زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان كانّ السينمائي الـ72

"طُفيليّ" للكوري الجنوبي بونغ جوون هو... خنَّاسو الطبقات المُحقَّرة

بقلم: زياد الخزاعي

يستوطن "طُفيليّ"، الشريط السابع للكوري الجنوبي بونغ جوون هو، الحائز بجدارة على السعفة الذهب للدورة الـ72 (14 – 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي، جغرافيتين متباعدتين، لكنهما تلتقيان على منصّة هجاء إجتماعي عارم. الأولى، محتشدة بغمزات صراع طبقات مرير، يقود زبانيته نحو مكائد ولصوصيّة وإستلاب، مثلما يهيأهم كأباليس لا تتردَّد في إختراع أشد الحيل خُبثاً. حين تتهدد خططهم لن يتحيروا في تغيير تكتيكاتهم حتى لو تطلب الأمر سفكاً للدماء. الجغرافية الثانية، هي توقّد كوميدي جارف، تنكشف مساحاته الدرامية لصالح فيوض من محاكاة تهكمية (باروديا)، وهو نمط فكاهي يُفَّجر روح إعمال أساسية، تقوم على دماثات سوسيولوجية، تنقل شخصاً مُعْدَماً الى كائن ذي سطوة وبطش أو بالعكس. هذه حكاية عائلة كي ـ تايك (الممثل الذائع الصيت سونغ كانج هو) المؤلفة من أربعة أفراد. يعيشون مكدسين في شقة أرضية ضيّقة، تقع في حي عدائي. يسرق الشقيق وشقيقته إشارة الأنترنت من بيت الجار، فيما يتحايل الأب وزوجته في تسليع علب كارتونية لشطائر بيتزا وبيعها الى مطاعم، يشكو مديريها من رداءة صنع مظهرها وتصاميمها.

كينونة أُسرية متكافلة بمستقبل قاتم، تشاكس خيباتها الطبقية عبر الخديعة. ذات يوم، يستمع الإبن كي ـ وو (الممثل الشاب تشو وو شيك) الى إقتراح غريب من صديق جامعي، قرر التخلي عن دروس خصوصية، يعطيها الى فتاة من عائلة فاحشة الثراء، الأمر الذي سيكفل لهذا الإبن دخلاً عالياً ومنتظماً. فرصة نادرة وإنقلابية، تقود إسرتين الى حرب ضروس، قائمة على إختراقات وإمتلاكات وتخابث وتكاذب وتوريط... وأخيرا القتل. يشيد صاحب "أكوجا" (2017) و"مذكرات جريمة" (2003) مملكة سينمائية واسعة الأرجاء، تقوم على تشخيص فريد بدقته، وثراء بتفاصيله، وتنوع بمستويات تعبيريته. إن كل شخصية هنا محكومة بمزاج خاص يضمن دوافعها، ويصوغ خباياها، في وقت تستكمل فيها كل واحدة منها خيط الشخصية المقابلة، لتتشابك من دون تعقيد أو فذلكة، داخل متن هزليّ مُحكم الصنع وذا جودة درامية لا تضاهى. فكي ـ تايك الأربعيني هو رب أسرة سطحي ووضيع وبلا وظيفة، ومن دون خطط إحتياطية. يمتصَّ إنتقادات زوجته كي يحافظ على كياسته وسلامته وراحة باله، فيما يعمل نظيره الشاب مستر بارك (لي صن كيون. ووصف "مستر" تورد هنا للوجاهات الغربية) مديراً تنفيذياً لشركة عالمية متخصّصة بتكنولوجيا المعلومات. وهو "قصة نجاح قصوى وتناقض مثالي" لرأسمالي، قليل التهذيب مع موظفيه وخدمه، لا يستكفي من أرباح وظيفة مرموقة، فيدير شركته الخاصة في أوقات فراغه. يعيش في منزل فاخر بجدران إسمنتية عالية وغرف سرّيّة، من تصميم مهندس معماري مشهور، تاركاً إدارة شؤونه الى زوجته الحسناء يون ـ كيو (الممثلة تشو يو جونغ)، وهي شخصية ساذجة ونقيّة القلب، وتثق بالغرباء بيسر مبالغ فيه، رغم همومها بعقدة إبنها الصغير الغريب الأطوار. تقابل هذه الأخيرة نظيرتها تشونغ ـ سوك (الممثلة تشانغ هاي جن) ذات الشكيمة القوية، والبطلة الرياضية السابقة، والحاصلة على ميدالية وطنية برمي المطرقة، التي تعيش هاجساً مزمناً حول زيادة دخل العائلة بإي ثمن.

هذا الرباعي الطفيليّ هو تورية لرأس مال يتداوال بين طرفين، تتضارب أقدارهما وغرائزهما وميولهما. أحدهما معوز، بينما يرفل الأخر في عوالم نعمه مبالغ فيها. يستكمل الأبناء دورتهم القدرية، إذ يخترق الشاب كي ـ وو قلب الإبنة الغنية المراهقة، ضامناً عملاً مخترعاً، بعد تلفيقه شهادات تخرج من جامعة بريطانية، يسأله والده عنها بغمزة مسيّسة: "هل تعطي جامعة أوكسفورد دورساً في التزوير؟". تتبعه شقيقته في العمل كراعية للإبن الصغير المضطرب والمنعزل عن الأخرين، ثم والدهما كسائق سيارة المستر بارك. وأخيرا والدتهما التي تزيح مدبرة المنزل الأصلية، وتحل محلها بطريركياً إنثوياً يتآمرعلى كل شيء، شعارها: "المال مثل مكواة، إنها تُلّمِس التجاعيد!". وبما إن للجنة شروطها، تقع العائلة الغدّارة في مصائب أعمالها، لتتوالى أحداث دامية نادرة التفاصيل بين الأخيرة والخادمة السابقة، التي تقودها نحو عالم سفلي مظلم وشيطاني وسوريالي، إذ ان  تحت البناء الإسمنتي الواسع، أشاد الموظفان المطرودان عالماً أُسرياً بديلاً، يتحكمان عبره بالعائلة الثرية. يؤمنان حاجاتها بسرعة قصوى، يحرصان من خلالها على مراقبة كل زاوية، والإمساك بزمام سطوتهما. تبدو الحياة في أقصى غبطتها، بيد إن تفاصيل أحداث صغيرة تتجمع حول الكلّ، تقودهم نحو سعير دموي، مسلح بكل أنواع أدوات الأذى والتصفية و"إعادة تكرير" النفوذ. قوّة نصّ المخرج بونغ جوون هو (ولد عام 1969)، تتفجر خلال مقاطع أخيرة باذخة الصور من توقيع مواطنه هونغ كيونغ بيو (له "حريق"، 2017)، حيث يصل الصراع الى طريقه الطبقي المسدود. فالمرفهون عاجزون على منابزة غدر الوافدين، فيما لن يتمكن هؤلاء من ضرب جذورهم وسط عالم رافض لإصولهم الوضيعة.

ما حل الفوضى إن لم تكن بفتنة مقابلة؟. يرى مخرج "أم" (2009) إن تعايش مجاميع بشرية مع أخرى في عالم جشع هو أمر ليس بالهين، ما يدفع ببعضها الى إرتكاب خطيئة التطفَّل كوسيلة أخيرة للبقاء، وحتى في هذه المناورة فإن صمودها مشكوك فيه. عليه، فإن مراوغات عائلة كي ـ تايك المحكومة الى ضمير ميت، تواجه في نهاية المطاف إستحقاقات خسَّتها وتفككها. نرى الأب الخؤوون، مختتماً مغامرته وحياته في القبو المعزول، بينما تبقى زوجته على علتها المالية، وحلمها الذي لن يتوقف عن التناسل. وحده الإبن، بإعتباره وجهاً ساطعاً للدسيسة الشعبية وأنانياتها، ينتصب مزهواً بمراوغاته وإنتصاراتها المنتهية بشرائه (أو إستيلائه على) البيت المنيف ذاته، أو مسرح إصطراعهم الطبقي الذي عرضه المخرج جوون هو لنا، كجمهور عالمي، فوق خشبته وبين جدرانه، ملهاة "من دون مهرجين، ومأساة من دون أشرار".إن نبرة النقد الإجتماعي التحذيرية في "طفيليّ" (131 د)، والمُشعة عبر مؤامرات "خنَّاسي الطبقات المُحقَّرة" وتفاصيلها المدهشة، معنية بتشنيع عدم المساواة الإجتماعية والإستقطابية والتصدع العائلي والهزيمة الشخصية.

سينماتك في ـ  27 مايو 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004