قبل نحو ثلاثة اسابيع من موعد افتتاح الدورة الـ82 من
مهرجان فينيسيا السينمائي، تسربت نسخة من فيلم “في يد دانتي” للمخرج
الأمريكي جوليان شنابل، وأصبحت متاحة للقرصنة على شبكة الإنترنت، وذلك قبل
العرض العالمي الأول للفيلم الذي حدد له تاريخ 3 سبتمبر، في المهرجان
السينمائي الكبير، وهو حدث غير مسبوق ليس له مثيل في الذاكرة خصوصا بما
يتعلق بالعروض العالمية الأولى للأفلام في مهرجانات السينما الدولية
الكبرى. هذا التسريب المتعمد لنسخة الفيلم لا شك انه أضر بالفيلم وبفرص
الإقبال الجماهيري عليه، خصوصا وأنه لم يكن قد حظي حتى كتابة هذا المقال،
بتعاقد مع إحدى شركات توزيع الأفلام.
إلى جانب هذه المشكلة، كان فيلم “في يد دانتي”
In the Hands of Dante
قد واجه بعض المشاكل والعقبات التي أخرت عرضه لأكثر من عام، فقد تعرض مخرجه
جوليان شنابل، لضغوط من جانب أطراف الإنتاج (هناك 11 شركة مشاركة في
إنتاجه) التي أرادت اختصار مدة عرضه، من ساعتين ونصف إلى ساعتين فقط. وبعد
أن كان من المقرر أن يعرض الفيلم في العام الماضي، تأجل عرضه مرة ومرتين،
بسبب الخلافات التي نشأت بين الطرفين خصوصا وأن شنابل كان قد تعاقد على
إخراج الفيلم على أن يكون بالألوان وفي حدود الساعتين، إلا أنه صور أجزاء
كبيرة منه، بالأبيض والأسود، وتجاوز نطاق الساعتين بنحو ثلاثين دقيقة كما
أوضحت.
ولكن في نهاية الأمر استقر الرأي على اعتماد نسخة المخرج
“الطويلة” للعرض في مهرجان فينيسيا، وربما تكون جهات الإنتاج قد رأت أن
تعرض الفيلم في فينيسيا، على سبيل التجربة خاصة وأنها اشترطت على إدارة
المهرجان عرضه (خارج المسابقة)، لاختبار ردود الفعل المتوقعة من جانب
النقاد وخبراء الصناعة، فإن جاءت هذه الآراء سلبية فربما يتم اختصار
النسخة، كما حدث من قبل مع أفلام شهيرة مثل “عصابات نيويورك” لسكورسيزي،
و”ذات مرة في أمريكا” لسيرجيو ليوني، و”خط أحمر رفيع” لتيرانس ماليك،
و”مملكة الجنة” لريدلي سكوت.
يستند سيناريو فيلم “في يد دانتي” على رواية صدرت عام 2002
بنفس العنوان للكاتب الأمريكي- الإيطالي الأصل،” نيك توشيس”
Nick Tosches (1949- 2019)،
كان الممثل جوني ديب قد أبدى اهتماما بإنتاجها في فيلم من خلال شركته
الخاصة واشترى حقوق تحويلها للسينما في 2008، على أن يقوم ببطولة الفيلم،
إلا أن شنابل استقر فيما بعد على إسناد الدور إلى الممثل “أوسكار أيزاك”،
واستعان بعدد من الأسماء اللامعة التي أسند إليها أدوارا صغيرة أو ظهر
بعضها في أدوار “شرفية” قصيرة مثل النجم الإيطالي المخضرم “فرانكو نيرو” أو
“آل باتشينو”، كما أسند دورا صغيرا إلى المخرج الكبير مارتن سكورسيزي وهو
دور معلم دانتي، وإلى الممثل الاسكتلندي جيراراد باتلر دورا رئيسيا، إلى
جانب الممثلة الإسرائيلية المحدودة القدرات “جال جادوت” التي يبدو أن شنابل
استعان بها- لا لموهبتها المشكوك فيها كثيرا- بل لاعتقاده بنجوميتها بعد
النجاح الكبير الذي حققه فيلمها “امرأة الأعاجيب”
Wonder Womanوتوابعه.
يصف الناقد الأدبي “ألكسندر كيلي” رواية “في يد دانتي”
بقوله: “هذه الرواية تتحدى التصنيفات أو حتى الأوصاف. نيك توشيس رجلٌ
شجاعٌ وقويٌّ، مُلِمٌّ بالروايات القروسطية، علّم نفسه بنفسه. إنه مؤلف
الرواية، وبطلها الرئيسي في العصر الحديث، ودانتي هو بطل الرواية في العصور
الوسطى، ويروي نيك قصة حصوله على مخطوطة نادرة لا تُقدّر بثمن، أي مخطوطة
“الكوميديا الإلهية”، بخط دانتي، بينما يروي دانتي كيف استطاع كتابتها”.
الأديب الأرجنتيني المرموق خورخي لويس بورخيس كان مفتونا
بـ”الكوميديا الإلهية” واعتبرها من أعظم الأعمال الأدبية في تاريخ
الإنسانية، إن لم تكن الأعظم، ولأنه ثنائية الزمن والخلود كان دائما
محوريًا في تفكيره وأعماله فقد وجد في “الكوميديا الإلهية” تجسيدًا مدهشًا
لهذين المفهومين، خصوصًا في البرزخ والجنة، وكتب في أحد مقالاته أن دانتي
“وصف الأبدية وكأنها تجربة يمكن للإنسان أن يشعر بها.”
ومن الضروري أن أوضح للقاريء السبب الذي جعل دانتي يطلق على
ملحمته الشعرية “كوميديا”
Commedia،
فهذه الكلمة باللغة الإيطالية، لم تكن تحمل في القرون الوسطى نفس ما لها من
معنى في عصرنا الحديث، فهي لا تعني الإضحاك أو الفكاهة، بل كانت تشير إلى
القصة التي تنتهي نهاية سعيدة (ورحلة دانتي في ملحمته تنتهي به إلى الجنة)
أما “تراجيديا” فكانت تعني قصة تبدأ بداية طيبة لكنها تنتهي نهاية حزينة.
أما ما يقوله الناقد ألكسندر كيلي، فهو يلخص في بلاغة كبيرة
موضوع الرواية والفيلم المقتبس عنها، فالفيلم ينتقل بين زمنين، الزمن
القديم، في القرن الرابع عشر، حيث نرى الشاعر الإيطالي العظيم دانتي
أليجييري (والد الأدب واللغة الإيطاليتين وشكسبير إيطاليا)، وكيف كان يعاني
لكي يستكمل رائعته الخالدة “الكوميديا الإلهية”، ثم الزمن الحديث، في أوائل
القرن الحادي والعشرين، وتحديدا 2001.
تصور المشاهد التي تدور في الماضي مع دانتي، علاقته بمعلمه
الذي يقوم بدوره سكورسيزي، وكيف يتشرب منه “فلسفة الشعر” إن جاز التعبير،
ويتعلم كيف يكون الشاعر صادقا مع نفسه وأفكاره ومشاعره ومعبرا عن عصره، وهو
ما تميز به دانتي في مواقفه وحياته وشعره، هذه المشاهد مصورة بالألوان
وباستخدام الشاشة الضيقة التي تحاكي طريقة التصوير القديمة أي تخضع لمحيط
الصورة السينمائية التي تعرف بالأبعاد الأكاديمية (النسبة بين عرض الشاشة
وارتفاعها وهو (1.37:1) قبل أن تصبح الصورة السائدة حاليا 16 إلى 9، أي
“الشاشة العريضة”. أما مشاهد العصر الحديث، فمعظمها نراه بالأبيض والأسود،
واختيار شنابل هنا يبدو عكس ما يلجأ إليه معظم المخرجين الذين يصورون
الماضي عادة، بالأبيض والأسود والحاضر بالألوان. ورغم الجمالية الواضحة في
مشاهد الأبيض والأسود بوجه خاص، لم أستطع أن أستوعب السبب الذي يخدم الفيلم
دراميا وفنيا باستثناء الطابع الجمالي الذي يضفيه على الصورة وهو ما سبق أن
جربه شنابل في أفلامه السابقة مثل “ميرال” و”بوابة الأبدية” (2018) وهو آخر
أفلامه قبل أن يعود بفيلمه هذا. ولا شك أن استخدام الأبيض والأسود بالطريقة
التي استخدمه بها هنا مع مدير تصوير الفيلم الروسي الأصل “رومان فاسيانوف”.
المخرج شنابل معروف بميله إلى البناء الشعري الذي يكسر منطق
السرد التقليدي، ويقفز بين الأزمنة، ويستخدم الكاميرا التي تتحرك كثيرا
بين الشخصيات وتضاريس الأماكن، لتمنح تأثيرا عاطفيا أو شعوريا معينا، وهو
يكتشف أماكن شديدة الجاذبية لروما، ويجوس فيها بالكاميرا، بحيث تبدو وكأنها
منحوتات وجداريات وتماثيل ورسوم من إبداع الفنان، ليس فقط في مشاهد القرن
الرابع عشر، حيث ينتقل دانتي إلى صقلية للبحث عن الإلهام، ويحدثنا كثيرا عن
طفولته وكيف بدأ اهتمامه بالشعر مبكرا جدا، بل وحتى خلال سعي “نيك”-
المعادل المعاصر لدانتي على صعيد مختلف، وهو يسعى للتأكد من أصالة المخطوطة
التي حصل عليها بالسرقة. ولابد أن تكون تلك الانتقالات الكثيرة من خلال
المونتاج، بين الماضي والحاضر، أو بين القديم والحديث، مقصودة للمقارنة بين
مؤلف ومؤلف آخر، أديب وشاعر، إنسان كان يعيش في بدايات النهضة، أو بالأحرى
كان أحد طلائعها المبكرة، وبين إنسان يعيش عصر التدهور والتدني والجريمة.
الأول هو دانتي العظيم، والثاني هو “نيك توشيس” وقد اختار
له مؤلف الرواية اسمه الحقيقي نفسه ولكن باعتباره شخصية خيالية بالطبع، كما
لو كان يريد أن يقول إن ما يرويه هنا هو نوع من الفضفضة والتعبير الذاتي.
وقد اسند شنابل دوري دانتي ونيك إلى أوسكار أيزاك الذي سبق أسند إليه دور
الفنان جوجان في فيلمه السابق مباشرة “بوابة الأبدية”
(2018).
“نيك
توشيس” مؤلف وخبير في أعمال دانتي وكوميديته الإلهية، لكنه سوف يستدعى من
قبل أحد زعماء المافيا النيويوركية المعاصرة ويدعى “جو بلاك” (يقوم بدوره
ببراعة كبيرة جون مالكوفيتش) لكي يسند إليه مهمة التأكد من مصداقية النسخة
الأصلية من “الكوميديا الإلهية” التي يسند أمر سرقتها إلى القاتل المحترف
“لوي” (جيرالد باتلر) الذي لا يتورع عن قتل كل من يقف في طريقه، على أن
يذهب الاثنان- نيك توشيس ولوي إلى إيطاليا لاقتناص مخطوطة دانتي الخالدة من
بين أنياب “دون ليكو” رجل المافيا الذي تقدم به العمر الآن، الذي زرع مبكرا
جدا عميلا له داخل الفاتيكان تمكن من الاستيلاء على المخطوطة ويريد طبعا
بيعها مقابل ملايين الدولارات، لكنه سيلقى مصرعه هو ورجاله على يد “لوي” في
حضور المؤلف “نيك توشيس” الذي لا يحب القتل كثيرا لكن ليس بوسعه سوى
التغاضي عنه بالطبع.
هذا الانتقال بين العصرين، وبين الرجلين، دانتي وتوشيس،
خصوصا أن من يقوم بالدورين هو نفس الممثل، يحاكي الانتقال- على صعيد رمزي-
من جحيم دانتي إلى المطهر ثم إلى الفردوس حسب منطق “الكوميديا الإلهية”،
كما يعكس مقارنة بين ما كان عليه ككاتب ومفكر وشاعر وأديب كبير مرموق مثل
دانتي في الماضي، وما يمثله أو يرمز إليه “توشيس” ككاتب من عصرنا، لا يتردد
شنابل في الكشف عن معتقداته وقيمه وأخلاقياته في أولى مشاهد الفيلم كما
سنرى، بين قيمة الكلمة ومغزاها ومسؤوليتها أيضا، وكيف يمكن أن تبقى وتعيش
عبر القرون، وبين الكتابة الاستهلاكية التي تمضي وتنتهي مع الزمن. خصوصا لو
رأينا كيف يصبح الحاضر لا قيمة له أمام الماضي، ثم كيف يصبح طموح المؤلف
المعاصر “توشيس” منحصرا في الانفراد بملكية المخطوطة النادرة لا لقيمتها
التاريخية والأدبية النادرة، بل لما يمكن أن يدره بيع صفحاتها لحسابه من
مكسب كبير يكفل له العيش في “الجنة” المنشودة، أو يحقق له الخلاص الشخصي
وهو ما نراه في الفصل الأخير من الفيلم، في صورة ناعمة رومانسية، بعد أن
ينتصر “توشيس” على المجرم الذي أراد استعادة المخطوطة لحساب الدون ليكو،
وينقذ حبيبته “جوليتا” ويبتعد الاثنان وهما يحلمان بتحقيق السعادة الأبدية!
تلعب الإسرائيلية “جال جادوت” دورين مزدوجين أيضا هما
“جوليتا” حبيبة نيك توشيس، و”جيما دوناتي” زوجة دانتي التي لا يذكرها أبدا
في كتاباته ولا يتطرق إلى ذكرى أبنائه الثلاثة منها، ويقال إنه كان يرغب في
أن يعزل حياته الخاصة عن عمله الإبداعي الموجه للعالم.
ومن الطريف أن الممثل جيرارد باتلر يقوم بدور القاتل
المحترف السادي “لوي”، وفي الوقت نفسه بدور “البابا” بينيفاشيو”. ويبدأ
الفيلم بداية تلقي ضوءا قويا على كل من شخصيتي دانتي و”نيك توشيس”. دانتي
يصعد سلما حجريا قاسيا إلى أعلى ربوة جبلية تطل على البحر، وعلى شريط الصوت
تتردد العبارة التالية: “لو لم تُثبطني تلك الكلمات اللعينة، لظننت أنني لن
أعود إلى الأرض مرة أخرى”. أي كلمات لعينة؟
هل هي كلمات دانتي أم نيك، لا يهم.. فالنتيجة واحدة.
والمشهد التالي مباشرة يدور داخل حانة معاصرة في نيويورك، حيث يجلس
“المؤلف” نيك توشيس- في الفيلم طبعا- مع شخص قد يكون محررا أدبيا، يقول له
“نيك” إن من المستحيل تعديل أو “تحرير” ما يكتبه من قلبه لكي يعكس ما يفكر
فيه شخص آخر، وأن كتبه لا يمكن أن تخضع أبدا لعملية تحرير، ثم يستعين بما
قاله فوكنر من أنه من الممكن أن يسكر ويفقد عقله ويسقط من فوق صهوة حصان،
ولكن كتبه لا يجب أن تخضع للتحرير قط. ويستطرد بعد ذلك ليقول إن أفضل
المحررين لا يحررون النصوص بل “يتآمرون مع المبدعين لتحقيق الحرية
والمكسب”. ثم يتحدث عن قيمة المال وأهميته وكيف أن المبدعين لا يحصلون على
أي رواتب أو ينالون مكافآت، بل أن ما يحدث أن أسلافهم هم الذين يجنون
الثروة بعد موتهم.
إنه
حانق للغاية. وهنا نلمح بوضوح أنه لا يقيم وزنا سوى للمال، بل إنه سيمضي في
حديثه إلى ذلك الشخص بعد ذلك، ليخبره أنه قضى عشر سنوات في ترجمة الكوميديا
الإلهية لدانتي ووجد أنها “معيبة”، وأن دانتي نفسه “معيب”. هذا المحرر
الأدبي هو نفسه الذي سيوصله إلى رجل المافيا “و بلاك” (جون مالكوفيتش) بعد
أن لمس شغفه بالحصول على المال!
بعد ذلك مباشرة سنرى “نيك” وهو طفل في السادسة من عمره،
يعترف لعمه “كارميني” (آل باتشينو) بأنه قتل ولدا كان يريد الاعتداء عليه
(نرى مشهد القتل بتفاصيله المرعبة). ينصحه عمه الذي يتقبل الأمر ببساطة،
وبألا يبوح بما فعله لأي إنسان، وأن الله يرى كل شيء ويتفهم ويغفر وأن لا
حاجة له بالاعتراف (الكاثوليكي)ن لاأن. هذه القصة يرويها نيك الذي نراه
مسترخيا على شاطيء البحر، يكتب روايته. ثم سنرى كيف يقتل شاب مراهق يدعى
“ليكو” (لورينزو زونزورو) أباه وكل من يتصدون له ويصبح هو الأب الروحي
للبلدة في صقلية بعد أن ينال احترام الجميع. وبعد أن يكبر يستخدم شابا
تابعا له، تدرج في السلك الكنسي وأصبح قسا مرموقا، ويرسله لكي يخترق
الفاتيكان ويصبح مقربا من البابا ثم يلتحق بالعمل في أرشيف الفاتيكان الضخم
الملئء بكنوز المخطوطات، ومن بينها سيسرق مخطوطة دانتي الأصلية التي تذهب
إلى يدي دون “ليكو”.
الأجزاء الأولى من الفيلم، حتى ما بعد منتصفه، ساحرة. يتدفق
السرد في سلاسة من خلال المونتاج بين الماضي، والحاضر، مع الاقتصاد
والتدقيق الكبير في استخدام أسلوب التعليق الصوتي من خارج الصورة،
والموسيقى المثيرة التي وضعها البريطاني بنجامين كليمنتين، والتصوير
بالأبيض والأسود مع بعض الغيوم التي تغلف الصورة وتضفي عليها طابعا سحريا
خياليا.
هذا الطابع المرتبط بعالم المافيا مع بعض الطرافة في الحوار
خصوصا في الجزء الأول من الفيلم، وبوجه خاص ما يتردد على لسان “لوي”
(جيرارد باتلر، القاتل العدمي الذي لا يقيم وزنا لأي شيء)، يذكرنا بطرافة
الحوارات في أفلام سكورسيزي، ثم تذكرنا الحوارات الغريبة التي تدور بين
“لوي” و”نيك” اللذين يقطعان معا الرحلة الى إيطاليا (في طائرة خاصة) ثم
يخوضان معا مغامرة انتشال المخطوطة، بطرافة الحوارات في فيلم تارانتينو
“خيال رخيص”
Pulp Fiction
بين جون ترافولتا وصامويل ل جاكسون.
أما في الثلث الأخير من الفيلم، فيصبح السرد مرتبكا،
والانتقالات غير واضحة، وتتكرر الفكرة كثيرا، ويعاني الإيقاع من الترهل
والهبوط، وتزيد كثيرا جرعة المفارقات والمصادفات ولعبة الكر والفر،
المطاردة والعنف والتعذيب بحيث يصبح كما لو كان الفيلم عن الصراعات العنيفة
بين أفراد المافيا.
يفقد الفيلم في ثلثه الأخير، الصلة العضوية بين المشاهد
بسبب خشونة الانتقالات بين الماضي والحاضر، أو بين الحاضر القريب والحاضر
البعيد، ويزيد من هذا الاضطراب، الاستطراد كثيرا في تأملات وجودية وأدبية
والإسهاب في استخدام التعبيرات الأدبية والشعرية والفلسفية التي تقتضي من
المتفرج معرفة مسبقة بتراث دانتي، خصوصا مع كثرة الاقتباسات من “الكوميديا
الإلهية”. هنا يكاد شنابل أن ينسى أنه يروي قصة قد لا تخلو من الدلالات
الفلسفية، لكن ليس من المستساغ أن يطالب المتفرج بقراءة دانتي مسبقا أو
الإطلاع على “الكوميديا الإلهية” وهنا تحديدا يكمن عيب الفيلم وخطورة ما
يمكن أن يحدث عند عرضه في دور السينما؟
الملاحظات السابقة لا تنفي أن “في يد دانتي” عمل طموح،
كبير، لا شك في قوته وقدرته على التأثير، وسوف يجد صدى له عند جمهور
الأفلام الفنية، خصوصا وأن شنابل بذل جهدا كبيرا في ترجمة الرواية المعقدة
إلى لغة الفيلم الحديث، من خلال أسلوبه المميز الذي يجعلك كثيرا ما تشعر
بغرابة الصور التي تتعاقب أمامك على الشاشة، وكلما شعرت بأنك تشاهد صورا
“واقعية” يعود ليشدك إلى الخيال، إلى خياله الشخصي عن دانتي وعن نيك توشيس
أيضا، وعن العالم الذي هو عالمنا وليس كذلك أيضا.
ولعل سحر سينما جوليان شنابل عموما، يكمن في أسلوبه الذي
يتميز بذلك التردد المستمر بين الواقع والخيال، وبين الشخصية كحقيقة،
وبينها كتجسيد لما يراه المخرج- المؤلف، وما استقر عنها في خياله. ولعل مما
يجعل الفيلم عملا مؤثرا رغم عيوبه، استعانة شنابل بطاقم تمثيل متميز ومتمرس
وموهوب، استطاع تجسيد الشخصيات، والتعبير عما يكمن في داخلها من مشاعر
وأفكار، خصوصا شخصية دانتي في تنافرها وتقاربها مع شخصية “نيك” المؤلف
الحائر بين الحب والجشع، وبين المتعة والتدني، الباحث بمشقة عن خلاص الروح
تماما كما كان يسعى دانتي، ولكنه يسقط في أدنى درجات الجريمة مدفوعا
بالرغبة الشرسة في النجاة. |