زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان كانّ السينمائي الـ72

"سيد المجهول" للمغربي علاء الدين الجم... أضرحة القحط

بقلم: زياد الخزاعي

يفتتح المغربي علاء الدين الجم باكورته الروائية المحكمة الصنع "سيد المجهول" (100 د) بمشاهد تعريفية باذخة الجمال لأرض جحيمية، وسواد قاحل، وقرية نائية، وبشر مقصيين. هذه جغرافية منسية في عالم بعيد عن كل ملمس حضاري. قوم متكافون حول كل شيء. فمن دون تعاضدهم تصبح الحياة سهلة للإختراق من قبل وحوش مدينية لا ترحم. لكي يبقى أولئك الريفيون في منأى عن غضب الرب، عليهم دائما خلق سادة بإسماء مقدسة، تُنجيهم من القحط والوباء والدم. يعرض لنا المخرج الجم مسرحه السينمائي بإعتباره كينونة مقسمة الى حالات إنسانية، تجد نفسها على الدوام ضمن مواقف عصيبة. فتحت سماء صافية وطبيعة عدائية، تصل سيارة يقودها شاب، تبدو عليه حالة هلع وعجالة، يحمل حقيبة سوداء، ويقف لاهثا أمام تلة شامخة، عند قمتها شجرة يابسة، هي بمثابة شاهد على محنة مقبلة. نعرف لاحقا انه لص، يسعى الى دفن مال حرام. لا يجد سوى هذه البقعة العجائبية لإخفاء ثروته التي تنطمر تحت تراب مصفر ومغبر على وقع صافرات سيارات الشرطة التي تعقبت مكانه وإعتقاله.

بحصافة سينمائية، لن يُطيل المخرج الجم لسانه السينمائي بخصوص تفاصيل هذا المفتتح المتقشف والمباشر بخطه الدرامي، بل ينتقل فورا الى مقطع تعريفي لاحق، خاص بعودة اللص الشاب (يونس بوعاب) الى الموقع ذاته بعد سنوات طويلة، ليقف أمام مشهد فاقع بسورياليته. على القمة، وفوق ثروته، أشاد القرويون ضريحاً متواضعاً لولي أسموه "سيد لمجهول" (وهو الإسم بالعامية المغربية)، يتنادى حوله بشر ينشدون كراماته، ويتوسلون عجائبه، في وقت يتصيدهم عند بابه باعة تذكارات ومحارم ونذور. انه موقع مختلق، لا روح عقائدية فيه، لولا العلامة التي تحمل الأسم الغريب. ترى مَنْ جلب الحظ العاثر الى هذه التلة الوحيدة؟ الإجابة الوحيدة التي نتلقاها، تتجلى في مشهد ختامي مفعم بالتهكم، حين نتابع بناء ضريح أخر يحمل أسم "سيدي إبراهيم"، وهو أسم والد الشخصية الرئيسية الثالثة الشاب حسن(بوشايب السماك)، الساعي الى هجرة نهائية من هذه الأرض العقيمة، وبناء حياة جديدة في مكان أكثر رفاهية وإنسانية. الإشارة البليغة هنا تتحصن وراء حقيقة "فبركة" الأولياء، بقدرة لا تمت الى حاجات إيمانية، بل تحولها الى "فرض" لأعراف تتأصل من دون حرج حكومي أو إختصامات عشائرية أو تنابز طائفي. وهنا مكمن الفكاهة العارمة التي غلف بها المخرج الجم فيلمه المتفطن.

على خط أخر، نقابل الطبيب (إداء لافت من أنس الباز) ومساعده العجوز (الممثل حسن بن بديدة الذي يعمل دائما مع مواطنه المخرج هشام العسري)، وهما كائنان غرائبيان. الأول يبدو مجبوراً بعمله، تحت طائلة قانون توظيف، يفرض العمل في مناطق نائية في البلاد، فيما يتحول الأخر في كل مشهد الى طرطوف مولييري، يتخاتل خلف محاجاجات فارغة تارة، أو يتباهى بتفلسف فارغ تارة أخرى، بيد ان حقيقته تنفضح ككيان مهزوم ومدمن ودجال، مهمته الأولى هي السيطرة على الطبيب الوافد، وتعليمه كيفية التصرف مع بشر يتمارضون على الدوام، وعليه ان يعطيهم علبة الدواء ذاتها لكل شكوى!.

الحاسم هنا، ان المخرج الجم وضع حصافته السينمائية في قلب قضية جشع عام. فالنصّ يمكن تجييره على أحوال أي مجتمع شرق أوسطي غارق اليوم في طائفيته وميثولوجياته الدينية. من هنا، تصبح الشخصيات القليلة مفاتيح طبقية لهذا التراتب المتشابك، فاللص الشاب يقابله زميله المسمى بـ"المخ"(العقل)، المنظم بغباءات متكررة محاولات إستعادة المال، أو تحييد "الأعداء"، ففيما يحاول الأول تدبير خططه بتأن ودهاء التي تنتهي على الدوام الى فشل هزلي، يكون الأخر أكثر كوميدية في صولات تتشبه بمثيلاتها لدى الفريق البريطاني الشهير "مونتي بايثن" من ناحية هجائياتها للحظات إنسانية مدنسة، خصوصا في فيلم "سمكة تُدعى وندا" (1988)، وبالذات في مشاهد محاولة جرح كلب حارس القبر "لأن قتله تجلب اللعنات" حسب شخصية المساعد. في حين، يصبح حلاق القرية/ طبيب الأسنان المرابي وصاحب "الإبتكارات" الذي لا يفوت مناسبة للفوز بالديات والذمم، صنواً لتكالب حارس المقام (عبد الغني كتاب)، وهو رجل أرمل بائس، في تحميل ولده الصغير مصائبه، في وقت يغمر كلبه كل عواطفه وإهتمامه. ان "مقامه" كحارس يجعل منه سطوة قبائلية مخبؤة ومزيفة. أما الثنائي الأخر، الطبيب ومساعده، فيواجهان بعزم زمرة متأسلمين، يحولون الضريح المجهول الى أداة لفرض فاشية دينية على الجميع، لكن من دون مواجهات مسلحة أو إغتيالات، بل قفشات ومنابزات تستفز من دون سفك دم، كما هو واقع حالنا اليوم. يصوغ المخرج الجم هذه المواجهات في تصفح سينمائي متباسط، حيث دورة الحياة تأخذ خطاً مستوياً، لا يقطعه سوى موت ينوس فوق أرض بور. عندما يتوفى الفلاح العجوز إبراهيم، وهو الشخصي الإيجابية الوحيدة في الفيلم، المكافح الوحيد ضد الجفاف والقحط، كمداً على تخلي الله عن قريته وأهله، عبر شح مطره على أرضه المحروقة، يقود رحيله إبنه حسن الى إكتشاف "الكنز" بالصدفة، إثر تفجيره مقام الولي الكاذب، التي صور أمين برادة تفاصيل مطارداتها بنفس حيادي باذخ الألوان ومشهديات ثابتة غالبا، وكأنها إثم يولد إثماً أعظم. المفارقة الأخيرة في تهكم "سيد المجهول" أن الفلاح الشاب لن يهاجر كما فعل الكثيرون بل يُشيد مقاماً حقيقياً عند مشارفة القرية المنكوبة التي تفشى فيها الفساد والخراب. يطلق على البناء المشابه للقديم بألوانه البيضاء والزرقاء، أسم "ضريح سيدي إبراهيم" تيمناً بوالده الراحل محارب القحط والجدب. وهي إشارة بليغة الى الإنتصار على غيبية جماعية معيبة.

يحشد المخرج الجم الوافر من "غمزاته" المسيسة، فالدولة الرسمية غائبة، والسائح الأجنبي يمر كنسمة عابرة، والذكورية شائعة في كل الفصول، يقابلها تغييب شبه كامل للمرأة، وإن وجدت فهي هامشية ومغبونة. هناك رب مغييب لصالح "تجارة" معتقدات تتسيد وتتوحش. هناك أضرحة تتنافس، فيما تتقوى عنادات بشرية ضد تحضرها. عالم "سيد المجهول" هو سقر متعاظم وأُناس تقودهم غوايات وخُزعبلات وباطل ثيوقراطي.  

سينماتك في ـ  17 مايو 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004