زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان كانّ السينمائي الـ72

"الفتى أحمد" للبلجيكيين جان بيير ولوك داردان... وحوشنا المستترة

بقلم: زياد الخزاعي

كل مشهد أو فقرة أو شخصية في شريط "الفتى أحمد"(84 د) للأخوين البلجيكيين جان بيير ولوك داردان، موظبة سينمائياً كإحالات مثالية للفاشي الديني الآتي من شرقنا الأوسط. ان بطلهما اليافع هو جزء من منظومة سيوسيولوجية متضاربة الأعراق والسحن والمراتب والطوائف، يجمعها نظام متماسك، وقانون حاسم لا يُهادن. وهولاء ليسوا بإعداء وكائنات مقصية، بل هي في قلب أمة حافظة لحقوقهم. يتمتعون بالمزايا الإجتماعية ذاتها. يمارسون حريتهم سواسية مع أهل البلاد الأصليين. هذه نظرة عقلانية، يوفرها الأخوان داردان في المقطع الأول، حيث نرى بطلهما اليافع وهو وسط أقرانه داخل قسم دراسي، مُعرفين به كـ"شخصية غامضة"، يتميز بذكاء واعد، وأخلاق مثالية، بيد انه في مقاطع لاحقة، يتكشف عن مستور وحش كامن وسط كومونة مختلطة الأعراق والثقافات، لكنها مجتمعة على إرادة واحدة في إن هذا هو الوطن البديل.

يلفت صاحبا "روزيتا"(السعفة الذهب لعام 1999) الى ان أحمد مرتهن الى وعد عقائدي، يجعله في مواجهة مريرة مع والدته البلجيكية وشقيقته المتأوربة، ذلك أنه يراهما كـ"عورات" و"عاصيات". يتهمهن بالخفة و"إمتهان الدين". هذه المواجهة العائلية التي تقترب من عنف مخفف، هي إشارة سينمائية الى "الآتي الفاجع" في حياته. يقدم الأخوان داردان بطلهما اليافع ضمن منظومة أوروبية ديناميكية وحاضنة. توفر له مستلزمات مستقبل مضمون. إنه جزء من قطاع وافد، يتمتع بمزايا مشتركة في مجتمع رأسمالي، ينشد العمل الدؤوب والإخلاص لعقده الإجتماعي. ينال هذا القطاع جزءه من رفاهيتهم. ويستفيد من خدماتهم. وينظم لاحقا في سوق عمالاتهم. هذا مجتمع ديناميكي وعقلاني محكوم بقوانين تُسير قوته وجبروته التي تحافظ على مكتسبات مملكته العريقة. على هؤلاء الوافدين أمر واحد حاسم: الإندماج، ومنه الى الولاء، ولاحقا الى الذود عن مؤسساته. أحمد(إداء لافت من إيدير بن إدي) هو إبن شرعي لهذا البناء المؤسساتي، لكن هناك ملمحاً الى نأيه الشخصي عن الأخرين. نراه يستعجل أموره، أما الى إداء فريضة صلاته، أو الى لقاء شخص متخف، تظن والدته الغارقة بشؤون منزلها الصغير إنه يصاحب رفاق سوء. مع مشاهد سريعة، يأخذنا الأخوان داردان الى عالم مستتر لوحشية أحمد. فخلف نظاراته الطبية التي تضفي عليه ملامح الملاك، نتعرف على كائن خاضع بإرادته الى أوامر الشاب يوسف (عثمان مؤمن)، وهو أمام جامع ذو سحنة محببة وصوت خافت. يقود الصبي الى مراتب إيمانية إستنهاضية دعووية، تقول بـ"الإنتصار الى ديننا ورسولنا"، وهي ثيمة يرددها طوال وجوده القصير على الشاشة، وقبيل تواريه عن أنظارنا. يتحول أحمد بعدها الى أداة إنتقام.

يقسم الأخوان داردان عالم أحمد حسب تدرجات التأريخ القصير لمهمته. المدرسة ثم الجامع ثم البناية السكنية التي تقطنها معلمته المغربية، والمستهدفة بسكينه "لإنك تهينين معتقدنا". بعد مشادة بين أهالي الطلبة في إجتماع حام، يحسمه أحمد بإتهام السيدة الشابة بالخيانة لإنها متزوجة من يهودي. قد تكون هذه الحجة للأخوين داردان غير منصفة، لكنهما وجدا فيها نبرة تهديدية للتكافل الديني والإجتماعي في بلجيكا أولا وأوروبا ثانية، مقابل ان يجد فيها بعضنا تجنياً وغير إنصاف، إلا أنها ضمن عالم أحمد هي إنذار وتنبيه وإخطار. ان قرار بطلهما في تصفية أنييس(مريم أخديو)، وسعيه الى تحقيقه بأبسط وسيلة، لا تقود الى الشك، يثبت إن إختراق المنظومة الإجتماعية أمر في غاية البساطة حينما تتوافر إرادة الشر، مهما كانت تبريراتها وبواعثها. وهي قضية يشير لها مخرجا "الأبن"(2002) عبر مشاهد سريعة تجمع أحمد بإمامه، قبل وبعد الحادث المريع. للأول، يكون الإمام محصناً في مكمنه. يلتقي بمؤمنيه ويأم لهم صلاتهم، بمساعدة من البطل اليافع، ومن دون خطب تأجيجية. في الثانية، يدفع بالصبي حين يلجأ اليه بأن يبتعد ويتخفى، شارحاً له أن النظام العام لن يسجنه عن فعلته، بل سيحوله الى مركز لإعادة التأهيل. من هنا، ينتصر الأخوان داردان الى روح خطابهما السينمائي القائم على واقعية إجتماعية، متباسطة لكنها تتجذر في الوجدان. قصيرة الزمن لكنها غنية بمقاصد إيديولوجية، سهلة المقاربة والفهم. يتحول فيلمها بعد إلقاء القبض على الوحش الصغير الى "مناصحة" سينمائية، تسعى الى تذويب الحقد، وتُعلي من قيم مثالية النظام العام وعمقه ومثالبه ورحمته. يقول الأخوان داردان في حديثهما مع موقع "سينمايوربا" المتخصص إن: "المتعصبين لا يستمعون الى العالم من حولهم، إنه يبنون جداراً بينهم وبين محيطهم. مسعاهم الأساسي جعل الأخرين على شاكلتهم، مهما كلف الأمر".

يخضع أحمد الى سلسلة متواصلة من إعادة الإندماج، أو الإنقاذ من رجسه الإجرامي. تبدأ من جلسات نفسية الى فرق عمل جماعية، ورياضة مقننة، وتنتهي بالإنضمام الى فرق عمل تطوعي. وفيها، نرى أحمد منتقلاً الى عالم عملي مضن، لكنه يتطلب إخلاصاً قطعياً. من ناحية، ان الموقع هو مزرعة وحظيرة لعائلة بلجيكية، على أحمد ان يندمج معها ومتطلبات الخدمات فيها. ومن ناحية أخرى، ان البطل اليافع سيلتقي في وجه جداره الشخصي وإستحقاقاته، حين يلتقي بإبنة العائلة التي تقاربه في السن، وتقع في غرامه. يرفض ملامساتها وقبلاتها، ويفجر قنبلته الإيمانية في وجهها "إذا أردت الخلاص عليك أن تسلمي". ترفض الصبية الريفية دعوته الغريبة، ليعود أحمد الى أصل إنطلاقته وسذاجته وتحامله الذي لا يريد ان ينقطع، في إستكمال مشروعه الإنتقامي بقتل معلمته المغربية الأصل، وإغتيال خطيئتها. أن دورة الدم لن تنتهي. فالسور محكم والنوايا مسبقة، والدعوة لن تموت.

يهاجم اليافع منزل السيدة، بيد ان قدره لا يدفعه الى نهاية مطاف وحشيته. يقع من علو، ويكسر عموده الفقري. عندما تهب المرأة المصدومة من إصرار لمساعدته، يقرر الأخوان داردان ان يصحو ضمير "وحشهما الإسلامي"، طالباً غفرانها. هنا قتلا فيلمها، وأنهيا الأمل في أن يكون عملاً سجالياً لقضية وحوشنا المستترة. فيلم "الفتى أحمد" رحلة في عالم متسلط وأعمى، إلا ان الفيلم بتباسط حججه وبنائه الأفقي، فشل في الإقناع، باقياً ضمن خطاب سينمائي شديدة المثالية، يقول أن لا خلاص لإحمد سوى في عودته الى نفسه، وتغييره كينونته للمشاركة في بناء مجتمع لا يُخترق، لكنه يؤمن بالعدالة والرحمة. أما القصاص فله أكثر من معجزة.

سينماتك في ـ  20 مايو 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004