تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

مشاهدة ملحمة «باب الشمس» في ايام غزة

خالد ربيع السيد

جدير أن تستعاد مشاهدة فيلم «بابا الشمس» في هذه الأيام ، فحول قصة حب نشأت بين زوجين، نسج المخرج يسري نصر الله (الجزء الأول) من فيلمه المفخرة «باب الشمس» وعرضه في سنة 2005م وأطلق عليه عنوان «الرحيل» ، وطرح فيه الحكاية الكبرى المعروفة عن بداية التراجيديا الفلسطينية في الأربعينيات من القرن الماضي. أما «العودة» (الجزء الثاني) فيعرض لمراحل العجز والخيبات العربية من السبعينيات إلى التسعينيات عبر قصة الحب الملتبسة للدكتور خليل مع «شمس» المناضلة الغامضة.

الفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للأديب إلياس خوري يستعرض فيها سيرة الوجود الفلسطيني عبر قصتي حب يمتدان عبر زمنين متداخلين، يرسمان صورا للفرد الفلسطيني الذي صار مجرد كومبارس في حكاية كبرى يلعب دور البطولة فيها كبار الساسة وقادة النضال والمفاوضات، .

أمعن الفيلم في الحكي الحميم الخاص عن هؤلاء الأفراد ينتهي بنا إلى العام والجماعي في جدلية صارت قدرا للفرد الفلسطيني والوطن الفلسطيني على حد سواء.فعبر قصة الحب الأولى يتزوج يونس الفتى نهيلة الصبية ،التي لم يرها مسبقا، زواجا تقليديا. ويتركها صبيحة الزفاف ليتدرب مع المقاتلين في كتائب المقاومة، وهنا تود نهيلة الخروج مع المقاتلين، ولكن الواقع في القرية لا يسمح لها سوى أن تتعلم القراءة والكتابة على يد أبي يونس الشيخ الضرير، في قريتهم يحاول معلم الكتاب عبثا أن يفهم أولاد الفلاحين أن وطنهم ليس قريتهم الصغيرة، وإنما فلسطين التي يراد تقسيمها بين العرب واليهود، لم يتخلق الوعي الجماعي لهؤلاء بفلسطين الوطن سوى عندما جمعتهم مأساة التهجير والطرد من قراهم.

المقاومة الكسيحة المتجددة

المقاومة الشعبية تفشل في الصمود في وجه الصهاينة، ولكنها تحاول في جسارة وعناد، وتعاود الكرة بعد كل تقهقر... يرحل المقاومون ومعهم يونس إلى لبنان، ونهيلة تقرر الانتظار والصمود، فيما بعد سيتسلل يونس في رحلات متفرقة ليلتقي زوجته في مغارة «باب الشمس»، وينجب منها أولادا لن يراهم أبدا.وفي مخيمات اللاجئين بلبنان يلتقي يونس بخليل الابن الذي مات والده بينما أمه في رام الله ويتعهده بالرعاية ويضمه لعناصر المقاومة.

خليل يتلقى دورة عسكرية في التمريض ويصبح اسمه لاحقا الدكتور خليل، وفي الثمانينيات سيرفض الخروج من لبنان مع منظمة التحرير تحت حراسة الأمريكيين والصهاينة، وسيبقى في المخيم ليلتقي «شمس» التي انفصلت عن زوجها السادي والتي لم ترحل مثله، وتنشأ بينهما قصة الحب الأخرى التي لا تصل للزواج، «.

ويعيش خليل على أطلال قصة الحب الفاشلة والملتبسة ، ويمكث بجوار يونس أبيه الروحي الراقد في غيبوبة، يحكي قصتيهما ويحلم باستيقاظ يونس ليعودا معا إلى «الجليل» ليموت يونس كبطل في وطنه وليس كمريض في مستشفى ولاجئ في مخيم.

الحب ورمزية العلاقات المتعددة

قصة يونس ونهيلة هي قصة حب على الطريقة الفلسطينية، القصة التي لا يلتقي طرفاها إلا سرا، لقاءً أشبه ما يكون بالرمزي أو الأسطوري أو المتخيل.أما قصة خليل وشمس فهي قصة حب المخيمات، اللقاء الدائم بالوطن الذي اتخذ المخيم موطنا، ولكن يظل اللقاء دائما خارجا عن الشرعية، يدور في فلك من الانتظار والالتباس، بين الخيبات والتخبط.

«شمس» وعذاباتها الشخصية صورة الوطن المطعون في ظهره من خيانات الأهل، «شمس» وعلاقاتها المتعددة غير الشرعية صورة الوطن الموزع شرفه بين اتفاقات التخاذل وتحالفات الاستجداء وانتظار النصرة بينما ما زال أمله اليائس في بندقيته هو قدره.

مقتل «شمس» على يد العصبة الخارجة على القانون والنظام، صورة الفوضى والتشرذم اللذين يتجاوران مع أخلاق التضامن القبلي والنخوة العربية.

طعم الوطن طعم البرتقال

الفيلم في أحد أوجهه مقابلة بين جيلين عاشا معنيين للوطن، الأول عاش معنى الوطن، وذاق طعم البرتقال وجمعه من أشجاره، يكفيه أن يعلق أغصان البرتقال في ركن بيته ليتذكر وطنه المستلب، الجيل الآخر ولد في المخيم، فقط سمع عن البرتقال والبيارات، لذا فإنه بحاجة لتذوق معنى الوطن الذي ولد فوجد نفسه يقاتل ليعود إليه دون أن يراه ولو لمرة.

بين الجيلين مسافة زمنية شاسعة، مسافة بين براءة النضال الأول ووحدته وبين اختلاط الأوراق في الجيل الثاني، بين «يونس» الذي تعلم استخدام السلاح في قريته، وربما لم يتلق أي قدر من الثقافة سوى القراءة والكتابة، وحفظ القرآن، وخليل المثقف اليساري الذي تلقى دورات تدريبية في «الصين» وتربى وعيه على صور جيفارا وماوتسي تونج ولوثر كنج وسائر الثوار في العالم.

الجيل الأول في نهاية رحلته الارتجالية افتقد للرؤية في طريقه المسدود، والجيل الثاني رغم وعيه المفتوح ما يزال في أسر أبوة الجيل الأول، كما ظل خليل ملازما لسرير يونس في المستشفى معتزلا العالم! .الجيل الأول رحلته رحلة رحيل والآخر رحلته رحلة عودة. وبينهما الرحلة المشتركة من التشرد والعذابات والبطولات والخيبات!

سيناريو المهمشين

سيناريو «باب الشمس» الذي اشترك في صياغته المخرج يسري نصر الله وكاتب الرواية إلياس خوري بالإضافة للناقد والأديب محمد سويد، لم يكتف بإبراز الوجه الموازي للملحمة الفلسطينية عبر قصتي الحب المحوريتين، وعبر التفاصيل والشخوص البينية التي لا يمكن الإحاطة بها إلا بسرد الفيلم مشهدا مشهدا... ولكنه أيضا قدم وجوها أخرى للحكاية، غير الوجوه المعروفة المكرورة وذائعة الصيت.

فالكل يعرف حكاية تشريد وتهجير أهالي القرى الفلسطينية، ولكن القليل من يعلم قصص من بقوا منهم في أراضيهم، وكيف اضطروا مثل نهيلة وأولادها للعمل لدى المستوطنين اليهود بل وتعلم العبرية لكي يستطيعوا البقاء على قيد الحياة.

الكل يعرف حكاية المناضلين على الحدود في لبنان والأردن، ولكن من يعلم قصص العلاقة بين هؤلاء المناضلين بين ذويهم في الداخل. والتاريخ الرسمي يروي قصص رحيل جماعات المقاومة الفلسطينية من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي ولكن الفيلم قدم قصة «خليل» و»شمس» اللذين لم يرحلا إلى تونس أو اليمن. أما التاريخ المعاصر يحفل بقصص اللاجئين الذين يودون الخروج عبثا من المخيمات والاندماج في المجتمع اللبناني، ولكن الفيلم يصور لنا «خليل» الذي يخشى الخروج من المخيم، ويتوجس شرا من المجتمع اللبناني الذي نازل بعض فصائله أثناء الحرب الأهلية.

وكما هو الواقع فالخطاب العربي يدين الغرب لتواطئه وتخاذله بل واشتراكه أحيانا، الفيلم يقدم صورة لمثقفي الغرب المستقلين والشرفاء في شخصية الممثلة الفرنسية التي تريد عمل مسرحية عن مجزرة صبرا وشاتيلا، وتحاول التعرف على أجواء المخيم والحياة داخله.

عادة، لا نرى سوى صورة للمرأة الفلسطينية بزيها التقليدي وزغاريدها مع دموعها فرحا وحزنا لاستشهاد ابنها، الفيلم يقدم صورة نهيلة المتمردة التي تقود قريتها والتي تطمح للتعلم مثل الرجال وتتخذ قراراتها باستقلالية بموازاة زوجها، بالإضافة إلى شمس المناضلة التي تمسك المسدس وترتدي البنطلون، والتي طالها عسف زوجها «المناضل أيضا»، ولكن غير المثالي على عكس الصورة النمطية.

ربما كانت تلك الوجوه الأخرى أصداء للأسلوبين الروائي والسينمائي المعاصرين الذين يحتفيان بالهامشي والمتمرد ، والفيلم ما فيه يكتسب أهمية طاغية في موقوتية الراهن وما يحدث في غزة الحريقة .

المدينة السعودية في 21 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)