زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"غُرَز" للصربي ميروسلاف تيرزيتش..

سارقو النُطَف المحرَّمة

بقلم: زياد الخزاعي

 

   
     

بطلة شريط الصربي ميروسلاف تيرزيتش "غُرَز" (شافوفي)، لا تتخيّل هواجسها أو تفتعلها. إنها في قلب عاصفة خرساء، تحوَّلها الى كُتلَة من الشَكَاسَة. تخسّر أُمّ، وهي في نّفَاسها السريري، وليدها بعد ساعات من مخاضها العسير، على خلفية حرب ملعونة، إستهدفت وحدة يوغوسلافيا وأيديولوجيتها وأعراقها. يُقنَّعها الجميع ان المولود قضى في ظروف ملّتبسة، ويفرضوا عليها توقيع وثائق "غيبته". حدسها الأمومي يرفض الحجة. هي لم تحصل على جثته، أو تُرشَد الى مكان دفنه. تتحدّى إدارة المستشفى والأطباء والشرطة والمحاكم ومسؤولي البلدية وبيروقراطيتهم، من أجل الحصول على شهادة وفاة قانونية تُثبت مثواه. خلال هذه المعركة الطويلة، تكتشفت السيدة درينكا رادونيتش المزيد من المخالفات في وثائق المستشفى وأوراق البلدية الرسمية التي برهنت شكوكها، وكرست إعتقادها أن الطفل لم يمت أبداً. بعد 18عاماً من الخزي، تتوصل الى الحقيقة، بيد ان القانون الممسوك بفاشية الإستعلاء القومانيّ ووحشيته لن يُهادن.

هذه مسيرة مديدة لسيدة من بلغراد حرفتها الخياطة، وهي مرجعية عنوان الشريط حيث تتشبَّه خطواتها بغرزات تفصيل ملابس زبوناتها العابرات، تعيش على هامش إجتماعي مأزوم ومتنمّر، لكنها جبارة العزوم، راسخة القناعات، شديدة المثابرة. صرخت أمام الجميع وهي تناشد مروءاتهم: "طفلي الميت على قيد الحياة، يبلغ العشرين من عمره الآن"، من دون ان تتحرك لديهم ذمّة واحدة. وحده، الإتحاد الأوروبي المصدوم من جرائم مشحونة بالدناءات، إتخذ خطوات حاسمة وسريعة، فارضاً على السلطات الصربية ضغوطاً قاسية، للكشف عن ما إذا كانت سرقة الأطفال ومؤامراتها جرت بإنتظام في مستشفيات العاصمة على مدار سنوات عديدة. الحادثة حقيقية، شهدت بداية ثمانينات القرن الماضي وقائعها، إلا ان هذه الأم المكلومة التي قادها حدسها الى مكان إبنها وبيت العائلة التي "سرقته" من مهده، بالتواطؤ مع لصوص ردهات الولادة، لن تتمكن من إستعادته. فالكذبة ترسخت في كيانه. خلاصتها البسيطة ان والدته تخلَّت عنه، بنذالة، بعيد ولادته. السؤال: كيف يمكنها التعايش مع الأمتار التي تفصلها عن وليدها؟ وكيف لها أن تخترق تراكمات الحقد والإقصاء اللذين تعرضت لهما طوال فترة "نضالها" الأموميّ الفردي؟

شريط ميروسلاف تيرزيتش(1969)، الحائز على التكريم الثاني في "جوائز الجمهور" الخاصة بخانة "بانوراما" في الدورة الـ69(7 – 17 فبراير/ شباط 2019) لمهرجان برلين السينمائي الدولي، ترتيب سينمائي متأنّ وصبور، ذو إيقاع رزين وحيادي، ومتقشف بحواراته، يُذكر كثيرا بالقهر المجتمعي وإستفزازيته في نظيره "أُمّ مخيفة"(2017) للمخرجة والكاتبة السينمائية الجورجية آنا أوروشادزه. صحيح ان هدفه الأساسي سرد اللوعة الشخصية لدرينكا(في الفيلم تلقب بأنّا) وعقابات مذّلاتها، غير ان الغلبة أتت لصالح المحيط والمكان من حولها، فكلاهما أشبه بـ"رحم" واسع المساحة، معقَّد الخطايا، يجسد سطوات متوارية، تحيط بالبطلة من كل زاوية. تارة تسعى(السطوات) الى قمعها، وأخرى تريد كسر شكيمتها، وفي ثالثة تُهدد زواجها، وفي رابعة تجعلها خصماً جماعيّاً، وفي خامسة تُشيع عنها جنونها وإختلال عقلها، وفي سادسة تُحذر من عدوانيّتها وعنفها. أن الأمهات المضللات يحتجن الى صلادة داخلية للوقوف في وجه الأخرين وعسفهم وتألُّبهم. فالنُّطفة الأصلية يُمكن أن تتستّر عليها المكائد، لكن مصيرها سيقودها حتماً الى أصولها الربّانية ومرجعيتها، أي الى رحمها النجيب. هذا المبدأ يُصاغ كمتوالية درامية. نرى في مفتتح الفيلم، وضمن لقطات عامة، سيدة وحيدة ومغتمّة. كائن وسط فراغ مكاني، نعرف لاحقا إنها متوجهة الى مركز طبي متخصص في فحص أصول الأجنة. يطردها الموظف. تعود الى الشارع. من هنا يوظف المخرج تيرزيش اللقطات المقربة (كلوز أب) كأسلوبية بصرية على مدى الدقائق الـ98 طول الفيلم، لتوكيد حمّى بحثها عن قناعة مطلقة. تصبح الشاشة العريضة لمدير التصوير البارع داميان رادوفانوفيتش مساحات ضاغطة لخلاءات شحيحة في أعداد بشرها، وكأنها أرض ملعونة، تنبذ قاطنيها والمشاة  فوق ترابها. يترافق هذا مع صمت عارم يغطي معظم فصول الفيلم، ذلك ان خيانة الحقيقة تفرض خرس جُنَاتها، تحاشياً لفضيحة ستخترق لا أدميتهم في وقت لاحق.

يوظَّف صاحب "شارع الخلاص"(2012) هذا الخرس الجماعي كحالة إكراه موجهة ضد أنّا لإقناعها في الإعراض عن عنادها، وإغلاق ملفها الجارح أخلاقياً، والمتخطّي لعرف إنجيلي يؤمن بأن ما يرسمه الرّب هو قدر لا يتوجب علينا مزاحمته أو التشكيك فيه. هناك ثلاثة مشاهد أساسية تُرسخ هذا العداء. ، تجري وقائع المشهد الأول في مركز الشرطة حيث يسحب رئيسه زوجها يوفان (ماركو باكوفيتش)، وهو حارس أمن في إحدى مؤسسات الدولة، الى غرفة جانبية، فارضاً على البطلة الجلوس خارجها، إشارة الى إنها علّة إجتماعية يجب نبذها عن أي نقاش أو مداولة، لتستمع الى رجل معاق غريب، يقول لها من دون مقدمات: "إنه أمر حسن. أن تُسقطين قضيتك!". فيما تقع تفاصيل المشهد الثاني داخل غرفة معيشتها، حين تصرّ قريبتها على شطب الدعوى، متسائلة بعد ديالوغ طويل: "ما الذي تبغينه؟"، فتجيبها، بعد صمت ثقيل، وبكلمة واحدة حاسمة: "الحقيقة". فيما يصبح المشهد الأخير، المفعم بخرس متبادل بين البطلة وإبنتها المراهقة إيفانا(يوفانا ستويليكوفيتش)، شاهداً على إنقلاب أخلاقيّ دفين، يقود الصبية من حالة جفاء الى إنخراط مطلق ومفاجيء في مساعدة والدتها لـ"إقتناص" العدالة. فالشابة لن تتقاطع بالكلام مع أمها في أي وقت، ذلك إن هوس الأخيرة الدائم، وغيابها في محنتها، يدفع بالأولى نحو هاتفها الجوال ودردشاته مع صويحباتها، هرباً من جو عائلي محبط وسكوني الى حيوية رفاق يقودوها لاحقا الى الشاب ماركو. هنا يحقق نصّ المؤلفة ألما تاتاراجيتش، الذي إعتمد على عشرات المحفوظات والمقالات حول اختطاف الأطفال حديثي الولادة والمنشورة في مطبوعة "بوليتيكا"، وهي أقدم الصحف وأكثرها شعبية في صربيا، خطوته الدرامية الحاسمة.

لئن بقيت أنّا طوال المقاطع الأولى، متنقّلة بين مؤسسات حكومية ومستشفيات مختلفة، متعرَّضة الى هوان غير منصف، فإنها في ما تبقى من الشريط، تُغيّر بوصلتها نحو الدّم الأصلي، وتتعقَّب الشاب في كل مكان، محتفظة بمسافة آمنة منه لمراوغة القانون وتهمه. وحينما "تخترع" حيلة بيع ألة لصنع القهوة، تُسهل إختراقها لدارة "اللصوص" وإستكشاف "حقها"، تطردها الأم الثانية التي هجست مصيبة الواقعة وخطورة الفضيحة. ما يجمع أنّا وإبنتها إيفانا الأن هو حسمهما النهائي بأن الوليد ما زال على قيد الحياة، كما كانت صرخة السيدة درينكا رادونيتش. أما قناعة ماركو بإمومة أنّا له، فلن تتحقق إلا عبر مشهد صادم وعصيب ومفعم بالوجع، عماده قلب مسار المطاردات وسهامها. هذه المرّة، ينجح ماركو في ملاحقة "والدته" الى داخل شقتها المتواضعة. يراقبها وحيدة، توظب غسيلها، لكنه يرى سعادة عارمة تغمر كيانها، ذلك إنها تيقّنت من ظنونها نهائياً، فيغادر المكان بهدوء، لكن ليس قبل ان "يرتكب" فعلاً خاصاً لا تقوم به سوى أمّه الحقيقية، ونكون شهوداً لمرات عديدة، على حركتها وهي تُصحح موقع تمثال صغير لفرسين جامحين عند باب شقتها. إن تشابه تحريكهما ووضعية أصابعهما على المنحوتة الإصطناعية، يوكدّ بالبينة وحدة الدّم. يغلق الشاب الباب خلفه، بينما تبقى أنّا (إداء بارع وحضور طاغ للممثلة سينشانا بغدانوفيتش)، رهينة أبدية لسارقي النُطف المحرَّمة الذين إعتبر المخرج ميروسلاف تيرزيتش جرائمهم، التي طالت أكثر من 500 أسرة منكوبة، مازالت تجتهد في العثور على أطفالها، "الدليل القطعي على تدهورنا الإنسانيّ والقيميّ الذي لن نتعافى منه أبداً".

سينماتك في ـ  24 فبراير 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004