تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

كلاكيت "سبعتاشر" مرة

لمن.. ولماذا نصنع أفلامنا السينمائية؟

أحمد يوسف

أعترف للقارئ أننى كنت قد قررت أن أتوقف عن الكتابة عن "الأفلام" المصرية، ولا أقول "السينما" المصرية، فالحقيقة أننى أرى أنه ليست هناك فى السياق الراهن أية سينما بالمعنى الحقيقى للكلمة، هناك فقط فى بعض أوقات العام _ التى يطلقون عليها "مواسم" _ شرائط سينما يصل عددها إلى درجة الزحام، الذى يذكرنى بكلمات الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازي: "هذا الزحام لا أحد"، فى الوقت نفسه الذى تظهر فيه بعض "المحاولات" الفردية المختلفة، تلمس فيها لمحات قليلة أو كثيرة تبشر بموهبة حقيقية، لكن ما يحدث فى كل مرة مع هذه المحاولات أن نتعلق بها كما يتعلق الغريق بالقشة وسط الأمواج العاتية، فتنهال المقالات بالمديح والإطراء اللذين يصلان أحيانا إلى درجة المبالغة، وينسى النقاد وسط هذا الضجيج أن يلمسوا بعض نقاط الضعف فى هذه المحاولة أو تلك، أو بالأحرى فإنهم يتناسون ذلك حتى لا يفسدوا بهجة الفرحة و"الفرح"، فهم يعتبرون مثل هذه الملاحظات النقدية أقرب إلى أن تضرب "الكرسى فى الكلوب"، حتى نصحنى بعض الزملاء أن أتمسك بتشجيع الشباب بدلا من انتقادهم، وهكذا نصحتنى الزميلة فريال كامل مع فيلم "حريم كريم"، ونصحنى الزميل محمد بدر الدين مع فيلم "حمادة يلعب"، ناهيك عمن كتم أو أعلن غضبه وزهقه منى لأننى "لا يعجبنى العجب". 

لماذا إذن أعود للكتابة عن الأفلام المصرية؟ إنها السطور الأخيرة من مقال الزميلة صفاء الليثى عن فيلم "واحد صفر" المنشور بجريدة العربى، فهى فى احتفائها بالفيلم اعتبرته تدشينا لموجة ثالثة من الواقعية المصرية الجديدة، بعد الموجة الواقعية الثانية التى لفت إليها الانتباه على حد قولها الناقد "الكبير" سمير فريد، (وهو إن كان قد أطلق على بعض الأفلام هذا الاسم فقد فعل ذلك "بأثر رجعي" وبعد أن ظهرت هذه الأفلام بوقت طويل). لقد جعلتنى هذه الكلمات أتساءل حقا عن "مسئولية" النقاد تجاه المحاولات السينمائية الإبداعية الجديدة. هل يجب علينا أن نكيل المديح لهذه التجربة أو تلك حتى لو كان ينقصها بعض النضج، ويفصلها عن السينما فى بلدان مختلفة من العالم مسافات شاسعة؟ وهل هذا فى مصلحتها؟ وهل سوف يضمن لها التشجيع النقدى حالة من الاستمرار والاستقرار بينما القرار الآن فى يد شباك التذاكر وحده؟ وهل نتوقف عند هذه المحاولات والتجارب الفردية وننسى أن "السياق" الاقتصادى والاجتماعى والسياسى هو الذى سوف يعطيها الفرصة للنمو لتصبح "حركة" حقيقية أم أن هذا السياق سوف يئدها وهى فى المهد؟ وإننى أعطى بعض النقاد بعض العذر فى فرحتهم العارمة بهذه التجارب الجديدة، وإن كنت لا أعذر بعضهم الآخر فى اختياراته، فحتى الآن لا أستطيع أن أفهم كيف ولماذا اختارت جمعية نقاد السينما المصريين (وأنا عضو فيها) فيلم "أستراليا" كأفضل فيلم أجنبى عن العام الماضى وهو فيلم شديد التواضع. (هل وجده أحدكم فى قائمة أى ناقد أمريكى لأفضل عشرة أفلام فى العام الماضي؟ لكن يبدو أن ذوق "جميع" النقاد الأمريكيين قد فسد ذوقهم). 

ما يدفعنى للكتابة الآن ليس إبداء الملاحظات النقدية حول فيلم "واحد صفر"، فمن الطبيعى أولا أن يختلف رأى النقاد حول فيلم واحد، وثانيا لأنه فيلم جيد بالفعل وإن لم يكن فريدا من نوعه، فقد شهدت الأفلام المصرية فى الأعوام الأخيرة( ولست هنا فى مجال المفاضلة بينها من الناحية الفنية) محاولات ذات بناء إبداعى يقوم على خطوط متعددة كما رأينا فى "واحد صفر"، مثل فيلم "عمارة يعقوبيان"، وقد تتشابك هذه الخطوط فى أحداث يوم واحد مثل فيلم "كباريه". والحقيقة أن هذا النوع من البناء الدرامى انتشر فى السينما العالمية منذ سنوات مع أفلام مثل "21 جرام" و"ترافيك" و"بابل" و"كراش"، كما أن حركة الكاميرا المهتزة فى "واحد صفر" أصبحت تقليدا سائدا فى العديد من هذه الأفلام ذاتها، بالإضافة إلى كل أفلام سوديربيرج الأخيرة (التى يصورها بنفسه باسم مستعار)، وأفلام مايكل مان مثل "ضحايا بالمصادفة" و"ميامى فايس"، وفيلم عبد اللطيف كشيش "كسكسى بسمك البوري". إن ظهور "واحد صفر"، وقبله أفلام مثل "أحلام حقيقية" و"زى النهارده" (وأعتذر لأننى لن أستطيع هنا ذكر إحصائية كاملة بهذه الأفلام)، هذا الظهور يعكس مشاهدة بعض أفراد من الجيل الشاب من السينمائيين المصريين للسينما العالمية وتأثرهم بها على نحو ما ورغبتهم فى محاكاتها (بالطبع فإن هناك جانبا إيجابيا فى هذا التأثر، وإن أبدى بعضهم تأثرا سلبيا مثل أفلام "شبه الأكشن" التى أصبحت موضة لدينا)، لكن هذا التأثر يمثل بالفعل اختلافا جذريا مع جيل العقد السابق الذى فرض نفسه منذ "إسماعيلية رايح جاي"، وهو جيل منقطع الصلة بفن السينما، فجذوره تمتد فى فوازير التليفزيون القائمة على المحاكاة الهزلية من أفلام قديمة (خاصة فى شبكة الشيخ صالح كامل)، كما تمتد هذه الجذور فى فودفيل المسرح التجارى، بل إن بعضا من أبناء الجيل السابق عليه، مثل شريف عرفة ومساعده سعيد حامد، سبحوا مع هذا التيار، لتختفى السينما الحقيقية، لتعاود الظهور على أيدى هذا الجيل الشاب فى محاولات لا تزال تشق طريقها إلى النضج. 

لكن هل هذه حقا بداية لواقعية جديدة؟ وهل هذه التجارب واقعية بالمعنى الحقيقى للكلمة؟ هل الواقعية "موضوع" أن أنها معالجة فنية ذات طابع ينصهر فيها ماهو جمالى مع ما هو سياسي؟ وإذا كانت تلك واقعية "جديدة" ثانية وثالثة فى رأى الزميلين سمير فريد وصفاء الليثى فما الواقعية "القديمة"؟ وأرجو ممن يجد لديه الرغبة ـ إن كانت لا تزال هناك مثل هذه الرغبة ـ فى مناقشة هذا الأمر أن يعود لمقال مهم للناقد الراحل (وأكثرنا جدية وعمقا) فتحى فرج عن فيلم توفيق صالح "المتمردون"، فربما زالت بعض الأوهام الشائعة عن "واقعية" صلاح أبو سيف وكمال سليم.  

إن إطلاق المصطلحات الرنانة يعكس محاولة من النقاد لتلمس وتحسس الطريق فى ظلام الفوضى التى تسود الواقع الراهن فى كل المجالات، محاولة لأن تعطى شكلا ملامح لمرحلة ذات ملامح شائهة يختلط فيها الكثير من الرديء مع القليل من الجيد. إنها المحاولة التى بدت أيضا فى مقدمة كتاب للزميل هاشم النحاس، جمع فيه مقالاته عن السينما المصرية منذ منتصف العقد الماضى وحتى الآن، فقد أطلق على هذه المرحلة "الموجة الجديدة فى السينما المصرية"، ووضع جنبا إلى جنب فيلم "مواطن ومخبر وحرامي" الذى وجد فيه سلبيات عديدة، وفيلم "لمبي" الذى رآه عملا يقترب من روح شابلن ويرمز فيه إلى مصر خلال شخصية "لمبي" ذاته.  

فيما يبدو أننا تعودنا على إطلاق الأحكام المطلقة، ووضع أشياء متناقضة فى سلة واحدة، وتعميم الظواهر الفردية المتناثرة، كما تعودنا على فصل الأعمال الفنية عن السياق الذى ولدت أو وئدت فيه. لهذا وضعنا فانتازيا أو مساخر (جمع "مسخرة" وهو التعبير الذى اختاره بنفسه) رأفت الميهى، إلى جانب الملحمية السينمائية عند داود عبد السيد، وجرأة تجريب خيرى بشارة، والانطباعية الإنسانية عند محمد خان، وميلودراما عاطف الطيب الساخنة، والمادية الصوفية عند سيد سعيد، والوجودية الماركسية عند يسرى نصر الله، وأطلقنا عليها جميعا "الواقعية الجديدة"، بذريعة أن لروجيه جارودى كتابا يحمل عنوان "واقعية بلا ضفاف"، بل إنه لا يمكنك أن تصف أحيانا فيلمين لمخرج واحد بنفس الصفة، فما أبعد الفارق بين فيلمى الفنان الراحل رضوان الكاشف "ليه يا بنفسج" و"عرق البلح". من جانب آخر لماذا نهمل فنانين بأهمية على بدرخان وهشام أبو النصر ومحمد شبل وإبراهيم الموجى (على سبيل المثال لا الحصر) فنخرجهم من جنة المصطلح النقدى المهيب؟ ولماذا يأتى التوصيف "بعد" ظهور الأفلام على عكس ما يحدث فى حركات وموجات السينما فى العالم؟ (للحق فقد حاولت الزميلة صفاء الليثى أن تستبق الموجة لكن هل سوف تأتى هذه الموجة حقا؟). 

لم تشهد السينما المصرية سوى حركتين محددتين: الأولى "جماعة السينما الجديدة" التى لم تنجز إلا أفلاما تعد على أصابع اليد الواحدة، ثم ذهب أعضاؤها كل فى طريق ليذوب فى التيار السائد، والثانية هى "جماعة السينما الثالثة" التى لم تنجز إلا بيانا نقديا ولم تقدم أفلاما، وهذا يدل فى الحقيقة على أن العمل الجماعى يكاد يكون غائبا عن مثقفينا وفنانينا، وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى أن المعركة الحقيقية للجيل الشاب فى السينما المصرية هى فى جوهرها معركة "سياسية" داخل السينما وخارجها، وأنا أستخدم هنا تعبير "السياسة" لأقصد به علاقة الفنان بموضوعه ووسيطه الفنى وجمهوره، بالإضافة إلى علاقته بشروط "صناعة" السينما، وإذا كان النقد السينمائى يريد حقا أن يرعى الاتجاهات الجادة فى هذا الجيل فليساعده على أن يخوض هذه المعركة.  

أدهشنى إلى حد كبير ما ذكره الزميل هاشم النحاس فى كتابه عما اعتبره تحولات إيجابية فى السياق الراهن: أن مجموع الشاشات الجديدة بلغ 150 شاشة، وعدد نسخ الفيلم الواحد 80 نسخة (يشير الكتاب إلى أن النموذج هو فيلم "عوكل")، وعدد المترددين على دور العرض 15 مليون متفرج كل عام، فهذه تحديدا هى علامات مرض السينما المصرية، فالأرقام تشير إذن إلى أن المتفرج المصرى يدخل السينما مرة كل 5 أعوام، بينما المعدل فى معظم دول العالم هو أربع مرات فى العام الواحد. وفى الوقت الذى يبلغ فيه عدد دور العرض فى أمريكا 50 ألف دار للعرض فإننا لا نملك إلا بضع مئات قليلة، وخذ بالك أن ربعها سوف يحتله فيلم واحد (هو "عوكل" وأشباهه) بالثمانين نسخة المشار إليها، فهل هذا دليل على اقتراب كشف الغمة عما تعانيه السينما المصرية من أزمة؟ فلنكن صرحاء مع أنفسنا ولا نتعلق بأمل واهٍ واهن يخفى عنا الحقيقة، فواقعنا السينمائى (بعلاقات إنتاجه بالمعنى الاقتصادى السياسي) شديد التردى رغم ظهور محاولات فردية جادة، وليس هناك أمل _ فى ظل السياق الراهن _ أن تظهر حركات سينمائية جادة إلا إذا اجتمع السينمائيون الجادون فى تكتلات داخل نقابتهم وغرفة صناعتهم أو خارجهما، ولنأخذ عبرة من أن أى مخرج موهوب من الجيل السابق أو اللاحق لا يجد فرصة (إن وجدها) إلا بعد مرور سنوات، فهل يصنع ذلك حركة أو موجة؟ ما البداية إذن؟ البداية "التقنية" هى فى زيادة عدد دور العرض إلى عشرة أضعاف العدد الحالى على الأقل، وإذا سألتنى كيف سيتحقق ذلك فإننى سوف أذكِّرك بالسؤال الذى كررته مرارا، والذى يجب أن نجيب عنه أولا: لماذا ولمن نصنع الأفلام؟ والإجابة الصحيحة هى الكفيلة بأن تكون هناك سينما جديدة، وهذه بدورها لن تظهر إلا فى سياق سياسى واجتماعى واقتصادى جديد، منحاز إلى السينمائيين الموهوبين أصحاب المصلحة الحقيقية فى هذه السينما الجديدة، ومنحاز إلى الشعب، صاحب المصلحة الحقيقة فى هذا الوطن.  

العربي المصرية في

24/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)