زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان كانّ السينمائي الـ72

"لا بد إنها الجنّة" للفلسطيني إيليا سليمان.. الشاتم والمَشْتوم والشماتة بينهما

بقلم: زياد الخزاعي

لن تنتهي فلسطين إيليا سليمان في شوارع باريس ونيويورك وأحيائها وبشرها. جديده "لا بد إنها الجنّة"، الحائز على تنويه خاص من لجنة تحكيم الدورة 72 (14 -25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان كانّ السينمائي، وجائزة الفيديرالية الدولية لنقاد السينما(فبريسي)، يمد حدودها الى وجدان قاصر، يرى فيها ما يُشبه عورة سياسية، يشترك الجميع في شتمها، أو قِسط لن يتحقق مهما جار الزمان. في مشهد تهكمي نادر، يقول عراف أميركي للبطل الصموت (إداء إيليا سليمان) أن "يقين" إعلان "جنته" المستقلة لن يحدث في حياته، وربما لدهور مديدة، أو من الأفضل أن لا يحدث مطلقاً. هذا إسقاط مسيَّس يقع في منتصف شريط مصنوع بخفة مكروبة، وصور شديدة الأناقة من توقيع التونسي سفيان الفاني(له "الأزرق أكثر الألوان دفئاً" (2013) لمواطنه عبد اللطيف كشيش، و"الكتابة على الثلج" (2017) للفلسطيني رشيد مشهراوي)، ليوازن بين فردوسين مفقودين بالنسبة لـ"إ. س". الأول، مدينة الناصرة التي تبدو شبه فارغة، بضجيج مقموع، ويوميات بشر يتحركون كما "زومبي" ميكانيكي. هؤلاء هم سكان وطن، يحمل إسماً ضارباً في التاريخ، بيد إن من رسم حدوده الحداثية لا يريد أن يعترف به. قلة عدد شخصيات هذا المقطع، تحدده موتيفات سينمائية مميزة لإشتغال صاحب "سجل إختفاء" (1996) و"الزمن المتبقي" (2009)، فهي عناوين لعزومات شخصية، وتوريات مؤدلجة لكينونات فلسطينية مصابة بسوء النيات والفهم، وهي إستكمال لحصارات متعددة ومتشابكة، تبدأ بوجه الدولة اللقيطة وأزلامها، كما في مشهد الفرقة الأمنية الإسرائيلية التي تطارد فلسطينيين لن يُخلقوا فوق الشاشة، أو عنصري الشرطة اللذين يراقبان شخصاً ثملاً، يتبول وسط الشارع، ويرمي زجاجته الفارغة ضد جدار، من دون أن يتدخلا. يعاين إيليا سليمان هذا بصمت وعينين حائرتين تارة، ومندهشة تارة أخرى، وشكَّاكة في ثالثة، لا تسقط من حساباتها نظرات مرتابة أو إستفسارية، وهذه الأخيرة متوافرة بكثرة في الشريط (97 د) كونها وسيلة وحيدة لجذب إنتباه مشاهدها نحو مغاز وتأويلات يبثها سليمان بحسابات درامية دقيقة. مثلاً، يلقي علينا صياد عجوز نكتة بائخة ويمضي في طريقه، لنكتشف ان المزحة ليست هي الأصل بل "تصور" العقلية الشعبية القاصرة التي تقف وراء كلماتها وفصولها، والتي لا تتردد في كشف تهافتها، وإصرارها على الثبات، ورفض تغيير نظرتها الى محيطها أو تصحيح سلوكياتها، التي تتجلى في تصرفات إبنه الخرقاء، وتبريره الفج لسرقته حبات ليمون من شجرة جاره، أو سطوه على ماء رويها. أن هذا الإبن هو إمتداد ذهني لوالده الصياد، الذي يفجره (الإمتداد) إيليا سليمان في مشهد ضاج بهجائيته، حين نستمع الى تقابل حواري بين الإثنين، وهما جالسان كل بمفرده على شرفته، معطيان ظهرهما لبعضهما. يشتم الأول نجله بكلمات نابية، في حين يردّ الثاني بـ"تصحيح" مسبّاته، ويجعلها تبوعات بلاغية سليطة.

إيليا سليمان المتسكع موجود في كل لقطات فيلمه. يرى الناس والأماكن بإعتبارها كينونات عبثية، وضحايا تدمير فكاهي. تبدأ من مشهد إفتتاحي باذخ بهزئه حول قداس كبير، ينتهي بصفعات وعنف على إيقاع تراتيل "المسيح قام من بين الأموات، وأعطى الحياة لمَنْ في القبور"، يرتكبهما قس خلف بوابة، رفض حارس الكنيسة فتحها أمام حجاجها. أو كما في فقرة شقيقين فلسطينيين في مطعم محلي، يناكفان صاحبه، بعد شكوى شقيقتهما، قالت فيها إن الطعام "محمض"!. يصحح العجوز، مشيراً الى إن هذا طعم النبيذ المضاف للطبخة. يرد أحدهما(الممثل علي سليمان) قائلاً بغطرسة: "شو. تظن أختنا سكيرة؟". إن نظرة "إ. س" لهما تتحول الى هجاء سينمائي لتنمر يرمي سهامه نحو الشخص الخطأ. وهذا التنمر يتوالد في كل فقرة، حيث هناك إشارات لعنف مستتر، لحواجز مبطنة، لإقصاء مكتوم، لتهديد محجوب، يمارسها الفلسطيني ويشيدها على قرينه، بالقدر ذاته الذي يغل الإحتلال وقواته وفاشيته عليهم جميعا. إن السطوة الصهيونية  ليست هي العدو وحسب، وإنما الذهنية الفلسطينية الفاسدة التي تستكملها وتقويها، ونقابلها لاحقا في فردوس "إ. س" الثاني، المخصص لسفرتي باريس أولا، ونيويورك تالياً. ففي المدينة الأميركية، وخلال مؤتمر مناصرة لفلسطين، يطلب عريف الحفل من الجمهور أن "لا تصفقوا كتير، لإن القضية مش حرزانة"، مقترحاً أن يصفقوا لمرة واحدة فقط حينما يورد أسماء المشاركين، ومن بينهم إيليا سليمان نفسه. هذه مضاحكة على عقلية لم تستفد من وجودها في مهجرها، أوتُرتقي بسلوكياتها الى مصاف تمدّن منصف، مصرّة على إرتكاب الزلات ذاتها، وكإنها كروموسومات إجتماعية مسمومة، لن تُصحح مطلقا، تعكسها كلمات زبون عربي سكير وقوله: "أنتو الفلسطينيه مش متل الناس اللي تشرب حتى تنسى. انتو تشربوا حتى تتذكروا".

في هذا المقطع المطول، قبل العودة الى الناصرة، لنشاهد شباباً فلسطينيين يرقصون بجنون في مقصف ليلي محلي على موسيقى أغنية "عربي أنا" النضالية الأصل، يرفع "إ. س" من منسوب هزلياته، ذلك ان الرجل الغريب هو متفرّس نبيه بإحوال مجتمعات مرفّهة، متباهية بحرياتها وتقليعاتها، وأيضا بلاهاتها. كل نبذة هنا لها عنوان مستور. كل مواجهة للبطل مع الأخرين تحمل مقاصد إيديولوجية وإشارات لئيمة. ان سليمان يقارن بين ناصرته/فلسطينه وهاتين المدينتين، ليجد أن قواسمهما مفترضة حسب وعيه هو. فكما الأولى فارغة من بشر، تصبح باريس مساحة مخترعة، شوارعها قليلة الناس. وإن وجدوا، فعليهم ان يؤدوا "فارصات" ممسرحة، تسخر من ظواهر إلتقطها "إ. س"، هي عناصر ملهاة يومية لا تتوقف، تماما كما هو عرض الإزياء الذي تبتدأ به هذه الفقرة. فالعنصرية، تتشكل عبر نظرات شاب فرنسي، يهدد البطل بعضلات ووشوم إستفزازية داخل عربة مترو باريس. أما التبطر، فيشع مع زوجين سائحين يابانيين يلتقيان سليمان ويستفسران منه: "هل أنت برجيت؟"، أو مع عاملي نظافة أفريقيين يلعبان الغولف بمكانسهما وسط شارع فارغ!، أو مع ممرضين يزوران متشرداً، ليسألاه عن رغباته في وجبة غداء، كما لو كان زبوناً لأرقى مطاعم جادة الشانزليزيه! أما الغدر الإجتماعي، فيتضح ببذاخة في مشهد زوار حدائق التويلري، وتنابزهم على الكراسي.

ماذا يفعل إيليا سليمان في "منافيه" الجديدة، مسلحاً بـ"جماليات الصمت" كما يحب ان يسميها؟. أنه يبحث عن منتج لشريطه الجديد. الفرنسي يقول له "فيلمك ليس فلسطينياً كفاية!"، لإنه يبحث عن الفلسطينيين كخردة، فيما تتمنى المنتجة الأميركية له حظاً موفقاً لمشروعه، رغم تقديم الممثل المكسيكي غايل غارثيا برنال له بإنه: "مخرج من فلسطين، يصنع أفلاماً ظريفة!"، قبل أن يهرب من الحرج. وهذا الأخير هو ما يصادفه "إ. س" مع سائق سيارة أجرة نيويوركية من أصول أفرو أميركي، يعبر عن سعادة للقاء فلسطيني، لأنه يسمع بهم من دون أن يراهم، رغم إنه يعرف الرئيس "كرفات"!. يستمر الحرج مع الشابة الملاك التي يطاردها أفراد شرطة، لإنها رسمت علم فلسطين فوق صدرها العاري، وخدشت حياء المارة بخلاعتها!. في تراكم هذه الثيمات، تصبح شتيمة الفلسطيني لا أرض محددة لها. فالشاتم يملك قوته وحدوده وأسلحته وقوانينه. وهو لا يريد من وافد عابر أن يتحصَّن بشرعية وبأس غير معترف بهما، والتي رسمهما إيليا سليمان في مشهد فاقع، مع رجل حدود أميركي عبوس يفتشه، بعد أن صفر جهاز كشف الممنوعات. عندما يلحَّ الموظف على مهانته، يخطف الفلسطيني الغريب العصا الأليكترونية، ليداورها بإعجوبة كسيف ساموراي حاذق. إن خطاب فيلم "لا بد إنها الجنّة" يقوم على فكرة إحتشاد الشاتم والمشتوم داخل ضمير معطوب، يُسأل فيه "إ. س" بصلافة: "هل أنت غريب مكتمل الشروط (أو مثالي)؟"، بمعنى أن حدود فلسطينيته لا تنتهي عند جبروت نيويورك ولا أنوار باريس، ومثاليته الإنسانية لن تجد جوابها إلا في حارات ناصرته وتلالها ومزارعها ووجدانها وشرعيتها كبوابة غزاة، عبروها لإحتلال فلسطينه التاريخية. إن الشماتة تفصل على الدوام بين شاتم ومَشْتوم في جنات أرضية عدمية، تبقى في خيالنا، ويثبَّتها الإمبريالي كمعجزات صعبة المنال.

سينماتك في ـ  24 مايو 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004