زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان كانّ السينمائي الـ72

"الحياة غير المرئيّة لأوريديسي غوسمَو" للبرازيلي كريم عينوز... في أوقات الشرّ

بقلم: زياد الخزاعي

الفيلم السابع للمخرج والفنان البصري البرازيلي من أصول جزائرية كريم عينوز "الحياة غير المرئيّة لأوريديسي غوسمَو"، الحائز على جائزة تظاهرة "نظرة ما" في الدورة الـ72 (14ـ25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي، هو عنوان مجيد لحكي سينمائي محكم الصنع. فاتن في قوّته الدرامية ونزعاتها الواقعية الإجتماعية. خاطف في إيقاعه الملحمي المعقود برمّته حول تفكك عائلة هامشية، تقودها أقدارها نحو عوالم إفتراقات وعداوات وغُمَّة إجتماعية. مقتبس عن رواية الكاتبة مارتا بتاليا (ولدت في عام 1973) بالعنوان ذاته حول شقيقتين، تتساوق حياتهما كل من باب خياراتها الشخصية. تجد الصغرى أوريديسي(كارول دوارتي) نفسها فريسة زيجة مرتَّبة من إبن شريك والدها في المخبزة الشعبية. هو حيوان جنسي لا يشبع وشبه معتوه. يفرض عليها حصاراً مقنّناً قائماً على ظنونه وشكوكه. . فيما تقع الكبرى جويدا(جوليا ستوكلر) في عشق بحار إغريقي عابر، وتقرَّر السفر معه على أمل إستقرار موعود، وأسرة في حكم خيالها.

يبدو شريط عينوز للوهلة الأولى قريب الشبه بنوع تلفزيوني إبتكرته البرازيل في العام 1951، ويُدعى "التيلينوفيلا". حصد نجاحاً شعبياً متواصلاً ومنقطع النظير في بلاد القارة اللاتينية، قبل ان يستقر في المكسيك حاليا، ويعم العالم لاحقا. الساغا العائلية المطوَّلة ذات طابع ميلودرامي بحت. تداور فصولها حكايات مصيرية، تبدو إنها من دون نهايات حاسمة. إغواءاتها الأساسية تنشد متعة التلصَّص على شؤون أسرية، تجتمع على حب، تفسخ روابطه عوامل شخصية مثل الأنانية والجشع والغيرة وغيرها، قبل أن تخترق تلك الإغواءات قيم حداثية، مثل العرقية والشذوذ الجنسي والإدمان وغيرها. ينحو نصّ صاحب "حب للبيع" (2006) الى الإحتفاء بمصائر نساء شبه غير مرئيّات في مجتمع بطريركي عنيد وأناني ومتعصّب. يواجهن صنوفاً من غلّ إستعبادي وإستغلال جنسي وإقصاء سياسي وإمتهان أسري. إنهن كفارات إجتماعية لن ينجدهن نظام أو دستور أو عقيدة. كائنات منقادات بيسر نحو رقَّ أزلي، وكأن بشريعتهن ومصائرها السوداء قضت بها طبيعة نسوية مجبولة على خطيئة ونقص وكيد. تتحوّل يوميات إستعبادهن الى عاقبة أبدية، نرى نماذجها في شريط عينوز بوفرة لا تضاهى حيث نلتقي، في كل فصل منه، امرأة موضع نائبة شخصيّة لا حدود في جزعها. أول علامتها والدة الشقيقتين التي يتعامل معها الوالد الخباز المتزمت لكاثوليكيته (أنطونيو فونسيكا) ككيان تابع وطفيليّ. محمَّلاً إياها الفاجعة اللاحقة التي تقود الإبنة البكر الى فضيحة حملها من رجل غريب، له في كل ميناء "عاهرة"!. هذه الأم هي وجه أخر لنكوص إرادي، يسعى عبر طاعته العمياء الى الحفاظ على وحدة كيان سلالته، وإن كانت على حساب كرامته وحريته. تتوارث الأخت الكبرى جويدا هذا الجبن الذاتي، متخلّية عن حلمها في إستكمال دراساتها الموسيقية في كونسفتوار فيينا. عليه، تصبح موهبتها في العزف على البيانو وكفاءتها الواعدة "أُضحية" لشرط أمومة مغصوبة على التوريث. يتماثل هذا التأزّي أيضا في نموذج سيدة خلاسية مستوحدة، ترعى أوريديسي لاحقا، وتصبح ملاكاً وحارساً لها ولطفلها. هذا الأخير هو ذريعة طردها من بيت والد، أعتبر الجنين النافخ لبطنها منقصة أخلاقية، صارخاً في وجهها: "أخرجي من الباب الخلفي كي لا يراك الجيران".

حينما تختفي الكبرى في الفصول الإبتدائية من الـ139 دقيقة طول الفيلم، تنحني الشقيقة الصغرى الى ضيم شاسع. تتحرى الأولى الأمل في إنعتاق أوروبي، يفسح لها المجال لمغامرة بعواقب غير محسوبة. فيما تدور الثانية في فلك حلم سفر موعود الى موطن موتزارت، وتخطيط لشهرة دولية مؤوودة مسبقاً. تقع الأولى في خديعة  مغامر جوال وبلا ذمَّة، في حين تنصاع الثانية الى "مال" سليل أكابر، وتنتقل الى حي مُتنعّم في مدينة مهيبة الأحياء والأجواء، صورتها الفرنسية إيلين لوفار (لها "شواطيء أنييس"2007 لمواطنتها أنييس فاردا، و"لما شفتك"2012 لآن ماري جاسر، و"سعيد كما لاتزَرو"2018 للإيطالية أليتشه روهرفاكر.. وغيرها)، بوفرة مشهديات مُفخّمة ومعقدة البناء البصري، فيما زهت ألوانها بألق مراحل تاريخية، تمتد من بدايات خمسينات القرن الماضي وحتى مشارف حداثاته. ريو دي جانيرو في شريط عينوزهي حاضرة مدينية مُتنوّعة وضروس، محاطة بفردوس غابي غامض. تخطو الشقيقتان اليافعتان بين أكماته حافيات، كما لو كن جنيات، يشرفن على أرخبيل مأساتهن. الى ذلك، يمكن عدّ هذه المدينة رحماً عمومياً، ينمو الجميع  بين جدرانه، كلّ حسب جذوره وأهوائه ومغامراته وبخته. هذا الأخير (الحظ) هو بطل مطلق للفصول الأخيرة، حيث تكون الحياة غير المرئيّة لكلتا الأختين تجسيداً لخيانات أقدار وغدر أخرين، "لأَنَّ الإنسان أيضاً لا يَعْرِفُ وقتَهُ. كالأَسماك التي تُؤخذ بشبكة مُهلِكَة وكالعصافير التي تُوخذ بالشَّرَك كذلك تُقْتنص بنُو البشر في وقت شرٍّ إذْ يقعُ عليهم بَغْتَةً" سفر الجامعة 9: 11-12. هذه الفجاءة، تحيل أوريديسي الى جوقة إجتماعية. نسمع عبر مونولوغاتها الطويلة تراكماً من طغيان، يمنع معرفتها بعودة أختها، ولاحقا يعطل اللقاء المفترض بينهما. لهما الأن حياتان غير مرئيّتين. أم عزباء مع وليد لن يعترف النظام بمواطنته، ما لم يوقع والده البعيد وثائق أصله. وأخرى بعائلة ضاغطة، تستهين بأشباحها الموسيقية، وتُجبرها على تأمين جسدها لشهوات زوج لن يتوقف عن مواقعاته الجنسية. سرّها المستور هو كتابة رسائل حميمة الى أختها. تتطوع والدتهما في تأمين وصولهما اليهما، قبل أن نكتشف طامة حيلتها.

يستفيد مخرج "مدام ساتا" (2009) من منهج التعليق الصوتي لبطلته، كأداة دعم معلوماتي، يُذكّر كثيراً بنهج الأميركي ترينس ماليك خصوصا في "شجرة الحياة" (2011)، حيث كلّ فصل يقود الشقيقتين الى محن جديدة، تُرتهن لعناته لـ"وقت لا يملكاه". تنتهي جويدا عاملة في مصنع. تبيع جسدها الى مديرها، لتأمين مصل طبي يخفف أوجاع فيلومينا "ملاكها الخلاسي" والوصي عليها. بائعة الهوى العجوز والوحيدة التي لا تتوانى من حضّها على البحث عن توأمها، قبل ان تورثها إسمها وبيتها. يُعلِن موت هذه الشخصية الثانوية وتوقيته، عن "قتل" نهائي لهوية جويدا. ومثلما "يختفي" أسمها، "تختفي" أصولها. أما أريديسي، فعليها بالمقابل الإنعتاق من عسرتها. تُكلف شرطياً متقاعداً من أجل تعقَّب مكان شقيقتها ومصيرها. بيد أن الـ" بَغْتَة" المقبلة تقف لها بمرصاد قدري، ضاغط بمواجعه. تفد المباغتة في عوالم إريديسي، وهي في خواتيم العمر(عودة مجيدة للممثلة المخضرمة فيرناندا مونتنيغرو)، حين يكتشف إبنها البكر بالصدفة رسائل محفوظة في صندوق خردة. إنها رسائل جويدا المختفيّة بتواطؤ والدتهما التي ـ لظرف تهديدات الأب ـ قطعت حبل سرتهما الكتابية. أن جحيم البطلة يشتعل الآن بنيران مداهنات أم متوفاة وشقيقة مُغيَّبة.

ومثلما جعل المخرج عينوز (1950) من الصدفة الناقصة التي تعرقل لقاء الشقيقتين، كما في المشهد الصاعق في مطعم راق بريو خلال إحتفالات أعياد الميلاد، حينما ترى الكبرى والدها جالساً من دون أختها، تعويذة درامية للحيف الإنساني. يُمسك بهذه الصدفة مرّة أخرى، في المقاطع الختامية، وبإرادة مخرج حكاء خلّاق، ليفجرها كسبُّة أخلاقية مفعمة بالأسى، في إستعارة جلّية لإشتغالات هوليوود الخمسينات، مع رحلة المرأة العجوز الى عنوان أختها، ولقائها مع إبنة جويدا المراهقة التي تحمل ملامح أمها وملاحاتها وتحررها وقوّة شخصيتها. إنها دورة حيوات خفيّة، إمتلكت صمودها وشراساتها ووفاءها، بيد إن أوباتها تُختتم على نمط تراجيديات إغريقية، يلحّ المخرج عينوز في أحاديثه الصحافية على إن عمله هو تكريم شخصيّ لجدته ـ وجيلها، كما قال في تصريح للمجلة الأميركية المتخصصة فارايتي في عدد 22 مايو/ ايار 2019 ـ التي ربَّت والدته وعمته كأم عزباء، ومروا بويلات إجتماعية وعنف وترهيب، قريبة الشبه بمأساة الشقيقتين. لعل أكثر مشاهدها إختزالاَ وبلاغة وعنفاً لفكرة القهر الجماعي، ما تدفّق في مشهد حرق أوريديسي لآلة البيانو خاصتها، معلنة في لقطة قريبة جدا (كلوز أب) لوجهها الذي إستحال الى حجر إنساني، عن كربها وإحتجاجها العاصف ضد الجميع، ومحاولاتهم إخراسها، وجعلها غير مرئيّة الى الأبد. هنا يُطبّق مخرج "الجُرف الفضي" (2011) مقولة مواطنه الروائي خورخي أمادو الذي يستعير منه، كحفيد شرعي، الجذع الدرامي لمملكته الروائية الزاخرة بواقعيتها وتهكمها: "عليك واجب أن تترك شخصياتك تتصرف كيفما تشاء، وكيفما تقرر".

شريط "الحياة غير المرئية..." مغامرة سينمائية بنزعة صدامية، رغم صفاء عوالم مشهدياتها الشبيهة بالمنامات. وهو أيضا مانفستو مسيّس بخطاب تأثيمي لإغتصابات "مُشَرّعة" بأعراف رثّة وذاتية، تدعو للغّصة والرفض. يقول المخرج عينوز: " قابلت الكثير من نساء عاصرن تلك الفترة العصيبة، ويبلغن اليوم ما بين الثمانين والتسعين من أعمارهن الجليلة. سألتهن كيف كان ردّ فعل نساء تلك الحقبة حين يرين رجلاً عارياً؟. هل يمكنك أن تتخيل: أنك لم تشاهد أبداً جسداً عارياً، ثم تقابله وتكون مجبراً على ممارسة الجنس معه. أخبرتني سيدة إن زوجها واقعها في ليلة زفافهما 8 مرات. فقط لأنها زوجته، ويمكنه أن يفعل ما يشاء. الميلودراما الجيدة هي أيضا عن السخرية، أما الميلودوراما السيئة فتخشاها".

سينماتك في ـ  03 يونيو 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004