها، وتترك لها الفرصة بين وقت وآخر للانطلاق خارج الأقفاص والجري فوق بساط الغرفة الشاسعة.

لانتيموس يعود في "المفضلة" إلى بريطانيا القرن الثامن عشر، من خلال كوميديا تدور داخل أروقة البلاط الملكي

ما يحدث هو أن فتاة أكثر شبابا وربما أيضا أكثر جمالا وجاذبية من ساره تصل إلى القصر حاملة رسالة تزكية، إنها “أباجيل” وهي في الحقيقة ابنة شقيق ساره نفسها، لكن رغم أصولها الأرستقراطية تعرضت أسرتها لضائقة أدت بها إلى أن تأتي اليوم للعثور على عمل.

في البداية يسندون إليها العمل كخادمة في المطبخ الملكي، وهي تتسلل ذات يوم وتداوي قرح ساقي الملكة باستخدام بعض الأعشاب الطبية فترتاح الملكة من تأثيرها، فترفع ساره من شأن أباجيل وتجعلها خادمتها الخاصة، تأتمر بأوامرها وتطلعها في غيابها على كل ما يحدث في القصر.

لكن أباجيل ستمضي في التقرب من الملكة، بل وتغويها جنسيا إلى أن تستولي عليها تماما في منافسة شرسة مع ساره التي تحاول بشتى الطرق أن تبعد الملكة عنها، لكن أباجيل تتمكن من وضع السم لساره التي تسقط من فوق صهوة الحصان وتصاب بجروح تشوه وجهها، فيلتقطها رجل يعمل لحساب ماخور كبير مخصّص للسادة النبلاء، يعالجونها هناك ويبقون عليها أملا في أن تنضم إلى طابور العاهرات من الطبقة الرفيعة، أما أباجيل فتستغل إعجاب فارس شاب بها سيصبح من الوزراء البارزين، وتدفعه إلى الزواج منها، وبالتالي تحصن وجودها ضمن الطبقة الأرستقراطية.

في الفيلم مشهد يدور في الغابة، حيث تتنافس المرأتان (ساره وأباجيل) في صيد الطيور بالبنادق، كل منهما تقيس قوة غريمتها في الوقت الذي تريد أن تتفوق أيضا في الفوز بنصيب الأسد من الصيد.

وفي إحدى اللقطات، يحتدم النقاش في ما بينهما ويكشف عن الغيرة الشديدة التي تكنها كل منهما للأخرى، وعندما تطلق أباجيل النار فتصيب الصيد، تتطاير قطرات من الدم لتصبغ جانبا من وجه ساره في إشارة تمهيدية إلى ما سيقع لها في ما بعد عندما يصبح وجهها مشوها وتضطر إلى ربط جانبه الأيسر برباط لإخفاء التشوه.

يتعرض الفيلم للكثير من الجوانب السياسية، خاصة رفض الملكة الاستجابة لما تطلبه منها ساره من رفع الضرائب، لكنها تقبل إعلان الحرب على فرنسا ثم تتراجع وتقبل توقيع اتفاقية سلام مع الجارة، فهي تغفو ثم تصاب بنوبات يقظة ذهنية مفاجئة تكشف عن ذكاء وحنكة في النظر إلى الأمور السياسية، في تناقض مع ما تبدو عليه غالبا من بلاهة.

يورغوس لانتيموس مدهش في سيطرته على التصوير داخل المواقع المختلفة تماما عن عالمه: القصور الملكية من الداخل والخارج، يلجأ كثيرا إلى تحريك الكاميرا (ترافلينغ) أمام الشخصية في ردهات القصر لمتابعتها في ذهابها ورجوعها، وفي الاستفادة من الإضاءة لخلق إيحاءات تشي بالحالة النفسية، والإكثار من اللقطات القريبة للوجوه لتحقيق التأثير المباشر على مشاعر المتفرج، ولكن هذا أساسا فيلم أداء تمثيلي.

والغريب أن لانتيموس مؤلف الأفلام الذي لا يولي عادة أهمية كبيرة للممثل في أفلامه باعتباره يشكل جزءا من “الرؤية” البصرية التي تشغله أكثر، يكشف هنا عن قدرة كبيرة على السيطرة على ثلاث من الممثلات (كولمان، ويز، ستون) اللاتي يشتركن في مباراة ممتعة تبرز دور المرأة في جبروتها وشراستها ورغبتها التي لا تعرف حدودا.

ولكن أيضا المرأة ككائن جميل لديه شعور بالحب، يدفعه الألم إلى القسوة على الآخرين، ويشعر بالألفة مع الحيوانات.

العودة إلى الواقعية

الفيلم الثاني الذي أثار الإعجاب هو فيلم “روما” Roma للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون (57 سنة)، وفيه ينتقل من عالم الخيال كما تبدى في أفلامه السابقة مثل “هاري بوتر وسجين إزكبان” و”أطفال الإنسان” و”جاذبية الأرض” إلى أسلوب أقرب إلى أسلوب الواقعية الجديدة.

عنوان الفيلم يشير إلى الحي الذي نشأ فيه المخرج كوارون في مكسيكو سيتي، وهو أحد أحياء الطبقة المتوسطة، وفي الفيلم مشهد يعتبر مفتاح الفيلم تقول فيه السيدة ربة المنزل التي هجرها زوجها وتركها بأطفالها الأربعة ترعاهم وحدها للخادمة التي تنتمي إلى السكان الأصليين الملونين الذين يشكلون الجنس الأدنى في المكسيك “نحن وحيدات، وسنظل وحيدات.. الرجال لا يهتمون سوى بالرجال أمثالهم، ليس لنا سوى بعضنا البعض”.

ليست في الفيلم قصة درامية تتصاعد فيها الدراما نحو ذروة ما، لكن ليس معنى هذا أننا لسنا أمام عمل درامي، فالدراما في الفيلم تنبع من الواقع، من الصور الصادمة التي ترصدها الكاميرا التي تحوّلت مهمتها هنا إلى مراقب يرصد ويتوقف أمام الشخصيات والأحداث، كما لو كانت وظيفتها تسجيل التاريخ الإنساني.

وتدور الأحداث في فترة زمنية محددة من تاريخ المكسيك في أوائل السبعينات بعد وصول الرئيس لويس إيشيفيريا ألفاريز إلى السلطة، لكن السياسة تأتي في ما بعد، ففي البداية كانت الأسرة، ومن الأسرة ينطلق الفيلم لكي يرصد ويحلل مأزق العيش في بلد تمزقه التناقضات على كل المستويات.

هنا لدينا سيدة وأربعة أطفال وخادمة، هم العمود الفقري للفيلم، لكن المرأة السيدة والخادمة هما محور الفيلم والعلاقة بينهما التي تتجاوز التناقضات الطبقية والأصول العرقية، تشي بفكرة التضامن بين النساء التي تدور من حولها الأسرة، فالمرأة عماد الأسرة، والمرأة التي تعمل لتكسب عيشها تشعر بمشاعر المرأة الأخرى التي أصبح يتعين عليها الآن البحث عن عمل بعد أن شح الدخل وانقطع ما كان يأتي من جانب الزوج الذي هجرها وهجر أبناءه إلى عشيقته، وأصبح المصير بين المرأتين مشتركا.

وبعد أن تعلن الأم للأبناء للمرة الأولى أن والدهم لن يعود إليهم، تتعهد لهم وتكرّر بأنها لن تتخلى عنهم أبدا وبأنهم لا بد أن يظلوا معا، وأن وجودهم معا هو الضمان الوحيد للبقاء. والسيدة هي التي تدفع تكاليف توليد الخادمة، وتذهب أمها، أي أم السيدة أو جدة أطفالها معها إلى المستشفى لتحضر الولادة المتعسرة التي تتم في ظروف إطلاق النار في الشوارع على المتظاهرين، وهي تحتضن الخادمة وتصر على بقائها معهم بعد أن أصبحت فردا من الأسرة.

تأمل الخادمة في العثور على فتى أحلامها وتتصوّر أنها عثرت عليه في شاب قوي يمارس فنون القتال الآسيوية المعروفة، تقيم معه علاقة، لكنه يتركها ويرحل لكي تكتشف أنها حامل منه، وتحاول أن تبحث عنه وتصل إليه، لكنه يلفظها بقسوة أمام أقرانه في ساحة هائلة للتدرب على هذا النوع من القتال العنيف. هذا المشهد يجمع بين الخاص والعام، فالعام يتمثل في القسوة والعنف اللذين يتجه إليهما المجتمع تحت إشراف مدربين يتم استيرادهم من كوريا وأميركا، والخاص ينحصر في الغدر والخسة اللذين يتصف بهما سلوك الرجل “القوي” تجاه المرأة “الضعيفة” التي يصفها بأنها مجرد “خادمة قذرة”!

إن كاميرا كوارون الذي صوّر الفيلم مع كالو أوليفاريز، تتجوّل في مشاهد صعبة معقدة تدور في فضاءات فسيحة، تشمل الآلاف من الممثلين الثانويين، والدوران والتحرك الحر وسط الموقع والقدرة على المناورة والالتفاف في عرض سينمائي مشهود.

ومن أهم مشاهد الفيلم مشهد الولادة التي نراها أمام الكاميرا بكل تفاصيلها حيث تأتي المولودة ميتة، ومشهد المظاهرات الطلابية الحاشدة وتصدي قوات الأمن للمتظاهرين وإطلاق النار عليهم، علما بأنه قد قتل 120 منهم في تلك المذبحة.

وينتقل كوارون من اللقطات القريبة إلى اللقطات العامة، ويستخدم الحركة البانورامية للكاميرا لرصد المجاميع، ويتوقف كثيرا أمام الأطفال في لهوهم ولعبهم، بل ويصوّر مشهدا مرعبا لنزول الأطفال إلى البحر الهائج حتى تصوّرنا أن الأمواج قد جرفتهم وأغرقتهم.

والفيلم بأكمله مصوّر بالأبيض والأسود، وفيه الكثير من الأحداث الحقيقية التي تعرضت لها البلاد: الزلزال، المظاهرات، استعراضات عسكرية بالموسيقى في الشوارع لا تكف عن المرور أمام منزل الأسرة، أنواع السيارات التي كانت تستخدم، الحركة الصعبة في شوارع المدينة، والقرى المحيطة حيث يقطن السكان المهمشون من السكان الأصليين، وهي عبارة عن أكواخ متداعية تمر عليها الكاميرا في مشهد طويل عندما تذهب الخادمة تبحث عن أهلها.

روما” سيدخل تاريخ السينما باعتباره أحد أهم الأعمال التي خرجت من المكسيك، وأهم أفلام مخرجه حتى الآن.

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

01.09.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)