ملفات خاصة

 
 
 

ما بعد زياد… الذي "حطّ المكنسة وراح"

أحمد منينة

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

بعد أن كتب مرثيّةً للـ"رفيق صبحي الجيج"، ها هو ذا اليوم زياد الرحباني يرحل، ملقياً المكنسة التي أورثه إيّاها القدر، كأنّه قرر أن يتخلّى عنها في لحظة تمرد أخيرة.

يرحل تاركاً وراءه بيتاً فوضوياً، وآلات موسيقيةً وأجهزةً صوتيةً أفسدتها الكهرباء المتقطعة في بلد خرّبه الوقت والحرب.

يرحل تاركاً تفاصيل عاشها مع رفاقه من أجيال مختلفة، أولئك الذين علّمهم كيف يتذوّقون الموسيقى، لا كمجرد أصوات، بل كأسلوب حياة.

رحل وترك مسرحاً مهجوراً، بارداً، مشرّع الستائر، وبلا جمهور.

رحل دون أن يودّع البزق الذي عشقه، ودون أن يقبل العلاج، في تمرّد جديد على المرض، وعلى القدر، وعلى منطق الانصياع.

أطفأ زياد "الضوّ" للمرة الأخيرة،

وأشعل في قلوب محبّيه ورفاقه لعنة الفقد.

ذاك الفقد الذي لطالما تحدّث عنه، وعرفه، وسخر منه، وها هو ذا يُخلّفه فينا اليوم بكل ثقله.

على ظهر القدر، فرض زياد نفسه كثائر مرن، شديد الحضور، وعبقريّ لا يتكرر.

من دفاتر المخابرات إلى كواليس البيوت

من المسرح إلى الموسيقى، ومن البرامج إلى المقابلات، كان دائماً يتحرك بين رفض السائد وصناعة الذائقة. أعاد للكلمة بساطتها، وللّحن عمقه، وللتوزيع الموسيقي عبثه الخلّاق.

كان زياد حالةً فنيةً ومعرفيةً لا تشبه إلا نفسها. زياد لم يكن مجرد فنان، بل كان مشروع وعي كاملاً.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

قدّم كوميديا سوداء نُقلت من الشارع إلى الخشبة، ومن دفاتر المخابرات إلى كواليس البيوت، وكان صوته بمثابة نشرة أخبار بديلة لعصر طويل من التعتيم والانحلال. أعماله لم تكن فقط فنّاً بل وثائق حيّة، تسجّل تحوّلات المجتمع اللبناني والعربي، وتحفر في ذاكرة المدن المهزومة، من بيروت إلى دمشق، ومن الضواحي إلى قلب العالم العربي المنكسر

كان امتداداً لتجربة سياسية وجمالية حاولت أن تُمسك بلبّ الواقع، لا لتزيّنه، بل لتفككه وتواجهه.

في زمن تماهت فيه الموسيقى مع الاستعراض، وقف زياد وحده، مستفزاً، مزعجاً، مشاكساً، وضرورياً.

قدّم كوميديا سوداء نُقلت من الشارع إلى الخشبة، ومن دفاتر المخابرات إلى كواليس البيوت، وكان صوته بمثابة نشرة أخبار بديلة لعصر طويل من التعتيم والانحلال.

أعماله لم تكن فقط فنّاً بل وثائق حيّة، تسجّل تحوّلات المجتمع اللبناني والعربي، وتحفر في ذاكرة المدن المهزومة، من بيروت إلى دمشق، ومن الضواحي إلى قلب العالم العربي المنكسر.

الصوت الأجش الذي ودعناه

كان يكتب عن الحب والفقر والانهيار بلغة لا يمكن تقليدها، ويصنع من الغضب لحناً، ومن السخرية سلاحاً، ومن الإحباط نبضاً حقيقياً.

حرّر صورة الفنان من قفص الترفيه الرومانسي، وحوّله إلى صانع رأي، ناقد اجتماعي، ومثقف متمرّد، سواء في أعماله أو في تصريحاته. لم يهادن ولم يُجامل.

فرض احترامه بصوته الأجشّ وكلماته الحادّة، وأجبر محبّيه على رفع معاييرهم، فرفع معهم الذوق، ورفع من فكرة الفنّ نفسها. وبرغم اختلافي مع كثير من توجهاته السياسية، إلا أنني لا أستطيع تجاوز تأثيره في فكري، وفي نظرتي إلى الحياة، وللآخر، والفن، والموسيقى.

ما دور الفنّان؟ وما حدود الفن؟ في قلب هذا العدم، وفي زمن يهيمن فيه الإحباط، أقف اليوم أمامك أستاذاً ومعلماً ورفيقاً، لا لأرثيك فحسب، بل لأتعلّم منك من جديد، وأعدك أن أستمع إليك كل يوم، في أغنية، أو تسجيل، أو حوار… لتخبرني "شو بقدر أعمل لملايين المساكين"

لقد ترك أثراً عميقاً فيّ، سواء شئت أم أبيت، وكان لا بدّ أن أمرّ به كي أفهم شيئاً جديداً عن ذاتي، وعن العالم.

بعيداً عن التقديس

ليس من السهل أن تحبّ "زياد"، ولا أن تكرهه. هو من أولئك الذين يربكون تصنيفاتنا الجاهزة، ويهزّون يقيننا، ويجبروننا على إعادة النظر في كل شيء: الفن، السياسة، الحب، الناس، وأنفسنا.

يقول ما لا يُقال، ويضحك حيث لا يُضحك، ويبكي بين السطور دون أن يلين. لهذا لم يكن فناناً للراحة، بل فناناً للمواجهة.

حتى بعد رحيله، تبقى "حالة زياد" حالةً استثنائيةً، تستحق أن تُفكّك، أن تُدرَّس، أن يُنظر إليها بعمق، بعيداً عن التقديس، وبعيداً عن النكران.

ففيها من التناقض ما يكفي لتكوين مدرسةً، وفيها من الصدق ما يكفي لإعادة طرح السؤال القديم:

ما دور الفنّان؟ وما حدود الفن؟ في قلب هذا العدم، وفي زمن يهيمن فيه الإحباط، أقف اليوم أمامك أستاذاً ومعلماً ورفيقاً، لا لأرثيك فحسب، بل لأتعلّم منك من جديد، وأعدك أن أستمع إليك كل يوم، في أغنية، أو تسجيل، أو حوار… لتخبرني "شو بقدر أعمل لملايين المساكين".

 

موقع "رصيف 22" في

04.08.2025

 
 
 
 
 

آراء

الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل

نور الهدى سعودي

حين رحل زياد الرحباني في 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، لم يكن موته مجرّد نهاية حياة فنّان، بل كان تجسيداً مكثّفاً لحالة أعمق نعيشها: الزمن المُعلَّق. موت الابن الذي كان يمثّل الحداثة والتمرّد، وبقاء الأمّ التي تجسّد الأصالة والذاكرة، يضعنا أمام مفارقة وجودية عميقة. كأنّ الزمن نفسه قد انقلب على قوانينه، فصار الماضي أكثر حياةً من المستقبل، والذاكرة أقوى من الأمل.

لمحاولة فهم هذه المفارقة، نحتاج أن نستدعي تأمّلات مارتن هايدغر في كتابه "الوجود والزمان". الزمن فيها ليس مجرّد إطار خارجي نتحرّك فيه، بل هو النسيج الأساس لوجودنا. نحن كائنات زمانية في جوهرنا، ممتدّون بين الميلاد والموت، مُلقون (Geworfenheit) في عالم من الإمكانات. الماضي ليس شيئاً انتهى، بل ما يشكّل هُويَّتنا، والمستقبل ليس ما لم يأت بعد، بل أفق إمكاناتنا. لكن في زمننا المُعلَّق، انقطع هذا الامتداد. المستقبل صار مسدوداً والماضي عبئاً لا يُحتمل.

يأتي هنري برغسون في "المادة والذاكرة" ليقدّم لنا مفتاحاً آخرَ لفهم حالتنا. حين يميّز بين الزمن الآلي، الذي تقيسه الساعات، والزمن الحيّ، الذي يسمّيه الديمومة (Duration). تدفّق مستمرّ من التجدّد، حيث كلّ لحظة فريدة. الوعي الإنساني يعيش في توتّر خلّاق بين الماضي المحفوظ في الذاكرة، والمستقبل الذي يستدعي الفعل. لكن الذاكرة تحوّلت، في زمننا المُعلَّق، من قوة محرّرة إلى ثقل مشلول، والمستقبل من دعوة إلى الإبداع إلى تكرار مملّ للحاضر.

نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً

لعلّ موت زياد يجسّد هذا الانقطاع بشكل رمزي صارخ. الابن الذي سخر من كلّ شيء، حتى من إرث والديه، يرحل قبل الأمّ. الأيقونة فيروز، الصوت الذي غنّى للأمل والحرية، تجلس صامتةً في بيروت المُعلَّقة هي الأخرى بين أزمنة متناقضة. صمتها ليس صمت الحزن فقط، بل صمت زمن فقد قدرته على الكلام ذي المعنى. هذا الصمت المُطبق يقودنا إلى سؤال أعمق: هل يمكن لشيءٍ جديدٍ أن يحدث في زمنٍ توقَّف عن الحركة؟

آلان باديو في "الكينونة والحدث"، يُعرّف الحدث قطيعةً جذريةً مع النظام القائم، انبثاق للجديد من قلب المستحيل. الحدث عند باديو ليس مجرّد واقعة، بل لحظة تأسيس حقيقة جديدة. لكن زمننا المُعلَّق يبدو كأنه زمن موت الحدث بهذا المعنى. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً، تتكرّر الكوارث من دون أن تولّد وعياً مختلفاً. ربّما لهذا بالذات كان موت زياد مؤثّراً إلى هذا الحدّ. ليس لأنه حدث بالمعنى الباديوي، بل لأنه جاء ليؤكّد استحالة الحدث في زمننا.

زياد الذي كانت مسرحياته ولحظات سخريته محاولات لإيجاد شقوق في جدار الواقع، يرحل من دون أن تنجح هذه الشقوق في أن تصبح فتحات نحو مستقبل مختلف. لكن فالتر بنيامين، الذي كتب أطروحات حول فلسفة التاريخ في ظروف مشابهة من اليأس التاريخي، يذكّرنا بأن التاريخ ليس خطّاً مستقيماً من التقدّم، بل مليء بلحظات كامنة يسمّيها "الزمن-الآن" أو "الزمن الآني" (Jetztzeit)، لحظات مشحونة بإمكانية ثورية، إذ يمكن للماضي أن يتفجرّ في الحاضر. ربّما كان زياد يحاول إيجاد مثل هذه اللحظات، وربّما يكون رحيله نفسه إحداها.

في الموت الآخر الذي نحياه، نشهد فيه أطفالاً يموتون قبل أن يعرفوا طعم الحليب. أجساد تتآكل من الداخل، جائعة ليس للخبز فقط، بل للمعنى نفسه. أرض تستحيل ذاكرةً عوض حضارة. يتحدّث موريس بلانشو في كتابة "الفاجعة" عن الكتابة محاولةً مستحيلةً للاقتراب ممّا لا يُقترَب منه، لتسمية ما يهرب من كلّ تسمية. يكتب قائلاً: "الفاجعة هي ما يحرمنا من ذلك الملجأ الأخير الذي هو الفكر في الموت". نحن الآن في قلب هذه الفاجعة، حيث حتى الموت فقد معناه نهايةً، وصار مجرّد استمرار آخر للعدم. في هذا الموت البطيء، الزمن نفسه يتحلّل. كلّ لحظة تصبح أبدية من العذاب، وكلّ أبدية تنضغط في لحظة. نحاول أن نحيا "بلا ولا شي" عوض أن نحبّ... لا ماضٍ نستند إليه، لا مستقبل ننتظره، لا حاضر نملكه. مجرّد ديمومة فارغة، زمن بلا محتوى، حياة بلا حياة. وهل عشنا حقّاً إذا صرنا نحيا هكذا، معلّقين في العدم، نتنفّس لكن لا نحيا، نشهد لكن لا نفعل، نعرف لكن لا نستطيع؟

هنا بلانشو نفسه يذكّرنا أن الكتابة عن الفاجعة ليست بحثاً عن حلول، بل محاولة للبقاء شهوداً. ليس الأمل التقليدي ما نحتاجه، بل شيء أكثر صلابةً وواقعية. يتحدّث جاك دريدا في البقايا عن تلك الآثار التي تنجو من المحو وتحمل في طيّاتها بذرة المعنى. زياد كان سيّد هذا الفن، فنّ العثور على الحياة في الموت، على الضحك في البكاء. في موسيقاه، النشاز ليس خطأً، بل لغة أخرى للانسجام، والصمت ليس فراغاً بل نوتة امتلاء. علّمنا أن البقاء ليس مجرّد استمرار بيولوجي، بل فعل إبداعي يومي، مقاومة بالفنّ ضدّ العدم.

علنا ابن فيروز، الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، نستحضر في لحن عابر ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي

غنّى زياد عن الإيمان بطريقة الكافر، وعن الكفر بقلب المؤمن، في "أنا مش كافر". هذا التناقض الخلّاق هو جوهر فنّه، وربّما جوهر ما نحتاجه للنجاة. ليس الإيمان الساذج ولا الكفر المطلق، بل تلك المنطقة الرمادية حيث يمكن للمعنى أن ينبثق من العبث. سارتر كان يتحدّث عن الغثيان إدراكاً للعبثية المطلقة للوجود، لكنّ زياد علّمنا أن نرقص على إيقاع هذا الغثيان، أن نحوّله موسيقى... موسيقاه التي مزجت المتناقضات، مسرحياته التي حوّلت المأساة ضحكاً أسودَ، كانت دروساً في البقاء وسط الانهيار.

ابن فيروز الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، جعلنا نستحضر في سطر واحد (أو في لحن عابر) ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي. في "كيفك انت" أو "بلا ولا شي" نستعيد لحظاتٍ من زمن آخر، لكن نعيشها بشكل جديد. هذه معجزة الفنّ، قدرته على جعلنا نحيا حتى ونحن نموت. السؤال ليس كيف نموت ونحن أحياء، بل كيف نحيا حتى ونحن نموت، كيف نجد في الموت بذرة حياة، في الصمت صوتاً، في اليأس أملاً.

في زمنٍ يموت فيه كلّ شيء، نتعلّم من زياد أن البقاء ليس مجرّد استمرار، بل فعلٌ وجودي. أن نخلق المعنى وسط اللامعنى، أن نقيم في الزمن المعلّق لا خضوعاً، بل وعياً، لأن سؤال: كيف نكون في زمن لا يتحرّك؟ لا يُجاب عليه بالخروج منه، بل بالإقامة فيه وتقبّله حتى نفهمه، حتى نخلخل صمته. لتجاوزه. زياد لم يدلّنا على باب، بل على نغمة؛ لم يعطنا مخرجاً، بل جعلنا نصغي للتيه. وهناك، فقط هناك، بلحن زياد، يمكن أن نقول: "إيه... في أمل".

 

العربي الجديد اللندنية في

05.08.2025

 
 
 
 
 

ثقافة_

صديقي زياد.. كيف بتعمل هيك؟

حنان البدوي

دائمًا ما أدهشنا صاحب الحضور الاستثنائي، وصاحب نوبات الغياب التي تمتد أعوامًا. لكنه في غيابه الأخير كان أكثر إدهاشًا، وفجَّر رحيله طوفانًا من المشاعر التي كنتُ أظنها طُمرتْ تحت وطأة ما يناهز عامين من بشاعة أخبار الموت اليومي في غزة. كأنما من بعد غزة جفَّ القلبُ وتوقف عن الخفقان. تقلصت مساحة الحزن المخصص للموت الفردي والفقد الشخصي.

ثم مات زياد.

شلال الحزن الذي فاض من بيروت للقاهرة لغزة ذاتها جمع مريديه في كل مكان. نزل الخبر علينا صدمةً كهربائيةً تُوقظ القلبَ الميت كما يحدث في غرف الإنعاش. ننعي زياد، فنتذكر أنفسنا ومشاعرنا وقصصنا، ورحلات بحثنا عن المعنى.

زلمة شيوعي بيألّف موسيقى

تربع زياد رفيقًا للروح في جيله وفي الأجيال التي تلت؛ يصف نفسه بتبسيط مخل "أنا زلمة شيوعي وبألّف موسيقى"، لكنَّه بالنسبة لنا كان أكبر من ذلك كثيرًا.

مع سبق الإصرار والترصد، كَسر الهالةَ التي ينصبها الفنانون وحتى أنصاف الفنانين حول أنفسهم؛ محا أي مسافة بينه وبين الجمهور. هو موجود دائمًا وقريب جدًا، يتحدث مطولًا ويحكي صادقًا؛ في وثائقي هدوء نسبي يأخذنا الشاب الموهوب ليشرح لنا بحماسٍ أفكاره عن الموسيقى ومراحل صناعتها والتجديد الذي يريد بثه فيها، متهكمًا تحديدًا على حالة الغموض التي تحيط عادة بتأليف الموسيقى

فيلم هدوء نسبي (1985)

منذ ذلك الحين حمل زياد عصا سحرية يحول بها مفردات الحياة اليومية والسياسة وحكايات الناس؛ حكاياتنا وحكاياته، قطعًا فنيةً متفردةً، وصار هو من يحكي لنا كل شيء. وليس أبلغ مما خاطبته به سحر مندور في رثائها له "فوّتنا على راسك وفتت أنت قعدت براسنا. واستقرت العلاقة على هذه الحال".

بيروت التي وقعتُ في غرامها هي بيروت زياد؛ شارع الحمرا ومطعم البارومتر وبار أبو إيلي والبلو نوت. في كل المرات التي زرت فيها المدينة كان يمكن أن ألتقيه مصادفة في أماكنه التي صارت أماكني أنا أيضًا هناك. كان يعجبني ذلك الاحتمال الوارد جدًا، وإن لم يتحقق.

اللي بيعرج بيمشي

بدون أي صخب، قاد زياد الانقلاب الناعم على كل ما كان معتادًا قبله، بما في ذلك نهج الرحابنة. بكلماته وموسيقاه ورهافة حسه، نفخ من روحه المتوهجة في فيروز، فسطر لها حياة جديدة. بتلك الروح صارت فيروز تغني للصابون واليانسون والكميون فتُبكينا.

حمل زياد تلك العصا السحرية وأنجز كل ذلك الإبداع الفريد من نوعه دون ذرة استحقاق أو تكبر. وظل يحكي لنا كل شيء بصراحة وبساطة وعفوية، وبكل الصدق.

صاحب الحب اليساري حكى لنا عن قصص حبه التي كانت فعلًا "بَلا ولا شي". حكى عن خيباته العاطفية، وعن الخذلان والوحدة. شاركنا تفاصيل مناسبات كتابته لكلمات الكثير من الأغاني، أخبرنا مثلًا عن صبية "كان مغروم فيها" حين كان بعد تلميذًا ينتظر باص المدرسة، مصرية اسمها ليلى، هي عالية التي كتب لها ع هدير البوسطة، ولكن غير اسمها حتى يخفيها عن أهله.

حكى لنا ببساطة كيف ثار وقاوم وثابر وانهزم، دون أن يحاضر أو يعظ. فقط ذكَّرنا إن "اللي بيعرج بيمشي.. بس بيمشي أبطأ".

أكيد خسرت.. بس آخر همي

زياد الساخر جدًا الجاد جدًا، المشغول بالإتقان والزاهد في النوم، غير المكترث بأثر صوته الآسر في نفوسنا، يحكي لنا أن الغناء لم يكن جزءًا من مشروعه الفني، وأنه فقط اضطر إليه حين غاب جوزيف صقر. يحكي أنه أراد للشيخ إمام أن يغني أنا مش كافر بدلًا منه.

يدهشنا مجددًا فيكتب كلمات أمريكا مين باللهجة المصرية ويلحنها ليغنيها حازم شاهين، الذي اصطفاه رفيقًا لمشروعه الفني على مدار أكثر من عقد مشيدًا بإحساسه، غير مكترث لسؤال "يعني ما لقيت مطرب لبناني؟".

ببساطة يخبرنا أنه لا يجمع المال، ويتعمد أن تكون أسعارُ تذاكر حفلاته في متناول عموم الناس. "أكيد خسرت.. بس آخر همي"، يقصد خسارات البشر "وقت الحرب خسرت نص لبنان"، وهو ما يَصدُق أيضًا على الخسارات المادية.

هيك بتعمل هيك. كلمات وألحان زياد الرحباني. غناء جوزيف صقر، من ألبوم بما إنو (1995)

خذلني موقفه من الثورة السورية؟ نعم. لكن لم يكن هذا أول ما تذكرته في لحظة الرحيل. لو أن الحظ أسعدني والتقيته في الحمرا، ربما كنت سأذكّره بأن أول الثورة السورية كان الغناء للحرية، وأول الغناء كان مستلهمًا من ألحانه هو عايشة وحدها (سوريا) بَلَاك. ربما كان سيذكّرني أنه قاطع سوريا الأسد منذ السبعينيات حتى عام 2008، حين قصد دمشق مكتشفًا جمهوره السوري، بعيدًا عن حسابات المكسب والخسارة.

يحثنا زياد على مواصلة الابتسام حتى وإن أسمعنا أحدهم ما لا يعجبنا، "بدك تعمل مشكل على نكتة بايخة؟ اضحك لأنها بايخة"؛ بعد كل الهزائم، ببساطة يعيد تعريف الانتصار "أنا ما عم جرّب غيّر البلد، ولا عم جرّب غيّر شي. أنا عم جرّب بس ما خلّي ها البلد يغيرني. هيدي وحدا إذا بتظبط معي، يعني انتصار. انتصار لنفسي أوّلًا، وبعدين ع شو ما بدّك".

صاحب لولا فسحة الأمل أوصانا أن نفتش عن الأمل في ثنايا الخيبات "أوقات بيطلع من ملل".

نحاول مثلك يا زياد ألَّا نجعل "ها البلد" وغيره من البلاد يغيرنا، نحاول أن نبتسم في وجه كل النكات البايخة لهذا العالم، نفتش عن الأمل مثل الباحث عن إبرة في كوم القش. لكن كل ذلك سيكون أصعبَ بدونك. سنظل نلتمس قبسًا من روحك المتوهجة في إرثك الساحر.

زياد.. يا رفيق الروح.. كيف بتعمل هيك؟

 

موقع "المنصة" في

05.08.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني المربك... عندما كان يصغي طويلاً إلى أم علي!.

وسام كنعان:صوت العرب -دمشق.

لعلّ قدر زياد الرحباني (1956/2025) بألا يكون مجرد وريث لعائلة الرحابنة، مثله مثل أي من أولاد عمّه. فقد أعلن تمرّده باكرًا على الامتداد التقليدي الذي كان يعتبره مجرد مصادفة! وقرر أن يكون كما عهده الجميع لاحقًا، خارج كل حدود الرتابة، مطلقًا نفحة التمرّد الأوّل حين خاطب الله في كتابه «صديقي الله». ومع ذلك، كان خير من ورث الموسيقى من عائلته، فأعاد توليف هذه التركة الغنية بطريقته المتفردة، وأضاف بصمته التي تشبهه دونًا عن غيره، لينتزع اعتراف الجميع، بما فيهم فيروز التي تمّنت مرّة لو أنها غنّت كل ألحانه!

ربما يكون أسهل ما في المرثيات الصحافية هو حالة البحث عن اللحظات التأسيسية الأولى وتقفي أثر المشاريع الأولية، ومن ثم التعريج المنطقي على التصاعد واللحظة الفارقة التي صنعت التاريخ مثلاً، ومن ثم المرور على المطارح المضيئة والمظلمة في آن معًا لحين الوصول إلى الموت! دون نسيان إظهار العواطف الصادقة في حضرة الرحيل الأخير! لكن كيف يمكن الكتابة بشكل كلاسيكي عن رجل لم يشبه أحدًا طيلة حياته؟ حتى عندما قرر الرحيل، وافق على التقاط صورة مع أحد أفراد طاقمه الطبي ومهرها بابتسامة ساطعة لتكون آخر أفعاله بمثابة «صدقة» في زمن كالح يسطو على المنطقة.

إذاً، مات زياد الرحباني! لكن تعالوا نتخيّل كيف استعد الموت لمواجهته؟ لعلّه أخذ حصّة وافرة من الراحة ثم قصد مكان خصمه. وفي الطريق، أخفى أدوات حيلته ودهائه حتى لا يكتشف أمره. وعندما وصل إلى مكان إقامة ندّه، علّق في مكان مُعتم ميدالية مفاتيحه الثقيلة. كان قد أجّل سلسلة مواعيده الطويلة، وتباهى في أحاديث الأمس أمام رفاقه بقوّته التي تتفوق على الطب وتدوّخ العلم. كان يأمل أن يكون ساطعًا بمنتهى الوضوح، قوياً بحجم فجيعة. لكنّه، حقيقةً، دائماً ما يأتي خاوياً كملمس النعش، بارداً كثلّاجة الموتى، رغم أنّه كان قد تعطّر ولبس الأناقة مثل ثوب. حضر بضعة مسرحيات وسمع الأغنيات وقرأ الكثير من المقالات. فقد عرف أنّه سيلاقي ندًّا قويًّا. لكنه فجأة وجد نفسه ينهار عند بوابة المشفى. لذا، استعار كل خبثه، وجلس ينتظره على العتبة حتى نام. وبلحظة واحدة، انقضّ عليه مثل قبيلة ذئاب هجينة، حتى لو انتصرت لا تعرف كيف تواجه فريستها وجهًا لوجه! إنّه الموت إذن، وهو يستعد ليلاقي زياد الرحباني. يومه لم يكن كباقي أيامه؛ فقد قبض على رجل أجمع على موهبته الكل حتى من يعترضون على آرائه السياسية!

منذ تلك اللحظة، كان على نصف جيل وصل إلى منتصف الأربعينات من عمره، وخاصة المعنيين بالثقافة والفن، أن يستعيد ذكرياته، وأن تلمع في عينيه الأحلام الأولى التي كان زياد حاضراً فيها حتمًا. الموسيقى والمسرح والحلم بأن يحضر زياد الرحباني يومًا البروفات، أو يكون شريك عمل، أو يتبرع لإنتاج مشروع أو المساهمة فيه. تلك كانت أحلام جيل كامل. حتى من حالفه الحظ وسلك درب الفن بطريقة أكاديمية، ظلّ لزياد في وجدانه مساحة مختلفة عن غيره. هكذا كان الزحف واجبًا نحو قلعة دمشق لحضور حفلاته عندما كانت دمشق عاصمة للثقافة سنة 2008. لاحقًا وبمصادفة تخصّ كاتب هذه السطور أُتيح لي العمل مع الرحباني في نفس الجريدة. وبدأت تختفي الجمل وتتلاشى المفردات كلما التقيت فيه مصادفة في المصعد أو المدخل أو الكافتيريا. لم يكن الرجل سهلاً أو اجتماعيًا بما يكفي لأن تفتتح معه حديثًا عابرًا، وكان الهاجس دوماً: ماذا يمكن أن تقول في حضرة مرجعية الكوميديا والبديهة الحاضرة؟ كيف لا يمكن أن يصبح القول هزيلاً مهما كانت سويّته وأنت تخاطب زياد الرحباني شخصيًا وعلى مقربة بالغة منه؟ هذه كانت العثرة التي رافقت الكثير من الزملاء الذين لم يجدوا صيغة مثالية للتواصل الإنساني والحياتي كما كانوا يفعلون مع أنسي الحاج مثلاً، الرجل المرهف الذي تسبقه دماثته وبراعته الاجتماعية وقدرته الفائقة على مد جسور الثقة والتواصل المريح مع الجميع منذ اللحظات الأولى.

الهاجس ذاك خلق علاقة مربكة مع زياد الرحباني عن قرب، خلافًا للتاريخ العامر مع فنّه ومسرحياته وأعماله. وحدهم عمال المهن البسيطة، كموظفي الاستقبال والأمن والنظافة، من تخلّصوا من هذا العبء، وكان من السهل جدًا عليهم صوغ أحاديث غير متكلفة، لا ينتظرون منها تقييمًا نقديًا ولا يخشون سوية متهاوية وهم في حضرة الرحباني! فكانوا فعليًا الأكثر قربًا منه والأقدر على صوغ سرديات حياتية موغلة في العفوية والصدق.

وفق تلك المعادلة، كانت السيدة الجنوبية ندى أم علي، المسؤولة عن إعداد طبق يومي لمن يود من موظفي الجريدة، هي الأكثر تفاعلاً مع زياد الرحباني. كان ينسى نفسه تمامًا وهو يحدثها. تروي له أشياء اعتيادية بينما يخاطبها بنفس الطريقة والمنطق. وتمر الأوقات، وهي محاطة بنظرات الحسد من كل طاقم الجريدة، كيف استطاعت هذه السيدة البسيطة من خطف انتباه الرجل العبقري. الجواب ظلّ حكراً على أم علي التي كانت تتسلح بصدقها المعتاد وعدم اكتراثها بأهمية محدّثها، فتتحدث معه دون تردد عن كل ما يخطر في بالها

كان هو ما يبحث عنه تمامًا: حديث مرتجل غير متكلف، بعيد عن أعباء الفن وأغلال السياسة والتحزبات. لا يطلب فيه صوغ كوميديا ولا يرتجى منه شيء، فإذا به يستحيل متعة خالصة ليس فقط لطرفيه، بل لكل من صادف وجوده في الكافتيريا يراقب بنهم أبرع حديث لزياد الرحباني مع موظفة بسيطة.

لعلّها المواصفات التي يحتاجها عبقري مثل زياد الرحباني لصوغ علاقة إنسانية متماسكة معه. أن تنسى من هو وتُنحي قيمته وتاريخه، وتخاطبه ببساطة كمن التقت فيه لتوّها دون أن تعرفه، فتعيده لما يشتهي ويتمناه من محدّثيه. وتلك المهمة المستحيلة على من يعرف قيمة فنه ووزن حضوره، لذا لن يكون فك الشيفرة متاحًا إلا لأم علي وأمثالها من البسطاء الصادقين!

 

صوت العرب الأردنية في

05.08.2025

 
 
 
 
 

"قوم فوت نام"... وإحلم إنو بلدنا صار بلد

رنا فرح - المصدرالنهار

"قوم فوت نام، وصيرحلام إنو بلدنا صارت بلد…"قالها زياد الرحباني قبل أكثر من أربعة عقود، كأنّه يكتب للمستقبل لا للحاضر. أغنية ساخرة، كئيبة، لكنها تنطوي على تشريح طبقي-سياسي بليغ، اختصره بجملة لا تزال تصيب الجوهر:"هاي قرطة عالم مجموعين لاْ... مطروحين لاْ... مقسومين."

"قوم فوت نام، وصيرحلام إنو بلدنا صارت بلد…"

قالها زياد الرحباني قبل أكثر من أربعة عقود، كأنّه يكتب للمستقبل لا للحاضر. أغنية ساخرة، كئيبة، لكنها تنطوي على تشريح طبقي-سياسي بليغ، اختصره بجملة لا تزال تصيب الجوهر:

"هاي قرطة عالم مجموعين لاْ... مطروحين لاْ... مقسومين."

ما قاله زياد يعكس أزمة عميقة لا تزال قائمة في لبنان حتى اليوم: لا مشروع وطنياً، لا وحدة حقيقية، ولا حتى انقساماً منتجاً، بل حالة من الضياع الهوياتي، تُشبه حال المعارضة التغييرية التي برزت بعد 2011 وازدادت وضوحاً بعد انتفاضة 17 تشرين.

معارضة ما بعد 2011: مشروع هوية لم يكتمل

منذ عام 2011، مروراً بتجربة 17 تشرين، وصولاً إلى دخول نواب تغييريين إلى البرلمان في 2022، ظهر تيارٌ سياسي جديد يحاول أن يطرح نفسه بديلاً من الطائفية السياسية في لبنان. غير أن هذا التيار، رغم اندفاعه نحو "اللاطائفية"، لم يُنتج بعد هوية سياسية بديلة واضحة المعالم.

وهنا تبرز الإشكالية الأساسية: هل يكفي رفض النظام الطائفي لبلورة بديل؟ أم أن تجاوز الطائفية يتطلّب هوية جماعية متماسكة، قائمة على وعي سياسي واجتماعي عميق، وليس فقط على الغضب الآني؟

بين الهويات المتجذّرة والهويات الناشئة: قراءة مع تشارلز تيلي

في هذا السياق، تقدّم نظرية تشارلز تيلي حول بناء الهويات مدخلاً لفهم المأزق الحالي. تشارلز تيلي (1929-2008) كان عالم اجتماع ومؤرخاً أميركياً بارزاً، متخصصاً في دراسة الحركات الاجتماعية وبناء الهويات السياسية وتطور الدول. في مقاله Political 

Identities in Changing Polities ،

 يوضح كيف تتأثر عملية صناعة الهوية بـ"الإنتاج الصغير للأعذار والتفسيرات والاعتذارات" لفهم القضايا الكبرى وتأثيرها على الحياة اليومية.

وفق تيلي، هناك نوعان من الهويات السياسية:

1. الهويات المتجذّرة ( (Embeddedوهي تلك المرتبطة بالطائفة، الدين، المنطقة أو العِرق، وتتمتّع باعتراف اجتماعي واسع وقدرة عالية على التعبئة.

2. الهويات الناشئة (Disjointed): وهي التي تنشأ من خلال تعبئة جماعية حول مصالح عامة مثل العدالة والحقوق المدنية، لكنها لا تملك القوة الرمزية أو البُعد التاريخي الذي يجعلها مرئية وقادرة على المنافسة.
وهنا يكمن التحدّي: رغم أن الهوية التغييرية تدعو إلى محاربة الفساد، العدالة الاجتماعية، وبناء دولة القانون، إلا أن هذه المطالب تفتقر حتى الآن إلى سردية جامعة وتنظيم تعبوي فعّال يجعل منها بديلاً حقيقياً من الهويات الطائفية
.

:2025 حين يعيد النظام إنتاج نفسه

بعد ثلاث سنوات من انتخابات 2022، تتضح المعضلة أكثر:

النظام الطائفي لا يزال حياً يُرزَق، يعيد إنتاج نفسه عبر الخدمات والخطاب المذهبي والتحالفات التقليدية.
المعارضة، من جهتها، تعاني من انقسامات داخلية، وتراجعاً في الزخم الشعبي، وغياب التنظيم البنيوي
.

بل الأسوأ، أن العديد من المواطنين بدأوا بالعودة إلى "ملاجئهم الطائفية" خوفاً من الانهيار، ما يُضعف من قدرة الهوية الناشئة على الاستمرار.

  مشروع برّي والدائرة الواحدة: وحدة وطنية شكلية؟

في هذا الإطار، يطرح رئيس مجلس النواب نبيه برّي مشروع قانون جديداً يقضي بجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة، مقروناً بإنشاء مجلس شيوخ. وفيما يبدو الطرح ديموقراطياً من حيث الشكل، تطرح المعارضة وبعض القوى تحفظات مشروعة:

هل التخلي عن التقسيمات الطائفية في ظل بقاء النظام الطائفي دستوراً وممارسةً، يضمن العدالة؟ وهل الرئيس برّي مستعد فعلاً للتنازل عن مكتسبات سياسية راكمها طوال عقود عبر هذا النظام؟

في غياب إصلاح دستوري متكامل، يبدو أن مشروع الدائرة الواحدة يخفي داخله فخاً ديموغرافياً/سياسياً قد يُكرّس غلبة فريق على حساب آخر تحت غطاء "الوطنية".

من زياد إلى التغييريين: الهوية وحدها لا تكفي

في مقال

 "The Leftist, the Liberal, and the Space in Between: Ziad Rahbani  and Everyday Ideology"  
 
للباحث سوني هوغبول  (Sune Haugbolle) ، تُقدّم شخصية زياد الرحباني نموذجاً لفنان يُمارس الأيديولوجيا اليومية، ليس يسارياً تقليدياً ولا ليبرالياً فردانياً، بل ابن طبقة مسحوقة يعكس تمزّقها اليومي بين الحلم والانكسار.
وهنا، تشبه المعارضة التغييرية في خطابها تجربة زياد
:

ترفض الواقع، لكنها لا تملك مشروعاً بديلاً متماسكا

تعبّر عن غضب شعبي حقيقي، لكن من دون عمق تعبوي يجعل من هذا الغضب حركة مستدامة.

تُطلق مواقف أخلاقية، من دون قدرة تنظيمية تُحوّلها إلى قوة تغيير.

________________________________________

"قوم فوت نام"... أو قوم إبنِ مشروعاً

زياد قالها بوضوح:

"قوم احلام إنو البلد صار بلد..."

لكننا في 2025، ما زلنا نعيش بين الحلم والتكرار.

إن تفكيك النظام الطائفي لا يمرّ عبر الرفض الخطابي وحده، بل عبر بناء هوية سياسية جديدة تُقنع الناس، تنظّمهم، وتُقابل الرمزية الطائفية بسردية وطنية عميقة.

وإلا، فسنظل، كما قال زياد،

"قرطة عالم مجموعين لا مطروحين لا مقسومين..."

وهذا، في ذاته، لا يبني بلداً.

 

النهار اللبنانية في

05.08.2025

 
 
 
 
 

لم يَلد لبنان مِثلك...

نابغة ذبيان

لن أكتب عن عبقريتك، فهي واقع محتوم شاء من شاء، وأبى من أبى. أمّا فاجعة اللبنانيّين برحيلك فهي حكايتي، وهي كل الحكاية. فلبنان لم يلد شخصية عامة اجتمع اللبنانيّون على محبتها إلى هذا الحد، إلى حد الألم الموجع على رحيلها. ألمٌ لا ينتهي بعد ساعات أو أيام، بل يتحوّل إلى حزن يستمر ويكبر ويزداد مرارة. حال الشعب اللبناني على رحيل زياد الرحباني وحزنه عليه هو حالة استثنائية، تمامًا كشخصيته... والسبب واضح ومعقّد، فزياد الرحباني، رغم عدم اختلاطه بالناس هو قريب منهم إلى حد لا يصدّق، هو قرب واقعيّ ومتجذّر وسورياليّ في آن واحد، هو خلطة زياد الرحباني المستعصية على سواه، وأهم ما فيها، إنسانيته ونزاهته وبساطته وكلامه الذي لامس صميم الناس، ووصل إلى قلوبهم قبل عقولهم.

نعم، لم يلد لبنان شخصية عامة يحزن على فقدانها معظم اللبنانيّين وبمختلف أطيافهم، إلّا زياد الرحباني. سمعت من قال "الحزن عم بزيد"، وآخر عبّر عن رحيله بكلمة "فراغ" وأحدهم همس لي "ما عم بستوعب"، وأنا أقول إني فقدت جزءًا من قلبي، وأعتقد أنه حال معظم اللبنانيّين.

نعم، لم يلد لبنان شخصية عامة حزن عليها اللبنانيّون، كمن يحزن على حبيب، أو أب، أو أخ، أو صديق، سوى زياد الرحباني. ولم أبالغ حين أطلقت لقب "روح لبنان" على زياد الرحباني بعد مماته، وأسميته أيضًا "شعب لبنان" وأسميته "الوطن". أنتَ كل هذا يا زياد، خلطة من الصعب أن تتكرّر. خلطة ترفّعت عن المال والسلطة والمناصب. خلطة جمعت بين العبقرية الفنيّة والشرف والجرأة والصدق، هي خلطة نادرة، هي كنز لشعب ووطن يقدّران بأنّ الحداد الشعبيّ على زياد هو أصدق وأشرف من أيّ حداد رسميّ

رحيلك لن يعوَّض بسماع موسيقاك ومسرحياتك وكلماتك ومواقفك، لأنّ وجودك حيًّا بيننا له طعم آخر، له طعم الفخر، له لون المقاومة الشريفة، له مذاق الجرأة المدوّية والصدق الصارخ، له راية الثورة وعنفوان الشعب العنيد. هذا الشعب تركته يتيمًا "بلاك" يا زياد. هذا الشعب فقد الشخصية العامة الوحيدة التي حكت عن الناس بلغتهم على مدى نصف قرن، وصرخت كما يصرخ الفقير والمظلوم. أنت الناس يا زياد، ولقد بُتر جزء منا برحيلك. من قال إنّنا فقدنا زياد الفنان؟ نحن فقدنا زياد الإنسان قبل الفنان، الذي كان صوته صوتنا، صوت الشعب وصوت الوطن

" أنا ما عم جرّب غيّر البلد، أنا عم جرّب ما خلي البلد يغيّرني" هذا زياد الذي ولد فنانًا قبل أي شيء آخر، وأصبح فيلسوفًا حكيمًا، هذا الزياد الصلب الذي لم يغيّره البلد، ولم يستطع أي موقف سياسيّ، أو أيّ مصلحة ماديّة، أن يعلوا فوق إنسانيته. هذا الزياد هو صوتنا وصوت الوطن الذي حلمنا به وطمحنا له

ألمنا كبير على رحيلك وخسارتنا أكبر. لعلّك قررت الرحيل في الوقت المناسب، فصعدت روحك لترتاح من كل هذه البشاعة التي تحيط بنا، وكنت أنتَ الوجه العام الوحيد الذي يحلّق جمالاً في سماء هذا اللبنان. رحلت كي لا تشهد بشاعة أكبر، أما نحن فخسرنا برحيلك "روح لبنان"، خسرنا زياد الرحباني الذي لا مثيل له.

 

المدن الإلكترونية في

05.08.2025

 
 
 
 
 

جادة زياد الرحباني: اندثار حقبة سوداء؟

محمد حجيري

ذهبت الحكومة اللبنانية للبحث في قضية سلاح حزب الله، ووضع روزنامة زمنية لتسليمه بعد ضغوط خارجية وتداعيات داخلية، فخرجت بقرار تبديل تسمية أوتوستراد المدينة الرياضية من جادة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى جادة الفنان زياد الرحباني. قرار شعبوي بامتياز، "تنفيسة"، إذا جاز التعبير. كان الناس في حال ترقّب حول مصير الجلسة الحكومية بين "مسيرات" دراجات حزب الله الفتنوية و"مسيّرات" إسرائيل القاتلة، فإذا بالحكومة أو مجلس الوزراء من قصر بعبدا، يتحفنا بالتسمية الجديدة على عجل. وقد انقسم الرأي العام و"معشر الفسابكة" حول التسمية أيضًا، بين من يعتبرها "كيدية" سياسية، وهؤلاء يدورون في فلك محور السلاح، ومن يرحب بإزالة تسمية الطاغية من على مشارف بيروت، بعد أن كان قد أحرق دورها ونظام حياتها واغتال قادتها وقهر ناسها، في مقابل وضع اسم فنان كل له دوره الفاعل في صناعة الثقافة والموسيقى في أروقة المدينة. وكان الناس انشغلوا طوال الأيام الأخيرة في الاقتراحات العرمرمية حول اختيار مكان يكرمون به زياد الرحباني بعد رحيله، فمنهم من فكّر بشارع الحمرا، باعتبار أن زياد الرحباني عاش أكثر من نصف قرن فيه، متنقلًا بين شققه من المكحول إلى كاراكاس، وصالته (أورلي)، ومسارحه (البيكاديلي) ومطاعمه وحاناته من شي أندريه إلى بلونوت والبارومتر، من دون انتباه للتسمية التاريخية للشارع في الوجدان والوعي ومن الصعب إبدالها.

وتسمية أوتوستراد المدينة الرياضية بجادة زياد الرحباني فيها الكثير من المفارقات. إشارات إلى تبدل السياسات واندثار الحقبة السوداء والحالكة. وهذا لا يعني أنه مع التسمية الجديدة أصبحنا في المرحلة الوردية والذهبية. في الوجدان الجمعي، نادرًا ما كان الناس يقولون "جادة حافظ الأسد"(ربما فقط في بعض نشرات الأخبار لحظة حرق الدواليب)، وهم يدركون أن التسمية كانت جزءًا من الاحتلال والوصاية السورية، يوم كان احتل الفضاء العام اللبناني ووزع تسمياته وتماثيله عند المنعطفات وفي الساحات، من شتورا إلى بعلبك -اللبوة، ومن الجنوب إلى عكار، ومن حلبا إلى حمانا، من الشوارع إلى النوادي الثقافية. ولكن العابر بالتاكسي أو "الفان" نحو بيروت كان يقول للسائق: السِّفَارة الكويتية أو المدينة الرياضية لا جادة الأسد. ومع كل ما حصل، بقي بعض اللبنانيين متمسكاً بالتسمية المهينة، حتى بعد هروب بشار الأسد وسقوط نظامه، ولا أدري إن كان الأمر سيتغير بعد التسمية الجديدة.

وعلاقة زياد الرحباني بالأسد ونظامه بين الصدام والالتباس والمعمعة. فزياد افتتح مرحلة من حياته وفكره وفنّه عندما انتقل من بيروت الشرقية حيث يسيطر اليمين اللبناني، إلى بيروت الغربية الواقعة تحت سيطرة اليسار والمسلحين الفلسطينيين مطلع العام 1976، وبدأ مع صديقه السينمائي جان شمعون في برنامَج يومي ساخر بعنوان "بعدنا طيبين، قول الله" في الإذاعة اللبنانية. توقف البرنامَج عندما احتلت "قوات الردع العربية" مبنى الإذاعة في الوقت الذي كان فيه زياد وجان يصدحان: "اختلط الحابل بالنابل/سوريا تبعت لك ردع/ ومصر تبعت فلافل!" "اختلط الحابل بالنابل.../ حافظ غيّر فكرو وصار/ جيشو ع جونيه نازل". قيل بعدها إن زياد الرحباني قد سُجن على يد المخابرات السورية بسبب هذا الكاسيت، وسرت هذه الشائعة في أوساط اليساريين، واستُكملت بالحديث عن أن الأمر استدعى تدخل حافظ الأسد شخصيًا، بعد أن زارته الفنانة فيروز طالبةً منه التدخل! 

ولاحقا غنى في ظل نظام بشار الأسد وهاجم الثورة السورية، وقيل "إن الجيش السوري خرج من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري، وأن آخر أثر للأسد خرج مع رحيل زياد الرحباني".   

 

المدن الإلكترونية في

06.08.2025

 
 
 
 
 

النت اللبناني مشغول بـ «جادة زياد الرحباني»

الأخبار

بعد تكريم النعش من رئيس الحكومة اللبنانية، ولحاق وزراء وممثلين عن الدولة بركب الراغبين في السلام على فيروز أكثر من التعزية بفقيدها، لم تتأخر الدولة اللبنانية في استثمار وفاة زياد الرحباني لمصلحتها.

بعد تكريم النعش من رئيس الحكومة اللبنانية، ولحاق وزراء وممثلين عن الدولة بركب الراغبين في السلام على فيروز أكثر من التعزية بفقيدها، لم تتأخر الدولة اللبنانية في استثمار وفاة زياد الرحباني لمصلحتها.

هكذا أعلنت، بعد دقائق من انتهاء جلسة الحكومة المخصصة لمناقشة سحب سلاح المقاومة أول من أمس، عن إطلاق اسم زياد الرحباني على جادة حافظ الأسد في ما وصفته «تكريماً له».

من لبنان إلى الرئيس السوري حافظ الأسد

تعود تسمية هذه الجادة إلى فترة رئاسة الياس الهراوي وحكومة رفيق الحريري عام 1998، حين نُصبت مسلّة أمام السفارة الكويتية كُتب عليها: «من لبنان إلى الرئيس السوري حافظ الأسد»، بطلب من الحريري الذي كان حليفاً لدمشق في تلك الحقبة، التي كان فيها زياد الرحباني يوجّه انتقادات للوجود السوري في لبنان، مميّزاً بين دور سوريا في دعم المقاومة وبين تدخلها في الشأن الداخلي اللبناني عندما لم يستطع الآخرين التمييز بين السيادة وبين التبعية.

ومن الجدير ذكره أن جادة حافظ الأسد تقع على طريق المطار في بيروت وتتبع إدارياً لبلدية الغبيري. وسارع رئيس البلدية معن الخليل إلى التذكير عبر منصة «إكس» بأن تسمية الشوارع من صلاحيات البلديات حصراً، قائلاً: «تسمية الشوارع قرار بلدي سيادي بامتياز، وستبقى شوارعنا تنبض بهوية المقاومة»، مضيفاً: «ولتُنتزع من عاصمتنا أسماء المحتلين والمستعمرين والمستعربين وأزلامهم من العملاء اللبنانيين الذين ارتكبوا مجازر صبرا وشاتيلا».

هذا السجال أعاد إلى الواجهة النقاش القديم حول أسماء بعض شوارع بيروت «غورو» و«فوش» و«اللمبي». كتب أحد المعلقين: «كان من الأجدى تغيير اسم شارع فوش أو اللمبي في وسط بيروت… ولكن كل شيء إلا الاستعمار الغربي». ولفرنسا حصة الأسد من أسماء شوارع بيروت مثل شارع ضابط المخابرات الفرنسي "كولمباني" و"مونو" و"غورو" و"ويغان" والجنرال " ديغول" و"كليمنصو" و"فوش" و"فرنسا" و"اللمبي" و"سبيرز" وصولا إلى "جاك شيراك".

جدل على صفحات السوشال ميديا

في المقابل، أشار آخرون إلى أنّ الجادة يمكن اعتبارها طريقاً دولياً، ما يتيح للحكومة التدخل في تسميتها. وهكذا، بدا واضحاً أنّ القرار نجح في حرف الأنظار عن تكليف الجيش اللبناني وضع خطة لسحب سلاح المقاومة، إذ صدر القرار كما أكد وزير الإعلام بول مرقص «بطلب مباشر من رئيس الجمهورية جوزيف عون ومن خارج جدول الأعمال».

إعلان إطلاق اسم زياد الرحباني على «جادة حافظ الأسد» أثار عاصفة من الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي. عبّر ناشطون وصحافيون عن استيائهم من زجّ اسم الفنان الراحل في صراعات سياسية، خصوصاً أنّ حملة شعبية كانت قد طالبت قبل أيام بتسمية شارع الحمرا باسمه، حيث عاش وأبدع، من دون أن تلقى أي تجاوب رسمي. وكتب بعضهم: «الدولة التي لم تعلن يوماً حداداً على زياد الرحباني لا يمكنها الادعاء بتكريمه بإطلاق اسمه على أحد الشوارع»، فيما سخر آخرون بالقول: «منطلب ينحط اسم زياد على شارع الحمرا بيروحوا بيحطوه بطريق بعيد. هيك تماماً دولتنا بتستجيب إلنا بشكل مشوّه دائماً». أما الأكثر حدة، فوصف القرار بأنه «استعمال رخيص لفنّان عبقري في مهاترات سياسيّة مقيتة». وربما أفضل رد يمكن أن يأتي من زياد نفسه «أنا عم فكر أبقى أنا وياك... وليك ليه عم تعمل هيك؟».

 

الأخبار اللبنانية في

06.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004