زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان كانّ السينمائي الـ72

"أتلانتك" للسينغالية ماتي ديوب.. محيط مظالمنا وإنحطاط إنساننا

بقلم: زياد الخزاعي

تفتتح الممثلة والمخرجة السينغالية الفرنسية ماتي ديوب باكورتها الروائية "أتلانتك"(أطلنطي)، الحائزة على الجائزة الكبرى في الدورة الـ72 (14ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي، والتي عُدت فيها كأول مخرجة أفريقية تُشارك ضمن مسابقتها الرسمية، بلقطات عامة طافحة بالقيظ وفوّرة هبّات إقتصادية، تتصاعد دلالاتها في سماء العاصمة داكار، متمثلة بعمارات مديدة ورافعات عملاقة. أنها سدوم جديدة، حيث يَسرق المال الوافد طبقة عاملة شابة وأعمارها. يُكّبل قوتهم في بناء صروح، لن يعرف مَنْ سيحتل بنايات متاجرها أو مراكز مولاتها، أو مَنْ يتمتع بـ"مستعمراتها" السكنية، ويتحكم بشرايين طغاتها وطبقاتهم الظالمة، الذين يواجهون سيلاً شعبياً من إحتجاجات لتنسيقيات سياسية منذ العام 2011 وحتى اليوم (تعتبرها ديوب تأثراً بما يُسمى بـ"الربيع العربي")، يواجه فيها المنتفضين بعناد أوليغارشية متسلّطة. هذا نصّ شجاع عن بروليتاريا منسية تناضل للبقاء في "ديستوبيا" يحكمها شر مطلق، ويحاصرها هذيان بنوك وهدير أمواج محيط. الأول، معني بشراهات تتمثل بمتنفذ سلطوي وصاحب برج زجاجي ضخم (نراه كنموذج جبار منجز رقمياً بإتقان شديد)، يحمل عنواناً عربياً قريب الشبه بمثيلاته في دبي، يدعى الرجل ندايي (ديانكو سيمبين)، يتحايل في دفع رواتب شبيبة عاملة، يجتهدون في تأمين لقمة عيشهم بكدح مضن ومجحف، فيما يقدم الثاني وعداً مزيفاً لحياة رغيدة عند ضفة أخرى في إسبانيا/ أوروبا، حيث يمثل هذا الثنائي الجغرـ إقتصادي حلماً درامياً لحكاية تستعرض حالات متعددة من وأد إجتماعي مرير، يُغيّر أحوال بشره، ويحطّ من إنسانيتهم وقيمهم وكراماتهم.

داخل هذه القصة، التي مالت المخرجة ديوب (ولدت في باريس العام 1982) إحتسابها لصالح نوع سينمائي خاص يسمى بـ"فيلم أشباح"، تتوالد يوميات رومانسية بين إبنة السابعة عشرة إدا(ماما سانيه) وعامل البناء سليمان (إبراهيما تراوري)، بيد أن قدرهما لن يكتمل، لإلتزام أهلها وعد تزويجها من سليل عائلة فاحشة الثراء، وهو شاب شكوك يدعى عمر (بابكر سيلا). حكاية تقليدية في مجتمع صحراوي وشبه رعويّ، مرغم على الدخول في عالم رأسمالي من دون مقدمات إقتصادية، أو تهيؤات في بنيته القبلية. لذا، تفرد المخرجة ديوب إهتماماً ملحوظاً الى إظهار إكسسوارات شخصياتها التي وجدت نفسها متفاخرة بأوروبة شكليّة، فيما بقيت محاصرة بأفريقية تفكيرها ومنطقه، ومثله تعاطيها الصدامي مع حياتها العصيّة وإشكالياتها، ومواجهة هزائمها. تأخذ الأحذية الرياضية الغربية التي يرتديها ممثلوها الشباب، طابعاً إستعراضياً وإعتبارياً لحداثة وافدة، هم ضحاياها والمستفيدون من عطاياها في آن. الى ذلك، تتضافر الملابس الغربية وساعات المعاصم الثمينة والهواتف النقالة والنظارات الشمسية والحقائب وغيرها في تحويل الشخصيات تلك الى ما يشبه المعرض الصارخ بتقليعاته وألوانه وخطوطه، جاعلة منهم ـ كفريق، أحدهم صبية ترتدي تي شيرت مطبوع فوقه العلم الأميركي بلونين أسود وأبيض! ـ أقرب الى واجهات متاجر، تتغيير في كل مشهد.

حينما يقرر سليمان "ركوب البحر" مع مجموعة من الطامحين الى نيل رفاهية موعودة، ويغيب عن حياة محبوبة، أصرت بعناد على عدم السماح له بفضَّ بكارتها قبل إعلان علاقتهما الشرعية أمام الجميع، تقع الشابة تحت جزع وحدتها، ومرارة تخلَّيه عنها. لا تجد هذه الكينونة المفعمة بالحياة والعقلانية، بدا من الرضوخ الى حتمية ليلة زفاف، يلتمسها أهلها واجهة إنضمام الى طبقة إجتماعية أعلى شأواً. ترى أي خيار ستنتصر اليه أدا؟ عمر وثراؤه أم سليمان وغرامه؟. تجيب البطلة على هذا التساؤل بغموض ثنائي الجبهات، يعم المقاطع الأخيرة لهذا الشريط المفعم برونق فني مدروس لموسيقاه التي ألفتها الكويتية فاطمة القديري، وأيضا لهندسته الصوتية الثرية التي صممها بنوا دي كلريك، المعروف بتعاونه مع الأخوين البلجيكيين جان بيير ولوك داردان في غالبية إشتغالاتهما السينمائية مثل "الفتاة المجهولة" 2016، و"يومان وليلة واحدة"  2014 وغيرهما. فمن جهة، تتفشى حمى غامضة بين فتيات العاصمة، تحوَّلهن الى "زومبيات" أفريقيات، يواجهن بضراوة مظالم إجتماعية، قادت فتيانهن الى هجرات غير منصفة، تهدَّد حيواتهم وتسرق مستقبلهم.

 تتفجَّر الفانتازيا هنا سلاحاً رؤيوياً مغرقاً بهجائيته، تُمهد الطريق لنصّ صاحبة "ألف شمس" (2013، وهو تحيتها السينمائية لشريط عمها المخرج جبريل ديوب مامبيتي "توكي بوكي" المنجز عام 1973) كي يُشخصِن تمردات مسيَّسة، مرسومة بحذر، وتتحاشى المس بسلطات داكار أو إثارت حفيظتها، ولن تسعى الى تعميم أو توسيع حدود إختراقاتها لكيان شعبي محلي أو سلامه المدني. من هنا يُفهم ميل الشريط ، الى تصوير مقاطعه الختامية ضمن ظلام بصري مقنَّن، تورية عن مصائب ستحيط بالجميع، وتدفعهم نحو مواجهات ملّتبسة، تحدث داخل أماكن شبه مغلقة. قبيل إنتهاء حفل الزفاف المصور ببهاء لوني وزخرفي لافت، من قبل مديرة التصوير ذائعة الصيت الفرنسية كلير ماثون (لها "رجل عند البحيرة"2013، و"ملكي"2015 من بين أشرطة أخرى)، يحدث "هجوم" غامض على يد مجهول، يُحرَق فيه عمداً فراش أدا الزوجي والمصمم على غرار غرف الملك لويس الخامس عشر!، كمحاولة لمنع إتمام ليلة دخلتها، سبقته تحذيرات صديقتها المحجبة مرياما (مرياما قساما)، بضرورة تخلصها من علاقة آثمة، وهي على مقربة من عقد قرانها!. تحوم شكوك المحقق الشاب عيسى (أمادو مبو)، وهي شخصية ضحلة وغير مبررة درامياً ما عدا معاناتها من مرض غامض، في تورط البطلة، كما تتزايد ظنونه بشأن هجرة حبيبها سليمان، التي يرى فيها هروباً من مواجهة الجريمة!. على طرف أخر في المدينة المتوحشة، نرى الفتيات المكلومات رغم قوتهن وإستقلاليتهن، يتنقلن حافيات الأقدام بين أحياء المدينة وتحت جنح الظلام، ليتجمعن عند الشاطيء ـ الشاهد على هجرة أحبتهن. يقفن دائما في مواجهة أمواج "بحر الظلمات" كما يُسمى، متسائلات عن مصيرهم. حينما ينتهي هذا القداس السينمائي، تقابل المخرج ديوب ومونتيرتها إيل ديلير فيغا خذلانهن بحصافة مونتاجية بين مشاهد داخل المقصف الليلي/ ملجأ الأحبة، الذي تتحول فيه مساقط الأضواء على وجوههن ودموعهن وقنوطهن، وهن تائهات وسط الفراغ  والموسيقى الصاخبة، الى ما يشبه المأتم الجماعي المعاصر، تخترقه مشاهد مقابلة تفصيلية (كلوز أب) للغرف الفارغة للشباب المهاجر، وما تركوه من مقتنيات يومية قبيل إختفائهم، ربما الى الأبد. تقول المخرجة ديوب في حديث مع المجلة السينمائية المتخصصة الأميركية "فيلم كومنت" بتاريخ 22 مايو 2019: " أميل الى إنجاز أشرطتي حول وقت حاضر، من أجل ربط الماضي والمستقبل دائرياً. كان بمقدوري كتابة نصّ تجري أحداثه في العام 2006، وهو "فيلم أشباح" حول شباب يختفون فجأة، ولا يعرف أحد ما حدث لهم، ثم يعودون أشباحاً. لكنني معنية أكثر في تعقب آثارالفترة الخاصة بالذات من حاضرهم، مثلما إهتمامي بتعقب القوانين التي تتحكم بالعلاقات الحميمة لهؤلاء الفتيات الشابات. هناك تقليد يفيد إنه في حال إنجازك باكورتك السينمائية، إنما تحكي قصتك قليلاً، أن تتحدث عن لحظات مراهقتك. إكتشفت خلال معالجتي لشخصية الفتاة أدا، إنها تعيش في مرحلة مراهقة أفريقية لم تتح لي فرصة العيش فيها. لقد عشت مراهقتي في باريس، في بيئة بيضاء للغاية، كان ذلك أمراً جيداً، لكنني أعتقد أن كل المراحل، كل الفترات الزمنية التي لم أعشها في السنغال كفتاة مختلطة، ينبغي عليّ إستعادتها. لديّ رابط قوي للغاية مع هذه الشخصية. لقد ابتكرتها وأبدعتها، وهي حقًا وسيلتي لكي أعيش حياتي بموازاتها".

تصوَّب المخرجة ديوب، التي عززت خبراتها السينمائية كممثلة في عدد من الأفلام، منها "35 كأساً من الرم" (2008) للفرنسية كلير دوني، هاجسها وسهامه نحو يأس عام، بإعتباره أداة سياسيين ومتنفذين، يُختزلون في وجه السيد ندايي وتقاطيعه العدائية. أولئك المتحكمون بإرادات بشرية يافعة، تمتلك قوة عملها، لكنهم مرغمين على الخضوع لولي نعمتها وطاعة قوانينه وأكاذيبه. تهاجم الفتيات، تحت رئاسة سيدة الأعمال ديور (نيكول سوجو)، واللواتي تلَّبسهن "الجن" (حسب أحداهن)، وحوَّل محاجر عيونهن الى لون أبيض يشبه الحليب بنصاعته، قصر رجل الأعمال الفاسد، فاضحات طمعه بخطب رنّانة شبه ممسرحة، قبل أن يهددن بتصفية عائلته، ما لم يدفع إجور أحبتهن. أمام جبروتهن، يرضخ الرجل. هاهن كشابات منتصرات ضمَّن، في نهاية مطاف إصرارهن، ديات الراحلين، في حالة أن إبتلعهم المحيط. فعلى الأقل هناك أموال كافية لبناء قبورهم حتى لو كانت فارغة من جثامينهم.

شريط "إتلانتك"، وهو تطوير موسع لفيلم قصير أنجزته ديوب عام 2009، قد لا يكون عملاً كبيراً، لكنه في حده التجريبي (هناك ملامح لما يُشبه السحرية المخفَّفة) محاولة صادقة لربط ظاهرة هجرة عارمة تشهدها بلاد كثيرة في القارة السمراء، تعكس فساد أنظمتها وبغي قادتها وفساد حكوماتها وتهتك مؤسساتها المدنية، التي تدفع بشباب واعد الى مقابر مائية بثمن رخيص، مع حكاية حب مؤوودة لكائنات تخسر رهاناتها أمام مظالم لا نهاية لها، تشبّه إنحطاط إنسان إلفيتنا المحاصرة بالرِدَّات والعطب والخساسات الشخصية. 

سينماتك في ـ  29 مايو 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004