زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"فاردا بحسب أنييس" للفرنسية أنييس فاردا... سيّدة الجسارات

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

لم أشأ أن اِتَّرك مقعدي، إثر إنتهاء عرض الشَّريط الوداعي للبلجيكية الفرنسية أنييس فاردا(1928 ـ 2019) "فاردا بحسب أنييس"، صبيحة ذلك اليوم المشمس، الأربعاء 13 شباط/ فبراير 2019، في "قصر السينما" الواقع بساحة مارلين ديتريش في حي بودستامر الراقي، حيث مقر مهرجان برلين السينمائي(برليناله). لم أكن قادراً على الحراك. فما شعّ أمام عينيّ هو فيوض من سينما طاقة نقيَّة، فَّجرتها وصيَّة سيدة ديناميكية، تقرع جدران عامها التسعين لكنها لا تشيّخ. كان جلياً في "الفصلين الدوكودراميين" اللذين تَشَكَّل منهما الفيلم الزاخر بتنوُّعه، إنها تستعيد: أمجاد حرفيّة مجيدة صدامية ولا مهادنة. إبتكارية متحرّرة، تستفزّ ما هو سائد ويومي. رؤى حيوية بتفلسفها المتباسط للحياة والأسرة والصداقات وأوروبا والطبقات والجغرافيا والزمن. إحتفاء بأحبة عاصروها، وإخترقوا مهجتها، وحرَّضوها على العيش ضمن فعل إنتاجي لا يتقاعس أو يتذلّل. تفكيك لحظات خلّاقة، صنعت عشرات العناوين لمنتج فني ثريّ، ليس براديكالية خطابه وسينوغرافيته حسب، بل بسرعة تأقلمه مع تقنيات رقمية مستحدثة، وتسبيق فاردا في تبنَّيها قبل الجميع.

هذه المرأة، أشبه بـ"فريدا كالو أوروبية". تتشاركان بمرجعية شخصية تقارب حقيقة بشر، يعيشون حولهما، ضمن محيط فوَّار وناريّ واِنقلابي، كل منهما ترصدانه عبر وسيطها الخاص. الفنانة المكسكية بلوحاتها الممسرحة ذات القصدية المباشرة، والمتوقّدة بفانتازياتها العائلية ورموزها التاريخية ووقائعها الإيديولوجية. فيما أبقت صاحبة "كليو من 5 وحتى 7"(1961) مساحاتها البصرية الشديدة التغيَّر والتجهيزية، أمينة الى "قبائلها" الأوروبية و"زمنهم القاسي" حسب وصف فرانسوا تروفو(كما في "لا بوانت كورت"1955، و"أحداهن تغني، الأخرى لا"، 1967)، وشواطىء صباها(كما في "شواطىء أنييس"، 2008)، والسينيفيلية الجسورة المكلَّفة بصون السينما وقبسها الدهريّ(كما في "الف ليلة وليلة"، 1995)، والبلدات المتاخمة للتحضَّر الوحشيّ(كما صورتها فاردا بغرائبية شعرية في "المخلوقات"، 1966)، وأولئك المغلوبين على أمور لقمتهم وعسر حيواتهم في أزمنة عوز(كما ظهروا عبر المنسيين العائدين في شريطها المشترك مع مواطنها المصور الفوتوغرافي جي أر "وجوه أماكن"، 2018)، الأُضحيات النسويَّة اللاتي يعشن هامشاً لا مرحمة فيه("بلا سقف ولا قانون"، 1985). والأزواج الذين تنهش حيواتهم طقوس الملل واللا ألفة (كما في "السعادة"، 1964). وعبيد الغرابات الإنسانية في قرننا المدجَّج بالشراسات(كما في شَّريطها التأملي الخاطف "الملتقطون وأنا"، 2000)، من دون أن نغفل ولعها  برموز حياتها ومهنتها، في مقدمتهم زوجها المخرج الراحل جاك دومي ("جاك من نانت"1990، و"عالم جاك دومي"1993)، ومثله المغنية البريطانية والممثلة جين بيركن ("جين بي حسب أنييس"، 1987).

فاردا هي مجموعة نيّات، تعتمد فراساتها السينمائية على كلمات ثلاث، ذكرتها في مانفيستو قصير، تضمَّنه الكتيب الخاص بنصّها الأخير، وهي: الإلهام، الإبداع، الشراكة. إعتبرت الأولى ذريعة لإنجازنا فيلم ما، حيث إن "الدوافع والأفكار والظروف والمصادفات تتكفَّل في إثارة نزعتنا الى تصويره". أما الثانية، فتعني كيف نصنع الشَّريط. أي وسائط نستخدم؟، أي حبكة نختار؟ كُلّ بمفرده أم معا؟ بالألون أم من دونها؟. معتبرة ان "الإبداع هو وظيفة". في حين توكد في الأخيرة على "أنك لا تُنجِز أفلامك كي تشاهدها بمفردك، بل تصنعها كي تُعرِضها(جماهيريا). وكتبت متهكّمة: "دار عرض فارغة = كابوس لمخرج سينمائي!". في "فاردا بحسب أنييس" تتجسَّد هذه التعاليم بقوّة. من ناحية، إن فاراد جالستنا، ضمن مشهد أول على خشبة مسرح، وأمامها تمثال عصفور ملّون، في مواجهة جمهور حاشد، على مدى الـ 115 دقائق، طول فيلمها، كي تبرهن لنا ما هي فائدة كل منها، وكيفية التعاطي معها وتطويعها وتفَّخيخها. من ناحية أخرى، إنها أدوات مخرج تقودنا ـ وأياه ـ نحو فهم عالمنا. وحسب بصيرة فاردا، فالحياة هي عن إناس حقيقيين "إنهم في قلب عملي"، تقول. "هذه هي طريقتي التي أشير بها دائما إلى أشخاص أصورهم سواء في المدن أو الأرياف". لذا فان أكثر صفة يمكن الإمساك بها في عملها الختامي هو إستمرار نزاهتها القاطعة تجاه سينماها. فاردا مقاتلة شرسة وجسورة من أجل عصمة حكاياتها التي تتداخل بإلفة مُبَجَّلة مع سيرتها الذاتية. فحين تعرض لنا، في مفتتح الشَّريط، مشاهد لقاءاتها مع أفراد عائلتها، تصوَّر عناقاتهم من خلف قلوب ملّونة، يرفعها أطفالها أمام عدسة كاميرتها، قبل ان تضع مجسماً لشمس تضحك في نهاية المشهد، تورية عن فرحة أُسرية أصيلة!. فأيّ مخرج يجازف بمثل هذه "التقليعة الحماسية" سوى فاردا وجنونها وإندفاعاتها.

تعود بذرة فيلم "فاردا بحسب أنييس" الى العام 1994، حين نظمت "المكتبة السينمائية الفرنسية"( السينماتيك) بباريس عروضاً إستعادية شاملة، وأصدرت كتاباً حول تجربتها حمل العنوان إياه. بعد 25 عاماً، تُحِقِق فاردا مشروعها المكوَّن من مقاطع فيلمية وحوارات ومقابلات وصور فوتوغرافية وفقرات تجهيزية، مستعيرة العنوان  مرّة أخرى. عملية التدوير هذه جوهرية لإنها "تضمن أساسيات مجمل عملي الإبداعي. وعبرها أعطي شفراتي الخاصة، أفكاري، بلا إدعاء". الكلمة الأخيرة (إدعاء) هي يافطتها الأخلاقية ضد التفكير المؤسساتي، أوالإرتهان الى تحديدات وصفيّة على شاكلة "الجندرية" التي تمقتها، رغم ان المرأة رمز ثابت في خطابها السينمائي، وإصرارها على إن أحلامها وطلقها الفني هما سلاحاها في ضمان فرادة نظرتها الى: الدنيا وحيواتها، الضمائر وأبطالها، الكينونات وسقطاتها، العادي وزواله، الهوس الإنساني وجناياته، الحقوق وغُدَّارها، الإهدار البشري وذنوبه، التكيف ورهاناته. ان الهدايات التي تلقيها فاردا ضمن فصليّ الفيلم، إنما هي في واقع الحال كُرونُولُوجيا تثقيفية ومعرفيّة، لمجمل الرؤى التي زَخَر بها منجزها الفريد.

في المقطع الأول الذي يغطي الفترة ما بين 1954 ـ 2000، ترفع أمام وجوهنا سيرورتها الإبداعية الأولى القائمة على مصادفات لعبت دوراً مركزياً في تثبيت سمعتها وتمايزها بين أقرانها فرنسياً وأوروبياً، خصوصا مساهمتها (من بين أخرين) في إيقاد جذوة تيار "الموجة الجديدة"، ونشاطاتها ضمن عُصبة مجلة "كراسات السينما". الأبرز في هذا المقطع، الإستعادة الحصيفة التي وفرتها لنا بشأن عملها التأسيسي "بلا سقف ولا قانون" وخلفيات ولادته ومعانيه وسهامه الأيديولوجية والسوسيولوجية، هذه المرّة بصحبة الممثلة ساندرين بونير(52 عاما)، التي إكتشفتها أنذاك قبل أن تتحول الى ممثلة ذائعة الصّيت عالمياً. ما فعلته فاردا جاء ساحراً ببساطة تكوينه، ومعبّراً عن شغفها بـ"ميزانسين الصورة". تجلس السيدة العجوز مع ممثلتها على "منصَّة تراكينغ شوت"(دوللي كاميرا)، على خلفية عراء زراعي قاس وتحت سماء جليدية، يستلفان جغرافية المكان الأول وطقسه، حيث أُكتشفت فيه جثة الشابة المتشرّدة مونا، التي إستخدمتها فاردا ذريعة للتحامل على مِيتَة عبثية، تسبَّبت بحدوثها أنانيات وذمَّم ساقطة. وكما هو البناء البصري التجديدي لهذا الفيلم الموجع، والقائم على إستراتيجية "لقطة المتابعة(تراكينغ)"، التي قال عنها زميلها المعلّم جان لوك غودار"لقطات المتابعة مسألة أخلاقية"، أصبحت لاحقا أحدى علاماتها السينوغرافية الرئيسة، تعيد إستخدامها كرّة أخرى هنا، ولكن من وجهة نظر تعليمية بحتة.  

تخصَّص صاحبة الفيديو التجهيزي النَبِيه "بطاطاتوبيا"(2003)، المقطع الثاني (2000 ـ 2018)، لما يخصّ تفكيك نظرتها  بشأن إنقلاب تقني، قادها الى تثوير مهاراتها ومنهجيتها، حينما وجدت في التكنولوجيا الرقمية ملاذاً سحرياً لحسم خياراتها فيما يتعلق بالفيلم الوثائقي و"هندسة إيقاعه" و"تركيب أصواته". تُفصّل فاردا الكيفيات التي حضّتها على مقاربة أيّ ظاهرة من دون خوف،  أيّ حكاية مهما كانت ملّتبسة أو عسيرة على إقناع مشاهدها بجدواها، وأفضل مثال على ذلك نصّها "الفتيات بلغن 25 من العمر"(1992)، وهو إستحضار سينمائي حميميّ لفيلم زوجها الراحل جاك دومي "فتيات روشفور"(1976). إن حريتها هنا ركيزة حاسمة لجذب الدهشة وإختراعها، وإستدعاء الخلق بأقوى حالاته، فمهمتها كما تعترف كامنة "في تغيير عقول الناس، وتغيير رؤيتهم للعالم وعن الأخرين". تذهب فاردا الى أقصى المسبَّة السينمائية، حينما تصوَّر أناس عاديين يلتقطون خرداوات وزُبالات وفواكه منتِنة وملابس رثّة منسية ومخلفات مطاعم. هؤلاء مواطنو رأسمالية مُتَوحّشة، غافلتهم الرحمة وشفقاتها. تشاكس فاردا السينما، فتبني كوخاً من أشّرطة سيللوزية لأفلام قديمة. تكسر حاجزها الرابع، فـ"تُقطّع" شاشات عروض، كي تجمع فوقها وعبر ضيائها كل رغباتها وسُّنة حيواتها. تضع صورة طريق بحري على أشرطة بيضاء، كي تغوي زائرها بفتحها، فيألف نفسه وسط شوارع من صور فوتوغرافية، مُحتفية معه بتاريخها الفني كمصورة أولاً. تارة أخرى، تلصق عشرات البورتريهات لمواطنين عاديين على حائط كامل، إحتفاء بإنسانيتنا. تستميل زوارها بعشرات المقابلات لأناس غرباء، كي يصغوا الى حكاياتهم. هذا هو مبدأ المشاركة التي دعت اليه، ذلك ان صالات العروض والمعارض ليست مكاناً للفرجة وحسب، بل جنّة جغرافية للتكافل العاطفي، وتبادل المشاعر وتهذيبها.

لا أحد سوى فاردا، مَنْ يتجرأ على وضع ألة عرض سينمائية فوق عربة يدويّة، يدفعها أبناء سكان قرية ساحلية اليوم، تعرض على شاشة صغيرة مقاطع من فيلم وثائقيّ صوّرته عن أجدادهم في خمسينيات القرن الماضي. لا أحد غيرها يتجاسرعلى وضع شاشات تلفزيونية داخل مطارح نوم قديمة، موضوعة وسط شقق مهجورة، لتكشف عن حكايات جور طالت قاطنيها السابقين الذين هجرتهم مكاتب مضاربة عقارية ولصوصها، وخيانات المؤسسات المحلية والخدمية وأزلامها. لا أحد سواها مَنْ يجمع ألافاً من مقاطع الفيديوات وكليبات الهواتف النقالة والصور الفوتوغرافية، لتنعى إنسانية مهدورة، في ما يتعلق بجرائم لا تُغتفر، وضحايا شعوب محتلة، وأخرى مقموعة، وثالثة تعرضت للتصفيات. نصوص بصريّة مريعة عن مهاجرين تبتلعهم البحار، وجثث مغدوري حروب طوائف وإمبرياليات دموية. تختتم فاردا نصّها الوداعي بمشاهد من عملها المشترك مع مواطنها جي أر "وجوه أماكن"، لأن ما جاء فيه هو بمثابة التطويب المثالي لسيدة خلّاقة، ودَّعت هذه الدنيا، لكن إرثها في سينما الطاقة النقّية سيبقى نادراً.

لم أشأ أن اِتَّرك مقعدي، إثر إنتهاء عرض "فاردا بحسب أنييس"، لإنني تيقنت تماما ان قولها الأثير: "السينما هي بيتي" مختزل في كل لقطة وعمق مجالاتها، في كل زاوية ومستوى تفرساتها للأشياء، في كل صوت ودلالاته، في كل إطار وأعاجيب مسرحته. بيت أنييس مؤتَمَن، لأن مفاتيحه في عهدة وفاء لدى فاردا رغم الموت.

سينماتك في ـ  04 أبريل 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004