تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

مهارة بهلوانية في سيرك سينمائي: ماذا يتبقى من طروادة ؟

لينا أبو بكر

يذكر الكاتب 'Peter Bradshaw 'في صحيفة 'الغارديان' العدد الصادر بتاريخ : 14-5-2004 أن 'طروادة' الرواية السينمائية لم تكن وفية للألياذة فقد امتصت الكثير من القصة الحقيقية، وغيبت مشاهد ملحمية بين سكان الأولمب وسكان الأرض، علاوة على سلسلة انتقادات تضمنتها مقالته كان أهمها إحالة الحصان الخشبي إلى الصف الثانوي من صفوف البطولة مما يخالف النسيج القصصي للملحمة الشعرية، فالحصان الذي شكل المفتاح السحري لعبور القلعة المحصنة ينزوي في الظل لتتخذ الحكاية بعدا آخر ينأى كثيرا عن البعد التاريخي.

ومما لا شك فيه أن أن أبطال الإلياذة يمتلكون مقدرة ألوهية تفوق تلك التي يتمتع بها أبطال السينما، لذلك ربما حاول الفيلم أن يلعب على وتر الملحمة بذكاء، فالأمر حسب 'برادشو' لم يكن مقتصرا على الحرب وحدها بل كان ذلك الحب الذي يتغلغل إلى العالم الإغريقي القديم ويشعل جمرة التنافس والصراع بين طرفي الملحمة.

وربما يكون ذلك الحب هو الذي جمع بين البطل السينمائي أخيل وابن عمه وصديقه 'Patroclus 'فحيث انضم أخيل في الجولة الاخيرة إلى المعركة فعزز الثقة لدى الجيش الإغريقي فإن الساحة احتدمت نيرانها، والتحمت صفوفها بشرارات ماكرة.

الزي الحربي 'الخوذة تحديدا' لعبت دورها في أول مواجهة، لما قتل هكتور أخيل فقطع أوتار حنجرته مما أثار الفزع في صفوف الأغريق، وعزز الحمية لدى الطرواد، إلا أن المراوحة في المواقف والأدوات تلهب التطور الدراماتيكي، فالخوذة هي بطلة العقدة الأولى في التطورات الملحمية الأخيرة في القصة السينمائية، لأن هكتور إذ يخلعها عن رأس القتيل يكتشف أي نار قد تضطرم وقد قتل ابن عم أخيل 'باتروكلاس' وليس أخيل نفسه!

لبس أخيل درعه وتصدر جنازة مهيبة لحبيبه الراحل إلى ملكوت الموت، وكان لا بد أن يغضب الثأر، يتوجه أخيل إلى باب طروادة طالبا من هكتور أن ينزل لمواجهته إن كان يجرؤ، فيشترط هكتور شرطا: أن المنتصر يقيم لغريمه المقتول جنازة مهيبة تليق به، إلا أن المنتصر يرفض سلفا، وهو إذ يكسب جولة الموت الأهم في الملحمة بقتل هكتور فإنه يربطه إلى عربته ويسحبه إلى مخيم الإغريق.

بطل وأمير طروادي كهكتور لابد أن يدفع بملك طروادة للاتجاه إلى خيمة أخيل للمطالبة بجثته، وفعلا يعد أخيل الملك بأن الإغريق لن يهاجموا طروادة لمدة 12 يوما حتى يتسنى للطرواديين تهيئة مراسم الجنازة لهكتور.

بل لقد أعاد أخيل الأميرة الأسيرة 'برسيس' إلى أهلها وقد وهبها قلادة خاصة هي تذكار كانت قد صنعت له خصيصا.

لما تفشل الجيوش ويخفق الموت وتعلن الحرب هزيمتها امام الأسوار الموصدة فإن المؤامرة لابد أن تحل محل المواجهة، إنها الخديعة التي تنقذ الحرب من هاوية الخسارات المريرة، المؤامرة هي المعركة الحاسمة والأخيرة، وما يتبقى بعدها تصفية حسابات أجلها الموت لصالح البطولة.

ابتكر أوديسيوس خديعة الحصان الخشبي حيث يغادر الإغريق مخيمهم ليختبؤوا وراء سفنهم في أحد الجزر القريبة، ويتركوا الحصان امام باب القلعة، وإذ يحذر باريس من خطر الفرس فيقترح على الطرواديين حرقه فإن الملك يرفض ذلك وقد أقنعه أحد الكهان بأن هذا الحصان هو عربون سلام.

يحتفل الطرواد بالنصر على اعتبار أن الانسحاب الإغريقي امام قلعة صامدة هو انتصار مؤزر، وفعلا تأخذ النشوة أهل طروادة ويغرقون في سبات ثمل، وهنا يبدأ الحصان دوره التاريخي الأهم، إذ يخرج منه جند الأعداء، ويشرعون الأبواب لمن تبقى منهم خارج السور، ليقتلوا ويذبحوا رجالها ويسبوا نساءها، وحين يستفيق الطرواديون على الخديعة، يقتل أغاممنون الملك بريام وهو إذ يهدد الأميرة الأسيرة' بريسيس' بأسرها فإنها تقتله بسكين كانت تخبؤها ـ ربما احترازا في زمن لا امان فيه للحروب الباردة.

ينقذ أخيل أميرته من رجال أغاممنون، إلا أن باريس المترصد له يسدد له سهم الموت وإذ تبدأ الحبيبة توسلاتها امام ألأمير الطروادي فإن أخيل ينصحها بالهرب مع باريس، ليفرا من أحد الأبواب السرية.
تهيأ الجنازة المهيبة لأخيل في اليوم التالي وتسقط طروادة أخيرا... والفضل للمؤامرة!

ترى ماذا لو أن النيران الاحترازية أضرمت في الحصان الخشبي، كم نصرا كانت قد حققت طروادة؟ ثم أي غواية تلك التي تجعل من الحرب طعما لمؤامرة خشبية؟ وأية مدن تلك التي تستبد بها النشوات الواهمة، وتشرب أنخاب موتها في كؤوس أعدائها؟

ينتهي الفيلم بمقولة لأوديسيوس: 'الرجال يهبطون ويصعدون كحنطة الشتاء، لكن أسماءهم لن تموت أبدا، ليقولوا أني عشت في زمن هكتور، ليقولوا أني عشت في زمن أخيل'.

في الإلياذة عشر سنوات من عمر الصراع الذي امتد بين الإغريق والطرواد، اختصره المخرج إلى 12 يوما، مما حد من توقد جذوة التشويق الملحمي المتدفق عبر الامتداد الزمني، أما السنة التاسعة عند هوميروس فكانت هي سنة غضب أخيل، وكما كنت ذكرت في الجزء الاول فإن الروايات والتواترات تباينت فيما نقلته عن الملحمة الشعرية، فبعضها كان يفيد بالصراع الملحمي بين آلهة الاولمب، وبين الآلهات هيرا وأفروديت وأثينا تحديدا، أما باريس فقد كان ذلك الراعي الشاب الذي احتكمت إليه الربات الثلاث ليختار الأجمل من بينهن، ويعطيها التفاحة، فكان ان عرضت عليه كل منهن تحقيق ما يتمناه، إلا ان أفروديت وعدته بأجمل نساء الأرض 'هيلين' زوجة الملك 'منلاوس' فكانت التفاحة من نصيبها. وهنا تثور ثائرة الاغريق وتبدأ الحرب حكايتها الإلياذية.

لاحظ أن النساء على الأرض وماوراء الاولمب هن وقود المعركة، والرجال دائما رماداتها، فأية مفارقة نرثها من تاريخ إنساني متنوع مشحون بذلك الافتتان بالمرآة كونها غواية الحروب والصراعات الملحمية ؟ فمنذ هيلين وأفروديت إلى البسوس وحفيداتها من مختلف البقاع والأعراق حتى ليفني وكوندليزا، والآتيات أعظم !!

ورغم أن أغاممنون يخطف الأميرة 'بيرسيس' إلا أن تدخل أخيل الحقيقي في الملحمة الشعرية كان دافعه الرئيسي هو الثأر لابن عمه وصديقه 'باتروكلاس 'ورغم إصرار أخيل في نهاية الإلياذة على الموت بطلا بحيث رغب بالاستعانة بعدته ليواجه باريس إلا ان هذا حرمه الموت كبطولة، بحيث سدد له السهام وأرداه قتيلا.

فما بين إرادة الموت والقتل والبطولة، تنتصر الحكاية الشعرية وتنقل لنا ملحمة بصرية رائعة بعدسة عمياء لكاتب تخيل ما لم يره، ووقع خياله الشعري المقتبس من واقع ولا الخيال!

بين الإلياذة والفيلم عمل سينمائي واحد هو الشعر، الذي استطاع أن يؤسس للفن السينمائي الحديث منذ ما قبل الميلاد، إنها هي نبوءة الكتابة التي تلتقط بعين الشاعر ـ وإن كانت ضريرة- صورا من أزمنة لم تحن بعد، وهذا ليس تعصبا للشعراء بقدر ما هو وفاء لحقيقة ليس من السهل اكتشافها بل حتى الاعتراف بها.

الكلمة كاميرا إذن، كاميرا برعمية، بكر، والسينما كاميرا مختمرة، وما بين الكاميرتين عين واحدة هي عين الفن.

الموسيقى إذ توازي الإيقاع الشعري، تثبت مقدرتها على اختراق الحاجز الجغرافي والبعد الزمني، فالاستعانة بالآلات الشرقية، برهن على مخيلة مرنة تستوحي روحها من النطاق الأسطوري بقطبيه 'الزمن والجغرافيا' ورغم أنه كان من المفروض أن تعتمد موسيقى اللبناني 'جابرييل يارد 'الذي استأجره المخرج لمدة عام كامل كي يقوم بإعداد النص الموسيقي الذي يرافق النص السينمائي إلا أنه بعد أن استمع طاقم العمل والانتاج إلى الموسيقى التصويرية لم يرق لهم النص بحجة تقليديته فتم استثناء جابرييل، ليحل محله جيمس هورنر الذي أعد نصه في أربعة أسابيع.

جابرييل يارد موسيقي لبناني (1949مواليد بيروت) - عرفت موسيقاه في فرنسا ثم أمريكا من خلال مشاركته في عدد من الأعمال السينمائية، وقد حاز الأوسكار عن موسيقاه لفيلم 'المريض الإنكليزي' عدا عن أنه ترشح للأوسكار أكثر من مرة في عدة أعمال أخرى.

وهو لم يتوان عن تزويد المهتمين بمقاطع من موسيقاه التي تم استثناؤها ـ متوافرة على موقعه الالكتروني، وهذه حازت على إعجاب المتابعين أكثر من موسيقى هورنر، بل تم الاقتراح أن تكون هنالك نسخة ثانية أو نص موسيقي ثان للفيلم إلا أن مجموعة الانتاج لم تقبل هذا الاقتراح مطلقا.

علما بأن جائزة النص الموسيقي تكاد تكون الوحيدة التي حازها الفيلم من 2005 ASCAP Film and Television Music Awards لصالح جيمس هورنر.

ترشح الفيلم للأوسكار عن أفضل تصميم أزياء 'Bob Ringwood 'وغيرها من الترشيحات الأخرى العديدة كالترشيح لأفضل جائزة ذكورية وأفضل معارك سينمائية وغيرها.

لم يتوان موقع الطماطم الفاسدة عن منح الفيلم ما نسبته 55% من التصويت ضده، وهذا الموقع متخصص بمنح درجات معينة لأسوأ الأعمال السينمائية، وهو إذ يتخصص بذلك يكرس عادة الوفاء لتقليد قديم درج سابقا كان يتم فيه رجم الطاقم الأكثر فشلا في السينما بالطماطم الفاسدة.

لكننا إذ نقف أمام هذا الكم الهائل من النقد لعمل بتلك الضخامة ندرك حجم البذل والجهد والتنافس في المشهد السينمائي الغربي، لأن المباراة الحقيقية هي التي يحسمها الفن الحقيقي في النهاية، وهذا يجب ألا يتخطى حدود إنسانيته من حيث التكلفة، او الوفاء للقيم الإبداعية، أو من حيث الصدق، بحيث لا يستبدل هذا بالخديعة التكنولوجية او المهارات الحديثة الأخرى التي تمارس خفة اليد 'الخدع التصويرية 'بفظاظة أشبه ما تكون إلى استعراض بهلواني لا إلى إبداع سحري في سيرك سينمائي مبهر !

لم يكن الحصان الخشبي هو الرمز الأجمل في الأسطورة السينمائية بل كانت طروادة نفسها، معقل النساء الجميلات والأميرات الأسيرات، طروادة السور العظيم أمام البحر، طروادة الغواية التاريخية لحروب لم تش بعد، إنها الربة الخرافية لمدائن من طراز طروادي تؤدي مراسيم الولاء والطاعة في معبد الأحصنة الخشبية، وتعلن سقوطها واحدة تلو أخرى كأنها تفاحات مختطفة من جنان شيطانية !! كأن ما تبقى من طروادة بتاريها وجغرافيتها ـ مثار الشكوك ـ ونساءاتها وأبطالها وحكاياتها وأعدائها وسينماها ـ ما يتبقى منها فقط سقوطها ! فيا للمفارقة !!

شاعرة وكاتبة فلسطينية - لندن

القدس العربي في

17/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)